من دمر الديمقراطية الأمريكية؟
بروجيكت سنديكيت
2022-11-03 05:55
بقلم: أنجوس ديتون
برينستون- تقول الرواية السائدة حالياً في الولايات المتحدة أن الديمقراطية مهددة من طرف المتعصبين الحاملين لشعار "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، ومنكري الانتخابات، والجمهوريين الذين يهددون بتجاهل النتائج غير المؤاتية (بالإضافة إلى تجنيد الموالين للإشراف على الانتخابات ومراكز اقتراع الشرطة).
إن هذا السرد صحيح، ولكن فقط إلى حد معين. فهناك قصة أخرى أطول أمدا تتحدث عن مجموعة مختلفة من الأشرار. وهي رواية تحكي عن تدهور حياة الأمريكيين الذين ليس لديهم شهادات جامعية لأكثر من 50 عامًا في مجموعة من مناحي الحياة بما فيها الحياة المادية والصحية والاجتماعية.
على الرغم من أن ثلثي السكان البالغين في الولايات المتحدة لا يملكون شهادات جامعية تتطلب أربع سنوات من الدراسة، إلا أن النظام السياسي نادرًا ما يستجيب لاحتياجاتهم، وقد سن في كثير من الأحيان سياسات تضر بهم، وتخدم مصالح الشركات والأمريكيين ممن تلقوا تعليما ذي جودة أفضل. وما "سُرق" منهم ليس انتخابات، بل الحق في المشاركة في صنع القرار السياسي- وهو حق من المفترض أن تضمنه الديمقراطية. وفي ضوء ذلك، فإن جهودهم للسيطرة على نظام التصويت ليست تنصلًا من انتخابات نزيهة بقدر ما هي محاولة لجعل الانتخابات تحقق بعض ما يريدون.
خذ على سبيل المثال بعض العوامل التي تحفز هذه المجموعة. حتى قبل الوباء، كان متوسط العمر المتوقع، وهو مقياس قوي للصحة الاجتماعية والفردية، يتراجع في صفوف الرجال ذوي المستويات التعليمية المتدنية منذ عام 2010، وفي صفوف نظرائهم من النساء منذ عام 1990 أو قبل ذلك. وتعاني جميع الفئات العمرية في صفوف الأمريكيين الأصغر سنا من ذوي المستويات التعليمية المتدنية أكثر مقارنة مع فئات الأمريكيين الأكبر سنًا.
وفضلا عن ذلك، على مدى عقود من الزمن، انخفضت مشاركة الرجال الأقل تعليماً في القوى العاملة، أما بالنسبة لنظرائهم من النساء فقد انخفضت منذ عام 2000. وتراجع متوسط الأجور الحقيقية (المعدلة حسب التضخم) في فئة الرجال غير الحاصلين على شهادة جامعية منذ عام 1970. وشهد الأمريكيون الأقل تعليما انخفاضًا في معدلات الزواج، وارتفاعًا في معدلات الإنجاب خارج إطار الزواج. وتراجع معدلات الحضور في الكنائس، ولا يستفيد العديد من الرجال الأقل تعليما من أي مؤسسة داعمة.
ويقول استطلاع حديث أجرته جريدة "نيويورك تايمز" بتعاون مع معهد "سيينا"، أن ثلثي الناخبين يعتقدون أن الحكومة "تعمل أساسًا لصالح النخب القوية". ولا يقتصر هذا الرأي على منكري الانتخابات أو الجمهوريين أو فئة الأمريكيين الأقل تعليماً؛ ولكن هذه الأخيرة هي التي عانت من السياسات التي يسمح بها الإهمال السياسي. فعلى سبيل المثال، لم يخضع الحد الأدنى للأجور الفيدرالية للزيادة منذ عام 2009.
كذلك، روج السياسيون الأمريكيون لاتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، ولانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية على أنها سياسات مربحة للجانبين ومن شأنها أن تساعد الأمريكيين، وكذلك المكسيكيين، والصينيين. ولكن، على عكس ما وعد به الاقتصاديون وما كان يمكن أن يحدث في الماضي، فإن ما حدث بعد ذلك من فقدان للوظائف لم يمَكن الناس من تحسين مهاراتهم المهنية، والانتقال إلى أماكن مزدهرة. ويرجع هذا إلى حد ما إلى كون هذه الأماكن لم تعد ميسورة التكلفة، وإلى حد آخر إلى كون الوظائف الأفضل تتطلب معياراً لم تكن الوظائف القديمة تتطلبه: شهادة جامعية مدة دراستها أربع سنوات.
