لماذا تبرز الصين كمروِّج أساسي للاستقرار في مضيق هرمز
مركز كارنيغي
2023-06-11 06:36
بقلم: عبدالله باعبود
نظرًا إلى اعتماد الصين على دول الخليج للحصول على كمية كبيرة من النفط والغاز، لديها مصلحة وازنة في الحفاظ على الأمن في المنطقة. ومن هذا المنطلق، عمدت إلى التوسّط مؤخرًا في اتفاق المصالحة بين السعودية وإيران
يُعَدّ مضيق هرمز أهم ممرّ للطاقة في العالم، إذ يشكِّل نقطة التقاء بين الخليج العربي وخليج عُمان. عالميًا، يمرّ أكثر من سدس النفط وثلث الغاز الطبيعي المُسال عبر هذا المضيق الضيّق. وفيما يمكن تجاوز معظم نقاط الاختناق باستخدام طرق شحن أخرى، ليست لمضيق هرمز بدائل عملية. فيمكن أن تتصاعد حادثة ما في البحر، سواء كانت متعمّدة أو غير مقصودة، وتتحوّل سريعًا إلى مواجهة عسكرية مباشرة تهدّد إمدادات النفط والشحن التجاري. كان المضيق ساحةً للتوترات في الأعوام الأخيرة، ولا سيما بين الولايات المتحدة وإيران، ما تطلّب وجودًا عسكريًا خارجيًا زاد من احتمال نشوب نزاع.
باتت الصين، وهي أكبر مستورد للنفط في العالم، تعتمد بدرجة كبيرة على النفط الخليجي الذي شكّل أكثر من 50 في المئة من الواردات الصينية في الربع الأول من العام 2022. وفي العام 2021، استوردت الصين كمية هائلة من النفط الخام بقيمة 128 مليار دولار أميركي من بلدان خليجية قرب مضيق هرمز، ما يعادل ثلاثة أضعاف الكمية التي استوردتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعَين. وقد صنّفت وزارة الدفاع الأميركية المضيق بأنه "منطقة تركيز معروفة" للمخطّطين العسكريين الصينيين.
ويمثّل الشرق الأوسط، بفضل موقعه الاستراتيجي عند تقاطع أفريقيا وآسيا وأوروبا، عنصرًا أساسيًا في مبادرة الحزام والطريق الصينية. علاوةً على ذلك، تتيح منطقة الخليج فرصة مهمّة للصين في تنافسها الجيو-استراتيجي العالمي مع الولايات المتحدة. فعلى خلاف واشنطن، تتمتع بيجينغ بعلاقات ثنائية وثيقة مع الدول الواقعة على جانبَي مضيق هرمز. وستصبح الصين، مع تنامي مصالحها في المنطقة، طرفًا فاعلًا أساسيًا في أمن المضيق. وهذا ما أكّده اتفاق المصالحة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي أُبرم بوساطة صينية في 10 آذار/مارس 2023، وساهم في المساعي التي تبذلها بيجينغ لنزع فتيل التشنّجات في مضيق هرمز والمنطقة الأوسع.
الأهمية الاستراتيجية لمضيق هرمز
يبلغ طول مضيق هرمز نحو155 كيلومترًا وعرضه حوالى 34 كيلومترًا عند نقطته الأضيق. شُحِن نحو 21 مليون برميل من النفط يوميًا عبر هذه البوّابة المحورية في العام 2020، وهو العام الذي تتوافر عنه آخر الأرقام. الخيارات التي تسمح بتجاوز هذا المضيق محدودة، ويُشار إلى أن السعودية والإمارات العربية المتحدة هما الدولتان الوحيدتان اللتان لديهما خطوط أنابيب يمكنها شحن النفط الخام إلى خارج منطقة الخليج. ووفقًا لتقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية، فإن76 في المئة من النفط الخام والمكثّفات التي مرّت عبر المضيق في العام 2018 كانت وجهتها الأسواق الآسيوية، وبصورة خاصّة الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، إذ استحوذت هذه البلدان على 65 في المئة من مجموع كميات النفط التي شُحِنت عبر المضيق في ذلك العام. في المقابل، استوردت الولايات المتحدة نحو 1.4 مليون برميل نفط في اليوم عبر مضيق هرمز في العام 2018، ما شكّل حوالى 18 في المئة من مجموع واردات النفط الخام الأميركية.
