سقوط بوريس جونسون ــ وسقوطنا
بروجيكت سنديكيت
2022-07-24 05:57
بقلم: روبرت سكيدلسكي
لندن ــ تنتهي كل السير السياسية تقريبا إلى الفشل، لكن بوريس جونسون أول رئيس وزراء بريطاني يُـطـاح به بسبب سلوكه الفاضح. وينبغي لهذا أن يثير انزعاجنا الشديد.
كانت حالات السقوط الثلاث الأكثر بروزا في تاريخ القادة البريطانيين في القرن العشرين راجعة إلى عوامل سياسية. سَـقَـطَ نيفيل تشامبرلين بسبب سياسته الاسترضائية الفاشلة. وأجبر الإخفاق التام في إدارة أزمة السويس أنطوني إيدن على الاستقالة في عام 1957. وسقطت مارجريت تاتشر في عام 1990 لأن المقاومة الشعبية لضريبة الاقتراع أقنعت نواب حزب المحافظين بأنهم لن يتمكنوا من الفوز مرة أخرى ما دامت قائدة لهم.
صحيح أن هارولد ماكميلان سقط في عام 1963 بسبب فضيحة بروفومو الجنسية، لكن تلك الفضيحة شملت وزير الدولة لشؤون الحرب وانتهاكات محتملة للأمن القومي. وكانت الهزائم الانتخابية في أعقاب فشل اقتصادي سببا في إسقاط إدوارد هيث وجيمس كالاهان في سبعينيات القرن العشرين. واضطر توني بلير إلى الاستقالة بسبب كارثة العراق وتلهف جوردون براون على خلافته. وتهاوى ديفيد كاميرون تحت وطأة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتيريزا ماي بسبب فشلها في إنجاز الخروج.
لن نجد أسبابا من هذا القبيل تفسر سقوط جونسون.
كان ديفيد لويد جورج، وهو زعيم أعظم كثيرا من جونسون، منافسه الوحيد في البؤس الأخلاقي. ولكن برغم أن بيع المقاعد في مجلس اللوردات، والأساليب الإدارية المبتذلة، وعدم الأمانة، كلها أسباب أضعفت لويد جورج، فإن السبب المباشر وراء سقوطه (قبل قرن من الزمان على وجه الدقة) كان سوء إدارته لأزمة تشاناك، التي دفعت بريطانيا وتركيا إلى شفا الحرب.
المقارنة الأكثر شيوعا هي مع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. كانت كل مخالفة يرتكبها جونسون يُـزاد عليها روتينيا اللاحقة "جيت" على غرار فضيحة ووترجيت التي قضت على نيكسون.
أطلق جون ماينارد كينز وصف "المحتال" على لويد جورج؛ من المعروف عن نيكسون أنه كان ينفي أنه محتال. لم يكن أي منهما، ولا جونسون، محتالا بالمعنى الفني للكلمة (إدانته بارتكاب جرائم الاحتيال)، لكن نيكسون كان لـيُـعـزَل في عام 1974 لولا استقالته، وقد دفع جونسون غرامة قدرها 50 جنيها إسترلينيا بسبب خرقه لقواعد الإغلاق. علاوة على ذلك، أظهر ثلاثتهم الازدراء للقوانين التي انتُـخِـبوا لدعمها وإنفاذها، ومعايير السلوك المتوقعة من المسؤولين الحكوميين.
الواقع أننا نجد صعوبة في وصف النقائص التي تعيب شخصياتهم: يبدو أن أوصافا مثل "عديم المبادئ" أو "لا أخلاقي" أو "معتاد الكذب" تعبر بدقة عن شخصية جونسون. لكن ذات الأوصاف تنطبق أيضا على قادة سياسيين أكثر نجاحا. لتفسير سقوطه، يتعين علينا أن ننظر في عاملين بعينهما في عصرنا.
الأول هو أننا لم نعد نميز بين الصفات الشخصية والصفات السياسية. في زمننا هذا، أصبح كل ما هو شخصي سياسيا حقا: فالإخفاقات الشخصية هي بحكم الواقع إخفاقات سياسية. لم يعد من الممكن التمييز بين الخاص والعام، بين الحس الشخصي الذاتي والواقع الموضوعي، بين النوازع الأخلاقية والدينية وتلك التي يتعين على الحكومة معالجتها.
الحق أن السياسة عَـبَـرَت إلى مملكة كان يحكمها في السابق الطب النفسي. كان من المحتم أن يحدث هذا بمجرد أن قوض الثراء الأساس الطبقي القديم الذي تقوم عليه السياسة. الآن، تهيمن على المساحات التي أخلتها سياسة التوزيع تساؤلات حول الهوية الشخصية تنشأ عن الـعِـرق، والنوع الاجتماعي، والتفضيل الجنسي، وما إلى ذلك. وأصبح تلافي التمييز، وليس معالجة التفاوت بين الناس، مهمة السياسة.