صحيح أن هناك استثناءات. إذ قدم قانون الرعاية الميَسرة (Obamacare) "أوباما كير" التأمين الصحي لعشرات الملايين ممن كانوا غير مؤمن عليهم سابقًا. ولكن ضمان سن هذا القانون يعني تمويل قطاع الرعاية الصحية ومن ثم عدم التحكم في التكاليف. فبالنسبة لمعظم الأمريكيين العاملين، تُدفع تكاليف التأمين الصحي من خلال ضريبة ثابتة على الأجور، مما يقلل من أجور الأقل مهارة ويشجع الشركات على الاستعانة بمصادر خارجية، وإلغاء الوظائف. نظرا لكون التأمين الصحي يُمول من خلال سوق العمل، فإن ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية يؤدي إلى توليد ضغوط إضافية على الأجور والوظائف الجيدة لمن هم أقل مهارة.
إن الأصوات في الكونغرس ليست فقط منحازة نحو ناخبين أثرياء؛ بل إن القضايا التي تهم غير النخبة- بما في ذلك الرعاية الصحية ذات الدافع الفردي، والخيار العام للتأمين الصحي، وزيادة الحد الأدنى للأجور- لا تُدرج أبدًا في جدول الأعمال التشريعي. إن جماعات الضغط أكثر نجاحًا من الناخبين فيما يتعلق بتحديد جداول الأعمال.
ومن الصعب للغاية (وإن لم يكن من المستحيل) أن تُنتخب لعضوية الكونغرس دون دعم مالي كبير. رغم أن نظام تمويل الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة نادرًا ما يؤدي إلى فساد صريح، إلا أنه يختار بقوة المشرعين الذين لديهم وجهة نظر إيجابية عن الشركات ورأس المال، وليس العمالة. لذا، خفف ممثلو الكونغرس من القوانين لصالح مصنعي وموزعي المواد الأفيونية التي كان يتسمم بها أعضاؤهم، وأوقفوا التحقيقات بشأن هذه القضية. وليس من المستغرب أن العديد من الأشخاص الذين تعرضوا لسوء المعاملة يترددون في قبول اللقاحات التي تروج لها مؤسسة غير موثوقة إلى حد كبير.
وهناك مشكلة أخرى وهي أن الشركات كانت تزيد من ربحها على حساب التكاليف، ومن ثم إعادة توزيع الدخل من العمالة إلى رأس المال. والأسوأ من ذلك، أن هذا الاتجاه قد شجعه الضعف طويل المدى في إنفاذ قانون مكافحة الاحتكار، على الرغم من عدم وجود دعم شعبي لإنفاذ ضعيف، وعدم اتخاذ المشرعين لمواقف تؤيد ذلك. واعتُمد هذا الاتجاه من طرف المنظمين والقضاة الذين اختيروا وفقا لمدى تعرضهم المتوقع للضغط من الجماعات المناصرة للشركات.
إن الأمريكيين الحاصلين على درجة تعليمية متدنية والمعرضين لخطر الموت المبكر لم يصوتوا جميعًا لدونالد ترامب في عامي 2016 و2020؛ لكن الكثير منهم فعلوا ذلك. ويمكن ملاحظة التداخل بين "وفيات اليأس"- بما في ذلك الانتحار، وتناول جرعات زائدة من المخدرات، ومرض الكبد الكحولي في جميع المقاطعات- وحصة ترامب في التصويت من خلال مطابقتهما مع بعضهما البعض.
ولكن هناك علاقة أقوى بين الوفيات ومنكري الانتخابات. إذ ألقت صحيفة "نيويورك تايمز" نظرة على معدل الوفيات في مقاطعات الكونغرس وخلُصت إلى أن الوفيات الناجمة عن اليأس كانت أعلى في مقاطعات الكونغرس التابعة لممثلي الجمهوريين الذين صوتوا ضد التصديق على انتخاب "جو بايدن" مقارنة بمقاطعات النواب الجمهوريين الذين صوتوا لصالحه. إنها حالة تجسد الديمقراطية في العمل- وإن كانت ديمقراطية غاضبة وعقيمة ومحبطة.
إن الديمقراطية تقوم على المساواة. ومن المفترض أن يتمتع جميع المواطنين بفرصة متساوية للتأثير على القرارات السياسية. وقد يهدد الناخبون الحاملون لشعار "لنجعل أمريكا عظيمة أخرى" النظام بصورة لم يسبق لها مثيل، لكنهم لم يخرجوا من فراغ.