الاحتواء يبدأ من الداخل
بروجيكت سنديكيت
2015-08-10 05:20
نينا خروشوفا
نيويورك ــ في وقت سابق من هذا الشهر، قام محمد يوسف عبد العزيز، وهو مواطن أميركي من أصول شرق أوسطية في الرابعة والعشرين من العمر، بإطلاق النار باتجاه موقعين عسكريين في تشاتانوجا بولاية تينيسي؛ فقتل خمسة أشخاص. وكان هذا الحدث من الرعب المحلي على قدر كبير من الأهمية على المستوى الوطني أيضا، لأنه يبرر تحذير الدبلوماسي والخبير الاستراتيجي الأميركي الراحل جورج كينان، والذي يؤكد فيه أن صناع السياسة الخارجية الأميركية ينبغي لهم أن يكبحوا جِماح رغبتهم الملحة في التدخل، وخاصة عسكريا. فلا أحد يدري متى قد تأتي ردة الفعل الانتقامية، ولكنها آتية لا محالة، كما حذر كينان.
الواقع أن العواقب التي لا يمكن التنبؤ بها كانت على وجه التحديد ما شغل ذهن كينان عندما هاجمت الولايات المتحدة أفغانستان في عام 2001 ثم العراق بعد عامين. فلم يكن من قبيل المصادفة أن يرتبط العديد من أولئك الذين كانت تقاتلهم الولايات المتحدة في أفغانستان، بما في ذلك أسامة بن لادن ذاته، بالمجاهدين، الذين كانوا ينتمون إلى وحدات من المحاربين المسلمين اتخذت هيئة عصابات مسلحة وتولت قوات أميركية تدريبهم كمتمردين خلال الاحتلال السوفييتي لأفغانستان في الفترة 1979-1989. وعلى نحو مماثل، سلحت الولايات المتحدة العراق في عهد صدّام حسين لكي تخوض حرباً ضد إيران في ثمانينيات القرن العشرين.
وبعد الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001، سأل الأميركيون أنفسهم "لماذا يكرهوننا؟" ولكن برغم أن الولايات المتحدة لم تشهد أي هجوم على أراضيها منذ ذلك الحين، فقد واصلت إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، بلا ضابط أو رابط، تدمير بلدين مسلمين ــ واستمر الدمار إلى ما بعد فترة ولاية بوش في ظل حملة متزايدة الشراسة من الغارات الجوية بطائرات بدون طيار.
وقد ساعدت هذه السياسات في دفع أفغانستان إلى هاوية فشل الدولة، في حين فتحت الطريق أمام تنظيم الدولة الإسلامية للاستيلاء على أكثر من ثلث الأراضي العراقية. وأصبحت مشاعر الاستياء والسخط الناجمة عن ذلك في هذين البلدين ومختلف أنحاء العالم الإسلامي محسوسة على نحو متزايد في أوروبا ــ والآن بدأت تظهر في الولايات المتحدة أيضا.
من المؤكد أن المحققين الجنائيين في الولايات المتحدة لم يتوصلوا رسمياً إلى تحديد دوافع عبد العزيز الكويتي المولد، والذي لا يبدو أنه كان منتمياً إلى شبكة إرهابية. ولكن هناك الكثير من السوابق المماثلة لشباب نشأوا في الغرب وسط مشاعر الغربة والإحباط (تلقى عبد العزيز دراسته الثانوية والجامعية في تشاتانوجا)، ثم بحثوا عن قضية تستحق أن يقاتلوا من أجلها ــ لكي يجدوا ضالتهم في المهانة الملحوظة التي يتعرض لها الإسلام على يد أميركا والغرب.
بطبيعة الحال، بمجرد ظهور كلمة "إسلام"، تبدأ وسائل الإعلام الغربية في تصوير مثل هؤلاء "الذئاب المنفردة" في هيئة عملاء لمؤامرة إسلامية كبرى، وليس مجرد أفراد يائسين يعانون من جراح عميقة. وهذا التفسير من شأنه أن يجعل فهم التصرف أكثر سهولة: فأي عنصر في شبكة إرهابية من الممكن أن يُرغَم ــ بل وحتى قد يخضع لعملية غسل دماغ ــ على شن مثل هذا الهجوم. ولكن عندما يكون المهاجم فرداً منعزلا ــ خاصة وإن كان مواطناً أميركيا ــ فإن هذا يثير تساؤلات جدية حول النظام الذي سمح بنشوء مثل هذا القاتل أو القاتلة (ولو إنه يكاد يكون من الذكور دائماً في مثل هذه الحالات).
