مصر للبيع
بروجيكت سنديكيت
2016-04-26 12:57
باراك بارفي
القاهرة ــ انتهت الزيارة التي قام بها إلى مِصر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى إبرام 22 اتفاقية، بما في ذلك اتفاق نفطي بقيمة 22 مليار دولار أميركي لدعم اقتصاد مِصر الراكد. ولكن المساعدات السخية لم تكن بلا ثمن: إذ كان على مِصر أن تتخلى عن جزيرتين في البحر الأحمر كانت المملكة العربية السعودية تنازلت لها عنهما في عام 1950. وقد كَشَفَت هذه الخطوة كذب سرد القيادة المصرية بأن البلاد تظل قوة إقليمية كبرى. الواقع أن مصر لا تستطيع حتى أن تتعامل مع التحديات الداخلية التي يفرضها النمو السكاني السريع واعتماد السكان على إعانات دعم لا يمكن تحمل تكاليفها ــ وهو الوضع الذي يستغله الجهاديون بقدر كبير من النجاح. ولكن كيف وصلت البلاد إلى هذه النقطة
عندما أوقع محمد علي الهزيمة بالبريطانيين في عام 1807، أصبحت مِصر أول دولة عربية تنال الاستقلال بحكم الأمر الواقع. ولكن إسماعيل، حفيد محمد علي، أهدر ذلك الاستقلال بسبب الإنفاق المسرف وترسيخ الاعتماد على المساعدات الخارجية الذي لا يزال قائما إلى يومنا هذا.
فأولا، اضطر اسماعيل إلى بيع أسهم مِصر في قناة السويس عام 1875 لتغطية العجز في ميزانيته. وعندما تبين أن ذلك لم يكن كافيا لوقف النزيف المالي، أنشأ الدائنون الأوروبيون لجنة لضمان السداد. وبحلول عام 1877، كان أكثر من 60% من إيرادات مِصر مكرسة لخدمة هذا الدين. وفي عام 1882، تولى البريطانيون السيطرة على البلاد لحماية استثماراتهم.
واستمر اعتماد مِصر على البريطانيين إلى أن تولى جمال عبد الناصر السلطة عام 1952. وقد رحب بالسوفييت، الذين زودوا مِصر بأسلحة متطورة في مقابل نفس النوع من سندات الدين الذي أهلك السلف. وعندما توفي عبد الناصر في عام 1970، كانت البحرية السوفييتية حَوَّلَت ميناء الإسكندرية إلى جمهورية سوفييتية افتراضية، حيث أصبحت الروسية لغة ثانية.
ومن ناحية أخرى، انتهج عبد الناصر سياسات اقتصادية شعبوية مكلفة. وعمل على توسيع البيروقراطية بتوفير وظيفة سهلة مجزية في الحكومة لكل خريج جامعي؛ واليوم توظف الدولة 24% من القوى العاملة. كما قَدَّم عبد الناصر دعم السلع الأساسية، من الخبز إلى النفط، والذي بلغ 8.1% من الناتج المحلي الإجمالي في 2013-2014. وفي 2014-2015، كان 81% من الميزانية يذهب لخدمة الدين، وإعانات الدعم، والأجور، وبطبيعة الحال كان هذا يعني مزاحمة التعليم وغير ذلك من الاستثمارات الضرورية لتحقيق النمو الطويل الأمد.
وقد أدى كل هذا إلى اشتداد حاجة مِصر إلى المساعدات الخارجية. برغم ميل عبد الناصر إلى موالاة الاتحاد السوفييتي، كانت مصر أكبر دولة متلقية للمساعدات الخارجية الأميركية إلى أن تسببت حربها الكارثية مع إسرائيل في عام 1967 إلى تجميد العلاقات. ومع عدم قدرته على تحدي المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، اشتبك الطيارون السوفييت مع الخصوم الإسرائيليين في معارك جوية فوق قناة السويس. وأفضى شجب عبد الناصر للإمبريالية والتبعية الاقتصادية إلى تسليم بلاده لحالة من الخضوع.
