مركز المستقبل ناقش.. مستقبل الاستقرار في العراق على ضوء السلوك السياسي في 2025
مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
2025-12-25 04:09
عقد مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية ملتقاه الفكري في مقر مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام تحت عنوان "مستقبل الاستقرار في العراق على ضوء السلوك السياسي في عام 2025"، بمشاركة عدد من مدراء مراكز دراسات بحثية، وأكاديميين، وإعلاميين، اعدّ الورقة البحثية وقدمها الباحث في المركز الاستاذ حيدر عبد الستار الاجودي، وابتدأ حديثه قائلا:
"يواجه العراق بعد مرور أكثر من عقدين على تغيير نظامه السياسي، حالة مركبة من التحديات التي تتراوح بين الاستقرار الظاهري والهشاشة البنيوية العميقة، وتتمحور الإشكالية البحثية لهذه الورقة البحثية حول التساؤل الجوهري: إلى أي مدى يمكن للاستقرار النسبي الذي شهده العراق في عام 2025 أن يصمد أمام التحديات الهيكلية المتراكمة، وخاصة في ضوء نمط السلوك السياسي الذي تمارسه الأحزاب وشخصياتها؟.
إن الانتقال من مرحلة الصراع المكشوف إلى مرحلة الاستقرار النسبي لا يعني بالضرورة تحقيق التعافي المؤسسي، بل قد يكون هذا الاستقرار استقرارا مؤجلا أو استقرارا قمعيا ناجما عن تآكل شرعية النخبة الحاكمة وإحكامها للسيطرة، مما يهدد بشكل مباشر استحقاقات عام 2026 الاستراتيجية، كما إن غياب الإصلاحات الهيكلية في القطاع الاقتصادي يمثل عائقا حقيقيا أمام قدرة الاقتصاد العراقي على استيعاب إمكانات النمو والاستقرار. ولهذا، فإن هذه الورقة البحثية تكتسب أهميتها كون عام 2025 يمثل مفصلا زمنيا حيويا تتقاطع فيه استحقاقات داخلية وخارجية. فمن الناحية الداخلية، خاض العراقيون الانتخابات البرلمانية السادسة، ومن الناحية الخارجية، استضاف العراق القمة العربية الرابعة والثلاثين، هذه الأحداث تتطلب تحديدا دقيقا لملامح المرحلة القادمة وتأثيرها على البناء المؤسسي للدولة.
مفهوم الاستقرار السياسي في البيئة العراقية
بعد عام 2003، واجه البناء السياسي في العراق تحديات هيكلية عميقة، فقد أدى الخطاب السياسي والإعلامي العراقي إلى شيوع مفهوم "المكونات" الذي أصبح سائداً بدلا عن الهوية الوطنية، مما خلق حاجة ماسة لإصلاح سياسي شامل يؤدي إلى بناء نظام ديمقراطي حقيقي يتجاوز هذه المعوقات.
إن الاستقرار في سياق دولة تواجه تحديات البناء السياسي يجب تمييزه عن الاستقرار الناتج عن توازن القوى السياسية، فالعراق يواجه حالة متزايدة من انعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي واضطرابات اجتماعية متزايدة، ويظل عالقاً في واقع الهشاشة بمستويات كبيرة، الاستقرار الحقيقي يتطلب تفعيل العقل العلمي والروح الناقدة، واعتماد الحقائق والمنطق في الخطاب، وهو أمر ضروري لتطور المعرفة والفكر باتجاه العلمية.
أداء النخبة الحاكمة
في السياق العراقي، تشير الدراسات إلى أن الأحزاب هي المسؤولة عن رسم وتخطيط السياسة العامة (عبر السلطة التشريعية)، وتنفيذها (عبر السلطة التنفيذية)، وينعكس أداء الأحزاب سلباً أو إيجاباً على نوعية الحياة السياسية وعلى مستوى التطور الديمقراطي. لكن بالرغم من هذا الدور الحيوي، لم تتوازن المعادلة بين القوى السياسية والعملية السياسية في العراق حتى اللحظة.
إن أسباب هذا الخلل السلوكي، وفقاً للتحليلات، تتركز في ثلاث نقاط رئيسية:
1. الاستئثار بالسلطة واستبعاد الآخر حيث هيمنت فكرة الإقصاء على بعض القوى السياسية، مما تسببت بخلخلة التوازن بين ذات القوى السياسية.
2. ضبابية الرؤية لدى القوى السياسية حول شكل وطبيعة النظام السياسي الأمثل لوضع العراق.
3. وجود قوى وتكتلات ترفض العملية السياسية على وضعها، واختارت مقاومتها بما تراه مناسبا، فمنها من اختارت المقاومة المسلحة ومنها نأت بنفسها عن العمل السياسي، ومنها تحاول تقويم العمل السياسي واصلاحه في العراق.
إن هذا السلوك المتكرر المتمثل في الاستئثار والإقصاء وضبابية الرؤية يُعد السبب المباشر والمستدام الذي يمنع الإصلاح الهيكلي المطلوب لخفض مؤشرات الهشاشة. هذا السلوك يساهم في تزايد فجوة العمق بين الدولة والمواطن، ويؤدي إلى غياب مبدأ المواطنة، مما يترتب عليه الاغتراب السياسي والعزوف الانتخابي، يُلاحَظ هنا أن الأحزاب، على الرغم من وظيفتها الأساسية في ضمان استقرار النظام الديمقراطي، ساهمت سلوكياً في إدامة عدم التوازن بدلاً من تحقيقه.
وتشير نتائج تحليل المؤشرات إلى أن العراق يواجه حالة متزايدة من انعدام الاستقرار، حيث لا يزال وضع الدولة مسجلاً بين "الإنذار" و"الإنذار المرتفع". وقد سجل العراق ترتيباً متقدماً ضمن قائمة مؤشرات الهشاشة، حيث جاء في المرتبة العشرين عالمياً في عام 2021.
وقد شخص المؤشر عدداً من نقاط ضعف الدولة والمؤشرات السلوكية السلبية:
- المؤشرات الاجتماعية: تأثر العراق بـ"نزيف هجرة العقول" والحركات الواسعة للاجئين العرب.
- المؤشرات الاقتصادية: يعاني البلد من تدهور اقتصادي كبير وغياب التنمية، مما يرسخ الهشاشة الاقتصادية.
- المؤشرات السياسية: أبرز المشكلات هي ضعف استقرار الدولة، التدهور التدريجي للخدمات العامة، استمرار الانتهاك الواسع لحقوق الإنسان، صعود النخب المنقسمة، والتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية.
وهذه الهشاشة ليست مجرد ضعف مؤسساتي؛ بل هي نتاج مباشر للسلوك السياسي المتمثل في الاستئثار والإقصاء، والذي يمنع تطبيق الإصلاحات الهيكلية الضرورية لتعافي الدولة.
السلوك السياسي في عام 2025
ركز السلوك السياسي العراقي في عام 2025 على إظهار الاستقرار الداخلي عبر آليات السيطرة، وعلى ترسيخ الدور الإقليمي عبر الدبلوماسية النشطة.
السلوك الداخلي
خاض العراق الانتخابات البرلمانية السادسة في تشرين الثاني، ويُعد هذا الاستحقاق مقياساً حقيقياً لمدى تقدم العملية الديمقراطية. ومع ذلك، يشير تحليل البيئة السياسية والأمنية إلى وجود تحدٍ جوهري يتمثل في طبيعة الاستقرار المتحقق.
كما شهد العراق أدنى مستويات العنف منذ عام 2003، لكن هذا الاستقرار النسبي هو نتاج لـ"القمع السياسي" الذي يمارسه القادة الذين بدأت شرعيتهم تتآكل. وهذا الاستقرار يمثل "هدوءاً سلبياً" حيث يتم استبدال الصراع المسلح بالإحباط السياسي، مما يفاقم الأزمة الديمقراطية.
وترتبط أزمة الشرعية هذه بظاهرة الاغتراب السياسي والعزوف الانتخابي، حيث يتولد شعور لدى فئة الشباب بفقدان الأمل في القدرة على إحداث تغيير سياسي أو حكومي. وإن محاولة تهميش مبدأ المواطنة ينعكس سلباً على أي محاولة لبناء نظام ديمقراطي مستقر. وعليه، فإن الانتخابات في العراق تبقى مجرد "منافسة نخبوية" ما لم يتم إجراؤها ضمن إطار إصلاح هيكلي يضمن مساءلة المواطنين وإعادة بناء الثقة. ولهذا، من الملح للغاية أن يتحول المستوى السياسي من قاعدة الصراع إلى قاعدة التعاون في العمل السياسي؛ لاستدامة الأمن والاستقرار.
