تعزيز الديمقراطية الرقمية في العراق
د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
2025-11-15 04:43
في وقتنا الراهن حيث التقدم التقني والتكنولوجي في أجلى صوره وأعلى مراتبه، تتشكل خارطة الحياة اليومية للمواطن العراقي، وهو يتأثر باللاشعور بهذا التطور العلمي المذهل، حيث تفرض على المواطن أنماط سلوك تتصل بحياته الخاصة ولاسيما الأسرية والعامة في المجتمع، إذ يعيش ويتواصل ويتفاعل ويشارك أخص اللحظات الفردية والجماعية، وبالنتيجة يمكن لهذا العالم التقني المتطور ان يتدخل في اختيارات الفرد لاسيما السياسية.
فالديمقراطية الرقمية تشير إلى توظيف التكنلوجيا لدعم السلوك الحر وتنمية القيم الديمقراطية، مثل تحبيذ المشاركة في الشأن العام والتأكيد على أهمية تنمية السلوكيات الفردية أو الجماعية التي من شأنها ان تحافظ على المصلحة العامة، لاسيما التأكيد على أهمية الشفافية والمساءلة بوصفهما الأداة الضامنة لرشد السلطة ومن فيها من الأفراد.
بعبارة أخرى الديمقراطية الرقمية هي الفضاء الذي يّمكن الفرد من إسماع صوته للقابضين على السلطة بأدوات متاحة وممكنة وقادرة على فتح أفق الحوار العام بين المسؤول والمواطن لمد جسور من التواصل وبناء الثقة، كما يمثل الفضاء الرقمي الساحة الرئيسة لمنظمات المجتمع المدني بما يمكنها من مخاطبة الرأي العام والتأثير في توجهاته في القضايا المصيرية، ويمكن للصحافة والإعلام الحر أيضاً ان يجد المساحة والحرية اللازمة للنهوض بوظيفته الموضوعية ويحقق الغاية المبتغاة من وراء الصحافة الحرة المسؤولة التي تبتغي الوقوف بوجه الاستبداد أياً كان مصدره أو صورته أو توقيت ظهوره.
بيد ان من الملاحظ ان مساحة الحرية في هذا الوسط تتأثر في الكثير من الأحيان بعوامل تخرج عن إرادة الفرد وتتصل بالسلطة الحاكمة وتوجهاتها الحالية أو المستقبلية، والتي تميل في غالب الأحيان إلى الاستبداد وكتم الأصوات التي تعارضها أو تهدد مصالحها الشخصية الضيقة ولعل الذريعة دائماً وأبداً جاهزة وتتمثل بمقتضيات الأمن الوطني أو مقتضيات مصلحة النظام العام وما إلى ذلك من الأعذار.
فالعراق شأنه شأن جميع الدول التي تعيش بدايات الديمقراطية الناشئة وهي بأمس الحاجة إلى التأسيس لمختبرات رقمية يمكنها ان تحلل الأمراض المجتمعية والسياسية والاقتصادية وتسهم في تشخيص الأسباب المؤدية إلى العلة، تمهيداً لاقتراح المعالجات والحلول والتي للأسف الغالب منها يكون سياسياً بالدرجة الأساس، أو اقتصادي أو قانوني بدرجة أقل وكل ما تقدم من شأنه ان يحقق الأمن الديمقراطي للمواطن والمجتمع العراقي.
كما ان التأسيس لهذه المختبرات التي يمكن تمثيلها بملتقيات رقمية للنخب من جميع التخصصات مع الإعلاميين المؤثرين وصناع المحتوى الإيجابي لتكون مساحة للنقاش وتبادل وجهات النظر والعمل بروح الفريق لتشخيص مكامن الخلل في الأداء الحكومي أو التشريعي أو القضائي، وبالمحصلة ما يخلصون إليه يّمكن ذوي الشأن من معرفة الإشكاليات المسببة واقتراح الحلول الممكنة لا سيما القانونية منها التي تختصر زمن العلاج وفترات النقاهة المجتمعية أو الاقتصادية.