الواقع أن جونسون صنيعة سياسات الهوية وضحيتها في ذات الوقت. كان خطابه يدور حول "رفع المستوى" و"خدماتنا الصحية الوطنية". لكنه في الممارسة العملية، جعل شخصيته المحتوى الذي تتألف منه سياسته. لم يكن لأي قائد بريطاني سابق أن يهدر رأسماله الأخلاقي على مخالفات تافهة ومحاولات التستر، لأنهم كانوا يدركون ضرورة الحفاظ على رأسمالهم كذخيرة تستخدم في التعامل مع أحداث جسيمة. لكن الأحداث الجسيمة تدور الآن حول الذات، وعلى هذا فعندما يُـنـظَـر إلى الشخصية على أنها معيبة، فلن نجد قصة أخرى تُـروى.
كانت شخصية جونسون كسياسة أيضا صنيعة وسائل الإعلام. في الماضي، كانت الصحف تنقل الأخبار في الأغلب الأعم؛ والآن، بتركيزها على الشخصيات، باتت تصنعها. أفضى هذا التغير إلى نشوء علاقة فاسدة: حيث تستخدم الشخصيات وسائل الأعلام للترويج لأنفسها، وتفضح وسائل الأعلام نقائص هذه الشخصيات لبيع المزيد من النسخ.
كانت هناك دوما سوق ضخمة للشائعات الجنسية والمالية. ولكن حتى في "الصحافة الصفراء" القديمة، كان هناك مجال معترف به للأحداث العامة التي كانت تحظى بالأولوية. الآن أصبحت الشائعات والقيل والقال هي الأحداث العامة.
أدى هذا التطور إلى تغير جذري في التصورات العامة حول السمات التي يجب أن يتحلى بها القائد السياسي. لم تكن الأجيال السابقة من القادة السياسيين محتشمة تماما بأي حال من الأحوال. كانوا يكذبون، ويشربون، ويفسقون، ويقبلون الرشوة. لكن كل المعنيين بالسياسة أدركوا أهمية حماية المجال العام. كانت إخفاقات القادة الأخلاقية محمية إلى حد كبير من التدقيق، ما لم تكن سافرة. وحتى عندما كان عامة الناس يعلمون بها، فإنهم كانوا يصفحون عنها، شريطة أن يستمر القادة في تسليم المنافع سياسيا.
ما كانت أغلب الجرائم التي أدت إلى استقالة جونسون لتخرج إلى العلن في الماضي. لكن اليوم تبرر عقيدة المساءلة الشخصية تجريد القادة السياسيين من أقنعتهم. كل زلة وكل هفوة بعيدا عن التعبير الصحيح تتحول إلى "وصمة عار" أو "خزي" يدمر المصداقية. تعتمد قدرة الناس على العمل في المجال العام على الخصوصية. وبمجرد زوال الخصوصية، تتلاشى قدرتهم على التصرف بفعالية عندما يحتاجون إلى التواري عن الأعين.
يتمثل العامل الجديد الآخر في أن السياسة لم يعد يُـنـظَـر إليها على أنها مهنة بقدر ما هي نقطة انطلاق إلى المال. إن هوس وسائل الإعلام بالقيمة المالية التي قد تُـجنى من الحياة المهنية السياسية، وليس ما إذا كان الساسة جديرون بوظائفهم، من المحتم أن يؤثر على ما يتوقع الطموحون سياسيا أن يتمكنوا من إنجازه ونظرة عامة الناس لما يمكن توقعه منهم. يُـقـال إن بلير جمع الملايين من مناسبات الحديث والاستشارات منذ ترك منصبه. تماشيا مع العصر، قدرت صحيفة تايمز كم الأموال التي ربما كسبها جونسون من رسوم التحدث وصفقات الكتب، ومقدار تجاوز ثروته لثروة تيريزا ماي.
في خطاب الاستقالة، سعى جونسون إلى الدفاع عن "أفضل وظيفة في العالم" بالاستعانة بمصطلحات تقليدية، في حين انتقد "شذوذ" إقالته في منتصف سعيه إلى الوفاء بوعوده. لكن هذا الدفاع عن رئاسته للحكومة بدا أقرب إلى الرياء، لأن مسيرته المهنية لم تكن شاهدا على كلماته. لم يكن سبب سقوطه افتقاره المتصور إلى الأخلاق فحسب، بل وأيضا افتقاده الملحوظ لبوصلة سياسية. في حالة جونسون، فَـضَـح الجانب الشخصي ببساطة خواء الجانب السياسي.