الأمانة الوظيفية مبدأ لا يقبل التفريط في الشريعة والتشريع

د. جمانة جاسم الاسدي

2025-08-02 03:01

واقعًا الأمانة ليست مجرّد خُلق فردي يُحمد عليه الإنسان، بل هي ميثاق حضاري عظيم، تتوقف عليه مصائر الأمم ومشروعية السلطات واستقرار المجتمعات، وفي الوظيفة العامة تأخذ الأمانة شكلها الأشد خطورة، لأنها تتعلّق بحقوق الناس، ومصالحهم وأرزاقهم، ومصير الدولة ذاتها، من هنا لم يكن غريبًا أن يتصدّر مبدأ الأمانة الوظيفية الخطاب القرآني والنبوي والتشريعي بوصفه شرطًا جوهريًا في القوامة الإدارية والحُكم، لا سيما في إطار الفكر الإسلامي الذي لا يرى في الوظيفة منصبًا للزهو أو وسيلة للنهب، بل تكليفًا ثقيلًا لا يقبل التفريط.

افتتح القرآن الكريم الحديث عن الأمانة بمشهد عظيم تقشعر له الأبدان، حين عرَض الله سبحانه وتعالى الأمانة على المخلوقات كافة، فاستعظموها إلا الإنسان، في بيان قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب: 72)، فالأمانة ليست مجرد أموال مودعة، بل تشمل كل مسؤولية توكل إلى الإنسان من الكلمة، السلطة، المال، القضاء، الوظيفة، المعرفة، السرّ، وكل ما يحمل تبعةً تجاه الله والنفس والناس.

ولذلك، جعلها الله تعالى معيارًا للتمكين، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ (القصص: 26)، وهذا الخطاب –وإن ورد في سياق قصة موسى (عليه السلام)– إلا أنه وضع لنا قاعدة ذهبية في اختيار الموظف والمسؤول، القوة والكفاءة من جهة، والأمانة والنزاهة من جهة أخرى، ولا تُجدي الأولى بدون الثانية.

وقد أكد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مرارًا على قدسية الوظيفة وخطورتها، حتى إنه ردّ بعض طالبي المناصب رغم قربهم، إذ لم يرَ فيهم القوي الأمين، فجاء في الحديث الشريف: "يا أبا ذر، إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"، وفي مواقف أخرى، عبّر النبي (ص) عن رفضه لمن يطلب المناصب: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه" (متفق عليهما).

كما جسّد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) هذا المعنى في رسالته إلى عامله على مصر مالك الأشتر، بقوله: "وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخِرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ" (ورد في نهج البلاغة)، فهو لا يرى في الولاية سبيلًا للاقتناص والجباية، بل خدمة وعمارة وعدالة.

وقد نبّه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) إلى خطورة التفريط بالأمانة، قائلاً: "لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء قد اعتاده، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته" (الكافي، ج2)، فالدين لا يُقاس بالشكل، بل بالمضمون والمعاملة، ولا قيمة لصلاة موظف يغشّ الناس أو يُضيّع حقوقهم.

ولم يكن المشرّع العراقي بعيدًا عن التأكيد على الأمانة كواجب أصيل في الوظيفة العامة، بل أحاطها بجملة من الأحكام القانونية التي تجرّم الإخلال بها، سواء على مستوى القوانين العامة أو القوانين الخاصة بالوظيفة، فقانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لسنة 1991 (المعدل) نصَّ هذا القانون صراحةً على وجوب التزام الموظف بالأمانة والنزاهة، واعتبر أي سلوك مخالف لذلك موجبًا للمساءلة الانضباطية، حيث نصّ في المادة (4) منه على: "يلتزم الموظف بإداء اعمال وظيفته بنفسه بأمانة وشعور بالمسؤولية"، كما نصت المادة (5) على جملة من المخالفات الانضباطية، منها الإخلال بواجبات الوظيفة، واستغلالها لأغراض شخصية، أو الإضرار بمصلحة الدولة، وهي في حقيقتها مظاهر من التفريط بالأمانة الوظيفية.

أما قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 فنجده قد توسّع في تجريم الإخلال بالأمانة من قبل الموظفين، ضمن فصل كامل بعنوان الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة، مثل جريمة الاختلاس واستغلال الوظيفة للإضرار بالغير أو تحقيق منافع خاصة والإهمال والإخلال بواجبات الوظيفة، وهذا التوجه يُجسّد الموقف القانوني الحازم تجاه من يفرّط بأمانته في العمل العام، سواء بالاختلاس أو الإهمال أو إساءة استعمال السلطة، وقانون هيئة النزاهة والكسب غير المشروع رقم 30 لسنة 2011 (المعدل) أكد هو الاخر على الأمانة والنزاهة كقيم محورية في الوظيفة العامة، وربطها بمبدأ الشفافية ومنع تضارب المصالح، ونص على إلزام الموظفين بالإفصاح عن ذممهم المالية، كأداة لمنع استغلال المنصب.

في المقابل، تراجعت الأمانة في الوظيفة العامة اليوم إلى حدٍ مؤلم، لم تعد الوظائف تكليفًا، بل مغانم تُتداول بالمحسوبية والرشوة والولاءات السياسية، يَغشّ الموظف في سجلاته، ويُهدر الوقت، ويتعالى على المراجعين، ويأكل من المال العام دون وخزة ضمير.

استعادة الأمانة الوظيفية لا تبدأ بالقوانين فقط، بل بتزكية الضمير وإحياء الوازع الإيماني، لا تكفي اللوائح إذا غاب الضمير، ولا يجدي القانون إن لم يشعر الموظف بأن وظيفته امتحان إلهي دائم، لذلك يُقترح ربط الوظيفة العامة بالتربية الأخلاقية في مراحل التعليم والتدريب المهني، وسنّ مدونات سلوك وظيفي مستمدة من القيم الإسلامية والإنسانية، وتمكين الرقابة الشعبية والمؤسساتية لمكافحة الفساد في المرافق العامة، وتحفيز النماذج النزيهة وتكريم الموظفين الأمناء ليكونوا قدوة، كذلك في العودة إلى خطاب المنبر الذي يُذكّر الناس بأن "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيّته".

ختامًا- الأمانة الوظيفية ليست فضيلة زائدة، بل فرض شرعي وواجب أخلاقي ومسؤولية قانونية، وهي الحصن الأول الذي يُبقي الدولة نظيفة من الداخل، ويمنح المواطن احترامًا لذاته وثقة بمؤسساته، وإن الأمة التي يشيع فيها التفريط بالأمانة، لن يُصلحها ألف قانون، ولا مئة حملة ضد الفساد، ما لم يستيقظ ضمير الفرد، وتعود الوظيفة العامة إلى معناها الأصيل في خدمة الناس طلبًا لرضا الله، لا تسلطًا عليهم وطمعًا في دنيا زائلة.

د. جمانة جاسم الأسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية بجامعة كربلاء

ذات صلة

في ذكراه الأليمة: الإمام الحسن وإرهاصات كربلاءحق المواطن العراقي في المياهقوة التَّعلِيمُالسلاح المنفلت والدولة العراقيةعن شرف الخصومة