البرنامج النووي السعودي.. الدوافع والتحديات
مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات
2023-05-11 04:57
في ظل المتغيرات الكبرى التي يشهدها النظام الدولي تسعى المملكة العربية السعودية إلى تطوير صناعاتها النووية والبدء باستخدام اليورانيوم المحلي لإنتاج الوقود النووي، وذلك بعد أن أظهرت عمليات التنقيب وجود محفظة متنوعة من اليورانيوم في عدد من مناطق المملكة. ويأتي هذا التوجه في وقت يشهد فيه النظام العالمي استقطاباً حاداً من جراء الحرب الروسية-الأوكرانية، وانسداداً في الاتفاق النووي الإيراني، وتصاعداً في التنافس الأمريكي-الصيني، لا سيما في منطقة البحر الصيني الجنوبي، وهو ما يدفع السعودية ربما للبحث عن خيارات أمنية بديلة.
يبحث تقدير الموقف في واقع البرنامج النووي السعودي، ويناقش أيضاً دوافعه وتحدياته، بالإضافة إلى تسليط الضوء على أهم محددات مستقبل البرنامج النووي السعودي.
أولاً: واقع البرنامج النووي السعودي
في العام 2010 أعلنت حكومة المملكة العربية السعودية تأسيس مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة، بهدف ضمان مستقبل مستدام للطاقة في المملكة، وإضافة الطاقة الذرية والمتجددة إلى مصادر الطاقة المعتمدة من قبل المملكة. وفي العام 2011 أعلنت السعودية عزمها الاستثمار في بناء 16 مفاعلاً نووياً على مدار عقدين مقبلين بمبلغ قدره 80 مليار دولار.
وقد ظلت هذه الطموحات تراوح مكانها حتى منتصف 2016، حيث امتلكت السعودية بعد ذلك مسرع “تانجيترون” بقوة 3 ميغافولت، ومسرع “ضوء أيون” بقوة 350 كيلوفولت، الموجودين في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وكان نشاطهما يقتصر على التجارب النووية الفيزيائية. وفي 2017 وقعت المؤسسة النووية الوطنية الصينية مذكرة تفاهم مع هيئة المسح الجيولوجي السعودية، وذلك بهدف إجراء مسح عن رواسب اليورانيوم، وتبع ذلك تعاون سعودي/صيني في التنقيب عن اليورانيوم في ثمانية مواقع داخل المملكة.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 دشن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أول مفاعل نووي بحثي منخفض الطاقة في المملكة، وذلك ضمن خطط المملكة في تطوير صناعة المفاعلات النووية، وتأهيل الكوادر البشرية لتشغيل تلك المفاعلات، بالإضافة إلى تأهيل الشركات الوطنية في تصنيع بعض أجزاء من المفاعلات. وفي العام 2020 نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تقريراً مصوراً عن جهود سعودية لبناء مفاعلها النووي الأول في موقع بالقرب من الرياض، وقد أثارت هذه الصور مخاوف أمريكية لما يُعتقد بأنه تعاون سعودي-صيني لبناء قدرة صناعية على إنتاج الوقود النووي، ومن ثم البدء بإنتاج الأسلحة النووية.
في أواخر 2022 أعلنت السعودية مناقصة لبناء أول محطة نووية تتكون من وحدتي إنتاج الكهرباء، وذلك ضمن خططها لإنتاج الكهرباء من الطاقة النووية من خلال الوصول إلى17 غيغاوات من الطاقة النووية بحلول عام 2040. وبحسب تصريحات وزير الطاقة السعودي، عبد العزيز بن سلمان، فإن السعودية تمتلك أكثر من 90 ألف طن من اليورانيوم على أراضيها. وذكر أن بلاده ستسعى إلى استغلال ذلك بالشكل الأمثل، وهو ما قد يشير إلى إمكانية تطور الطموحات السعودية في البرنامج النووي. لكن في المقابل، أشار تقرير لوكالة الطاقة النووية والوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 2020، إلى أن السعودية أنفقت أكثر من 37 مليون دولار منذ عام 2017 بهدف البحث عن اليورانيوم، لكن الكميات التي تم تحديدها كاحتياطي لا تكفي للتعدين اللازم لإنتاج الطاقة النووية، إذا ما قُورنت بالكميات المتوفرة في مناطق أخرى حول العالم.
