الشرق الأوسط: انتخابات، استحقاقات... ووفيّات
عريب الرنتاوي
2022-09-13 06:50
عاشت منطقة الشرق الأوسط أسبوعاً حافلاً بالذكريات المُسترجعة... ذكريات فجّرها رحيلان كبيران: رحيل آخر رئيس للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، قبيل أيام فقط من رحيل ملكة بريطانيا اليزابيت الثانية... ذكريات لا تتصل بالماضي والتاريخ فحسب، فذيولها وتداعياتها حاضرة بقوة وستبقى مع هذه المنطقة، لسنوات وعقود قادمة. وتحبس هذه المنطقة أنفاسها بانتظار انتخابات واستحقاقات... انتخابات نصفية في الولايات المتحدة، يمكن أن تؤشر لهوية الساكن القادم للبيت الأبيض بعد عامين، وأخرى في إسرائيل ستقرر ما إن كان نتنياهو سيظل شبحاً مزعجاً أم أنه سيكون رئيساً للحكومة للمرة السادسة، وثالثة في لبنان الذي يقف على مفترق طرق بين الفراغ أو المفاجأة أو ربما "المزيد من الشيء ذاته".
رحيل غورباتشوف استدعى كالعادة، جدلاً لم يُحسم بعد، حول ما إن كان الرجل إصلاحياً مُجَدِداً، خانته الظروف والرفاق وسبقته التطورات، أم أنه كان ابناً غير شرعي، لـ"نظرية المؤامرة"، ورمزاً لواحدة من أكبر الخيانات في التاريخ... على أن النقاش الذي يحضر بحضور غورباتشوف أو غيابه، لا يتوقف عند تقييم الرجل و"دور الفرد في التاريخ"، بل بما تداعى عن انهيار الإمبراطورية السوفياتية/ الروسية من اختلالات في توازنات القوى و"المصالح" في الشرق الأوسط برمته، ما زالت تتفاعل حتى يومنا الحاضر، سيما في لحظة تشهد محاولات مستميتة لإعادة بعض وإحياء الإرث الإمبراطوري لروسيا، تدفع بـ "القيصر"، للجوء إلى "ولادات قيصرية" تسرّع في انبثاق لـ"العالم الروسي"، و"الفضاء الأوراسي" و"النظام العالمي متعدد الأقطاب".
أما سكان هذا الإقليم، بأممه الأربع الرئيسة من عربٍ وكردٍ وفرسٍ وأتراك، فكم كان صعباً عليهم، وهم يتابعون مراسيم وفاة الملكة الراحلة، وترسيم الملك القادم (ماتت الملكة... عاش الملك)، ويستمتعون بالمرويات عن التقاليد الملكية الراسخة في بريطانيا التي كانت عظمى ذات يوم، أن يفصلوا في أذهانهم المتخمة بذكريات التاريخ وأوجاعه، بين شخصية فذة رحلت عن هذه الدنيا، شأنها في ذلك شأن كل البشر من جهة، وإرث استعماري مديد ومرير من جهة ثانية، حافل بالكوارث والنكبات والتقسيم والوعود المشؤومة، وأزمات حدود أو أفخاخ وألغام موقوتة، لا وظيفة لها، سوى "إدامة" النزاعات والحروب المحلية المتناسلة في مرحلة ما بعد تصفية الاستعمار، وتمكين الدولة المُستعمِرة، من "إدارتها"، منفردةً كما اعتادت، أو إلى جانب شقيقاتها الكبريات.
