الوثائق السرية الأميركية والدولة العميقة
صحيفة الشرق الاوسط
2023-01-17 06:25
بقلم: ماثيو كونيلي
لا يزال هناك الكثير نجهله عن مجموعة الوثائق السرية بحوزة الرئيس بايدن، لكن ثمة أمراً واحداً يبدو واضحاً على نحو مؤلم: لقد خرج نظام حماية الأسرار الحيوية لضمان الأمن عن السيطرة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا؟ لا ينبغي لأحد الشعور بالدهشة من استمرار ظهور وثائق مصنفة باعتبارها سرية، في أماكن غريبة. يوليو (تموز) الماضي، أعلن المسؤول المعني بالهيئة الرقابية الحكومية المسؤولة عن إدارة أنظمة حماية «المعلومات المرتبطة بالأمن الوطني»، مارك برادلي، أن مكتبه قرر التوقف عن محاولة إحصاء عدد الأسرار التي تخلقها الحكومة سنوياً. وقال: «لم يعد باستطاعتنا إبقاء رؤوسنا فوق التسونامي». والمؤكد أن كلاً من الجمهوريين والديمقراطيين سيمضون في إصرارهم على أن الطرف الآخر يعرض الأمن للخطر على نحو متهور وطائش.
ومع ذلك، فإن التساؤل المهم هنا: كم عدد الفضائح الأخرى على هذا المنوال التي يجب أن تنفجر بوجوهنا قبل أن ندرك وجود مشكلة أعمق ـ مشكلة لا يمكن أن نشرع في حلها إلا إذا وحدنا صفوفنا كبلد واحد معاً ووقفنا بوجهها؟ ولا تتعلق هذه المشكلة بـ«دولة عميقة»، تتآمر في الظل لتحدي قادتنا المنتخبين. وهناك بالفعل الكثيرون الذين يتربحون بالفعل من وراء النظام الحالي ـ الذي يكلف أكثر من 18 مليار دولار سنوياً ـ حسب تقديرات عام 2017، وهي المرة الأخيرة التي وضع فيها المكتب الذي يقوده مارك برادلي تقديراً للتكلفة ـ والذي يسمح كذلك لعدد لا حصر له من البيروقراطيين الذين لم تحدَّد أسماؤهم بتجنب الإشراف الديمقراطي. ويتضمَّن هذا النظام رؤساء قاوموا وجود أي نمط تقريباً من الرقابة من جانب الكونغرس أو مراجعة قضائية فيما يخص مسألة تحديد ما إذا كانت معلومات معينة ينبغي تصنيفها سرية أو تتاح للعلن.
الحقيقة أن لا شيء في الحياة السياسية الأميركية يشبه السلطة شبه الحصرية التي يتمتع بها الرئيس فيما يتعلق بتحديد معلومات تخص الأمن الأميركي ومن يمكنه الاطلاع عليها ـ إنها سلطة تتمتع بسيادة كاملة لا تخضع لأي رقابة أو قيود فاعلة. وعليه، من غير المثير للدهشة أن تترك مثل هذه السلطة المطلقة آثاراً سامة، مثل رفض دونالد ترمب الكشف عن وثائق سرية احتفظ بها في منزله بمنطقة مار ألاغو ـ حتى بعد تحذيره من أنه يخرق القانون. ولا يعد ما سبق سوى مجرد مثال واحد على حالة متطرفة لنمط قوي من الإدمان، من الواضح أن جو بايدن عانى منه هو الآخر.
في الواقع، هذه ليست بمشكلة جديدة، فقد حاول رؤساء منذ عهد تيدي روزفلت (بل وحتى قبل ذلك) التحكم فيما يعرفه الأميركيون حول ما يفعله الرؤساء. وحمل كل رئيس تقريباً الرسالة ذاتها: أنهم سينتهجون توجهاً أكثر صراحة بكثير من سابقيهم، لكن بعد ذلك يسيرون على نفس خطى سابقيهم ويحنثون بعهودهم. على سبيل المثال، أقام وودرو ويلسون حملته الانتخابية عام 1912 على فكرة أنه «ينبغي ألا يكون هناك مكان يمكن فعل أي شيء فيه لا يعلم بأمره الجميع». ورغم ذلك، أشرف ويلسون خلال فترة رئاسته على مجموعة ضخمة من أنظمة المراقبة والرقابة الجديدة، وتفاوض بخصوص «معاهدة فرساي» خلف الأبواب المغلقة.