ثانياً: دوافع البرنامج النووي السعودي
بناء على المعطيات السابقة يبدو أنَّ لدى السعودية توجهات رسمية لتطوير برنامجها النووي مدفوعة بجملة من العوامل المختلفة، ويبدو أنَّ العامل الاقتصادي هو الأبرز حالياً، يليه الأمني ثم السياسي.
1. الدوافع الاقتصادية
تشير التصريحات السعودية إلى أن المساعي النووية تستهدف بشكل أساسي تنويع مصادر الطاقة، وإيجاد بديل للنمو الاقتصادي بما ينسجم مع طموحات المملكة لرؤية 2030، المتمثلة في تخفيف الاعتماد على الوقود الأحفوري. وقد ذكر وزير الطاقة السعودية أن خطط المملكة بخصوص اليورانيوم المحلي تستهدف إنتاج الكعكة الصفراء، واليورانيوم منخفض التخصيب، وتصنيع الوقود النووي للاستهلاك المحلي وللتصدير أيضاً، وهي أمور تختص بالجانب الاقتصادي إلى حد بعيد دون غيره من الجوانب.
كما أن تمكن السعودية من إنتاج الوقود النووي قد يؤدي إلى تقليل اعتمادها على محطات الطاقة الغازية، وهو ما يدعم خطط المملكة لرؤية 2030 في زيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة في تطوير مشاريع الطاقة المستقبلية. ولما كانت الطاقة النووية وتقنياتها تدخل في مختلف القطاعات، مثل القطاع الزراعي والطبي والفضائي والكهربائي وغير ذلك، فإن الاستثمار في البرنامج النووي السعودي قد يخلق تطوراً بارزاً في المجالات المرتبطة به، ويساهم في تطوير الأنشطة الاقتصادية والخدماتية المختلفة.
2. الدوافع الأمنية
في ظل الانسداد السياسي في الملف النووي الإيراني، واستمرار إيران في تطوير برنامجها النووي، يبدو أن هناك خشية سعودية من عدم وفاء إيران بالتزاماتها، وقد دعت الرياض في عدة مناسبات إلى تشديد الإجراءات ضد إيران لمنعها من إنتاج قنبلة نووية.
كما عملت الرياض على إرسال رسائل دولية بطموحاتها السلمية، وبأنها قادرة في الوقت نفسه على منافسة طهران في الأغراض العسكرية للنشاط النووي. ففي تصريح لولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في مارس/ آذار 2018، أكد أن بلاده سوف تسعى إلى تطوير أسلحة نووية إذا قامت إيران بذلك. وهو ما يعني أن البرنامج النووي السعودي قد يتطور أكثر من أجل تحقيق التوازن الاستراتيجي في مواجهة إيران. وهذا قد لا يتعارض مع الاتفاق الذي رعته الصين مؤخراً بين الرياض وطهران، فتهدئة التنافس بين البلدين في عدد من الجهات في المنطقة لا تعني تسوية الجانبين للملف النووي الإيراني، نظراً لكونه أحد أهم العقبات بينهما، وربما لن تكون هناك تسوية حقيقية للملف النووي الإيراني إلا بحدوث حالة من التوازن في ملفات الضغط بين السعودية وإيران.
ولأن السياسة السعودية اتجهت إلى تنويع الشراكات الأمنية الاستراتيجية، وتقديم مصالحها القومية الخاصة، فإن التمكن من تحقيق برنامج نووي ربما يدعم مصالحها في الاكتفاء الأمني الذي تسعى إلى تحقيقه. وتُظهر تصريحات وزير الطاقة السعودي العزم السعودي على مباشرة إنتاج الوقود النووي خلال الفترة الراهنة، دون الإشارة إلى الاكتفاء بالأغراض السلمية لمباشرة إنتاج النفط، وهو ما قد يُشير إلى إمكانية استثمار الوقود النووي في تحقيق التوازن الأمني في المنطقة.