السلوك الخارجي
سعى العراق في عام 2025 لتعزيز مكانته الإقليمية في بيئة متقلبة من خلال دبلوماسية نشطة، تجسدت في استضافته للقمة العربية الرابعة والثلاثين في 17 آيار. وقد تبنى العراق شعار "التهدئة والدبلوماسية في مواجهة التحديات الإقليمية"، ساعياً لتنسيق المواقف بدلاً من الانخراط في التفاعلات الإقليمية المعقدة.
إن سياسة "النأي عن الصراعات الإقليمية والدولية" التي يتبناها العراق هي استراتيجية واعية تنبع من إدراك صانع القرار العراقي لأهمية الاستقرار الإقليمي في تعزيز الاستقرار الداخلي. ومع ذلك، فإن فعالية هذه الدبلوماسية مقيدة بمدى استعادة العراق لسيادته الداخلية.
وعلى الرغم من محاولات إبراز الدور الإقليمي، لا يزال التساؤل العميق مطروحاً حول هيبة الدولة والقرار السيادي: "من يحكم هذا البلد فعلاً؟". فالهيمنة الأمريكية وسياسة إبقاء العراق ضعيفاً، التي تتجلى في مواجهة محاولات تقوية الصناعات العسكرية العراقية بالعقوبات والضغوط، تؤكد أن القرار السيادي الداخلي ليس مطلقاً. كما أظهر مؤشر الدول الهشة أن التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية العراقية يُعد أحد أبرز نقاط الضعف السياسية. وعليه، لا يمكن للدبلوماسية الخارجية الناجحة أن تعوض عن ضعف القرار الداخلي والسيادة المفقودة.
تحديات الاستقرار في 2026
إن مستقبل الاستقرار في العراق مرهون بمدى قدرة الحكومة القادمة على معالجة التحديات الهيكلية التي فشل السلوك السياسي لعام 2025 في حسمها، بدلاً من ترحيلها ومنها:
الاستحقاق السياسي والمؤسسي
جاءت ترشيحات المستقلين لخوض انتخابات 2025 نتيجة مباشرة لـ"فقدان الثقة" بالأحزاب التقليدية التي أخفقت في تمثيل شرائح واسعة من المجتمع. وهذا يمثل فرصة لضخ دماء جديدة في العملية السياسية، لكن الخبرة السابقة أظهرت أن المستقلين، بالرغم من زخمهم الشعبي، يفتقرون إلى التنظيم المؤسسي والدعم المالي، ويواجهون سهولة في الاستقطاب عبر الإغراءات السياسية والمناصب. وعليه، فإن استحقاق 2026 يتطلب تشكيل تكتل منضبط قادر على حماية أصوات ناخبيه وبناء "معارضة برلمانية حقيقية" تمثل إرادة الشارع. هذا التكتل ضروري لتعزيز مبدأ المساءلة وتقييم السياسة العامة بفعالية، وهو ما يكسر نمط السلوك الحزبي المتمثل في الاستئثار بالسلطة.
الاستحقاق الاقتصادي الهيكلي
يدخل العراق عام 2026 في مفترق طرق اقتصادي حاسم. ورغم التوقعات باستمرار إيرادات النفط واستقرارها ضمن اتفاقيات (أوبك+)، إلا أن البنية الاقتصادية تظل تعاني من اختلالات عميقة تهدد الاستقرار طويل الأجل، إن السلوك السياسي الذي يتسم بالاستئثار بالسلطة يتجسد اقتصادياً في الهيمنة على التوظيف الحكومي، حيث يتم استخدام القطاع العام كأداة لضمان الولاء السياسي للنخب الحاكمة. هذا يمنع تحفيز القطاع الخاص كمصدر حقيقي للنمو الاقتصادي. لذا، فإن استحقاق 2026 ليس مجرد تنويع، بل هو نزع فتيل الأزمة الاجتماعية عبر إصلاح سوق العمل، إذا نجحت الإصلاحات، يمكن للعراق أن يجذب مليارات إضافية من الاستثمارات. ولكن إذا استمر السلوك السياسي التقليدي والبيروقراطية البطيئة، فستبقى الأزمة الاقتصادية "مؤجلة".
الاستحقاق البيئي والجيوسياسي
أصبح تحدي التصحر والجفاف، نتيجة انخفاض مناسيب دجلة والفرات والتغير المناخي، تهديداً استراتيجياً مباشراً يطال الأمن الوطني وسبل معيشة المواطنين. وهذا التحدي لم يعد قضية قطاعية بل استحقاق سياسي يجب أن يوازي أهمية الأمن القومي، إن الإهمال في معالجة هذه الأزمة سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء، الهجرة الريفية، وتفاقم الفقر في المحافظات الزراعية. لذلك، تتطلب استحقاقات 2026 تفعيل "دبلوماسية مائية" قوية، وتحديث نظم الري، واعتماد تكنولوجيات توفير المياه.
أخيراً، يظل شرط الاستقرار المستدام هو ضمان فرض سيادة وهيبة الدولة والتوجه الجاد نحو منع التدخل الخارجي في الشأن العراقي، فبناء الدولة لا يمكن أن ينهض في وطن لا يُسمح له بامتلاك كامل قراره.
وفي ضوء هذه الورقة البحثية، تجلت الأسئلة الجوهرية التي تشكلت محورا للنقاش السياسي امام السادة الحضور بالآتي:
السؤال الاول/ ما هي الاليات التشريعية التي يجب على البرلمان العراقي تبنيها في 2026 لمساءلة النخبة الحاكمة، وتحويل نمط السلوك السياسي من الاستئثار والصراع الى التعاون المنتج؟
السؤال الثاني/ كيف يمكن للبرنامج الحكومي القادم ان يحدث تحولا عميقا واستراتيجيا يضمن الاستقرار السياسي والاقتصادي؟
المداخلات
من البرنامج الحكومي إلى استقرار الدولة
- الاستاذ عدنان الصالحي- مدير مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:
هذا الموضوع في غاية الأهمية، ولا سيما في هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها العراق، ونحن على أعتاب تشكيل حكومة جديدة وسلطة تشريعية جديدة أفرزتها الانتخابات الحالية. في تقديري، وللأسف، لم يتحول البرنامج الحكومي منذ تشكيل حكومات ما بعد عام 2003 وحتى اليوم إلى سياسة حقيقية تنفذ على مدى عمر الحكومة، غالبا ما يكون هذا البرنامج إطارا شكليا او بروتوكوليا، يقدمه رئيس الوزراء خلال فترة توليه لنيل الثقة، ثم لا يلبث أن ينتهي أثره مع انتهاء الخطاب الذي يلقى تحت قبة البرلمان، دون أن ينعكس فعليا على مسار العمل الحكومي خلال السنوات الأربع اللاحقة.
نادرا ما نرى التزاما حقيقيا بالبرنامج الحكومي، بل يتحول في معظم الأحيان إلى عناوين عامة، وتعديلات عريضة، ووصف لحالات، وتعهدات لا نجد لها استمرارية أو قياسا للأثر. والدليل على ذلك واضح؛ فلو كان هناك برنامج حكومي حقيقي وملزم، لكانت الحكومات اللاحقة أو حتى السابقة قد استمرت عليه، مع إدخال تعديلات أو إضافات أو إلغاءات وفق الظروف، لا أن تبدأ كل حكومة من نقطة الصفر.
من حيث المبدأ، البرنامج الحكومي يعني بناء مؤسسات وبناء دولة: تأسيس مشاريع صناعية وتجارية، النهوض بالقطاعات المختلفة وتنميتها، وترسيخ أسس اقتصادية وخدمية واضحة. لكن ما نراه أن كل برنامج حكومي يختلف جذريا عن سابقه، وكأننا أمام رؤى منفصلة لا يجمعها خيط استراتيجي واحد. صحيح أن خلفية وعقلية رئيس الوزراء تؤثر إلى حد ما، لكنها لم تنتج حتى الآن برنامجا حكوميا مستمرا أو ذا أثر ملموس على المدى المتوسط والبعيد.