يبلغ عرض قنوات الشحن في المضيق التي يمكن أن تتسع لناقلات النفط العملاقة ميلَين بحريَّين فقط، لذا تُضطرّ السفن إلى المرور عبر المياه الإقليمية الإيرانية والعُمانية. وقد هدّدت إيران في مناسبات عدّة بإغلاق الممر، ولكن الإقدام على هذه الخطوة بشكل أُحادي يمثّل انتهاكًا للقانون الدولي نظرًا إلى أن سلطنة عُمان تُقاسمها السلطة على المجرى المائي. ولكن المضيق ظلّ موئلًا أساسيًا للنزاعات منذ العام 1987 وما يُسمّى بـ"حرب الناقلات" خلال الحرب العراقية الإيرانية، حين استهدفت بغداد سفن الشحن الإيرانية. وفي الآونة الأخيرة، تحوّل المضيق إلى حلبة أساسية للمواجهة البحرية بين واشنطن وطهران، إذ اتهمت الولايات المتحدة الزوارق السريعة التابعة للحرس الثوري الإيراني بمضايقة سفنها العاملة في المضيق.
بما أن مضيق هرمز هو ممرٌّ عالمي للطاقة، يُعَدّ أمنه ضروريًا لحسن سير الاقتصاد العالمي. فقد استخدمت إيران بصورة خاصة موقعها عند المضيق لردع الولايات المتحدة وحلفائها من خلال مهاجمة سفن تجارية وعسكرية تعبر المجرى المائي. وأدّى تصاعد التشنّجات بين إيران والغرب، ولا سيما مع تقدّم طهران في برنامج التخصيب النووي، إلى تعزيز الانتشار العسكري في المضيق. فالأسطول الخامس الأميركي المتمركز في البحرين ينشط بصورة خاصة هناك، حيث يشارك في مساعدة البحّارة، وحماية البنى التحتية، وردع القراصنة، فضلًا عن العمليات القتالية. وفي كانون الثاني/يناير 2012، استخدمت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما قناة سرّية للتواصل مع إيران من أجل تحذير مرشدها الأعلى آية الله علي خامنئي، من أن إغلاق مضيق هرمز هو "خط أحمر" ستردّ عليه واشنطن بقوّة. وكان ذلك بعد أربع سنوات من التحذير الذي وجّهه قائد الأسطول الخامس منبِّهًا إلى أن إغلاق المضيق سيُعتبَر عملًا حربيًا.
تشارك القوات البحرية الأميركية في عددٍ من فرق العمل البحرية المتعدّدة الجنسيات في المنطقة، وتشمل القوات البحرية المشتركة التي تضم 34 بلدًا وتتمركز في البحرين، والتحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية المؤلَّف من 11 بلدًا، وذراعه العملياتي المتمثّل بفريق عمل التحالف المعروف بـ"سنتينل"، والمتمركز أيضًا في البحرين. وعمدت بعثة التوعية البحرية في مضيق هرمز التي تقودها أوروبا وتضم تسعة بلدان، والتي أُنشئت بناءً على اقتراح فرنسي وتتّخذ من الإمارات مقرًّا لها، إلى زيادة نشاطها في الحفاظ على حرّية الملاحة في المضيق منذ كانون الثاني/يناير 2020. وشاركت سفن حربية صينية وروسية أيضًا في تدريبات بحرية مشتركة مع إيران في خليج عُمان، فيما نشرت اليابان وكوريا الجنوبية سفنًا حربية للدفاع عن سفنها التجارية.
سلّط الوزير المسؤول عن الشوؤن الخارجية السابق يوسف بن علوي، في كلمة أمام مؤتمر الأمن في ميونخ في شباط/فبراير 2020، الضوء على مخاوف مسقط من خطر وقوع "خطأ" بسبب تزايد أعداد السفن التابعة للقوات البحرية في المضيق. والحال هو أن القوات البحرية الأميركية والإيرانية تسبّبت بوقوع حوادث خطيرة عدّة على مر العقود، مثل قيام السفينة الحربية الأميركية USS Vincennes بإسقاط طائرة مدنية إيرانية في تموز/يوليو 1988. ففي ظل تنامي الانتشار العسكري الخارجي في المضيق، من شأن أي خطأ أو سوء تقدير أن يقود سريعًا إلى التصعيد.