مع التذكير ان ما تقدم ليس بالأمر الهين أو السهل فالتحديات دائما تواجه أصحاب النوايا السليمة الساعين إلى الإصلاح فليس كل الفئات المجتمعية بذات الدرجة من الوعي أو الاهتمام بالشأن العام، كما أن الأساليب التي يتبعها بعض الساسة أو الأحزاب أو الكتل المؤثرة في المشهد السياسي والاقتصادي تحول دون مواجهة فاعلة وحاسمة مع الاستبداد فمحاولة كسب ودّ فئات من المجتمع من خلال التصرف غير المشروع بالمال السياسي أو النفوذ الحكومي تحول دون وحدة الكلمة في مواجهة هؤلاء.
والتحدي الأخر هو عدم قدرة فئات كبيرة من المجتمع من الوصول الأمن إلى المساحات والباحات الحرة أو عدم امتلاكهم القدرة المالية أو التأهيلية اللازمة لمواكبة ذلك، كما ان من أشد العقبات التي تحول دون ما تقدم وجود الجهات المناوئة للحرية الرقمية للمواطن والتي تحاول العبث بالثوابت والقيم عبر استغلال الهفوات والأخطاء لتقليل الثقة بصانعي المحتوى الإيجابي أو للتقليل من أهمية ذلك النتاج أو للتشكيك بمحتوياته أو بالدوافع التي تقف وراءه.
وكل ذلك بهدف تقليص مساحات الحرية الرقمية أو القضاء عليها فالمختصون اليوم يشخصون ان بعض الأحزاب والكيانات السياسية لجأت إلى الخداع الالكتروني والتأسيس لجيوش الكترونية من شأنها ان تهاجم الخصوم أو الأفكار الوطنية البناءة، واستخدام كل أشكال العنف الالكتروني أو الرقمي، والذي يطال بالغالب الفئات الأكثر عرضة للتأثير أو التأثر كالنساء والشباب والناشطين من والأقليات، ولما تقدم يمكننا القول أن أشد التحديات وأخطرها تتمثل في إنتاج فضاءات حرة شاملة وفعالة أو مؤثرة قادرة على مقاومة الطغيان تقدم المصلحة العامة على المصالح الذاتية أو الفئوية الضيقة.
ومن نافلة القول ان نذكر بما أفرزه التطور التقني لاسيما ما يخص الذكاء الاصطناعي الذي يوظف لتحليل كم هائل من البيانات التي تتصل بالجمهور لاسيما من الناخبين، ففي الكثير من الحالات تهدف الجهات السياسية للتأثير على خياراتهم أو للتجسس على بياناتهم وسلوكهم الرقمي بغية التأثير على إرادتهم بأساليب وطرق مبتكرة لعلها تغير من آرائهم السياسية، ويمكنها ان توصل إليهم رسائل مغلوطة تتضمن تزييفاً عميقاً للحقائق التي تتصل بالمرشحين ممن ثبت فشلهم ومن أصحاب الأيدلوجيات البعيدة كل البعد عن المصلحة الوطنية.
لذا نحن بأمس الحاجة إلى توجه المنظمات غير الحكومية والمفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق لتأسيس فرق من المتخصصين بمكافحة المحتوى السيئ أو المضلل للرأي العام وملاحقة المعلومات المضللة أو الأخبار الكاذبة والإشاعات التي تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي، كما يمكن وبمساعدة فريق من الإعلاميين المخلصين توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي للترويج لأهمية المشاركة السياسية الواعية وعوامل اختيار المرشحين الوطنيين من أصحاب المشاريع الوطنية القادرة على مواجهة السلبيات التي تتهدد مصير الوطن والمال العام.
