التاريخ العظيم وغوايته الخطيرة
بروجيكت سنديكيت
2023-09-09 05:19
بقلم: هارولد جيمس
ميونيخ ــ وراء الفوضى العالمية اليوم، نجد روايتين متصلتين حول مواطن القوة ونقاط الضعف النسبية لدى مختلف البلدان في المنافسة على القوة العالمية. تدور الرواية الأولى حول صعود وسقوط الأمم والحضارات في الأمد الطويل، في حين تدور الأخرى حول أوضاع وأحوال أقصر أمدا.
من المنظور الغربي، تنظر الرواية الأولى إلى الصين باعتبارها تهديدا بسبب قوتها غير العادية، في حين تعرضها الراوية الثانية على أنها تهديد بسبب ضعفها المتأصل. من ناحية أخرى، ينظر قادة الصين إلى أميركا باعتبارها تهديدا لأنها ضعيفة بنيويا وتهيمن عليها نخب سياسية حاكمة مُـسِـنَّـة، ولكن أيضا لأنها تظل قوية بدرجة غير عادية وعاقدة العزم على عزل أي منافس لها في الأمد القريب. على حد تعبير وزير التجارة الصيني وانج وينتاو، متحدثا نيابة عن الرئيس شي جين بينج مؤخرا، "في هوسها بإدامة هيمنتها، تبذل بعض الدول قصارى جهدها لتعجيز الأسواق الناشئة والبلدان النامية".
تعتمد الرؤية الأولى للمستقبل على العدسة التحليلية البسيطة ــ والـمُـقـنِـعة ظاهريا بالتالي ــ للأحوال الجيوسياسية. ينشغل أهل السياسة الجغرافية برسم سيناريوهات طويلة الأمد للصعود والسقوط. تتسم خطوط حبكتهم بالوضوح دائما: دولة واحدة تهيمن على العالم طوال قرن من الزمن أو نحو ذلك قبل أن تتبدل أحوالها وينال منها الإنهاك وتفقد مكانتها.
من الأمثلة البارزة لهذا النهج كتاب المؤرخ بول كينيدي الشهير الصادر عام 1987 بعنوان "صعود وسقوط القوى العظمى"، والذي لا يزال يحدد شروط المناقشة حتى يومنا هذا. كما يروي لنا، كانت إسبانيا الدولة المهيمنة من منتصف القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر، وتلتها فرنسا في القرن الثامن عشر، وبريطانيا في القرن التاسع عشر، ثم الولايات المتحدة بعد عام 1945. المغزى الضمني وفقا لهذا الإطار الطويل الأجل، هو أن الصين حان دورها الآن.
في الأغلب الأعم، يؤدي الانتقال من قوة عُـظمى إلى أخرى إلى نشوء توترات وحروب، لأن القوة القديمة الآفلة ستحاول مقاومة وإحباط صعود المنافس. لكن هذا يميل إلى خلق نبوءة تتحقق بذاتها: في كل من دراسات الحالة التاريخية التي أجراها كينيدي، كان الصراع العسكري يُـعَـجِّـل بزوال القوة العظمى.
في السياق الحالي، يأتي "الانفصال" في العلاقة الصينية الأميركية نتيجة لمخاوف تكاد تكون متماثلة على الجانبين. إذ يتهم الأميركيون الصين بتخريب النظام الدولي القائم على القواعد الذي تقوده الولايات المتحدة، وسرقة التكنولوجيا والملكية الـفِـكرية، وتجاوز خطوط حمراء باستخدام بالونات تجسس، واختراق الهيئات الحكومية، ونشر معلومات مضللة لتقويض الثقة في النظام السياسي الأميركي.
على نحو مماثل، قررت الحكومة الصينية للتو، خوفا مما قد تتعلمه الولايات المتحدة من عمليات المراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية، تقييد البيانات الاقتصادية التي تنشرها، كما أقرت قوانين جديدة ضد التجسس. الواقع أن قسما كبيرا من الشعب الصيني ــ وقيادات الصين ــ مقتنعون بأن أميركا عاقدة العزم على عرقلة صعود الصين الطبيعي ــ ويرون أن هذا من شأنه أن يعيد الصين إلى الحالة التي كانت عليها قبل "قرن الإذلال"، عندما أُخـضِـعَـت، ونُـهِـبَـت، وأُفـقِـرَت على يد القوى الغربية واليابان.