كذلك، تصاعدت التشنّجات البحرية بين الولايات المتحدة وإيران خلال الأشهر الأولى من العام 2023. ففي 20 نيسان/أبريل، قال قائد بحري إيراني إنّ غوّاصة أميركية خرقت المياه الإقليمية الإيرانية وأرغمتها البحرية الإيرانية على الصعود إلى سطح المياه. لكن واشنطن نفت ذلك. وبعد أسبوع، أقدمت القوات البحرية الإيرانية على احتجاز ناقلة نفط ترفع علم جزر مارشال في المياه الدولية لخليج عُمان. قال التلفزيون الرسمي الإيراني إن الناقلة تجاهلت النداءات اللاسلكية بعد اصطدامها بسفينة إيرانية. وأشارت بعض المصادر إلى أن هذا التحرّك الإيراني انطلق ربما من دوافع انتقامية ردًّا على مصادرة الولايات المتحدة ناقلة نفط إيرانية كانت متّجهة إلى الصين قبل ذلك بأيام. ووقعت حادثة مشابهة أخرى في 3 أيار/مايو، حين عمدت زوارق إيرانية سريعة تابعة للقوات البحرية إلى محاصرة ناقلة النفط اليونانية Niovi التي ترفع علم بنما، مرغمةً إياها على التوجّه إلى المياه الإقليمية الإيرانية قبالة مدينة بندر عباس. وقد راقبت الصين بحذر هذه الحوادث، نظرًا إلى أن اقتصادها يعوّل بقوّة على التدفّق السلس للنفط عبر المضيق.
المصلحة الصينية في أمن المضيق
مع تنامي اعتماد الصين على النفط الخليجي، ازدادت أيضًا مصلحتها الاستراتيجية المتمثّلة في صون الأمن والاستقرار في مضيق هرمز. يُضاف إلى ذلك أن الوجود العسكري للولايات المتحدة وحلفائها في المضيق شجّع الصين على توسيع تأثيرها في المنطقة لحماية مصالحها التجارية. وفيما تتشارك بيجينغ وواشنطن الرغبة في ضمان عبور النفط بحرّية، تُعتبر الصين عُرضة للتأثّر بشدّة من الاختلالات التي قد تطرأ على الإمدادات النفطية من المنطقة، ولا سيما أنها تخطّت الولايات المتحدة لتصبح المستورد السنوي الأول للنفط الخام في العالم في العام 2017. لذلك، يُعدّ ضمان إمدادات النفط بصورة مطّردة أساسيًا لأمن الطاقة في الصين.
خلال السنوات القليلة الماضية، تمكّنت الصين من الالتفاف على العقوبات الأميركية من أجل استيراد النفط الإيراني. فإيران هي ثالث أكبر مورّد للنفط إلى الصين بعد روسيا والسعودية. ومنذ أن أعادت الولايات المتحدة فرض عقوبات على قطاع النفط الإيراني عقب الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران في أيار/مايو 2018، خفّضت طهران إلى حدٍّ كبير أسعار نفطها بمقدار25 في المئة على الأقل. تُعتبر الصين أكبر مستورد للنفط الإيراني، فضلًا عن أنها أكبر شريك تجاري للجمهورية الإسلامية. وهي استفادت بشكل كبير من الحظر الأميركي على النفط الإيراني، ومن قيام مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي بوضع حدٍّ أقصى لسعر النفط الروسي ردًّا على الحرب الروسية الأوكرانية. يُضاف إلى ذلك أن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي أُبرمت لمدّة 25 عامًا بين الصين وإيران في آذار/مارس 2021، والتي تشمل بيع النفط الإيراني إلى الصين بأسعار مخفّضة مقابل إجراء الصين استثمارات في إيران، أدّت إلى توسيع بصمة بيجينغ الاقتصادية في المنطقة، ممهدةً الطريق ربما لتعزيز نفوذها العسكري.