أضف لذلك يمكن تشكيل فرق من المختصين لدعم وإسناد عمل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في جهودها المتواصلة لتحديث سجل الناخبين أو التقصي عن أحوال المرشحين وتنقية القوائم الانتخابية ممن لا تنطبق عليهم الشروط والمواصفات التي وضعها الدستور والقانون الخاص بالانتخابات.
وكما يحتاج التنافس الحر في الانتخابات إلى مجهودات متواصلة في رقابة الحملات الانتخابية، فمن الواضح ان القوائم والأحزاب تبالغ في استعمال الدعاية التقليدية كلصق الصور والإعلانات الدعائية، وتهمل المضامين التنافسية الحقيقية كعقد الندوات والمؤتمرات التي تشرح مضامين البرامج الانتخابية التي أعدتها، ولعل السؤال الأهم اليوم من أين تمول الأحزاب هذه الحملات المسعورة، هل يمكن للمؤسسات الرسمية كالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات ان تراقب هذه الحملات حيث انتهت الأخيرة إلى وضع النظام رقم (4) لسنة 2025 الخاص بالحملات الانتخابية، بيد أنها لم تحدد سقف أعلى للإنفاق ولم تفرض رقابة فاعلة على محاولات البعض الإساءة للنظام الديمقراطي لاسيما باستغلال موارد الدولة أو النفوذ الوظيفي، أو ما شاكل ذلك من المشكلات التي لازالت تستعصي على الحل، أو إيجاد طرق ووسائل قادرة على الرصد والتحليل والاستنتاج وتفعيل آليات المساءلة.
وبالمحصلة يمكن للذكاء الاصطناعي ان يقوم بمهام التحليل والمقارنة لرصد المخالفات المنوه عنها في أعلاه أو ما سواها، بل ويمكن طرح الاستفسارات اللازمة التي من شأنها ان تقّوم البرامج الانتخابية، وإرساء قيم الشفافية والتنافس الحر بين المترشحين على أسس موضوعية تنطبق من الوعي في إعداد البرامج والالتزام القانوني والأخلاقي بتلك الوعود الانتخابية عند الوصول إلى السلطة.
لما تقدم نجد ان منظمات المجتمع المدني قادرة على شن حملات مناوئة للفاسدين تتصدى من خلالها للإصلاح على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويمكن توظيف الأدوات الرقمية في التواصل مع الجمهور تمهيداً لبناء الوعي الفردي القادر على مواجهة الجيوش الإلكترونية للجهات السياسية المتصارعة لأجل المصالح الضيقة.
ومن المقترحات التي نرى أهمية السير فيها التأسيس لبرلمان الالكتروني في العراق وتنظيم انتخابات الكترونية رديفة غير رسمية من شأنها ان تفضي إلى ممثلين للمحافظات والمكونات العراقية تجتمع في العالم الافتراضي وتناقش التشريعات ذات الأهمية الاستثنائية للشعب العراقي ويتم التصويت عليها لتنقل إلى الممثلين الرسميين في مجلس النواب العراقي والحكومة العراقية فيكون كل منهم أمام مسؤولية مضاعفة في تحقيق أمال الناخبين وطموحاتهم، والقضاء على حالة النواب الفضائيين ممن فشلوا في تمثيل الإرادة العامة بعدم الحضور أو التفاعل مع المشكلات الجوهرية التي تواجه العراق أو ممن انساقوا وراء الانقياد الأعمى لرؤساء الكتل السياسية ممن جل اهتمامهم في تحقيق المصالح الذاتية والحزبية الضيقة على حساب مصلحة الوطن والمواطن العراقي.
أو من أولئك النواب غير المؤهلين أو القادرين على مواكبة العمل التشريعي أو الرقابي، كما يمكن لهذا البرلمان الاستفادة من مؤهلات الشباب العراقي ليكون مرآة تعكس المصالح الشعبية الحقة ويمثل ساحة لتطوير مواهب وخبرات الشبان وملتقى لعرض الهموم العراقية بعيداً عن ساحة المناكفات السياسية والمصالح الضيقة.