من هنا، أرى أن الضرورة تقتضي وجود برنامج حكومي حقيقي، ينطلق وفق مدد زمنية واضحة، ويخضع للمساءلة والمحاسبة، سواء في حال التقصير أو التعطيل، لا أن يبقى مجرد وثيقة للاستهلاك السياسي.
فنحن في الواقع لا نملك سوى الآليات التي رسمها القانون والدستور العراقي، سواء في مساءلة المخالفين أو في دعم من يتولى السلطة بشكل ناجح. المشكلة ليست في النصوص، بل في نمط السلوك السياسي السائد، فالانتقال من عقلية الاستئثار إلى عقلية الدولة هو في جوهره تحول ثقافي وسياسي، قبل أن يكون إجراء قانونيا.
على الكتل السياسية أن تتبنى قناعة راسخة بأن الدولة يجب أن تكون أولا وأخيرا، عندما يكون هناك قرار حقيقي ببناء الدولة، لا أعتقد أن أحدا سيخسر، حتى المعارض أو المناوئ؛ فبناء الدولة يعني بناء مؤسسات تقدم الخدمة، وتصون الإنسان بصفته مواطنا وقيمة. هذا المسار لا يضر أحدا، باستثناء من يعمل خارج إطار القانون، أو من يستفيد من الاستثناءات، أو من يسعى إلى تحقيق مصالح خاصة عبر قنوات غير مشروعة.
بناء الدولة هو مصلحة للأغلبية، بل هو مصلحة للكتل السياسية نفسها، فإذا نجحت هذه الكتل في ترسيخ دولة حقيقية، فإنها ستطمئن على مسيرتها السياسية، وعلى مستقبلها الانتخابي، بدل أن تبقى أسيرة الاتهامات المتبادلة في كل دورة انتخابية حول التزوير أو خروقات القوانين.
نحن اليوم بحاجة إلى ترصين الأرضية التي تقف عليها الحكومة، من أجل إنشاء خدمات حقيقية، وبناء قطاعات ناجحة: زراعية، مائية، تجارية، وظيفية، واستثمارية. ويزداد هذا الأمر إلحاحا في ظل بيئة إقليمية تشهد صراعات وتحولات كبرى، فيما يبدو العراق في كثير من الأحيان الحلقة الأضعف فيها.
نواجه أزمات داخلية متعددة: شح المياه، أزمة الطاقة، ملف حصر السلاح بيد الدولة، وهي كلها قضايا تتقاطع مع تحولات إقليمية ودولية تدفع باتجاه إعادة رسم التوازنات السياسية. وفي ظل هذا الواقع، لا يمكن للعراق أن ينجح خارجيا ما لم يمتلك قدرة حقيقية على معالجة مشاكله الداخلية، وفي الوقت نفسه التفاوض مع الدول الإقليمية، والحفاظ على استقراره السياسي، ومنع أي هزات جديدة، لأن البلد لم يعد يحتمل مزيدا من الاضطرابات.
من هنا، يتجلى دور البرنامج الحكومي بوصفه أداة مركزية للاستقرار، ويتحدد ذكاء الكتل السياسية بمدى قدرتها على تهيئة بيئة عمل حقيقية للحكومة الجديدة، قائمة على تقديم خدمات فعلية، وترسيخ الاستقرار السياسي، ووضع العراق على مسار أكثر تماسكا وأمانا في عام 2025 وما بعده.
مخرجات شكلية وأزمات مؤجلة
- الشيخ مرتضى معاش، باحث وكاتب:
لو طلبنا من الذكاء الاصطناعي أن يرسم صورة عن العراق اليوم، لربما قدم لنا مشهدا صادما: شوارع مدمرة، سيارات فخمة عالية كأنها دبابات حاضرة في الفضاء العام، ونفايات تنتشر في كل مكان، هذه الصورة، مع الأسف، ليست بعيدة عن الواقع، وحتى التحسينات الجزئية التي شهدتها بعض الشوارع لا تغير من الجوهر كثيرا، لأنها تبقى في إطار التشويه التجميلي لا المعالجة الحقيقية.
ما نشهده اليوم، خصوصا في 2025 وما قبلها، يمكن وصفه بـ حقن المهدئات بدل تقديم العلاج، فالعراق كالمريض المصاب بمرض خطير، يهدأ بإجراءات سطحية ومخرجات شكلية، دون معالجة الأسباب العميقة للأزمة. نرى مشاريع تجميلية هنا وهناك، لكنها لا ترتبط بتطوير حقيقي للبنى التحتية، بل هي حلول ترقيعية ضعيفة، يغيب عنها أهم عنصر: التخطيط الشامل والمستدام، ولا سيما في قطاع النقل.
في عام 2025، برزت أزمة التلوث بشكل واضح، نتيجة الزيادة الهائلة في أعداد السيارات، التي يبدو أنها تضاعفت في فترة قصيرة، مدن مثل بغداد وكربلاء تشهد يوميا سحبا كثيفة من الدخان، خصوصا في أوقات الذروة، نتيجة الازدحام الخانق، المفارقة أن البيت الواحد قد يمتلك عدة سيارات، في ظل غياب سياسات نقل عام فعالة. كل ذلك يؤكد أن المعالجات الشكلية لم تلامس جوهر المشكلة.
إلى جانب ذلك، أثبتت أحداث 2025 أننا أمام انسداد سياسي حقيقي هذا الانسداد، الذي أسهمت فيه قوى السلطة، أدى إلى تصلب النظام السياسي وعرقلة تطوره، مع غياب فعلي للتداول السلمي للسلطة، وانعدام التجديد عبر ضخ دماء وكفاءات جديدة. في السياق نفسه، برز ضعف واضح في الانتخابات، وغياب المساءلة والشفافية، وتلاشي دور المعارضة، فضلا عن سوء أداء السلطة التشريعية ونزعات الاستبداد البرلماني.
من أخطر الظواهر التي ستترك أثرا عميقا في المستقبل هو صعود الإقطاعيات السياسية المتقادمة، نجاح هذه القوى في الانتخابات لم يكن نتيجة برامج أو رؤى تنموية، بل بسبب شبكات مصالح وإقطاعيات متنافسة فيما بينها، تحتكر الموارد وتستنزف الدولة لصالحها، هذا الواقع يقضي عمليا على تطور القطاع الخاص، الذي يفترض أن يكون قاطرة الاقتصاد، ويحول شريحة واسعة من الموظفين والمواطنين إلى مجرد أتباع ضمن منظومة الزبائنية السياسية، دون قدرة حقيقية على محاسبة هذه القوى.
كما لاحظنا في 2025، هيمنة حالة عدم اليقين على المشهد العام: إعلاميا، واقتصاديا، وحتى على مستوى الرأي العام، هناك شعور عام بضبابية المستقبل؛ هدوء ظاهري يخفي وراءه أخطارا كامنة، هذا القلق نابع من غياب التخطيط العميق للاستدامة المستقبلية، واعتماد سياسات ترقيعية مرتبطة باستحقاقات انتخابية آنية، تستثمر سياسيا ثم تترك دون متابعة أو تقييم.
يضاف إلى ذلك تصاعد ظاهرة الاستهلاك الأعمى، فالحكومة بدل أن تبني وعيا اقتصاديا وتنمويا، باتت تتعامل مع المواطن كما تدلل الأم طفلها بالشوكولاتة والحلويات لإسكاته، هذا الاستهلاك المفرط، وإن بدا مريحا في اللحظة الراهنة، يحمل في طياته أمراضا اقتصادية واجتماعية خطيرة ستظهر آثارها لاحقا، من أزمات معيشية وصحية وثقافية.
وفي السياق نفسه، نشهد انفلاتا اجتماعيا وثقافيا مقلقا، نتيجة غياب السياسات الثقافية والتعليمية الرصينة. التعليم المتردي، وغياب الدراسات الاجتماعية واستطلاعات الرأي، وعدم تشخيص الظواهر الخطرة ـ كالمخدرات وغيرهاـ كلها مؤشرات على غياب الرؤية. في وقت يجري فيه العالم دراسات معمقة لفهم مجتمعاته، لا تزال مؤسساتنا بعيدة عن هذا المسار.
