روايات العولمة المُتعارضة
بروجيكت سنديكيت
2023-06-07 07:41
بقلم: هارولد جيمس
وارسو ـ تربط العولمة العالم ببعضه البعض من خلال حركة الأشخاص والأشياء والأفكار والمال وأشياء كثيرة أخرى. لكن الحديث عن العولمة أصبح مثيرًا للجدل على نحو متزايد، حيث أدت التقييمات المتنافسة للعملية الآن إلى تقسيم العالم المُعولم نفسه.
وفي حين لا تزال البلدان ذات الدخل المتوسط - الأسواق الناشئة - متحمسة بشأن الاستفادة من الأسواق العالمية والديناميكية التي تحركها العولمة، وبينما ترى العديد من البلدان منخفضة الدخل فرصًا لتحقيق المزيد من الازدهار باستخدام التقنيات الجديدة، فإن العالم الغني غير راض عمومًا عن الأوضاع الحالية.
وفي المجتمعات الصناعية الناضجة مثل الولايات المتحدة، تُثير فكرة العولمة بعض الشكوك، إن لم تكن حالة من الاستياء. وتماشيًا مع الوضع السائد، أوضح لاري فينك، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك"، نقطة حاسمة في العام الماضي عندما أعلن نهاية العولمة، وكان السياسيون في جميع أنحاء العالم الغربي يروجون لأساليب "دعم الحلفاء" وغير ذلك من أشكال الانفصال عن الصين.
تُعد معظم هذه الأوصاف بدائل جديدة لمقولة قديمة تقول: أوقفوا هذا العالم - أريد النزول. ومع ذلك، على الرغم من قوتها، فإن الخطابات حول الانقسام العالمي لا تتوافق مع الواقع. قد يكون مفهوم انهيار العولمة راسخًا في الخطابات السياسية، لكن الإحصائيات لا تؤكده. لا تستمر التجارة العالمية فحسب في التوسع، بل وحتى التجارة بين الولايات المتحدة والصين متواصلة. تستمر الاتصالات عبر الإنترنت وتدفقات البيانات في النمو بشكل كبير، وفي مرحلة ما بعد الجائحة، بدأ الناس مرة أخرى ينتقلون عبر الحدود.
إن استياء الدول الغنية هو الذي يجعل المناقشات المعاصرة شديدة الحدة. ومع تلاشي جاذبية العولمة، أصبح من المغري رؤية الاقتصاد العالمي باعتباره اقتصادا يخدم مصالح أحادية الجانب: إذا كنتَ فائزًا، فلا بد أن أكون خاسرًا؛ لكن إذا كان بإمكاني ضمان خسارتك، فسأكون فائزًا حتمًا. ومن ثم، تتمثل إستراتيجية الولايات المتحدة في الحفاظ على الصدارة التكنولوجية على الصين، خاصة من خلال حرمانها من أشباه الموصلات الأكثر تقدمًا. وحتى المُفكرين المنفتحين عالميًا الذين يعشقون فكرة المنافسة يُصرون الآن على أن الولايات المتحدة يمكن أن تفوز في هذا السباق.
ومع ذلك، فإن هذا التركيز على احتلال "المركز الأول" يؤدي بطبيعة الحال إلى استجابة تصادمية، وخاصة من قبل اقتصادات كبيرة أخرى تطمح إلى اللحاق بالولايات المتحدة والتغلب عليها. إن من شأن الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستفعل أي شيء لمنع الصين من بلوغ المركز الأول سوف يدفع الصين إلى تبني خطابات غير مُجدية. فقد توقف الدبلوماسيون الصينيون عن العمل كدبلوماسيين وأصبحوا ينتمون إلى كتيبة "المحاربين الذئاب".
علاوة على ذلك، على الرغم من أن الصين لا تنخرط تقليديًا في أي تحالفات، إلا أن الشعور بأنها مهددة دفعها إلى إقامة علاقات أوثق مع روسيا، وهي دولة أخرى مسلحة نوويًا تتبنى موقفًا مناهضًا للغرب. وفي السياق الحالي، تبدو العلاقة الوثيقة مع روسيا وسيلة فعالة لزيادة سعي الصين إلى الهيمنة على العالم.