3. الدوافع السياسية
ترى السعودية أنه في ظل عالم متعدد الأقطاب، وصعود قوى إقليمية ودولية في المنطقة، فإنه لا بد لها من امتلاك عناصر قوة في سياستها الخارجية، بما يؤمن لها تحقيق أهدافها في المنطقة والعالم دون أن تكون رهناً لقوى أخرى. ولأن الرياض أظهرت خلال الأشهر الأخيرة سياسة خارجية أكثر استقلالية عبر تنويع شراكاتها الخارجية، وتخفيض بؤر التنافس المباشر مع عدد من القوى الإقليمية، فإن السعودية ربما تحرص على تدعيم قوتها العسكرية والأمنية بمختلف الوسائل لما يمكنها من الاستمرار في السياسة الخارجية المستقلة.
ثالثاً: تحديات البرنامج النووي السعودي
على الرغم من الدوافع المختلفة لتطوير البرنامج النووي السعودية، فإنه لا يزال يواجه جملة من التحديات الداخلية والخارجية، التي تتمثل في الآتي:
1. التحديات الداخلية
– تحدي كفاية الموارد النووية الداخلية
إن الخطط السعودية لتطوير برنامجها النووي قد تتعرقل بالنظر إلى كمية رواسب اليورانيوم التي يتم تحديدها. فتقرير وكالة الطاقة النووية- سابق الذكر- أشار إلى أن الكميات التي تستحق التطوير إلى وقود نووي أقل من تلك الموجودة في تنزانيا أو الولايات المتحدة أو بوتسوانا، وهو ما يعني أنه في حال باشرت المملكة استثماراتها في إنتاج الوقود النووي فثمة احتمال تعرقل تلك الخطط بسبب محدودية كميات رواسب اليورانيوم على أراضيها.
– تحدي البنية التحتية الضخمة
السعودية في الفترة الحالية تعمل على تنفيذ المشاريع المتعلقة برؤية 2030، ولما كان البرنامج النووي قد يحتاج إلى بنى تحتية ضخمة قد تتعارض مع أولوية المشاريع الأخرى للدولة، أو كفاية المواد في تغطية متطلبات هذا المشروع في هذه الفترة، فهذا قد يشكل تحدياً حقيقياً للدولة السعودية.
2. التحديات الخارجية
– الموقف الأمريكي من البرنامج النووي السعودي
يتمثل الموقف الأمريكي برفض التجاوب مع المشروع النووي السعودي، وقد طرحت واشنطن شروطاً شديدة الصرامة لمنع الرياض من إمكانية تطوير أسلحة نووية، وذلك بهدف منع سباق التسلح النووي في المنطقة. في الوقت نفسه، سلط تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، نُشر في مارس/آذار الماضي، الضوء على العرض الذي قدمته الرياض لواشنطن بإمكانية تطبيع علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي مقابل منح واشنطن الضوء الأخضر للسعودية لتطوير برنامج نووي مدني، وزيادة في الضمانات الدفاعية الأمريكية لصالح الرياض، وذلك ضمن عدة مواضيع طرحتها الرياض على إدارة بايدن خلال محادثات العام الماضي.
وتجدر الإشارة إلى أنه خلال حكومة ترامب كانت الولايات المتحدة أكثر مرونة مع طموحات المملكة النووية. حيث أعرب عدد من الشركات الأمريكية أمثال “كونسورتيوم” و”ستنغهاوس” عن إمكانية الاستثمار في البرنامج النووي السعودي المقترح، وسمحت إدارة ترامب لشركات أمريكية بتبادل المعلومات التكنولوجية الحساسة مع السعودية، إلا أن الكونجرس الأمريكي وقف عقبة أمام التفاهمات السعودية-الأمريكية.
– هيمنة الكيان الإسرائيلي على المجال النووي والتعاون الإماراتي-“الإسرائيلي” في مجال الطاقة
يعد الكيان الإسرائيلي صاحب القوة الأولى في الطاقة النووية في المنطقة، والمتفرد الوحيد بوسائلها وتقنياتها، وذلك ضمن دعم أمريكي له لاحتكار القوة النووية في الشرق الأوسط. وهذا الاحتكار من المرجح أن يؤدي إلى التضييق “الإسرائيلي”، ومن خلفه الغربي، على مشاريع الطاقة النووية المستقلة في المنطقة.
