فاشية الأثرياء
بروجيكت سنديكيت
2015-12-30 02:17
يوشكا فيشر
برلين ــ في الآونة الأخيرة، طرأ تحول سياسي منذر بالخطر نحو اليمين على ضفتي المحيط الأطلسي، ويرتبط هذا التحول بتزايد قوة الأحزاب والشخصيات السياسية الشوفينية الصريحة: دونالد ترامب في الولايات المتحدة، ومارين لوبان في فرنسا. وبوسعنا أن نضيف بعض الأسماء الأخرى إلى القائمة: رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان الذي يدعو إلى "الديمقراطية غير الليبرالية"، أو ياروسلاف كاتشينسكي وحزبه شبه السلطوي القانون والعدالة، الذي يحكم بولندا الآن.
كانت الأحزاب السياسية القومية المعادية للأجانب في صعود في العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي قبل فترة طويلة من وصول اللاجئين السوريين لأول مرة بأعداد ملحوظة يمكن تقديرها. وكان هناك خيرت فيلدرز في هولندا، وفلامس بلوك (التي خلفتها اليوم فلامس بيلانج) في بلجيكا، وحزب الحرية ي النمسا، وحزب الديمقراطيين السويديين، وحزب الفنلنديين، وحزب الشعب الدنمركي، على سبيل المثال لا الحصر.
وتتباين أسباب صعود مثل هذه الأحزاب ونجاحها إلى حد كبير على المستوى الوطني. ولكن مواقفها الأساسية متشابهة. فجميعها تصب جام غضبها على "النظام"، و"المؤسسة السياسية"، والاتحاد الأوروبي. والأمر الأسوأ هو أن هذه الأحزاب ليست كارهة للأجانب (وكارهة للإسلام بشكل خاص) فحسب؛ بل إنها أيضاً تتبنى وبلا خجل تعريفاً عِرقياً للأمة. فالمجتمع السياسي من منظور هؤلاء ليس نتاجاً لالتزام مواطنيه بنظام دستوري وقانوني مشترك؛ بل إن العضوية في الأمة، كما كانت الحال في ثلاثينيات القرن العشرين، تُستَمَد من أصل مشترك وديانة مشتركة.
ومثلها كمثل أي قومية متطرفة تعتمد قومية اليوم بشدة على سياسات الهوية ــ مملكة الأصولية المتعصبة وليس الحوار المتعقل. ونتيجة لهذا، يسلك خطابها منحى مهووسا ــ عاجلاً وليس آجلاً عادة ــ في اتجاه القومية العِرقية، والعنصرية، والحرب الدينية.
يُفَسّر صعود القومية المتطرفة والفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين عادة على نحو يربطها بنتائج الحرب العالمية الأولى، التي قتلت الملايين من البشر وملأت رؤوس ملايين آخرين بمفاهيم حربية عسكرية. كما خربت الحرب اقتصاد أوروبا، وأدت إلى اندلاع أزمة اقتصادية عالمية وانتشار البطالة الجماعية. وساعد العوز والفقر والبؤس في تحضير الناس لتقبل السياسة السامة.
بيد أن ظروف اليوم في الغرب، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا، مختلفة إلى حد ما، على أقل تقدير. ولكن في ضوء ثراء هذه البلدان، ما الذي يفسر انجذاب مواطنيها لسياسة الإحباط؟
أولاً وقبل كل شيء، هناك الخوف ــ وبقدر كبير على ما يبدو. فهو خوف يستند إلى إدراك غريزي مفاده أن "عالم الرجل الأبيض" ــ الواقع الـمُعاش الذي يفترض المستفيدون منه أنه الشيء الطبيعي المتوقع ــ أصبح في انحدار لا رجعة فيه. سواء على المستوى العالمي أو داخل مجتمعات الغرب. والهجرة هي القضية التي يثبت بها (ليس على سبيل المجاز) القوميون الذين يحركهم الخوف والارتياع اليوم صحة تشخيصهم.
حتى وقت قريب، كان كثيرون يرون أن العولمة تحابي الغرب إلى حد كبير. ولكن الآن ــ في أعقاب الأزمة المالية التي اندلعت عام 2008 ومع صعود الصين (التي تتحول الآن أمام أعيننا إلى القوة الرائدة في هذا القرن) ــ بات من الواضح على نحو متزايد أن العولمة طريق ذو اتجاهين، حيث يفقد الغرب قدراً كبيراً من قوته وثروته لصالح الشرق. وعلى نحو مماثل، لم يعد من الممكن قمع واستبعاد مشاكل العالم، على الأقل ليس في أوروبا، التي أصبحت مشاكلها الآن تطرق الباب حرفيا.
ومن ناحية أخرى، في الداخل، أصبح عالم الرجل الأبيض مهدداً بالهجرة، وعولمة أسواق العمل، والمساواة بين الجنسين، وإعتاق الأقليات الجنسية قانونياً واجتماعيا. باختصار، تشهد هذه المجتمعات اليوم صدمة جوهرية للأدوار والأنماط السلوكية التقليدية.
ومن كل هذه التغيرات العميقة نشأ توق للحلول البسيطة ــ بناء الأسوار والجدران، على سبيل المثال، سواء كان ذلك في جنوب الولايات المتحدة أو غرب المجر ــ والزعماء الأقوياء. وليس من قبيل المصادفة أن ينظر القوميون الجدد في أوروبا إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتن باعتباره منارة للأمل.
لا شك أن بوتن لا يتمتع بجاذبية في الولايات المتحدة (ذلك أن أعظم قوة في العالم لن تتحول بعيداً عن نفسها)، أو في بولندا ودول البلطيق (حيث يُنظَر إلى روسيا باعتبارها تهديدا للاستقلال الوطني). ولكن في أماكن أخرى من أوروبا، وَحَّد القوميون قضيتهم مع مواقف بوتن المعادية للغرب وسعيه إلى استعادة روسيا العظمى.
وفي حين تهدد القومية الجديدة عملية التكامل الأوروبي، تحمل فرنسا المفتاح. ففي غياب فرنسا، يصبح من غير الممكن تصور أوروبا، ومن المؤكد أن تولي شخصية كمارين لوبان لمنصب الرئاسة كان ليمثل ناقوس الموت بالنسبة للاتحاد الأوروبي (فضلاً عن جلب الكارثة على البلاد والقارة ككل). وكان ذلك ليفضي إلى انسحاب أوروبا من السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين. وهذا من شأنه أن يؤدي حتماً إلى نهاية الغرب من الناحية الجيوسياسة: وسوف تضطر الولايات المتحدة إلى إعادة توجيه نفسها إلى الأبد (نحو المحيط الهادئ)، في حين تتحول أوروبا إلى زائدة في جسد أوراسيا.
لا شك أن نهاية الغرب احتمال قاتم كئيب، ولكننا لم نبلغ تلك المرحلة بعد. والأمر الواضح الآن هو أن ما يزيد كثيراً على ما تصوره أشد أنصار الوحدة الأوروبية صخباً في وقت سابق يتوقف على مستقبل أوروبا اليوم.