ثُم حاول أنور السادات خليفة عبد الناصر إحياء مِصر بتحرير الاقتصاد، ومسالمة إسرائيل، والتخلي عن التحالف مع السوفييت لصالح الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. وقد كوفئ بحزمة من المساعدات بلغت في المتوسط أكثر من 2 مليار دولار أميركي سنويا. ولكن مع نمو سكان مِصر بمعدل سنوي بلغ 2.2%، أصبح حتى هذا القدر من المساعدات غير كاف.
واليوم، تعتمد مِصر أيضا على المساعدات من أوروبا ودول الخليج، والتي تُسَلَّم إليها على سبيل المثال من خلال الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وصندوق أبو ظبي للتنمية الاقتصادية، والصندوق السعودي للتنمية. وقد أعطى صندوق الكويت للتنمية الاقتصادية العربية مِصر 2.5 مليار دولار ــ أكثر من 50% في هيئة مِنَح ــ وهو ما يجعل مِصر أكبر متلق لمساعدات الصندوق. وتدعم هذه المساعدات اقتصاد مِصر من خلال تمويل مشاريع البنية الأساسية وتخفيف الوطأة عن الميزانية. كما يساعد أيضا شطب الديون من حين إلى آخر.
نادرا ما يسمع المصريون عن الضائقة المالية العصيبة التي تمر بها بلادهم. وبدلا من ذلك تتفاخر الصحافة التي تسيطر عليها الحكومة بالجسور الجديدة وزيادة الإنتاج الصناعي، في حين تسلط الضوء على دور مِصر في الشؤون الإقليمية، مثل عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية الخاملة وترقيع الحكومات في لبنان.
وتهدف هذه الدعاية إلى إدامة أسطورة الموقع الفريد والقوي الذي تتمتع به مصر في منطقة الشرق الأوسط. من المؤكد أن مِصر، على النقيض من أغلب الدول العربية الأخرى، وخاصة لبنان واليمن، لديها حس بالهوية الوطنية، والذي تمتد جذوره إلى الإمبراطوريات الفرعونية القديمة. كما تتمتع مِصر بتركيبة سكانية متجانسة إلى حد كبير ــ 90% من المسلمين السُنّة ــ الأمر الذي سمح لها بتجنب الصراعات الطائفية التي تبتلي دول مثل العراق وسوريا، وتشكيل حكومة مركزية قوية.
بيد أن سرد الهيمنة الإقليمية الذي ابتدعه قادة مِصر أصبح فارغا من مضمونه على نحو متزايد. الواقع أن نحو 750 ألف مصري يتخرجون في الجامعات كل عام يحتاجون إلى الوظائف، وليس الوعود الفارغة على أساس مجد الماضي. ويتشوق العمال غير المهرة في صناعة السياحة شبه المتوقفة إلى عودة الأجانب. ويتوق عمال المصانع إلى مستويات إنتاج لا يستطيع المستهلكون المحليون العاطلون عن العمل دعمها.
وبدلا من تسليم هذه الضروريات، اضطر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى التخلي عن الأرض للسعوديين لتأمين المساعدات التي تحتاج إليها البلاد للبقاء، معرضا نفسه لقدر كبير من السخرية في هذه العملية. ولكن في سياسة الشرق الأوسط التي تمثل لعبة محصلتها صِفر، تُعَد خسارة أحد الأطراف مكسبا لطرف آخر. وفي حالة مِصر اليوم، يحصد الإسلاميون المتطرفون ثِمار خيبة الرجاء الشعبية في الحكومة.
ويقدم الإسلاميون سردهم الخاص: لقد خَذَلَت الدولة القومية الحديثة العرب والمسلمين. ويتردد صدى هذا السرد بين سكان البلاد الذين يشهدون فشل الدولة كل يوم. وأصبح التركيز على استعادة المجد الإسلامي الماضي أكثر جاذبية من إحياء قوة إقليمية لا يمكنها حتى تأمين حقوق الفلسطينيين.
يتمتع قادة مِصر بالقدر اللازم من الشرعية والقوة لبتر وتقييد هذا السرد الخطير. ولكن إذا كان لهم أن ينجحوا في إنجاز هذه المهمة، فسوف يكون لزاما عليهم أن يعترفوا بما أصبحت مصر عليه ــ وما لم تعد تمثله. وفي بلد حيث تتمتع الآثار القديمة بإعزاز عميق، تمثل أسطورة العظمة الإقليمية أثرا عتيقا لابد أن يختفي قريبا.