الرسول الأكرم: بين ألم الفراق وألم التمرد على القيادة
محمد علي جواد تقي
2025-08-21 03:26
"انفذوا جيش أسامة، لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة".
رسول الله، صلى الله عليه وآله
سؤالاً كبيراً طرحه الباحثون والمؤرخون عن الحكمة من قرار رسول الله، في تسيير جيش ضخم، هو الأكبر منذ نشوء الإسلام الى ما تخوم الحدود الشمالية مع الدولة الرومانية التي كانت تعتنق آنذاك الديانة المسيحية، بينما كان هو، صلى الله عليه وآله، يتوقع في كل لحظة مغادرته الحياة الفانية؟
ابتعاد القوة العسكرية عن القوة السياسية في لحظات تعرض القائد لوعكة صحية خطيرة لا يُرجى منها البراءة، لهي مسألة مثيرة للتساؤل عند أهل الحكم والسياسة، فمن المفترض أن تكون القيادة العسكرية، والمعدات والسلاح، قريبة من العاصمة لئلا تنزلق الى ما لا يرتضيه القائد لمستقبل الدولة، ثم لتكون طاعة الجيش للقائد الجديد بشكل انسيابي دون مشاكل.
بيد أن المؤرخين يسجلون أن أياماً معدودة مضت على عودة النبي الأكرم، من حجة الوداع، والانتهاء من بيعة الغدير، حتى أمر بالتعبئة العامة، وأرسل الى قبائل العرب في الجزيرة العربية بالاستعداد لغزو دولة الروم التي تمثل اليوم جغرافياً؛ بلاد الشام، متضمنةً سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، بعد أن وجد أن الروم لا يؤمن شرهم، وهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء وجود الدولة الإسلامية المتعاظمة الى جانبهم، وقد بسطت جناحيها على ربوع الجزيرة العربية، ومما ذكره المؤرخون "من جملة الدوافع لإرسال هذا الجيش، أن الدولة الرومانية جعلت تطارد وتقتل كل من دخل الإسلام من رعاياها، ومهما تكون من أسباب فقد أمر النبي الأكرم أسامة بن زيد أن يوطئ الخيل البلقاء والداروم من أرض فلسطين على مقربة من مؤتة حيث قتل والده –زيد بن حارثة- وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عماية الصبح ويمعن فيهم قتلاً وتشريداً، وأن يتم ذلك بأقصى ما يمكن من السرعة قبل أن يصل أخباره اليهم". (سيرة المصطفى- السيد هاشم معروف الحسني).
وقبل الانتقال الى فقرة أخرى في هذا السياق، تجدر الإشارة الى أن خصلة الغدر التي كشفها الروم عن انفسهم عندما موفد الدولة الإسلامية؛ الحارث بن عمير الأزدي، هي التي جعلت النبي يفكر أكثر من مرة لتأمين حدود الدولة الإسلامية، وتطبيق القاعدة؛ "الهجوم أفضل وسيلة للدفاع".
وجاء في التاريخ أن الحارث كان ممن بعثه النبي الى ملوك وزعماء البلاد المجاورة يدعوهم الى الإسلام، ولم يصب أحد بأذى، بينما هو فقد لقيه في منطقة "مؤتة" أحد قادة الروم يدعى "شرحبيل بن عمر الغساني"، فلما سأله عن وجهته قال: معي رسالة الى ملك بُصرى من رسول الله، فاعتقله ثم قتله صبراً، وهي الحادثة التي يتفق المؤرخون بوقعها الشديد على نفس رسول الله، فكان أن جهّز جيشاً بثلاثة آلاف مقاتل بقيادة جعفر بن أبي طالب، ومعه البدائل من القادة؛ زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وكانت غزوة مؤتة، واستشهاد القادة الثلاثة، وانسحاب الجيش الإسلامي الى المدينة تاركين رسالة شديدة اللهجة من الدولة الإسلامية بأنهم ليسوا القوة التي يُستهان بها، وستكون لهم كرة أخرى.
عقدة القيادة عند العرب
مما يحزّ في النفس حقاً أن نقرأ في كتب السِير، وفي حياة رسول الله، صلى الله عليه وآله، وكيف أنه جاهد وضحّى وتحمل كل أنواع الصعاب والشدائد من اجل توفير أكبر قدر من العزّة والمنعة للمسلمين في عقيدتهم الحقّة، وفي نظامهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي ضمن دولة متكاملة تكون نموذجاً مشرقاً لسائر بلاد العالم، بينما كان عرب الجزيرة العربية مصرّين على التشبّث بعاداتهم وتقاليدهم الجاهلية البالية التي أكد التاريخ وتجارب الزمن أن حنينهم هذا الى الجاهلية هو الذي دفعهم الى مهاوي التخلف عن ركب الحضارة الإنسانية، ثم التبعية وكل اشكال المعاناة والمآسي الفضيعة.
في تلك الفترة، وبعد مضي ثلاثة وعشرين سنة من ظهور الإسلام، كان من الصعب على كبار القوم الانصياع لأوامر من هو دون سنّهم وتجربتهم في الحرب والسياسة، فالمعايير الجاهلية تؤشر الى قوة المال، وقوة الوجاهة الاجتماعية، وايضاً؛ العُمر، بينما المعايير الحضارية عند الإسلام؛ التقوى، والعقل، والايمان، الى جانب القوة البدنية، كما شهدوا النموذج الحيّ ولمسوه بكل جوارحهم في أمير المؤمنين، عليه السلام، خلال الحروب، وكيفية التعامل مع المجتمع –اليوم يوم المرحمة، اليوم تصان الحرمة- بيد أن الرين الشديد على القلوب، والحُجب النفسية كانت تمنعهم من استيعاب الحقيقة، ولذا كان الموقف السلبي ممن يُسمون بـ "كبار الصحابة" واستفهامهم عن سبب اختيار النبي الأكرم لشاب لم يبلغ العشرين من عمره، ثم هو من الموالي وليس من الاحرار، وقد كان أبوه زيد بن حارثة عبداً عند رسول الله، فكيف يقبلون بقيادة جيش جرار وعظيم من قبل شاب عبد ابن عبد؟!