وعلى الجانب الآخر من مضيق هرمز، نسجت الصين بتأنٍّ علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي الست، أي البحرين والكويت وعُمان وقطر والسعودية والإمارات. صحيحٌ أن هذه العلاقات كانت ترتكز في بادئ الأمر على صادرات النفط والغاز من هذه الدول، لكن نطاق التعاون الاقتصادي الصيني معها اتّسع بوتيرة متسارعة ليشمل قطاعات مثل البنى التحتية، والتمويل، والاتصالات، واستكشاف الفضاء، والطاقة المتجدّدة، والطاقة النووية، وحتى تصنيع الأسلحة. وفي كانون الأول/ديسمبر 2022، وقّعت الصين والسعودية اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة تضمّنت 34 اتفاقًا في مجالَي الطاقة والاستثمار في قطاعات شتّى. علاوةً على ذلك، وتماشيًا مع مبادرة الحزام والطريق، استثمرت الصين مليارات الدولارات في موانئ عدة في المنطقة، على غرار ميناءَي خليفة والفجيرة في الإمارات، وميناء الدقم الجديد في عُمان، وميناء تشابهار في إيران، وميناء جوادر في باكستان. وفي العام 2012، أنجزت الشركة الصينية للهندسة والإنشاءات النفطية بناء خط أنابيب حبشان-الفجيرة، الذي ينقل النفط لمسافة 380 كيلومترًا من أبوظبي عبر الداخل الإماراتي وصولًا إلى ميناء الفجيرة، متجنّبًا بالتالي المرور عبر مضيق هرمز. وفي الوقت الراهن، تشارك الشركات الصينية في بناء شبكة الاتحاد للسكك الحديدية في الإمارات، التي ستربط الموانئ الإماراتية بمراكز تجارية وصناعية مهمة في مختلف أنحاء منطقة الخليج.
ألمحت وزارة الدفاع الأميركية إلى أن الصين تسعى إلى إرساء وجود عسكري مديد لها في المنطقة، وذكرت أن الإمارات هي من بين الدول التي تدرس بيجينغ إمكانية تنفيذ هذه الخطة فيها. وفي العام 2021، أصبح ميناء خليفة في قلب الجدل، حين رصدت وكالة الاستخبارات الأميركية أن الصين بدأت سرًّا ببناء منشأة عسكرية فيه. يُذكر أن واشنطن وجهّت تحذيرًا إلى الإمارات بشأن الأنشطة الصينية، ما أدّى على ما يبدو إلى توقّف أعمال البناء. تجدر الإشارة إلى أن الصين، على خلاف الولايات المتحدة، لا تمتلك قوة عسكرية دائمة في المنطقة، لكن سفن القوات البحرية الصينية تشارك منذ العام 2008 في مهمّات حراسة لمكافحة أعمال القرصنة، وترسو في موانئ إقليمية عدة. وقد أسهمت هذه الاستخدامات للموانئ في تعزيز دبلوماسية الصين العسكرية، وسمحت في الوقت نفسه بإعادة إمداد سفن القوات البحرية العاملة في البحار المحيطة.
تسعى الصين إلى تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، إلا أنها تفتقر إلى الخبرات والتجهيزات العسكرية اللازمة لمنافسة الولايات المتحدة في موقع الجهة الضامنة لأمن المنطقة. مع ذلك، أدّى الانسحاب العسكري الأميركي المتصوّر من الشرق الأوسط، وسط توجّه بوصلة أولويات واشنطن نحو آسيا، إلى منح الصين فرصة لاكتساب موطئ قدم في المنطقة. وأسفرت العلاقات الباردة بين إدارة جو بايدن من جهة والسعودية والإمارات من جهة أخرى عن تحوّل ملحوظ في سياسات كلٍّ من الرياض وأبوظبي. وبما أن دول الخليج لم تعد راضية عن التطمينات الأمنية الأميركية، لجأت بشكل متزايد إلى التحوّط الاستراتيجي في علاقاتها الثنائية مع واشنطن وبيجينغ، مفسحةً المجال أمام انخراط دبلوماسي صيني أكبر. لكن احتمال أن يؤدّي تنامي النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي الصيني في المنطقة إلى تعاظم نفوذ بيجينغ العسكري، فهذا أمرٌ يعتمد في المقام الأول على مدى وفاء الولايات المتحدة بالتزاماتها الأمنية تجاه حلفائها في مجلس التعاون الخليجي.
