البجعة السوداء وصف لا ينطبق على كورونا وأوكرانيا
اندبندنت عربية
2022-11-17 05:01
بقلم: أحمد مغربي
،، نقد لاستخدام المفكر نسيم طالب تلك الترسيمة مع استعادة عن نظرية الفوضى ،،
لم لا نبدأ بالمشاكسة فوراً؟ بلى، فلنفعل ولنشاكس. ولنحاجج فوراً بأن وصف "البجعة السوداء" Black Swan قد لا ينطبق على جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، وفق ما أورد المفكر الشهير نسيم طالب في تصريح تناقلته وسائل الإعلام على نطاق واسع.
وللتوضيح، في العام 2007، أطلق نسيم طالب تعبير "البجعة السوداء" إلى فضاء النقاشات المعاصرة. ونشر كتاباً حمل ذلك العنوان. وفي تاريخ الفكر الغربي، أن مثل "البجعة السوداء" استُخدِم آجالاً مديدة في الإشارة إلى ما ليس له وجود فعلي ولا أساس له. وببساطة، لم تكن القارة الأوروبية تحتوي سوى بجع أبيض، فإن الحديث عن بجعة سوداء لا يكون سوى ضرب من الخطأ والتوهم. وفي المقابل، لو ظهرت حتى بجعة سوداء واحدة لكان ذلك كافياً ليقلب مسار التفكير في الأمور رأساً على عقب، فتغدو الفكرة المرفوضة، ثورة غير متوقعة في المعرفة. ثم جاءت عصور الاكتشافات البحرية الكبرى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فوصل الأوروبيون إلى أستراليا، واكتشفوا أن البجع الأسود أمر عادي تماماً ومنتشر جداً. وتدريجاً، تخافت ضرب المثل بالبجعة السوداء، وتضاءل إلى شبه اختفاء.
وفي كتابه المشار إليه آنفاً، استند نسيم طالب إلى جملة من الترسيمات الفكرية، خصوصاً النظريات العلمية المعاصرة، كي يُرسي مفهوم "البجعة السوداء" كوصف قابل لأن ينطبق على نمط خاص من الحوادث التي تُفاجئ الناس، بالأحرى التفكير السائد، حين ظهورها وتكون ضخمة وهائلة التأثير وغير متوقعة تماماً. وسرعان ما يترسخ ذلك الحدث اللامتوقع ويتصدر سياق الحوادث بسرعة، ولا يملك الفكر السائد قبله سوى اللجوء إلى نوع من التفكير الاسترجاعي أو الاستعادي سعياً إلى استيعابه ترويض مفاجأته، فيبدو كأنه متوقع تماماً.
وكذلك نال ذلك الكتاب وصاحبه شهرة فورية واسعة، ربما بدت لكثيرين من نوع مفاجئ وغير متوقع، فينطبق عليها وصف البجعة السوداء كأحسن ما يكون!
وليس من الصعب ملاحظة أن حدوث اللامتوقع يشكل سمة رئيسة في مقولة "البجعة السوداء"، بالتالي تغدو الإشارة ضرورية إلى أن المفكر نسيم طالب توسع في تضمين كتابه شروحات عن نظرية الفوضى "كايوس" العلمية، التي تعتني كثيراً بالأمور اللامتوقعة والمفاجئة. ومثلاً، منذ ثمانينيات القرن العشرين، أطلقت نظرية الفوضى العلمية مصطلح "رفّة جناح الفراشة" إلى فضاء النقاش في العلم، بل الفكر عموماً. والأرجح أنه بات مألوفاً في فضاء النقاش العربي العام، استخدام مصطلح "رفة جناح الفراشة" الذي يشير إلى التأثير اللامتوقع والمفاجئ والضخم الذي قد ينجم عن تأثيرات هيّنة وضئيلة، لكنها قد تولّد حدثاً مفاجئاً وضخماً. وبات شائعاً القول بأن "رفة جناح فراشة في الصين، قد يحدث أعاصير فوق نيويورك"، ويتعلق ذلك الأمر بالمناخ وتقلباته، وليس بالسياسة وفق ما قد يتبادر إلى الأذهان في ظل الوضع الراهن!