لم يكن رحيل الملكة و"الأمين العام"، رحيلاً لشخصيتين وازنتين، تركتا بصمات لا تُمحى في تاريخ الإقليم والبشرية جمعاء فحسب، بل كان شهادة حيّة على رحيل امبراطورتين ملأ تأثيرهما الأرض والفضاء... وإذ جاء توقيت الرحيل بمثابة الصدفة المحضة، فإنها "صدفة تتكشف عن ضرورة"، أي لكأننا أمام رحيل "موقوت" بعناية، مع لحظة احتدام الصراع بين امبراطوريات قديمة وصاعدة، دولياً وإقليمياً على ملعب هذا الإقليم، الذي شهد الاختبار الأول على نهاية نظام القطبين وانبثاق نظام القطب الواحد في حرب الخليج الثانية قبل ثلاثة عقود، ويشهد اليوم أولى محاولة روسيا لاستعادة إرثها الامبراطوري بدءاً بأيلول 2015 في سوريا... هذا الإقليم كان ساحة لحروب الوكالة بين "بقايا النظام العربي ومُزقه"، وجوار إقليمي طامع لاستعادة أحلامه الإمبراطورية، من "العثمانية الجديدة"، إلى "الهلال الشيعي"، مروراً بـ"امبراطورية الحبشة" التي ذكرتنا صور أرشيفية للملكة جمعتها بالإمبراطور هيلا سيلاسي، بمحاولاتها استعادة أمجادها الداثرة واستئناف "نهضتها" على ضفاف النيل والمندب والقرن الأفريقي.
رحيل الملكة و"رئيس مجلس السوفييت الأعلى"، لم يُنسيا المنطقة أنها تقف على عتبة استحقاقات انتخابية هامة، سيكون لها أثرها على قوس أزماتها المفتوح، والممتد من اليمن إلى لبنان، مروراً بسوريا والعراق، ومن دون أن نغفل عن ذكر ليبيا... فالمنطقة تنتظر بشغف، نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي، ليس لأنها ستقرر ما إن كان جو بايدن سيحافظ على أغلبية مريحة في "المجلسين" أم لا، بل لأنها إشارة على تحولات الرأي العام الأمريكي واتجاهاته الجديدة، وسط إطلالة تكاد تكون يومية، لشبح دونالد ترامب، الذي يخيف بعضاً من قادة المنطقة ويثلج صدور آخرين... إسرائيل ومعظم دول الخليج ودول المسار "الإبراهيمي" عموماً، في شوق بالغ لترامب أو من هو على صورته وشاكلته، فيما الأردن وفلسطين أساساً، يتحسّبان لما قد يحمله في جعبته، وهو الذي بلغ حد المقامرة بأعمق مصالح الجانبين في المسألة الفلسطينية.
صحيح أن إدارة بايدن لم تفعل شيئاً نوعياً مختلفاً في الشرق الأوسط، ولم تعمد إلى "عكس" مسار ترامب وخطواته، وأن تمايزها عن الإدارة التي سبقتها، ظل لفظياً في أغلب الأوقات والحالات، لكن من الواجب الاعتراف بأن أداء إدارة ترامب، اتسم بالفجاجة، و"العدوانية" أحياناً، حتى بالنسبة لأصدقاء موثوقين لواشنطن مثل الأردن، الذي تنفس الصعداء منذ أن وضعت الانتخابات الرئاسية الأخيرة أوزارها لصالح جو بايدن، دع جانباً الفلسطينيين الذين حرص ترامب على تجريدهم من قدسهم وحقوقهم ودولتهم وتجفيف منابع حياتهم، بما فيها الأونروا، شريان الحياة لملايين اللاجئين منهم.
الاستحقاق الثاني، الخامس في غضون أقل من ثلاث سنوات في إسرائيل، انتخابات الكنيست الخامس والعشرين، حيث يطل شبح آخر برأسه غير المحبب لا للفلسطينيين ولا للأردنيين، ومعظم الإسرائيليين كذلك، ليس لأن حكومتي بينت ولبيد اللتين أعقبتا حكومة نتنياهو كانتا أفضل، بل أن الأداء الاستفزازي/ الاستعلائي (الشخصي) لنتنياهو عقّد فرص التواصل والحوار بين إسرائيل وجوارها، وأفضى إلى تناسل أزمات في علاقات إسرائيل مع كل من الأردن والسلطة، كانت فائضة عن الحاجة، سيما بوجود "فالق زلزالي" يفصل بين الفريقين، في كل ما يتصل بقضايا الحل النهائي للقضية الفلسطينية.