هذا الواقع مرشح لإنتاج تصاعد في الصراعات المحلية، خاصة مع ضعف الردع الإقليمي والدولي، ووجود شبه توافق على ترك العراق يواجه أزماته بنفسه. شح الموارد، ولا سيما المياه، سيؤدي إلى صراعات بين الفلاحين، وبين القوى السياسية والإقطاعيات المتنافسة على ما تبقى من موارد الدولة. وقد بدأت ملامح ذلك تظهر، سواء في إقليم كردستان، حيث تلوح مؤشرات صراع خطير، أو في مناطق أخرى قد تشهد توترات مماثلة.
المشكلة الأخطر هي ضعف القدرة على احتواء هذه الصراعات، في ظل غياب توازن قوى داخلي، وغياب قوى إصلاحية حقيقية فاعلة. تهميش هذه القوى، كما حصل في تجارب إقليمية أخرى، يؤدي إلى انفلات مجتمعي وفقدان التوازن، وهو ما ينذر بمستقبل شديد التعقيد.
أما البرنامج الحكومي القادم، فيبدو ـوفق المؤشرات الحاليةـ متجها نحو خيارات صعبة: تصاعد الضرائب، إضعاف القوة الشرائية، وإيقاف التوظيف. برأيي، تعكس هذه التوجهات قلة حكمة وضعف وعي بالمستقبل، وانغماسا في المصالح الآنية، حتى بات بعض الفاعلين أسرى أطماعهم، في مشهد يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي على حد سواء.
هذه الصورة، بكل تفاصيلها، تؤكد أن العراق لا يحتاج إلى مزيد من المهدئات، بل إلى علاج حقيقي، يبدأ من تغيير السلوك السياسي، وبناء دولة مؤسسات، ورؤية واضحة للمستقبل قبل فوات الأوان.
التشريع والتنفيذ: أين تكمن المشكلة؟
- الاستاذ صفاء السعد، كاتب وصانع محتوى:
فيما يتعلق بآليات التشريع والقوانين، إذا ما عرضنا الدستور العراقي وتشريعات البرلمان على دول متقدمة، فسيقال لنا إن هذه النصوص ليست غريبة، بل إن كثيرا منها يماثل ما هو معمول به في دول راسخة ديمقراطيا، فالعراق تاريخيا بلد تشريع منذ شريعة حمورابي وحتى اليوم، المشكلة إذن ليست في النصوص القانونية بحد ذاتها، بل في آليات تنفيذها وتطبيقها.
من هنا، أرى أن الانتخابات رغم أهميتها لم تعالج جوهر الأزمة، فالأحزاب قبل أن تدخل السباق الانتخابي وتعلن تصديها للعملية السياسية، يفترض أن تكون ملزمة بالكشف عن ذممها المالية ومصادر تمويلها بشكل كامل وشفاف، لا الاكتفاء بالإعلان عن جزء من الممتلكات أو الموارد، هناك مصادر تمويل غير معلنة، وهذا الغموض أسهم في خلق فجوة عميقة بين المواطن من جهة، والكتل والأحزاب الحاكمة من جهة أخرى.
ومن النقاط الجوهرية التي برزت داخل البرلمان، اعتماد التصويت السري في قرارات مصيرية تمس حياة المواطنين، وهنا يبرز سؤال مشروع: إذا كان النائب ممثلا عن الشعب، فلماذا تحجب مواقفه عند التصويت على القيادات والوزارات؟ لماذا لا يكون التصويت علنيا، بما يعزز الشفافية ويعيد بناء الثقة بين البرلمان والشارع؟.
أما على الصعيد الاقتصادي، فهو المحرك الأساسي للمجتمع والسياسة والثقافة معا، واليوم لا خلاف على أن الاقتصاد العراقي اقتصاد ريعي بامتياز، الأمر الذي يستدعي تحولا جادا نحو اقتصاد إنتاجي، غير أن هذا التحول لا يمكن أن يتم دون آليات واضحة، تبدأ بتحرير القطاع الخاص من القيود والابتزاز الذي يتعرض له، مع الأسف، في كثير من الأحيان.
فأي مستثمر أو رجل أعمال يحاول إطلاق مشروع، سواء في شارع أو بناية أو أرض زراعية، يواجه تحديات جسيمة، في مقدمتها الابتزاز، وهو ما يطرح تساؤلا جوهريا: كيف يمكن الحديث عن تنمية واستثمار في ظل بيئة طاردة؟ وكيف يمكن تهيئة مناخ صحي للاستثمار دون مواجهة هذه الظاهرة بقرارات حازمة؟.
تضاف إلى ذلك إشكالية اللامركزية المفرطة في المحافظات، التي أضعفت حضور الدولة، حتى باتت بعض الوزارات وكأنها معزولة عن الأداء الفعلي في الميدان، هذا الخلل بين المركز والمحافظات يستدعي مراجعة جدية، توازن بين اللامركزية الإدارية وضرورة وجود دولة قوية قادرة على المتابعة والمساءلة.
كما تبرز مشكلة التوظيف بوصفها أحد التحديات الكبرى، وهي قضية لا بد أن تدار حصريا عبر لجان مهنية مختصة، بعيدا عن المحاصصة والضغوط السياسية، وفي ظل هذا الواقع، يبقى السؤال مطروحا حول كيفية تفعيل دور القطاع الخاص في امتصاص البطالة، ما دامت البيئة الحالية لا تزال طاردة للاستثمار.
قد يبدو الطرح متشعبا، لكنه في جوهره محاولة لتشخيص أزمة مركبة، والبحث عن حلول واقعية تبدأ من احترام القانون، وتفعيل آليات تطبيقه، وبناء اقتصاد منتج، وصولا إلى استعادة ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها.
إدمان الفرص المتكررة في السياسة العراقية
- الاستاذ علي عبيد، كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:
عند رصدي لمعظم الإشكالات التي أفرزتها الطبقة السياسية العراقية، وجدت أن هناك مشكلة جامعة يمكن أن تفسر الكثير مما جرى ويجري، وقد أسميتها شخصيا (إدمان الفرص المتكررة).
مع التحولات السياسية الكبرى وتأسيس نظام الحكم الأول في العراق، كان من المفترض -وفق المنطق السياسي المتعارف عليه- أن يتم التأسيس بشكل سليم ودقيق، فكما هو معروف، أساس البيت إذا لم يبنَ بشكل صحيح، فإن الخلل سيتكرر في كل ما يقام فوقه، غير أن نظام الحكم الأول الذي تأسس بعد التغيير بني على أخطاء جسيمة منذ البداية.
في تلك المرحلة، كان يمكن القول إن الأمر ليس نهاية الطريق، وإنها الفرصة الأولى، ثم جاءت الفرصة الثانية مع النظام اللاحق، وكان من المفترض أن تصحح أخطاء التأسيس الأول، لكن ما حدث هو العكس؛ إذ لم تصحح الأخطاء السابقة، بل أضيفت إليها أخطاء جديدة، ومع توالي الأنظمة الثالث والرابع والخامس تحولت هذه الإخفاقات إلى نمط متكرر.
هنا تكمن المشكلة الجوهرية: الطبقة السياسية أدمنت هذه الفرص بدل أن تخشى فقدانها، وبدل أن تتعامل معها بوصفها لحظة حاسمة لا تحتمل الخطأ، نشأ شعور بالاعتياد والاطمئنان الزائف؛ مفاده أن الخطأ في هذه الفرصة أو تلك لا يستدعي المحاسبة، لأن فرصة أخرى ستأتي لاحقا، وهكذا استمرت سلسلة الأخطاء دون توقف أو مساءلة حقيقية.
ما جرى لم يتوقف عند مرحلة بعينها، بل امتد حتى نظام الحكم السابق، قد لا ننكر وجود بعض الإيجابيات هنا أو هناك، لكنها لا ترقى إطلاقا إلى مستوى التصحيح العميق الذي يحتاجه العراق، في عام 2025، يمكن القول إن ما تحقق لا يتجاوز -في أحسن الأحوال- نسبة محدودة من حجم الإصلاح المطلوب.
وإذا نظرنا إلى المستقبل، وبالاستناد إلى الوقائع السياسية القائمة، فإن التخوف من أن يكون القادم أسوأ ليس تشاؤما، بل قراءة واقعية لمسار لم ينقطع بعد، استمرار النهج نفسه يعني أن الأخطاء ستتكرر، وأن الفرص ستهدر واحدة تلو الأخرى.