أما فرنكلين روزفلت، فكان خبيراً في إدارة العلاقات العامة، وجعل نفسه متاحاً على نحو غير معتاد أمام الظهور بوسائل الإعلام. ومع ذلك، حمل بداخله إيماناً عميقاً بالسرية، وسعد بحجب بعض المعلومات حتى عن مسؤولين داخل إدارته بحجة أنها «سرية للغاية». واشتهر هاري ترومان بحديثه الصريح، ومع ذلك فقد عكف على توسيع نطاق نظام التصنيف الأمني الذي أسسه سلفه، مدعياً أن النظام سيتيح مزيداً من المعلومات، وليس أقل. ورغم فرض دوايت أيزنهاور قيوداً على عدد الوكالات التي يمكنها خلق أسرار، وألغى التصنيف الشامل «المحظور»، لم تخلق هذه التغييرات اختلافاً يذكر أمام وزارة دفاعه، وظلت مشكلة فرض السرية على المعلومات في تفاقم.
من جهته، أقدم ليندون جونسون، في واقعة شهيرة، على رفع قميصه ليكشف أمام الصحافيين الذين كانوا يطالبون بمزيد من الشفافية، عن ندوب عبر بطنه جراء خضوعه لجراحة بالمرارة. ومع ذلك، فإنه خلف الكواليس، كان يشعر بالازدراء تجاه قانون حرية المعلومات، وعمد في هدوء إلى تخريبه. الحقيقة أن للسرية قوة هائلة كامنة فيها، فهي تمكن مسؤولي السلطة التنفيذية من تصنيف معلومات بعينها باعتبارها سرية، وبالتالي يخفون ليس فقط معلومات خطيرة يمكن أن تهدد الأمن، وإنما كذلك كثيراً من الأمور التي يفضلون ببساطة عدم اطلاع الرأي العام عليها.
أما الوصف الأفضل لهذه العقدة تجاه السرية الوطنية، فهو الدولة المظلمة التي اعتادت التغطية على كثير من الأمور المشينة في تاريخنا، بينها الرقابة غير القانونية، وإجراء تجارب إشعاعية على أطفال وكبار في السن، وسلسلة كاملة من الحروب غير المعلنة. حتى ريتشارد نيكسون أقر الحاجة إلى «رفع ستار السرية الذي يحيط اليوم تماماً بالكثير للغاية من الأوراق التي كتبها موظفون داخل المؤسسة الفيدرالية».
إلا أن القرار التنفيذي الذي أصدره كان يهدف حقيقة الأمر إلى تعزيز سيطرته على هذا الجهاز القائم داخل البيت الأبيض، من خلال تقليص عدد الأفراد المسموح لهم بخلق أسرار جديدة، والحد من أعداد الوثائق التي يفرض عليها السرية في المستويات العليا من الإدارة، ونزع السرية «تلقائياً» عن الأسرار المرتبطة بالإدارات السابقة. اللافت أنه حتى الرؤساء الذين بذلوا جهوداً حقيقية لمحاولة إصلاح هذا النظام ـ جيمي كارتر وبيل كلينتون وباراك أوباما ـ شهدت فترات رئاستهم تضخماً هائلاً في عدد الأسرار الجديدة كل عام.
ويعد ترمب أول رئيس بعد الحرب العالمية الثانية لا يصدر قراراً جديداً لتنظيم المنظومة الحكومية المعنية بالمعلومات السرية. ورغم أنه جاء إلى الرئاسة وهو يكيل سهام النقد إلى الدولة العميقة والرقابة الحكومية، أبقى ترمب على سياسات السرية التي انتهجها أوباما، واعتاد تمزيق الأوراق الرئاسية إلى شظايا صغيرة.
وتعهد بايدن بـ«إعادة التزام أعلى مستويات الشفافية»، لكن إدارته لم تولِ هذا الأمر أولوية أكبر عن تلك التي أبدتها إدارة ترمب. وبعد نهاية العام الأول له في الرئاسة، عجزت مجموعات الضغط المعنية بهذه القضية عن إيجاد أي مسؤول داخل البيت الأبيض يتولى العمل على هذا الملف. الحقيقة أن الإصلاح الحقيقي على هذا الصعيد لن يأتي من التلاعب بالقواعد والتنظيمات التي وجد مسؤولون، مراراً وتكراراً، سبلاً لخرقها، وإنما بدلاً من ذلك يجب على الكونغرس استغلال سلطته بمجال المخصصات لجعل الشفافية أولوية كبرى، خصوصاً أن الأرقام تكشف أن جهود نزع السرية تلقت أقل من 1 في المائة من التمويل المخصص لـ«أمن المعلومات».