تأثير المصالحة بين السعودية وإيران
في مطلع العام 2023، كشفت الصين عن دورها الدبلوماسي المنتامي حين توسّطت في إبرام اتفاق المصالحة بين السعودية وإيران. ولا يمكن المبالغة في تقدير أهمية هذا الاتفاق. صحيحٌ أن إيران والسعودية كانتا تسعيان إلى تخفيف حدّة التوترات بينهما عقب جولات عدّة من المحادثات التي سهّلتها كلٌّ من عُمان والعراق، إلا أن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض لم يكن متوقعًا في وقت قريب جدًّا، ولا سيما أن النزاع في اليمن لا يزال من دون حلّ.
وصف أوباما الصين بأنها "راكب بالمجّان" في العام 2014، ووُجِّهت على نحو متزايد دعوات إلى بيجينغ للمشاركة في تحمّل أعباء الحفاظ على الأمن العالمي، لذا شكّل دورها في تسهيل إبرام اتفاق بين السعودية وإيران إنجازًا مهمًا. وفي حال أفضى هذا الاتفاق إلى إرساء تقارب مستدام بين الرياض وطهران، فستُثبت بيجينغ أن تأثيرها في منطقة الخليج لا يقتصر على المجال الاقتصادي فحسب. وعلى الرغم من أن البيان الثلاثي المشترك لكلٍّ من إيران والسعودية والصين لم يأتِ على ذكر مسائل محدّدة على السعودية وإيران حلّها، فإنّ الجانبَين أعربا عن "رغبتهما في حل الخلافات بينهما من خلال الحوار والدبلوماسية". ستتمثّل الخطوة الأولى من الاتفاق في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الجانبَين، على الرغم من أن تأثير ذلك على الصراعَين اليمني والسوري – ولا سيما في أعقاب المصالحة بين السعودية وسورية وإعادة سورية إلى كنف جامعة الدول العربية – لا يزال غير واضح المعالم. وكذلك الأمر أيضًا بالنسبة إلى انخراط الصين في العملية التفاوضية بين السعودية وإيران ومدى قدرتها على دفع الرياض وطهران إلى تقديم تنازلات.
أما الاختبار الحقيقي لمدى فعالية الاتفاق فيتمثّل في وقْعه على الصراع في اليمن. قد يكون لإيران تأثيرٌ على حركة أنصار الله، المعروفة بالحوثيين، لدفعها إلى الحدّ من هجماتها على الدول المجاورة، لكن قدرتها على تحريك الديناميكيات اليمنية المحلية محدودة أكثر على الأرجح. مع ذلك، تبدو السعودية عازمةً على سحب قواتها من الصراع اليمني المُهلك والمُكلف، فيما ترمي إيران إلى خفض وتائر التوترات الإقليمية وسط استمرار الاضطرابات المحلية التي تشهدها، وتدهور أوضاعها الاقتصادية نتيجة العقوبات الأميركية.
يُعدّ فرض العقوبات على إيران في صُلب المقاربة الأمنية التي تنتهجها الولايات المتحدة في الخليج. وقد ساندت واشنطن في الوقت نفسه منافسَي إيران الإقليميَّين، أي السعودية وإسرائيل، من خلال مبيعات الأسلحة والدعم العملياتي. وعلى الرغم من أن الاتفاق النووي الذي أُبرم في العام 2015 أحرز بعض النجاح في الحدّ من أنشطة التخصيب النووي الإيراني، فإنه لم يؤثّر كثيرًا في التقليل من الممارسات الإيرانية التخريبية في الشرق الأوسط. علاوةً على ذلك، أدّى انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي واغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في كانون الثاني/يناير 2020 إلى تأجيج جذوة العداوات الإقليمية. وعلى الرغم من النفوذ العسكري الأميركي في المنطقة، واجهت واشنطن صعوبات في مسائل عدّة، سواء في بناء كتلة موحّدة لمواجهة الصين، وفي حشد الدعم لأوكرانيا في حربها مع روسيا، وحتى في إقناع حلفائها بالتعاون من أجل خفض أسعار النفط. أما الصين، مع أنها لا تملك وجودًا عسكريًا في المنطقة، فقد كانت حريصةً على إقامة علاقات متوازنة مع إيران من جهة وخصوم طهران الإقليميين من جهة أخرى، ما أتاح لبيجينغ أن تؤدّي دور وساطة سيصبّ في نهاية المطاف في خدمة مصالحها الاقتصادية الإقليمية.