من وجهة نظري، لا يمكن بناء نظام سياسي حقيقي ومستقر ما دام هذا الإدمان على الفرص المتكررة قائما، على ساسة العراق -أحزابا وكتلا وشخصيات- وكل من ينخرط في العمل السياسي، أن يتخلص من هذه الذهنية، وحتى لو بدأ التصحيح الحقيقي متأخرا، في مرحلة لاحقة، فإن ذلك يظل أفضل من الاستمرار في الدوران داخل الحلقة نفسها.
التصحيح الجاد مهما تأخر، يبقى الطريق الوحيد لنمو سياسي سليم، ووضع حد لمسار الاستنزاف الذي أنهك الدولة والمجتمع على حد سواء.
فجوة السلطات وطلاق الثقة مع المجتمع
- الدكتور خالد الاسدي، مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:
فيما يخص الوضع السياسي في العراق، يمكن رصد مجموعة من المؤشرات المقلقة، لعل أبرزها وجود فجوة واضحة بين السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. هذه الفجوة لم تعد مجرد خلل بنيوي، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى مساحة يستثمر فيها الخلاف أو التوافق المؤقت لتمرير المصالح، أحيانا نرى صراعا بين سلطة وأخرى، وأحيانا أخرى نراهم يتقاطعون حين تلتقي المصالح، هذه الحالة لم تعد قابلة للاستمرار؛ فإما أن تردم هذه الفجوة ضمن إطار دستوري صحي، أو أن تتحول إلى طلاق سياسي غير رجعي يعمق الشلل في الدولة.
وبموازاة ذلك، هناك ما يمكن وصفه بـ الطلاق الرجعي بين المجتمع والحكومة، هذا الانفصال لا يضيق إلا في مواسم الانتخابات، حيث تعود الوعود والخطابات، ثم ما تلبث أن تتسع الفجوة من جديد بعد انتهاء الاستحقاق الانتخابي، هذه الحالة تعكس عمق أزمة الثقة، وتحول العلاقة بين الدولة والمواطن إلى علاقة موسمية لا تقوم على الشراكة الحقيقية.
إذا كانت هناك نية جادة لتصحيح آليات التشريع في مرحلة 2026، فإن على البرلمان أن يتبنى خطوات واضحة، في مقدمتها التحرر من الولاءات الخارجية التي قيدت القرار الوطني. ثانيا التخلي عن الأنظمة الاقتصادية الخاصة التي تعتمدها بعض القوى السياسية لتثبيت نفوذها ومصالحها، على حساب المصلحة العامة. وثالثا تشريع قوانين حقيقية تستند إلى خطط زمنية واضحة، كاعتماد خطة خمسية ملزمة، تظهر للناس أن الولاء للعراق لا لغيره، وأن هناك مشروع دولة لا مجرد إدارة أزمات.
إن تجاهل هذه القضايا في الدورة البرلمانية الحالية لن يؤدي إلا إلى مزيد من التوتر والصراع بين المجتمع من جهة، والحكومة من جهة أخرى، فالاستقرار الاقتصادي على وجه الخصوص، بات اليوم رهينا بيد الحكومة والبرلمان معا، ولا يمكن فصله عن طبيعة العلاقة بين السلطتين، حتى المبادرات الاقتصادية الخاصة، غالبا ما تصطدم إما بعراقيل رسمية، أو تتحول إلى مجال للرشوة والتدخلات السياسية.
ولعل المثال الواقعي المؤلم يوضح حجم المشكلة، أحد المواطنين تبرع بعشرة دوانم من أرضه لمديرية التربية، بهدف بناء مدرسة تخدم منطقة كبيرة تعاني الاكتظاظ، المشروع مر بسلسلة طويلة من المراجعات والموافقات، ثم طلب استكمال التجهيزات، لكن عند الوصول إلى المرحلة الحاسمة، وبدل أن توفر الجهات المعنية الكادر التعليمي، أُلقي العبء مجددا على المتبرع، بطلبات إضافية وتعقيدات بيروقراطية، وحين حاول صاحب الأرض التراجع، قيل له إن الأرض لم تعد له، وإن عليه إما إكمال المشروع أو تركه معلقا.
هذه القصة ليست حالة فردية، بل نموذج لخلل إداري وتشريعي يمكن حله بسهولة لو توفرت الإرادة والآليات الواضحة، لكنها في ظل الواقع الحالي تبقى مثالا صارخا على كيف تهدر الفرص، وتكسر ثقة المواطن، وتعمق الفجوة بين المجتمع والدولة، في وقت نحن بأمس الحاجة فيه إلى ردمها لا توسيعها.
تشخيص الخطر وآفاق الاستقرار
- الاستاذ حسين العطار، باحث اكاديمي:
ما طرح في هذه الجلسة لا يعدو كونه قطرة في بحر واسع من مشكلات العراق، فحجم ما كتب ويكتب عن هذا البلد يحتاج إلى مداد بحار، لكن الإشكالية الحقيقية لا تكمن في التشخيص أو الطرح، بل في التطبيق العملي.
الجميع اليوم يستشعر وجود خطر قادم، وإن كان غير محدد المعالم بشكل دقيق، الإيجابي في المرحلة الحالية هو بدء عملية التشخيص الجدي، ولا سيما في ملفات حساسة مثل الوضع الاقتصادي والجفاف، اللذين يتصدران سلم الأولويات، في عام 2026 لم يعد هناك مجال للترحيل أو التسويف في هذه الملفات، لأن أي محاولة للتأجيل ستصطدم بالواقع مباشرة، إذ لم تعد هناك أدوات أو مساحات للمناورة.
أما في ما يتعلق بالضغوط الخارجية، فأرى أن بعض الضغوط الغربية أسهمت في خلق انضباط مؤقت في المشهد السياسي، صحيح أن هناك صعودا ملحوظا لأحزاب تمتلك أذرعا مسلحة، وتشير بعض التقديرات إلى أن ما بين 100 إلى 105 نائب ينتمون إلى قوى من هذا النوع، وهو أمر خطير بلا شك، لكن في المقابل ظهرت ملامح التزام نسبي بالقانون، مثل استبعاد بعض المرشحين أو حجب أصواتهم، وهي إجراءات لم تكن مطبقة سابقا، يمكن عد هذا التطور إيجابيا، وإن كان ظرفيا ومؤقتا.
في المقابل، برزت ظاهرة الدكتاتوريات الصغيرة، وترسيخ أنماط سلطوية محلية، الخطر هنا أن هذه الشخصيات لو أتيحت لها فرص أوسع، قد تمارس سلوكيات أكثر قسوة، ويكفي أن نشير إلى أن كثيرا من الأحزاب تعاني أصلا من ديكتاتورية داخلية؛ إذ تختزل الأحزاب بأشخاص، وترهن قراراتها بقيادات لا تتغير لعقود، في غياب تداول داخلي حقيقي للسلطة.
الأخطر من ذلك هو عدم تمكين الآخرين، فالانتخابات وجدت أساسا لخلق فرص جديدة، وتجديد الدماء، وتطوير الأفكار، لكن ما حصل في الانتخابات الأخيرة -كما شخص في هذه الجلسة- هو تكريس للمشروع الزبائني، وشراء الذمم، وهيمنة المال السياسي، ما أدى إلى غياب بدائل حقيقية، ومن البديهي أن استخدام الأدوات نفسها التي فشلت سابقا لن يقود إلى نتائج مختلفة.
اليوم، نسمع عن ترشيح الشخصيات ذاتها لإدارة السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهذا يعني أن الحديث عن حلول أو انفراجات يصبح أقرب إلى الوهم، الأحزاب الحاكمة بعدم تجديد نفسها، أغلقت الأبواب على ذاتها، وتعمل وفق مبدأ التخادم المؤقت فقط لإنعاش العملية السياسية، لا لإصلاحها، والخطر هنا أنه إذا انهار هذا البناء، فقد يسقط الجميع دفعة واحدة.
