اتفاق الحدود البحرية: لبنان وإسرائيل معلّقان بين اللاحرب واللاسلم
مركز كارنيغي
2022-10-16 06:04
بقلم: مهى يحيَ
هذا الاتفاق التاريخي بعيدٌ كل البعد عن كونه اتفاق سلام، لكن باتت لدى الطرفَين الآن مصالح اقتصادية راسخة في الحفاظ على الهدوء على طول حدودهما البحرية المشتركة.
توصّل لبنان وإسرائيل يوم الثلاثاء إلى اتفاق تاريخي يضع بشكل رسمي حدًّا للنزاع حول حدودهما البحرية، ويأتي تتويجًا لمفاوضات غير مباشرة جرت خلال العقد الماضي بوساطة من الأمم المتحدة في بادئ الأمر ومن ثمّ الولايات المتحدة، ويُعتبر الأول من نوعه بين الدولتَين منذ وقف إطلاق النار بعد حرب تموز/يوليو 2006. ويسمح هذا الاتفاق بالتنقيب عن احتياطيات الغاز البحرية التي يُعتقد أنها موجودة على طول سواحل كلٍّ من البلدَين، في منطقة بحرية محدّدة بوضوح للبنان وأخرى لإسرائيل.
ولا يحدّد الاتفاق صيغة نهائية لوضع المناطق الحدودية البريّة المتنازع عليها، ويؤكد التعديل الذي أُجريَ في اللحظة الأخيرة أن العوّامات البحرية (المعروفة بخط الطفافات) التي وضعتها إسرائيل لترسيم حدودها البحرية ليست رسمية، حتى لو تمّت الإشارة إليها في الاتفاق. ووافقت الولايات المتحدة، في إطار الاتفاق، على توفير ضمانات أمنية لإسرائيل، في حال أقدم حزب الله على استهداف مصالح إسرائيلية، وحرمان التنظيم من أي حصة من عائدات الغاز.
لم يكن هذا الاتفاق ليتحقق لولا حدوث إجماع نادر بين الأحزاب السياسية اللبنانية، وحصوله على دعم الكتلتَين السياسيتَين الرئيستَين، أي التيار الوطني الحر وحزب الله. ويمنح هذا الاتفاق رئيس التيار ميشال عون، الذي تنتهي ولايته الرئاسية في 31 تشرين الأول/أكتوبر، فوزًا مهمًا في وقت تواجه البلاد أسوأ انهيار اقتصادي ومؤسساتي في تاريخها الحديث. وكان البنك الدولي قد وصف هذا الانهيار بالكساد المتعمّد بسبب عزوف القيادة السياسية في البلاد عن تطبيق الإصلاحات الهيكلية المطلوبة التي سترخي قبضتها عن مؤسسات الدولة وتُضعف شبكات المحسوبية التابعة لها. واليوم، خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها، ويُتوقّع أن يناهز التضخم نسبة 180 في المئة، فيما يعيش 60 في المئة من الشعب اللبناني في فقر مدقع.
يمكن تبرير دعم حزب الله للاتفاق في هذا السياق أيضًا. فقد أسفر الانهيار الاجتماعي والاقتصادي في كافة أرجاء البلاد عن استياء كبير في أوساط القاعدة الانتخابية للحزب. ويشكّل هذا الاتفاق بارقة أمل بإمكانية تحقيق نمو اقتصادي في المستقبل من شأنه انتشال لبنان من أزمته الحالية. علاوةً على ذلك، وعلى الرغم من التصعيد في خطاب حزب الله تجاه إسرائيل، واقع الحال هو أن أي نزاع عسكري سينشر الفوضى في عقر دار الحزب ويقوّض دوره التوسعي في المنطقة. نتيجةً لذلك، لا يبدو الحزب مستعدًا لخوض غمار الحرب. وقد ساهمت عوامل عدّة، كالديناميكيات الجيوسياسية وانشغال العالم بالنزاع الأوكراني والخطوات الرامية إلى خفض وتائر التصعيد في معظم الانقسامات ومناطق الصراعات الإقليمية، في تشكيل بيئة سياسية مؤاتية لإبرام الاتفاق.
في ما يتعلق بإسرائيل، من المرجّح أن يحقق لها هذا الاتفاق مكاسب اقتصادية كبيرة، إذ يحتوي حقل كاريش للغاز على 1.75 تريليون قدم مكعب من الغاز بقيمة 3 مليارات دولار أميركي، وفقًا للتقديرات الإسرائيلية. ويمكن اعتباره أيضًا نصرًا سياسيًا لرئيس الوزراء يائير لابيد على مشارف انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر التي سيحارب فيها بكل ما أوتي من قوة للحفاظ على الأكثرية التي يتمتع بها راهنًا في الكنيست.