وهذا يعني أن رواية الانفصال تخلق تأثيرًا متقلبًا حيث تحاول كل من الولايات المتحدة والصين الانسحاب، لكي تُدرك كل منهما أنها لا تزال تعتمد على الاقتصاد الخاضع للعولمة - وعلى بعضها البعض. وبعد ممارسة العديد من الضغوط في العام الماضي بدعوتها لتبني سياسات دعم الحلفاء، تتراجع الآن وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت إل يلين (ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان) إلى حد ما في محاولة لإصلاح عملية المشاركة المتبادلة المُتعثرة.
ومن ناحية أخرى، تشهد الهند شكلا أقل حدة من نفس المخاوف. على الرغم من أن المسؤولين هناك يُقدرون قوة علاقاتهم الاقتصادية والشخصية مع الولايات المتحدة ويعتبرونها أساسًا للتنمية الفعالة، إلا أنهم قلقون بشأن دوافع الغرب.
في الهند، كما هو الحال في معظم الاقتصادات الناشئة الأخرى، تعكس هذه التوقعات مناهضة الاستعمار (أو إنهاء الاستعمار). وقد أصبحت العولمة شكلاً من أشكال الانتقام من انتهاكات الإمبراطوريات، وتعتبر محاولات القوى الاستعمارية السابقة الغنية لفصل أو وقف العولمة نسخًا جديدة من القهر الاستعماري القديم. إن الصراع الدائر حول مستقبل العولمة هو صراع يتعلق بالموروثات التاريخية.
إن الخلاف حول ما إذا كانت العولمة جيدة أم سيئة يجعل إدارتها أكثر صعوبة. في الواقع، تتعرض المؤسسات القديمة التي كانت تعمل على تنسيق السياسات لضغوط شديدة. وقد أصيبت منظمة التجارة العالمية بالشلل منذ أكثر من عقد من الزمن بسبب فشل جولة الدوحة للمفاوضات في تحقيق مزيد من التخفيض العالمي للحواجز التجارية، ثم زاد دونالد ترامب الطين بلة بسبب سياساته التجارية القومية العدوانية. وعلى نحو مماثل، في حين لا يزال يُشكل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أهمية بالغة، يتعين عليهما الآن العمل مع عدد كبير من المؤسسات التعاونية الجديدة الأصغر حجمًا وضيقة التركيز.
في مطلع القرن، ناقش السياسيون وخبراء الاقتصاد ما إذا كان ينبغي على صندوق النقد الدولي إعادة اختراع نفسه باعتباره الملاذ الأخير للإقراض الدولي. ثم جاءت الأزمة المالية لعام 2008، عندما صورت نفسها باعتبارها جزءًا من هيكل يضم مؤسسات إقليمية وبدائل نجحت الصين وأوروبا في تطويرها (مبادرة تشيانغ ماي للسندات في عام 2000، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وآلية الاستقرار الأوروبية، وما إلى ذلك). والآن، تتعلق إدارة الأموال الدولية بتنسيق شبكة أكثر كثافة من الهيئات الإقليمية. تتطلب هذه المهمة تواصلاً فعالاً، لكن هذا الحوار غالباً ما يواجه تحديات بسبب الخلافات حول اللغة والتكافؤ السياسي للعولمة.
هل هناك طريقة للخروج من المأزق؟ هل يمكننا تخليص أنفسنا من الشكوك التي تحول دون تعزيز التعاون على الصعيد العالمي؟ ومن بين الشروط الأساسية إدراك الجميع أن الجمع بين التكنولوجيا الجديدة وتعزيز الترابط له آثار غير معروفة بشكل أساسي (وبالتالي لا يمكن السيطرة عليها). لا أحد يستطيع أن يتوقع بدقة أي بلد سيفوز بالمرتبة الأولى في هذا السباق.
يمكن للعمليات المرتبطة بالعولمة والتغيير التقني أن توقع العالم بسهولة في الفخ. تبدو النتائج غير مؤكدة، كما تُسبب حالة عدم اليقين عجزًا هائلاً. وبالتالي فإن مهمة الحكومة تتمثل في توفير بعض الضمانات. وكلما كانت الجهود أكثر فاعلية، كلما تضاءلت الأسباب التي قد تدفع العقول المُشوشة إلى التشكيك، وكلما تراجع انقسام العالم بسبب القلق بشأن "الفوز" و "الخسارة".