من الناحية القانونية، لا يعاني العراق من نقص في القوانين، بل من غياب التفعيل والمحاسبة، فالبرنامج الحكومي يقر في البرلمان، لكن لا توجد مساءلة حقيقية حول نسب تنفيذه، التقارير غالبا ما تعد من جهات قريبة من الحكومة أو البرلمان، فتتحول إلى أدوات تلميع لا أدوات تقييم، هنا تبرز المعضلة الأساسية: غياب المعارضة البرلمانية الحقيقية، فالصراع بين الحكومة والمعارضة، وإن بدا سلبيا ظاهريا، هو في جوهره صراع إيجابي يخدم الرقابة والمصلحة العامة.
على المستوى التشريعي، تحقيق الاستقرار السياسي يتطلب إقرار قوانين مفصلية، مثل قوانين الثروات الطبيعية (النفط والغاز)، وقوانين الأراضي، التي تدار اليوم عبر اجتهادات شخصية واتفاقات سياسية لا تستند إلى إطار قانوني واضح، كذلك يحتاج قانون الأحزاب، الذي شرع عام 2015، إلى تعديل وتطوير.
كما تبرز الحاجة إلى قانون واضح لتشكيل الحكومة، يضع حدودا لعدد الوزراء ويمنع التضخم الحكومي، ويؤسس فعلا للتداول السلمي للسلطة، غياب هذا الإطار القانوني شكل خطرا حقيقيا على السلم المجتمعي، لولا الضغوط الجماهيرية والسياسية والإعلامية والخارجية.
ولا يقل أهمية عن ذلك تحديث قانون الإدارة المالية، بما يضمن وضوح الموارد والصرفيات، وتوحيد آليات العمل المالي في مؤسسات الدولة، بدل حالة التشتت الحالية، كما أن تفعيل هيئة النزاهة وحمايتها أمر ضروري لإنفاذ روح القانون واستعادة هيبة الدولة.
أخيرا، لا يمكن الحديث عن برنامج حكومي جاد دون إصلاح اقتصادي حقيقي، ومواجهة شاملة لأزمة الجفاف، واتفاق صريح على خضوع الجميع للقانون دون استثناء، تطبيق القانون على جهة نافذة واحدة بشكل صارم قد يكون كفيلا بإلزام الجميع لاحقا، ومع ما يتوقع من ضغوط اقتصادية مقبلة، شبيهة بظروف عام 2016، يصبح تفعيل القطاع الخاص ضرورة لا خيارا، هذه المسارات مجتمعة ليست ترفا سياسيا، بل شروطا أساسية لبقاء الدولة واستقرارها في المرحلة المقبلة.
المساءلة والعدالة: الحلقة المفقودة
- الاستاذ حسين علي، مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية:
إذا أردنا الذهاب بجدية نحو مساءلة النخبة الحاكمة، فإن أول ما نحتاجه هو قضاء قوي، مستقل، وعادل. والسؤال الجوهري هنا: هل يمتلك العراق اليوم مثل هذا القضاء؟.
الواقع يشير إلى أن الجواب لا يزال سلبيا، ولهذا فإن كثيرا من التشريعات المطروحة تبقى في إطار التنظير لا التنفيذ، لأنها تصطدم مباشرة بضعف المنظومة القضائية وعدم قدرتها على إنفاذ القانون على الجميع.
في ظل هذا الواقع، تصبح المساءلة شبه مستحيلة، لدينا أمثلة واضحة لقضايا فساد كبرى، مثل قضايا سرقة مليارات الدنانير، تورطت فيها شخصيات معروفة، دون أن نشهد محاسبة حقيقية، هذه الحالات ليست استثناءً، بل مؤشرا على خلل عميق في منظومة العدالة.
لكن لو افترضنا وجود قضاء قوي وقابل للتفعيل، فهناك آليات واضحة يمكن اعتمادها، أولها تحويل عدم الإفصاح عن الذمة المالية إلى جريمة مانعة من تولي المنصب، أي أن أي شخص يرشح لمنصب عام يجب أن يبدأ بكشف كامل وشفاف لذمته المالية، فإذا ثبتت سلامتها، يمكن المضي قدما، أما إذا كان متورطا في قضايا فساد، فلا يكفي عزله من المنصب، بل يجب أن يخضع للمساءلة القانونية.
ثانيا، ضرورة اعتماد سجل المالكين المستفيدين للشركات المتعاقدة مع الدولة، خصوصا في ملفات الاستثمار والمقاولات، فالكثير من الشركات التي تتعامل مع الدولة تعود ملكيتها الحقيقية إلى جهات سياسية أو أحزاب نافذة، كيف يمكن بناء دولة، فيما المستفيد من العقود الحكومية هو نفسه صاحب القرار السياسي؟.
ثالثا، قانون الوصول إلى المعلومات، رغم وجود إطار قانوني اسمي، إلا أن التطبيق شبه معدوم، ولا تتوفر بيئة تسمح للمواطن أو الباحث أو الصحفي بالحصول على معلومات تتعلق بالسياسات العامة أو أداء المؤسسات، من دون شفافية، لا يمكن الحديث عن رقابة أو مساءلة.
القضية الرابعة هي حماية المبلغين عن الفساد، في كثير من دوائر الدولة، يخشى الموظف الإبلاغ عن حالات الفساد لأنه غير محمي، وقد يتعرض للفصل أو النقل التعسفي، بل وربما للتهديد أو القتل في القضايا الكبرى، من دون حماية قانونية حقيقية، سيبقى الفساد محصنا بالصمت والخوف.
كما تبرز الحاجة إلى إصلاح شامل لنظام المشتريات الحكومية، حيث تتلاعب الأرقام، وتضخم الأسعار بشكل فاضح، أمثلة الشراء بأسعار خيالية مقارنة بقيمتها الحقيقية ليست نادرة، وهي تعكس غياب الرقابة الفعلية وآليات المحاسبة.
إلى جانب ذلك، لا يمكن إغفال ضرورة التحول من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الصناعي والإنتاجي، ومعالجة ملفات التوظيف عبر دعم الكفاءات للعمل في القطاع الخاص، بدل الارتهان الكامل للتوظيف الحكومي.
أما على مستوى الخدمات الأساسية، فما زالت ملفات حيوية، مثل الكهرباء، عالقة منذ سنوات طويلة، رغم الوعود المتكررة في كل برنامج حكومي، وكذلك القطاع الصحي، الذي يفتقر حتى اليوم إلى قانون ضمان صحي شامل يحمي المواطن من أعباء العلاج في المستشفيات الخاصة.
وفي الجانب السياسي، لا بد من إصلاح تدريجي ومدروس، يبدأ بضمان الاستقلال الكامل للمفوضية العليا للانتخابات، وتعديل قانون الأحزاب، ومراجعة نظام سانت ليغو الانتخابي الذي أفرز حالات ظلم واضحة لإرادة الناخبين، حين تهدر آلاف الأصوات لصالح مرشحين حصلوا على أرقام أقل.
إن معالجة هذه الإشكالات تتطلب حزمة إصلاحات سياسية واقتصادية وقانونية متكاملة، وهي عملية تراكمية لا يمكن إنجازها في سنة واحدة أو دورة انتخابية واحدة، لكنها في المقابل تمثل الطريق الوحيد للخروج من دائرة الإفلات من العقاب، وبناء دولة تقوم على العدالة والمساءلة وسيادة القانون.
العراق بين منطق الدولة وواقع الأعراف السياسية
- الاستاذ باسم الزيدي، مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:
حين نطرح سؤال الواقع السياسي في العراق، فإننا في الحقيقة نسأل: هل ما هو قائم اليوم محكوم بالمنطق أم بالواقع المفروض؟.
والإجابة الأقرب إلى الحقيقة أن العراق يدار وفق منطق الواقع لا منطق الدولة، فبالنظر إلى السلوك السياسي السائد، يصعب القول إن ما نعيشه يرتقي فعلا إلى مستوى السلوك السياسي المؤسسي.
العراق اليوم قائم على منظومة من الأعراف السياسية المتوارثة، التي تشكلت عبر التخادم وتبادل المصالح، وأعيد إنتاجها بوصفها قواعد غير مكتوبة لإدارة الحكم، هذه الأعراف وإن جرى التعامل معها وكأنها مسلمات، هي في جوهرها أعراف سلبية، يجري البناء عليها عند الحديث عن مستقبل الدولة، بدل مراجعتها أو كسرها.