وفي جانب آخر، أعلنت دولة الإمارات، في فبراير/شباط 2020، مباشرتها العمل في محطة وقود نووية متعددة الوحدات في منطقة الظفرة في إمارة أبو ظبي، لتكون بذلك أول محطة نووية في منطقة الخليج. وبعد إعلان التطبيع الإماراتي مع الكيان الإسرائيلي، في سبتمبر/أيلول 2020، تم توقيع عدد من اتفاقيات التعاون في عدد من المجالات، ومنها الاستثمار في قطاع الطاقة والتصنيع، وهو ما قد يجعل المشاريع النووية السعودية تتعرض لمنافسة إقليمية.
– البحث عن الشريك الأنسب للبرنامج النووي السعودي
سعت السعودية خلال السنوات الماضية إلى تطوير خبراتها في مجال البرنامج النووي من خلال الدخول في شراكات متعددة مع دول نووية حول العالم. وذلك بهدف البحث عن شريك أنسب، وقد باشرت الرياض مفاوضاتها مع شركات روسية وفرنسية وصينية وكورية لتحقيق شراكة كفيلة بالاستثمار في البرنامج النووي.
إلا أن الأمر ليس بالسهل على الرياض، فالمفاوضات مع فرنسا أو كوريا الجنوبية- حليفتَي الولايات المتحدة- قد تعرقل الرياض؛ بسبب التأثير الأمريكي على باريس وسيئول. في حين أن بيئة العمل مع روسيا قد يشوبها عدد من الصعوبات نتيجة للعقوبات الأمريكية والأوروبية عليها. أما الصين فقد تكون شريكاً “يُتعامل معه بحذر” نتيجة علاقاتها الوطيدة مع إيران.
رابعاً: محددات مستقبل البرنامج النووي في السعودية
1. طبيعة الموقف الأمريكي من البرنامج النووي السعودي
رغم بحث الرياض عن شركاء بديلين فإنها لا تزال ترى أن التكنولوجية النووية الأمريكية ستظل الخيار الأمثل لها. وفي حال تغير الموقف الأمريكي القلِق من سباق التسلح النووي في منطقة الشرق الأوسط، وتماهى مع استمرار السعودية في المضي في طموحاتها النووية، فإن ذلك قد يمكن الرياض من تطوير طاقتها النووية، ولو لأغراض سلمية في بداية الأمر.
2. تأثير الملف النووي الإيراني
يعد الملف النووي الإيراني من أكثر القضايا المستعصية في العلاقات السعودية-الإيرانية، وعلى الرغم من الاتفاق الذي جمع الطرفين، في 10 مارس/آذار الماضي، بشأن استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، يظل الملف النووي الإيراني من أكثر الملفات تأثيراً سلبياً في استمرار الاتفاق. فالسعودية لم تحصل إلى الآن على أي ضمانات تؤكد خلو الأنشطة الإيرانية من الأغراض العسكرية، ما قد يدفعها إلى تسريع استراتيجيات تطوير البرنامج النووي الخاص بها.
3. التنافس في المنطقة على إنتاج الطاقة النووية
يعد الكيان الإسرائيلي صاحب اليد العليا في تطوير الأنشطة النووية في المنطقة، بالإضافة إلى ذلك باشرت دولة الإمارات في تشغيل أول محطة نووية لها قبل عامين، وهو ما يعني أن المنطقة ربما تدخل في سباق حقيقي من حيث التنافس على إنتاج الطاقة النووية. وهذا الأمر يدفع السعودية إلى المضي قدماً في هذا المشروع، خصوصاً أن هذا الأمر يرتبط بالمحافظة على ثقل مركزها الإقليمي في المنطقة.
الخاتمة
الطموحات النووية للسعودية ليست وليدة اللحظة، وإنما يعود تاريخها إلى وقت الكشف عن البرنامج النووي الإيراني، إلا أن هذه الطموحات تسارعت بسبب الدوافع المختلفة، ومع هذه الدوافع فإن لتحقيق السعودية طموحاتها النووية عدداً من الشروط والتحديات الداخلية والخارجية، التي يظهر أنها أكبر من الدوافع والإمكانيات، ويبدو أنَّ مستقبل البرنامج مرهون بمدى قدرة السعودية على التعامل مع هذه التحديات.