"المرض إكس" ونفي مفاجأة كورونا
لنعد إلى المشاكسة، أو بالأحرى، النقد. الأرجح أنه من بين الحوادث الكبرى القريبة كلها، تبعد جائحة كورونا بأشواط كبيرة عن كونها حدثاً لا متوقعاً. لقد كانت متوقعة وأكثر. في صيف العام 2018، أصدرت مجلة "علم وحياة" [سيانس إيه في Science et Vie]، عدداً خاصاً حمل عنوان "ماذا لو...". تناول أحد محاور العدد قصة علمية متخيلة عن جائحة فيروسية تنتشر عالمياً، بسبب خطأ يقع في مختبر متطور في دولة كبرى. ففي لحظة من تشتت الذهن، يتمزق قليلاً الرداء الواقي الذي يرتديه أحد التقنيين في ذلك المختبر، أثناء تعامله مع حيوانات ثديية نقل إليها العلماء قصداً أحد فيروسات الإنفلونزا، من نوع ركّبوه كي يكون تأثيره كبيراً وليُحدِثْ التهاباً رئوياً قد يفضي إلى الموت. وبخفة يعالج التقني ذلك الحدث الذي حصل له قبل نيله إجازة صيفية. ثم يسافر متنقلاً في مطارات عدة، ويختلط مع بشر من دول كثيرة. ويصل إلى بلدته في أميركا، كي يحضر عرساً، جاء إليه أصدقاء من أنحاء شتى من العالم. ويعود الأصدقاء إلى أمكنة عملهم المنتشرة في مناطق أميركية كثيرة. ولا يعود جسم ذلك التقني بقادر على مقاومة الفيروس، فيدخل المستشفى حيث يحكي ما حصل معه، قبل أن يرديه الالتهاب الرئوي الشديد.
هل بدت أخيلة تلك القصة مألوفة؟ إذاً، فلنستزيد من ألفة العلم مع جائحة كورونا قبل وقوعها. قبيل اندلاع الجائحة في نهاية عام 2019، تناقلت بعض وكالات الأنباء خبراً عن "المرض إكس" أو "الوباء إكس". ظنّه البعض اسماً فعلياً لمرض، على غرار استعمال "أشعة إكس" في وصف نوع معين من التصوير الطبي بالأشعة. لكن المرض إكس ليس كذلك، بل أنها لم تكن المرّة الأولى التي يقع فيها ذلك الخلط. بالاختصار، يعبر "المرض إكس" عن نموذج رسمه علماء في "منظمة الصحة العالمية" ومؤسسات مشابهة كـ"مراكز السيطرة على الأمراض" [مقرها أميركا، وتعمل فروعها في دول كثيرة من بينها الصين]، لوصف انتشار وبائي لفيروس يحمل مواصفات الإنفلونزا الموسمية لكنها أشد قوة منها، ويُحدِثْ التهاباً رئوياً شديداً، ويوقع نسبة عالية من الوفيات بين من يصيبهم. وعلى مدار ما لا يقل عن عشر سنوات، عمل العلماء على تطوير ذلك النموذج وتعديله مع موجات وباء، لم تتحول إلى جائحات، كـ"سارس" و"إنفلونزا الخنازير" و"إنفلونزا الطيور" و"إنفلونزا الإبل" وغيرها.
أكثر من ذلك، يعرف متابعو الأوبئة أن مصطلح "الأمراض المعدية الصاعدة والمتجددة" Emerging & Re- emerging Infections، بات متداولاً في الأوساط الطبية منذ تسعينيات القرن العشرين. وجاء المصطلح عقب رصد مجموعة من الانتشارات الواسعة، لفيروسات وأنواع من البكتيريا والطفيليات، تحدت جهوداً علمية ضخمة حاولت ضبطها والسيطرة عليها. والأرجح أن وباء الإيدز الذي يواصل انتشاره منذ أواسط الثمانينيات من القرن العشرين، شكل أحد المحطات الأساسية في لفت أنظار الطب إلى الأوبئة، بعد اطمئنان طويل إلى أنها في طور التقلص.
إذاً، أين المفاجأة واللامتوقع في جائحة كورونا؟ الأرجح أن جائحة كورونا بالتحديد، تتحدى مقولة "البجعة السوداء" بأوضح ما يكون.