وهنا يبرز سؤال جوهري آخر: إذا وضعنا خطا أحمر تحت البرلمان وتحت النخبة الحاكمة، من يدير من؟. هل البرلمان هو الذي يشرع ويوجه النخبة الحاكمة؟ أم أن النخبة الحاكمة هي التي تدير البرلمان وتتحكم بتشريعاته؟.
الإجابة، كما يعرفها أغلب العراقيين، أن من يعمل خلف الكواليس هو من يدير البرلمان وطريقة عمل مؤسسات الدولة، في مثل هذا الواقع يصبح من الصعب بل من المستحيل أن يتحكم الجزء بالكل، أو أن تكون المؤسسات مستقلة فعليا عن مراكز النفوذ.
هذه الإشكالية لا يمكن تجاوزها إلا بوجود نية صادقة للتغيير، والنية الصادقة لا تشترى ولا تفرض بل تبنى، والمشكلة أن هذا النوع من النيات نادر في المشهد الحالي.
ولعل أبرز مظاهر الخلل هو أن العملية السياسية في العراق ما زالت تتمحور حول الأشخاص لا البرامج، فما إن تنتهي الانتخابات حتى يبدأ الحديث عن ترشيح أسماء لرئاسة الحكومة، دون أن نسمع عن دعوة واضحة لتقديم برامج، أو منافسة حقيقية على أساس الرؤى والخطط الإصلاحية، لا يقال: قدموا برامجكم لنختار الأفضل، بل يقال: رشحوا أسماءكم.
نحن في العراق نذهب مع الأشخاص لا الأفكار، وكما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): "اعرف الحق تعرف أهله"، لكننا لا نبحث عن الحق ولا عن البرنامج الانتخابي، بل نختزل الخيارات بأسماء وشخصيات، بغض النظر عن كفاءتها أو قدرتها على الإصلاح.
والحال أن العراق بلد شاب، غني بموارده، ولكنه مصاب بمرض عضال، وبدل أن ينشغل بالبحث عن علاج حقيقي لهذا المرض، ينخرط في صراعات جانبية تزيد من تعقيد الأزمة وتفاقم آثارها، وكما أشار الإخوة، فإن الضابط الخارجي غالبا ما يكون هو العامل الحاسم في ضبط الإيقاع، ما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة لا تنتهي، ويبقى الأمل معلقا على توفر النية الصادقة، لأنها وحدها القادرة على فتح نافذة تغيير حقيقي، ولو كانت ضيقة.
السلوك السياسي: من الفرد إلى الدولة
- الاستاذ احمد جويد، مدير مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات:
إذا أردنا أن نناقش هذا العنوان تحديدا، فلا بد أن ننطلق من مفهوم السلوك السياسي نفسه، وقبل أن نحاكم سلوك الطبقة السياسية، علينا أن نعود خطوة إلى الوراء ونسأل: ما هو سلوك الفرد العراقي أصلا؟.
في واقعنا، أي شخص يصل إلى موقع سلطة صغيرة كانت أو كبيرة، يميل إلى ممارسة السلوك نفسه وربما بدرجات متفاوتة، هذا ليس حكرا على السياسي أو رجل الدولة، بل هو سلوك اجتماعي عام، حتى في تفاصيل حياتنا اليومية، نلمس هذا النمط؛ في البيت، في العمل، في المؤسسة، وفي المجتمع. كثيرا ما نمارس القرار الأحادي، ونخلط بين السلطة والرأي، ونصادر حق الآخر في الاختيار، ثم نستغرب لاحقا لماذا يتحول هذا السلوك، حين يصل إلى مستوى الدولة إلى استبداد واضح.
هذا السلوك لا يقتصر على الدوائر السياسية، ولا حتى الدينية، بل يمتد إلى مختلف المستويات الاجتماعية، في أبسط الأمثلة، نراه في النزاعات العشائرية، أو في الخلاف على مورد مشترك، كنهر واحد يشرب منه الجميع، لكن فئة تحاول احتكاره دون غيرها. كلما كبرت المصالح، كبر معها هذا السلوك، إلى أن يصل إلى السلطة والحكم، حيث يصبح سلوكا استبداديا إقصائيا، لا يتردد في إبعاد حتى أقرب المقربين إذا شعر بتزاحم على المصالح.
أما على مستوى التشريعات، فالعراق لا يعاني من نقص في القوانين، لدينا وفرة في التشريعات، وهيئات رقابية متعددة، وأسماء رنانة لمؤسسات يفترض أنها تحاسب وتراقب، لكن المشكلة أن هذه القوانين غالبا ما تطبق على ضعفاء القوم، لا على من هم فوق السلطة أو فوق القانون، فالموظف البسيط قد يرتجف لمجرد سماع خبر قدوم لجنة رقابية، رغم أنه لم يرتكب خطأ، بينما تبقى الملفات الكبرى بعيدة عن المساءلة.
القضية إذن ليست في غياب التشريع، بل في انتقائية التطبيق، فكل شيء موجود: قوانين عقوبات، هيئات نزاهة، رقابة داخلية وخارجية، لكن الإرادة غائبة عندما يتعلق الأمر بالنفوذ الحقيقي.
أما فيما يخص البرنامج الحكومي، فنحن اعتدنا سماع وعود وبرامج، منذ مرحلة الترشيح تطرح شعارات كبيرة، وتسوق وعود جذابة، ثم سرعان ما تتبخر بعد الوصول إلى السلطة، الأسوأ من ذلك أن بعض المرشحين يبدأون بممارسة الإقصاء حتى قبل الفوز، فيضيقون على المواطنين، أو يمنون عليهم بحقوقهم، وكأن التصويت منة لا حق.
كيف يمكن لمواطن أن يثق بشخص يمنعه من أبسط حقوقه، ثم يطالبه بالتصويت له؟ وكيف ننتظر التزاما ببرنامج حكومي، إذا كان الكذب والتلاعب حاضرين منذ البداية؟
حتى التجارب التي قدمت بوصفها إنجازات، مثل الموازنات متعددة السنوات، بقيت ناقصة التطبيق، تقر نظريا، ثم تعاد مناقشتها سنويا دون التزام فعلي بما أعلن سابقا، هذه التراكمات كلها أسهمت في تآكل الثقة بين المواطن والأحزاب، خصوصا مع إعادة إنتاج الوجوه والخطاب نفسه في كل دورة.
إن أزمة السلوك السياسي في العراق ليست أزمة قوانين ولا برامج مكتوبة، بل أزمة ثقافة وسلوك تبدأ من الفرد، وتتضخم كلما صعدنا في هرم السلطة، ومن دون معالجة هذا الجذر، سيبقى أي حديث عن إصلاح سياسي أو استقرار مجرد إعادة تدوير للأزمة نفسها، بصيغ مختلفة، ووجوه متشابهة.
البرنامج الحكومي بين الإعلان والتنفيذ
- الاستاذ محمد الصافي، مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:
إذا أجرينا تقييما مبسطا لحكومة السيد السوداني، سنجد أنها هي الأخرى جاءت ببرنامج حكومي واضح ومعلن، وزارة التخطيط أعلنت قبل خمسة أو ستة أشهر أن نسبة تنفيذ البرنامج بلغت قرابة 82%، لكن بعد التدقيق تبين أن ما يقارب 50% من البرنامج لم يمس فعليا، ولم يتحقق فيه إنجاز ملموس.
وهذا يعيدنا إلى جوهر المشكلة: البرامج الحكومية هي أسهل ما يكتب وأصعب ما ينفذ. فهي في كثير من الأحيان، لا تختلف كثيرا عن البرامج الانتخابية أو البيانات السياسية المليئة بالأهداف والرؤى، لكنها تصطدم بالواقع العملي للدولة، وبالعقدة الأساسية المتمثلة في طبيعة تشكيل الحكومة نفسها.
الجهة التي تشكل الحكومة اليوم، وهي الإطار التنسيقي مع بقية الشركاء، هي ذاتها التي تحدد لرئيس الوزراء ماذا يفعل، وأين يتجه، وكيف يوازن بين مطالب الكتل السياسية المشكلة للحكومة والكابينة الوزارية، وفي هذه المعادلة يكون رئيس الوزراء الحلقة الأضعف.
وأي رئيس حكومة يحاول الخروج عن هذه القاعدة، أو التمرد على الاتفاقات السياسية المسبقة، تتم إزاحته ببساطة، كما حصل مع تجارب سابقة، وكما يتداول اليوم بشأن حكومة السوداني نفسها.