يُضاف إلى ذلك أن الطبيعة السلطوية للحكومة الصينية والتزامها بسياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ولا سيما في قضايا حقوق الإنسان، يكسبان بيجينغ ميزة تفاضلية كبيرة مقابل واشنطن على مستوى التعاون مع بلدان الشرق الأوسط. فقد دفع قرار واشنطن تجميد مبيعات الأسلحة للسعودية والإمارات بشكل مؤقت، وتعليقها صفقة بيع طائرات مقاتلة من طراز إف-35 إلى الإمارات، بكلًّ من الرياض وأبوظبي إلى البحث عن جهات مورِّدة بديلة، ومن ضمنها الصين. مع ذلك، وعلى الرغم من إحراز بيجينغ بعض التقدّم في ولوج سوق السلاح الإقليمي، فهي لا تستطيع بعد التفوّق على الولايات المتحدة التي تحتل المرتبة الأولى في توريد السلاح إلى المنطقة.
وعلى الرغم من تركيز واشنطن المتزايد على احتواء المساعي التوسّعية الصينية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، فهي لا تزال تنظر إلى الشرق الأوسط، وتحديدًا منطقة الخليج، باعتبارها ميدان التنافس الاستراتيجي مع بيجينغ. تسعى الولايات المتحدة، من خلال ما عُرف بالاتفاقات الابراهيمية التي أدّت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعددٍ من الدول العربية، إلى تشكيل كتلة تضم حلفاءها الإقليميين بهدف الوقوف في وجه المصالح الإيرانية والصينية، والروسية بدرجة أقل، في منطقة الشرق الأوسط الأوسع حيث لا تزال واشنطن تتمتع بنفوذ كبير بفضل وجودها العسكري وتفوّق السلاح الأميركي. وعلى الرغم من الفتور الذي لا يزال يخيّم على العلاقات بين إدارة بايدن وكلٍّ من السعودية والإمارات، فإن السماح ببيع أسلحة أميركية متطوّرة لهذَين البلدَين، مثل طائرات من طراز إف-35، من شأنه أن يظهر التزام واشنطن تجاه حلفائها الإقليميين.
مع ذلك، حدث بالفعل تبدُّل ما في المواقف الإقليمية. فكما أظهرت المصالحة بين السعودية وإيران، ترى دول المنطقة مزايا تُجنى من عدم الاعتماد على قوة عظمى واحدة، والاستفادة من التنافس بين مختلف القوى العظمى. وسيستمرّ هذا الوضع فيما تحاول دول الشرق الأوسط التوصّل إلى توازن جديد بين بعضها البعض بعد عقود من الصراعات والهيمنة الأميركية. وستكون الصين على الأرجح في قلب عملية إعادة الاصطفاف هذه التي تشهدها المنطقة.
خاتمة
قد يؤدّي خفض وتائر التوتر الإقليمي نتيجةً للاتفاق الذي أُبرم بوساطة الصين بين السعودية وإيران إلى منح بيجينغ دورًا متميّزًا في مستقبل المنظومة الأمنية الإقليمية. مع ذلك، تدرك الصين أنها لا تستطيع في الوقت الراهن منافسة الهيمنة العسكرية الأميركية. مع ذلك، أظهرت المساعي التي بذلتها الصين في تسهيل ولادة الاتفاق بين السعودية وإيران أن بيجينغ تعوّل على النفوذ الاقتصادي الذي تتمتع به في المنطقة لتعزيز دورها في التأثير على الديناميكيات الأمنية الإقليمية، ومدّ جسور دبلوماسية في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية من أجل حماية مصالحها التجارية.
لا يعكس الاتفاق السعودي الإيراني سوى جزءٍ واحد من طموحات بيجينغ الأوسع في الشرق الأوسط. ومن شأن نجاح الاتفاق أن يولّد سلسلةً من النتائج الطويلة الأمد التي لن تقتصر على المنطقة فحسب بل ستطال أيضًا مستقبل التنافس بين قوتَين عظيمتَين هما الصين والولايات المتحدة. ومن أجل الوقوف في وجه المصالح الصينية، ستستمر واشنطن في دعم الاتفاقات الابراهيمية، مركِّزةً على أولوية تحقيق تطبيعٍ للعلاقات بين السعودية وإسرائيل. وسيسمح ذلك بتشكيل كتلة متراصّة من الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة، ما قد يفضي إلى حدوث تعاون أمني أكبر في مواجهة إيران من جهة، واحتواء النفوذ الصيني المتنامي من جهة أخرى.