أكدت المصادر التاريخية على تثاقل العديد من "كبار الصحابة" عن الالتحاق بجيش أسامة، مما أثار انزعاج النبي الأكرم، وهو في حالته الصحية المتردّية، فاضطر ان يخرج بنفسه الى الناس ويحثهم على الخروج والجهاد، وحينما طالبوه بأن يولّي عليهم غيره، قال لهم: "لعمري لئن قلتم في إمارته اليوم، فلقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وأنه لخليق بالإمارة كما كان أبوه خليقاً بها من قبل".
ماذا نفهم من كلمة "خَليق" في كلام رسول الله، وهو {لا يَنطقُ عَن الهَوى إنْ هوَ إلّا وَحيٌ يُوحَى}؟
في مصادر اللغة نقرأ: "كَانَ خَلِيقاً بِهِ، فهو خَلِيقٌ: جدير به، كأَنَّما خُلِقَ له وطُبعَ عليه"، وهذا ما خبره النبي الأكرم من أسامة، كما خبره من أبيه خلال قيادته الناجحة في غزوة مؤتة، فهو لم ينهزم، ولم يتسبب في هزيمة الجيش الإسلامي، إنما المواجهة غير المتكافئة أدت الى رجحان كفة الروم، فقد استبسل في القتال وحمل الراية بعد استشهاد جعفر، ثم قاتل حتى استشهد.
معالجة العقدة في اللحظات الأخيرة
ربما هي الاقدار أن تكون معالجة عقدة القيادة في نفوس المسلمين آنذاك ضمن آخر مهام النبي الأكرم في حياته، رغم صعوبة العملية وتعقيدها، وحاجتها الى غير قليل من الصبر على الأذى والألم المعنويين، وقد تجرعه الرسول الأكرم فيما يتعلق ببيعة الغدير، وكيف تلمّس النكران والخذلان بكل جوارحه في ساعاته الأخيرة قبل الوداع الأليم فيما بات يُسمى بـ "رزية الخميس" التي لا أجدني بحاجة الى شرحها للقارئ اللبيب والمتابع لتاريخه، إنما الحاجة في هذا السياق للإجابة على السؤال الذي بدأنا به مقالنا عن سبب تزامن توجيه الجيش الإسلامي للمسير الى الحدود الشمالية للدولة الإسلامية، مع دنو أجله، صلى الله عليه وآله، بناءً على إخبار جبرائيل عن الله –تعالى-.
بعض علماء الأمة عزا قرار النبي الى دوافع سياسية بحتة، كما ذهب الى هذا؛ "قاضي القضاة عبد الجبار المغزلي بأنه جعل هؤلاء القوم في جيش أسامة ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة، فلا يقع منهم توثب على الإمامة، ولذلك لم يجعل أمير المؤمنين في ذلك الجيش وجعل فيه أبي بكر وعمر بن الخطاب وغيرهما ليتم له الأمر بدون منازع".
وهذا العالم وغيره من علماء الأمة ممن ادّعوا أن النبي لم يوجه الدعوة الى الاثنين بالالتحاق بجيش أسامة، في وقت تؤكد معظم المصادر خلاف هذا، وأن النبي لم يستثن أحداً من المسلمين بمختلف مستوياتهم بوجوب الالتحاق بجيش أسامة ما عدا أمير المؤمنين، عليه السلام، أمره بالبقاء في المدينة.
بيد أن السبب الذي يجمع عليه علماء آخرين هو؛ معالجة النبي الأكرم لعقدة التعالي والتكبّر عند العرب، وإلغاء صفة العبودية، وايضاً؛ الفوارق العرقية والقومية عن معايير الصلاحية للإنسان الى الأبد، وهو ما درج عليه الأئمة المعصومون من بعده، لاسيما فيما يتعلق بالزواج والعمل وجوانب مختلفة من الحياة، وهو تحديداً ما خالفه وناقضه معظم –إن لم نقل جميع- الحكام من بعده طيلة الأربعة عشر قرناً، وما تزال السنّة الجاهلية قائمة في المجتمع.
هذه المعالجة النبوية لهذه العقدة مسنودة من القرآن الكريم، وهو كلام الله المجيد، إذ ورد اسم أحد المعاصرين للنبي الأكرم لأول وآخر مرة، وهو زيد بن حارثة والد أسامة، عندما حصل أن زوج النبي زيداً، ثم جاء النداء الإلهي بأن يطلق زيد زوجته، ويتزوجها النبي الأكرم، وقد شرح القرآن القصة في سورة الأحزاب بشكل مفصل: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}، وذكر اسم زيد بشكل صريح في القرآن الكريم دلالة واضحة وقوية لا لبس فيها على عزم الإسلام على مكافحة العبودية وإلغاء صفة العبد عن الانسان الفرد في المجتمع، واستبدالها بالكفاءة العلمية، والنزاهة الأخلاقية، ونقاء القلب والسريرة.
أغمض النبي الأكرم عينيه، فيما هَمِلت عيون المسلمين –وما تزال الى يوم القيامة- بالدموع السُخنى على هذا الفراق الأليم، ولكن القوم بقوا مصرين على حنينهم الى الجاهلية المقيتة، الى درجة أن يصف أحد دعاة صحبة النبي أحد المسلمين من غير العرب بأنه "مجوسي كافر"، فالاسلام في نظره مختصٌ بالعرب وحدهم!