النتيجة الطبيعية لهذا النمط هي: سياسات توظيف عشوائية، إضعاف وتدمير القطاع الخاص، غياب برنامج حكومي واقعي يمكن قياسه ومحاسبة الحكومة عليه، لا توجد على سبيل المثال خارطة واضحة تقول: الحكومة التي تستلم عام 2026 ستسلم عام 2029 وقد حققت نسبا محددة في التعليم، والزراعة، والمياه، والطاقة. ولا توجد جهة تشريعية أو رقابية قادرة فعليا على المتابعة والمساءلة.
والسبب واضح: لا يمكن الفصل بين الجهة التي تشكل الحكومة والجهة التي تراقبها، الأحزاب المنضوية في الإطار التنسيقي، ومعها الأحزاب الكردية والسنية، جميعها تشارك في الحكومة، فأين هي المعارضة إذن؟ وكيف يمكن لمن هو شريك في السلطة أن يحاسب نفسه؟، في تجربة عام 2021 حاول بعض النواب المستقلين والكتل الجديدة، رغم قلة عددهم (نحو 35 نائبا)، طرح مبادرة مهمة تقوم على مبدأ بسيط: الكتل التي تشارك في الحكومة تسجل رسميا على أنها كتل حاكمة والكتل التي لا تشارك تسجل كمعارضة برلمانية واضحة، بهذا الشكل فقط يمكن في نهاية عمر الحكومة القول: هذه الكتل نجحت أو فشلت، وهذه معارضة أدت دورها الرقابي، لكن هذه الفكرة لم تعتمد، وبقي الوضع ضبابيا.
اليوم نرى طلبات استجواب لوزراء مهمين، كوزير التجارة أو الكهرباء، لكنها غالبا ما تجمد في هيئة رئاسة مجلس النواب، لأن الوزير ينتمي إلى الكتلة نفسها التي تسيطر على رئاسة المجلس، ومن غير المعقول أن تمر أربع سنوات برلمانية من دون استجواب جدي لوزير سيادي كوزير الكهرباء، على سبيل المثال.
إن دمج السلطتين التنفيذية والتشريعية بهذا الشكل يفرغ البرنامج الحكومي من مضمونه، ولا يمكن ضبط الأداء الحكومي، أو فرض المساءلة، إلا عبر تسجيل رسمي وواضح للكتل: من هو في الحكومة، ومن هو في المعارضة، أمام البرلمان والرأي العام، عندها فقط يصبح البرنامج الحكومي أداة عمل حقيقية، لا مجرد وثيقة تعلن ثم تنسى، وتصبح التشريعات والرقابة ممكنة وذات معنى.
مهام 2026 بين البرلمان والحكومة
- الدكتور علاء الحسيني، مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات:
إن ما هو مطلوب من مجلس النواب والحكومة في عام 2026 ليس قليلا، بل هو عمل واسع ومتشعب يمس حياة الناس ومستقبل الدولة بشكل مباشر، فإذا بدأنا بالبرلمان فإن أولى الاستحقاقات تتمثل بتشكيل الكتلة النيابية الأكبر عددا، التي جرى الحديث عنها في اجتماعات غير رسمية داخل الإطار التنسيقي، مع انتظار الإعلان الرسمي عنها في الجلسة الأولى للبرلمان من قبل رئيس مجلس النواب المنتخب.
بعد ذلك تبدأ دوامة العمل البرلماني الفعلي، من تشكيل اللجان النيابية، وهي حجر الأساس في عمل المجلس، لأنها تمثل الرقيب الحقيقي على السلطات العامة والهيئات المستقلة والوزارات، ومن خلال هذه اللجان يمكن إنجاز ما يقرب من 90% من عمل البرلمان، سواء في مجال التشريع أو الرقابة.
فالقوانين لا تصاغ في الجلسات العامة، بل تدرس وتناقش داخل اللجان، ولا سيما اللجنة القانونية واللجان القطاعية الأخرى، وبالتنسيق مع السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومة أو الوزارات المختصة، فضلا عن الجهات الساندة، وعلى رأسها مجلس الدولة العراقي، المختص بمراجعة التشريعات قبل إقرارها بصيغتها النهائية.
ولو نظرنا إلى الدورة البرلمانية المنصرمة، لوجدنا أنها من أضعف وأسوأ الدورات على مستوى التشريع والرقابة، صحيح أن بعض النواب حاولوا ممارسة دور رقابي، لكن أغلب هذه المحاولات جاءت بجهود فردية، وهو سلوك مهما كانت نواياه لا يمكن أن ينجح على مستوى دولة، فالعمل الفردي لا يصنع رقابة حقيقية، بل المطلوب هو عمل جماعي مؤسسي منظم، مع تكامل واضح في الأدوار.
حتى على مستوى الجهود الفردية، لوحظ أن كثيرا من النواب ركزوا رقابتهم داخل محافظاتهم فقط، بحثا عن الشعبية والأصوات في الدورات اللاحقة، وأهملوا محافظات أخرى شديدة الحساسية، ولا سيما المحافظات المنتجة للنفط، التي تمثل بؤرا خطيرة لتغلغل الفساد الحزبي والشخصي، هذا السلوك لا يرقى إلى رقابة وطنية، بل هو عمل غير مؤسسي وغير منتج، ولا يمكن أن يؤسس لمعارضة حقيقية، وإنما أنتج ما يمكن تسميته بـ معارضة شخصية، تنطلق غالبا من دوافع ذاتية أكثر من كونها موضوعية.
أما على مستوى التشريع، فقد كانت هذه الدورة بائسة أيضا، ومن أبرز الأمثلة محاولة تعديل قانون جوازات السفر لمنح النواب وأقاربهم جوازات دبلوماسية بأثر رجعي ومستقبلي، لولا تصدي المحكمة الاتحادية لهذا التعديل، والمفارقة أن الفضل الحقيقي في الطعن بالقانون يعود إلى وزير الداخلية الذي أقام الدعوى، رغم محاولات بعض النواب لاحقا نسب هذا الإنجاز لأنفسهم.
من هنا، فإن البرلمان القادم أمامه عمل كبير وثقيل، ويتطلب انتقالا حقيقيا إلى العمل المؤسسي، سواء في التشريع أو الرقابة، وهناك حزمة من القوانين المفصلية القادرة على بناء الدولة، وفي مقدمتها قانون النفط والغاز، الذي لا بد من تشريعه لمعالجة الإشكالات المتراكمة مع إقليم كردستان، وتنظيم إدارة الثروة النفطية، وتعزيز قدرة الحكومة على التفاوض مع دول الجوار، كتركيا، بشأن النفط والمياه، باسم الدولة العراقية لا باسم الكتل والأحزاب، التي تبقى بطبيعتها ضعيفة ومشتتة في أي تفاوض سيادي.
أما على مستوى البرنامج الحكومي، فالمطلوب أيضا الكثير، فالبرنامج الحكومي ليس نصا إنشائيا ولا قائمة أمنيات تلقى تحت قبة البرلمان، بل يفترض أن يكون خطة قابلة للقياس والمحاسبة، ما اعتدناه سابقا هو برامج عامة، مليئة بالشعارات والأحلام، لكنها عند التطبيق لا تترك أثرا ملموسا على حياة المواطن أو على واقع الدولة.
والحقيقة أن المسؤولية هنا لا تقع على الحكومة وحدها، بل على المنظومة السياسية بأكملها، التي تبدو عاجزة عن إحداث تغيير حقيقي، بل وراغبة، في كثير من الأحيان، في إبقاء الحال على ما هو عليه، لذلك فإن البرنامج الحكومي يجب أن يصاغ في غرف علمية متخصصة، وبعقلية تخطيطية وطنية، لا في دهاليز الكتل السياسية التي تنظر إلى الحكومة بوصفها غنيمة يجب تقاسمها، لا أداة لبناء الدولة.
وفي ختام الملتقى الفكري تقدم مقدم الورقة البحثية الاستاذ حيدر الاجودي بالشكر الجزيل والامتنان إلى جميع من شارك برأيه حول الموضوع سواء بالحضور او من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وتوجه بالشكر الى الدعم الفني الخاص بالملتقى الفكري الاسبوعي.