من توقع حرب أوكرانيا؟ اسأل الرئيس زيلينسكي
هل كانت الحرب العالمية الأولى حدثاً غير متوقع بالنسبة إلى أناس ذلك الزمان؟ لقد وقعت بعد سلام المئة عام في أوروبا. وقد أُسميَتْ حين لاحت نُذرها وقبل أن تطلق نيرانها، بأنها "الحرب التي يجب أن تُنهي كل حرب"! وفي كتابه المترجم إلى العربية بعنوان "درب السلام الصعب"، أشار هنري كيسنجر إلى الحبور الذي رافق انطلاقة تلك الحرب في أوروبا، قبل أن تصدمه ويلات تلك "الحرب الكبرى". واستطراداً، يذكِّر ذلك التناقض المأساوي بأن رواية "الحرب والسلام" لتولستوي وصفت أمراً مماثلاً رافق حروب نابليون بونابرت. المفارقة أن نهاية تلك الحروب أعقبها سلام المئة عام الذي أعقبته الحرب العالمية الأولى!
إذاً، هل كانت الحرب العالمية الأولى حدثاً مفاجئاً وغير متوقع؟
لنعد إلى أوكرانيا. هل جاء الانتصار الأوكراني في خيرسون كمفاجأة؟ هل جاءت الحرب الروسية على كييف كحدث غير متوقع إلى حد أن ينطبق عليه وصف "البجعة السوداء"؟ ربما ليس مبالغة القول إن توقع الحرب أمر أكثر من شائع في الفكر السياسي والاستراتيجي، ويتردد في أرجائه كثيراً أن مقولة كـ"الحروب تقع، ببساطة"، منتشرة وشائعة بل ربما تلامس البداهة. من يتابع أعمال محلل استراتيجي كهنري كيسنجر، يدرك ببساطة أن السلام هو التحدي الماثل دوماً، أقله منذ الحرب العالمية الثانية، أمام الفكر العسكري والسياسي والاستراتيجي، أما الحرب فإنها في الأفق دوماً.
لنعد إلى أوكرانيا مجدداً. ألم تأتِ الحرب بعد حروب كانت روسيا اللاعب الرئيس فيها؟ ماذا عن ضمّ شبه جزيرة القرم في 2014؟ ماذا عن الحرب المديدة المستمرة منذ 2015 في إقليمي لوغانسك ودونتسيك الساعيين إلى الانفصال بدعم عسكري ولوجستي وسياسي من روسيا؟ ألم يكن وصول الرئيس فولوديمير زيلينسكي، عقب الإطاحة برئيس موالٍ لموسكو، في سياق الحرب في القرم جنوباً وفي إقليمي الشمال الانفصاليين؟
لنرجع إلى المسار المباشر، عبر الاقتصاد. لقد ملأت أوكرانيا دنيا السياسة والإعلام بالحديث عن خط أنابيب الغاز الروسي- الألماني "نورد ستريم 2". وقد نشرت في عوالم السياسة الغربية بوضوح، أنها تعتبر تشغيل ذلك الخط موتاً استراتيجياً لها. من قرأ نص تلك المكالمة التي دارت بين الرئيسين زيلينسكي ودونالد ترمب، يصعب أن يفوته ملاحظة أصداء الحرب في جنوب أوكرانيا وشمالها، آنذاك في عام 2019، تتردد فيها. وقد فرض الرئيس ترمب الذي يحتفظ بعلاقة "مبهمة" مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عقوبات على "نورد ستريم 2"، فمنع تشغيله على رغم أنه لم يتمكن من منع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل من إتمام تشييد ذلك المشروع الذي كلف أكثر من عشرة مليارات يورو. وجاءت إدارة الرئيس جو بايدن، صاحب العلاقة الوطيدة مع زيلينسكي، فسار على نهج "نقيضه" ترمب، ذلك أنه رفع العقوبات عن "نورد ستريم 2"، لكنه ضغط بقوة من أجل عدم تشغيله. لقد دخل ذلك الخط الاستراتيجي الذي يعتبر حيوياً للاقتصادين الروسي والألماني، مرحلة التشغيل قبيل المناورات العسكرية الروسية الشهيرة التي سبقت اندلاع تلك الحرب. ومع أولى رصاصات الحرب، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن "نورد ستريم 2" مات.
قبل تلك الرصاصات، ملأت شوارع كييف تظاهرات تنادي بالانضمام فوراً إلى حلف الناتو، فيما صرح الكرملين بأعلى صوت أنه يعتبر تلك الخطوة، إذا تمت، بمثابة إعلان حرب من حلف الناتو على روسيا.
مجدداً، هل كانت حرب أوكرانيا غير متوقعة وبجعة سوداء؟