السياسي الفاسد وصناعة الوعي الطائفي

محمد عبد الجبار الشبوط

2025-11-15 04:35

يعيش السياسي الفاسد في البيئة التي تسمح له بالتمدد والنمو والانتشار، وهذه البيئة ليست مجرد فراغ سياسي أو فراغ أخلاقي، بل هي منظومة كاملة من الوعي المتدني الذي يجعل الإنسان يقبل الظلم وهو يظن أنه يدافع عن حقه، ويصفق للفاسد وهو يعتقد أنه يحمي جماعته أو طائفته أو انتماءه. إن المنطق الطائفي المحاصصاتي ليس مجرد آلية لتقاسم السلطة والثروة، بل هو نظام لإعادة تشكيل الوعي الجمعي بحيث يتم اختزال الإنسان من كونه كائنًا حرًا مسؤولًا إلى مجرد رقم في قطيع طائفي أو حزبي أو قبلي. هذا النظام يقوم على قاعدة بسيطة لكنها فعّالة: قسّم المجتمع إلى طوائف، واشحن هذه الطوائف بالخوف من بعضها، ثم اجعل كل طائفة تبحث عن “حامٍ” أو “زعيم” أو “مدافع” عنها، وعند ذاك تستطيع أن تجلس فوق الجميع وتدير اللعبة.

السياسي الفاسد يدرك أن وعي المواطن هو ساحة الصراع الحقيقية. وحين يفقد الناس القدرة على التفكير النقدي، وحين يتحول الانتماء إلى هوية مغلقة تُغلق العقل قبل أن تتعلق بالقلب، يصبح المجتمع بيئة مثالية للإدامة المستمرة للفساد. في هذه اللحظة يصبح الفاسد مجرد نتيجة، لا سببًا؛ أما السبب فهو الوعي الذي تم صناعته وترسيخه عبر الإعلام، والمؤسسات الدينية المنقسمة، والأنظمة الحزبية المغلقة، والذاكرة التاريخية المشحونة بالانقسام والسرديات المتقابلة.

الخطوة الأولى في مواجهة هذه الحالة ليست في إسقاط الفاسدين بالقوة أو بالمواجهة المباشرة، لأن هؤلاء الفاسدين سيعودون بشكل آخر ما دامت الأرض التي أنتجتهم قائمة. الخطوة الأولى هي تحرير الإنسان من الخوف الطائفي؛ الخوف الذي يجعله يعتقد أن وجوده مهدد إذا نظر خارج حدود طائفته. حين يتحرر الإنسان من هذا الخوف، يتحرر من التبعية، وعند ذاك يعود إلى هويته الأصلية: مواطن، لا تابعًا، شريكًا في الدولة، لا جزءًا من غنيمة موزعة.

الدولة الحضارية الحديثة تنطلق من مبدأ واضح وبسيط: الإنسان هو الأصل، وهو القيمة العليا، وهو الغاية، وهو الأساس الذي تُبنى عليه الدولة والقانون. وفي هذا الإطار يصبح معيار تولي المسؤولية هو الكفاءة بدل الانتماء، ويصبح معيار الحكم هو العدالة بدل القوة، ويصبح معيار الثروة هو العمل والإنتاج بدل النفوذ والمحسوبية. وحين يتحول المجتمع إلى مجتمع قيم، لا مجتمع مخاوف، يسقط الفاسد من تلقاء نفسه، لأن الأرض التي كان يقف عليها لم تعد صالحة لوجوده.

ليس من الحكمة أن نصف المجتمع بأنه جاهل أو مخدوع، بل علينا أن ندرك أن هذا الوعي لم ينشأ صدفة، بل صُنع، واستمر، وتم تبريره وإعادة إنتاجه لعقود طويلة. لذلك فإن الطريق إلى التغيير يبدأ من رفع مستوى الوعي الجمعي، وبناء ثقافة جديدة تقوم على المواطنة، واحترام الإنسان، والاعتماد على الذات، والإيمان بأن الدولة ملك للجميع وليست إرثًا لطائفة أو حزب أو عائلة.

إن معركة العراق اليوم ليست معركة بين طوائف أو قوى سياسية، بل هي معركة بين الوعي واللاوعي، بين الإنسان الحر والإنسان التابع، بين الدولة الحضارية الحديثة والدولة الغنائمية القائمة على الخوف والولاء الأعمى. وكلما ارتفع الوعي، ضاق المجال على الفاسدين، وتراجعت قوتهم، وسقطوا من تلقاء أنفسهم.

ذات صلة

مسارات الدبلوماسية ودورها في بناء السلام المستدامتعزيز الديمقراطية الرقمية في العراقآيَــاتُ الأَنْــفُـــسِ فــي الــقٌــــرْآنِ الكَــــرِيْــمِحقوق الإنسان من منظور متعدّد الأبعادفك الارتباط بالمركزية الغربية وتغيير محاور التحالفات