لا يشكّل هذا الاتفاق بتاتًا معاهدة سلام بين لبنان وإسرائيل، لكنه يعني أن البلدَين وجدا مصالح اقتصادية راسخة لهما في الحفاظ على الهدوء في مناطقهما الحدودية المشتركة. ومن شأن ذلك أن يضفي أجواء من الاستقرار في منطقة ترزح تحت وطأة الاضطرابات المستمرة، وكذلك في لبنان الذي تغلب عليه آفاق قاتمة وضبابية. فغالب الظن أن يؤدّي الاتفاق إلى خفض التهديد القائم منذ فترة طويلة باندلاع حرب بين البلدَين، وقد يشرّع الأبواب، مع مرور الزمن، أمام مفاوضات سياسية بشأن الحدود البرية.
على المدى القريب، سيؤدّي الاتفاق إلى تنفيذ اتفاقَين آخرَين جرى التفاوض عليهما سابقًا لتزويد لبنان بالغاز من مصر وبالكهرباء من الأردن، عن طريق سورية في الحالتَين. يبدو أن هذَين الاتفاقَين قد عُلِّقا جزئيًا بسبب امتناع واشنطن عن قطع التزامات بإعفاء مصر والأردن من تبعات قانون قيصر، وهو قانون أميركي يفرض عقوبات على البلدان التي تقيم تعاملات واسعة مع سورية، من جملة أسباب أخرى.
على المدى المتوسط إلى الطويل، يؤمّن الاتفاق شريان حياة اقتصاديًا للبنان الذي يحتاج بشدّة إلى مشاريع مماثلة في هذه المرحلة. وعلى الرغم من أن المنافع الفعلية ستستغرق سنوات على الأرجح كي تتبلور، من شأن الأرباح التي يؤمَل تحقيقها من حقول الغاز المحتملة أن تساعد على التخفيف من حدّة الأزمة الاقتصادية وتمهّد الطريق للتعافي الاقتصادي. ولن تقتصر المكاسب على العائدات من حقول الغاز الفعلية، بل ستشمل أيضًا القطاعات ذات الصلة وتساهم في زيادة فرص العمل بصورة عامة.
ويتمثّل أحد الهواجس الأساسية التي تساور اللبنانيين في أنّ قيادتهم السياسية قد تستخدم هذا الاتفاق ذريعةً لرفض توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي ينص على تنفيذ عشرة بنود إصلاحية مقابل الحصول على مساعدة بقيمة 3 مليارات دولار من شأنها المساهمة في وضع البلاد على سكّة التعافي الاقتصادي. قد يعني ذلك أنّ الطبقة السياسية الحاكمة ستبدّد العائدات المتوقّعة من حقول الغاز للحفاظ على شبكات المحسوبية التابعة لها والاستمرار في تأجيل تنفيذ التغييرات البنيوية الضرورية. وستشتد في الوقت الراهن وطأة الضغوط المُمارسة على مجلس النواب لإنشاء صندوق ثروة سيادي بهدف الحفاظ على الموارد الوطنيّة المُدرّة للدخل للأجيال المُقبلة.
على المقلب الإسرائيلي، أثار تصديق الحكومة على الاتفاق عشية الانتخابات اعتراضات وشكوكًا حول شرعيته. فتشهد إسرائيل مطالبات بإجراء استفتاء حول الاتفاق، وتعلو أيضًا أصواتٌ تتحدث عن ضرورة أن يوافق الكنيست عليه، لا أن يكتفي فقط بمراجعته كما ترغب الحكومة.
لكنّ المشاغل الأمنية، والانتخابات الوشيكة، ومشارفة عهد عون على نهايته كانت أسبابًا ضاغطة دفعت بإسرائيل إلى الموافقة على الاتفاق. علاوةً على ذلك، شكّل توقيع إسرائيل على اتفاق بحري مماثل مع قبرص من دون استفتاء سابقةً مهمة. في هذا الإطار، يُستبعَد حدوث تعطيل داخلي للاتفاق في مرحلة ما بعد الانتخابات، بغض النظر عن نتائجها، ولا سيما في ضوء الدعم الكبير لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.
صحيحٌ أن هذا الاتفاق تاريخي من نواحٍ عدّة، إلا أنه لا يعني انتهاء العداوات. فلكي يتحقق ذلك، يجب حلّ النزاع الفلسطيني/الإسرائيلي. ولكن، في الوقت الراهن، يُظهر الاتفاق أن العلاقات بين لبنان وإسرائيل معلّقة بين اللاحرب واللاسلم.