في الجوهر، يمكن القول، أن حكومة بينت /لبيد، كانت أكثر يمينية وتطرفاً من حكومات نتنياهو المتعاقبة... فقد تكرر رفضها لحل الدولتين صبح مساء، في حين قبل نتنياهو بهذا الحل، مرة واحدة على الأقل، في خطاب بار إيلان، وإن كان قبولاً مفخخاً ومراوغاً... ورفض بينت ولبيد الدخول في عملية سياسية تفاوضية مع الجانب الفلسطيني، مفضلين معادلة "الأمن مقابل الاقتصاد"، في حين انخرط نتنياهو في عملية سياسية مع الفلسطينيين، صحيح أنها كانت فارغة من كل مضمون، ولكنها مع ذلك كانت تنطوي على قدر من الاعتراف بوجود طرف آخر، ووجوب البحث عن "حل سياسي"، مع أن الرجل والحق يقال، كان سبّاقاً لخصومه من معسكر اليمين، في اجتراح نظرية "السلام الاقتصادي" بديلاً عن عملية السلام، لكنه لم يكن يخشى الأخيرة، أو يرفضها جملة وتفصيلاً، كما فعل خلفاؤه من اليمين واليمين الأكثر تطرفاً.
الأردن، أكثر من الفلسطينيين، يخشى عودة نتنياهو، ويعمل على قطع طرقها، لكن أدواته وفرص تأثيره في الانتخابات الإسرائيلية، تكاد تكون مقتصرة على بعض الأصوات العربية في إسرائيل، وبخلاف ذلك، لا يبدو أن للمحاولة الأردنية فرصاً جدية للنجاح.
الانتخابات في الولايات المتحدة وإسرائيل، سيكون لها انعكاس مباشر على أكثر ملفات المنطقة أهمية وخطورة: ملف إيران بتشعباته الثلاثة: البرنامج النووي، الصواريخ البالستية، والدور الإقليمي لإيران، وإذا كان من المرجح إرجاء الحسم بمصير مفاوضات فيينا إلى ما بعد انتخابات البلدين، فإن من المؤكد أن نتائج كل منهما، سيكون له انعكاسات مباشرة على فرص إبرام الاتفاق النووي، وعلى شكل وطبيعة العلاقة بين إيران وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
الاستحقاق الثالث، ويتجلى في الانتخابات الرئاسية اللبنانية، حيث يقف لبنان المنكوب بنخبه الحاكمة والمتحكمة، أمام أربعة احتمالات: فراغ رئاسي وسط جدل وانقسام حول جواز تسلم حكومة تصريف أعمال، لمهام الرئاسة الأولى وجمعها بمهام وصلاحيات الرئاسة الثالثة... نجاح حزب الله في تقديم رئيس للبنان من معسكره كما حصل في انتخابات الرئاسة الثانية، مستفيداً من انقسامات خصومه وشتاتهم... والثالثة: حدوث "المفاجأة" ونجاح خصوم الحزب في إيصال رئيس منهم، مع كل ما قد يفتحه ذلك من أبواب لصراع الرئاسات وتنازعها.... والاحتمال الرابع؛ الوصول إلى "رئيس تسوية" يكرس حالة المراوحة وانعدام الحسم، ويبقي لبنان نهباً لاتجاهات هبوب الريح المحلية والإقليمية.
من المرجح أن يفضي اقتراب الاستحقاقين الانتخابيين، اللبناني والإسرائيلي، إلى إرجاء إنجاز اتفاقٍ حول ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين، وتمديد المهل الزمنية والإنذارات المتبادلة بين الجانبين، على أمل أن يجري فتح الملف من كافة جوانبه فور انتهاء الانتخابات هنا وهناك... فليس من المنطقي أن يطلب إلى رئيس مُرتحل وحكومة تصريف أعمال من الجانب اللبناني إبرام اتفاق ذي طبيعة استراتيجية – سيادية، وإسرائيل في المقابل، لا تريد أن يندرج أي اتفاق مع لبنان، في إطار السجال الانتخابي بين الحكومة والمعارضة... الانتخابات المنتظرة، ستفضي على الأرجح إلى إرجاء الاستحقاقات في مجال الترسيم والطاقة وسباق الحرب والسلام بين البلدين.