في بعض الأحيان، تصطدم وجهات النظر الأطول أمدا هذه باعتبارات أقصر أمدا. في الأشهر الأخيرة، على سبيل المثال، كان الساسة والصحافيون في مختلف أنحاء الغرب عاكفين على الاستنباط من التغيرات القصيرة الأمد في نمو الدخل الوطني للخروج بتكهنات كبرى حول من يفوز ومن يخسر في اللعبة العظمى الجديدة. في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، عندما كان أداء الاقتصاد الألماني هزيلا، تَـمَـسَّـكَ المعلقون بفكرة مفادها أن ألمانيا كانت "رجل أوروبا المريض". لكن ألمانيا نظمت بعد ذلك عودة غير عادية، لتصبح واحدة من أكبر المستفيدين من التجارة في عصر جديد من العولمة. ولكن مع ضعف أدائها الاقتصادي نسبيا، أصبحت تُـعَـد رجل أوروبا المريض مرة أخرى.
يركز المعلقون اليوم بشدة أيضا على مشكلات الصين الاقتصادية، وخاصة معدل البطالة المرتفع بين الشباب، وانهيار سوق العقارات، والذي يتناقض مع طفرة الاستثمار والتصنيع الجديدة في أميركا، في أعقاب صدور تشريعات جديدة مثل قانون خفض التضخم. بطبيعة الحال، سوف يستنتج أولئك الذين يتبنون هذا المنظور القصير الأمد أن الصين بدأت تضعف، وأن أميركا لا تزال على القمة. فهي على النقيض من توقعات الانحدار تستفيد من تفكك العولمة، في حين تعاني اقتصادات كبرى موجهة نحو التصدير (مثل الصين وألمانيا).
يعمل هذا التفاؤل ــ الذي يعتبره بعض المراقبون غطرسة ــ على تغذية مخاوف الصين بشأن تخريب نهضتها، لأنه يستحضر أوجه تشابه تاريخية قوية. الواقع أن القوى المهيمنة قادرة على الرد بشراسة على كل من ترى أنه يتحداها أو يباريها، وهي تفعل ذلك عادة: فقد دمرت بريطانيا الصين في أوائل القرن التاسع عشر بإغراقها بالأفيون، وكانت الولايات المتحدة حريصة على القضاء على التحدي الياباني في أواخر القرن العشرين.
من السهل أن ننسى أن مخاوف الولايات المتحدة في ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين، بشأن المنافسة الصناعية غير العادلة من جانب اليابان، كانت شديدة الوضوح إلى الحد الذي جعل معلقين مشهورين ينشرون كتبا تحمل عناوين مثل "الحرب القادمة مع اليابان". عندما انفجرت فقاعة أسعار الأصول اليابانية في عام 1991، ظن كثيرون من اليابانيين أن في الأمر مؤامرة أميركية، وخاصة بعد الدور الذي لعبته سياسة الولايات المتحدة في الديون غير المستدامة التي تراكمت على اليابان في ثمانينيات القرن العشرين. ومن السهل أيضا تحديث هذا السيناريو لينطبق على السياق الحالي. في النهاية، ألم يكن ارتفاع أسعار الأصول بشدة في الصين في العقد الثاني من القرن الحالي (بما في ذلك فورة المضاربة في العقارات) راجعا بشكل جزئي إلى النظام النقدي الأميركي المتساهل بعد الأزمة المالية العالمية؟
الحقيقة المحزنة هي أن كلا من الروايتين تشكل دليلا هزيلا للمعضلات السياسية في الوقت الحاضر. وعندما يفكر صناع السياسات في الأمد البعيد، يجب أن يتجنبوا إغواء مذهب الحتمية. فلا يوجد قانون تاريخي يُـمـلي مدة صلاحية المؤسسات الجديرة بالثقة. لقد دام التفوق المالي البريطاني أكثر من قرنين من الزمن، من أواخر القرن السابع عشر إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. لكن هذا لا يعني أن التفوق المالي الأميركي قد يدوم لفترة مماثلة.
أما التقلبات القصيرة الأمد فتشكل دليلا أشد سوءا. فقد شهدت بلدان عديدة استفادت من العولمة صدمات وانتكاسات، لكنها تكيفت وعادت أقوى مما كانت. ولا ينبغي لفقاعة العقارات المنهارة أن تدمر الصين، تماما كما لم يدمر انهيار سوق العقارات في عام 2008 الولايات المتحدة. وقد تتعلم الصين من تجربة اقتصادات آسيوية أخرى سريعة النمو، مثل كوريا الجنوبية، التي شهدت ارتباكات شديدة في سبعينيات القرن العشرين (أزمة النفط)، وفي أوائل الثمانينيات (أزمة الديون الدولية)، ومرة أخرى في أواخر التسعينيات (الأزمة المالية الآسيوية). وفي كل من هذه المناسبات نجحت في تكييف نموذج النمو وتحقيق الازدهار.
الجميع يريدون قصة بسيطة. لكن المهمة الحقيقية التي يجب أن يضطلع بها التحليل التاريخي لابد وأن تكون تفكيك الروايات الحتمية، وليس مسايرتها.