وفقاً لبعض التقارير الصحفية، شعر عبد العزيز بالفشل إزاء عجزه عن تلبية معيار النجاح في أميركا، والذي يشكل المال المقياس الأساسي له. ورغم أنه لم يُظهِر تديناً عميقا، فيقال إنه امتدح رجل الدين الراحل المولود في الولايات المتحدة والمنتمي إلى تنظيم القاعدة أنور العولقي، والمؤيد للهجمات على أميركا "المنافقة"، كنموذج للانتصار على الفشل.
وينبع سؤال آخر حول نظام الولايات المتحدة من رفض شركة التأمين الصحي على عبد العزيز الموافقة على مشاركته في برنامج معالجة إدمان المخدرات والكحول داخل المستشفى. هذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها الولايات المتحدة جريمة قتل جماعية على يد شخص تجاهلت قضايا تتعلق بصحته النفسية، بما في ذلك الإدمان. ولكن هل يعكس هذا فشلاً جهازيا؟ والسؤال الأكثر جوهرية هو: هل يتناقض هذا مع مبادئ أميركا؟
بدلاً من النظر في مثل هذه التساؤلات، تصر الولايات المتحدة على التركيز على آفة التطرف الإسلامي الخارجية. وقد أدرك كينان هذا الميل قبل عقود من الزمان، عندما حذر من أن السياسات القصيرة النظر في الداخل والخارج وضعت أميركا في موقف ضعف بالفعل. وقد نصح الولايات المتحدة بالتعلم من أخطاء أعدائها، بما في ذلك روسيا، بدلاً من التباهي بتفوقها.
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شبه كينان حرب إدارة بوش العالمية على الإرهاب بحرب روسيا ضد الانفصاليين الشيشان في شمال القوقاز. فعندما تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وعد أول رئيس لروسيا بوريس يلتسين رعايا الشيشان بمنحهم "أكبر قدر من السيادة يمكنهم تحمله". والواقع أن الشيشان، الذين سعوا إلى نيل الاستقلال عن روسيا لقرون من الزمان، اعتبروا هذا الوعد فرصة لتقرير المصير. ولكن يلتسين، الذي لم يكن راغباً في خسارة المزيد من الأراضي بعد التفكك الأولي للاتحاد الاتحاد السوفييتي، تراجع عن تعهداته.
وفي عام 1993، اندلعت حرب الشيشان الأولى. وتمكنت روسيا من إلحاق الهزيمة بالانفصاليين والحفاظ على سيطرتها على الشيشان. ولكنه كان نصراً باهظ الثمن، لأنه كان السبب في دفع العديد من الشيشان المحبطين والغاضبين نحو التعصب الديني.
ونتيجة لهذا، فعندما بدأت حرب الشيشان الثانية في عام 1999، لم تعد المعركة تدور حول استقلال الشيشان عن روسيا فحسب؛ بل تحولت إلى قِتال في سبيل الإسلام ضد المسيحيين في كل مكان. ومرة أخرى نجحت روسيا، في عهد فلاديمير بوتن، خليفة يلتسين، في إلحاق الهزيمة بالانفصاليين، واستعادة السيطرة الفيدرالية على الإقليم. وبعد خمسة عشر عاما، يقاتل المتطرفون الشيشان الآن جنباً إلى جنب مع تنظيم الدولة الإسلامية.
ربما يعترض البعض على تشبيه رغبة أميركا في تصدير الديمقراطية على فوهة البندقية بتشنجات احتضار الإمبراطورية الروسية في عهد يلتسين وبوتن. ولكن سواء شئنا أم أبينا، هناك أوجه تشابه قوية بين الحالتين: فكل من البلدين، كما يرى كثيرون، يملي أوامره على المسلمين.
والواقع أن كينان كان أول من لفت انتباهي إلى هذا التشابه، عندما لاحظ في محادثة خاصة دارت بيننا حول الحادي عشر من سبتمبر أن العديد من المسلمين لم يعد بوسعهم التمييز بين روسيا والغرب. ففي نظرهم، كل من الكيانين دولة علمانية معادية للإسلام.
وقد حذر كينان من أنه كما تسببت حرب الشيشان الأولى في توليد مشاعر الاستياء على المستويين الوطني والفردي، فإن حروب أميركا في أفغانستان والعراق لن تؤدي إلا إلى تأجيج المزيد من مشاعر الكراهية والإحباط ــ وهي المشاعر التي سوف تنفجر في وجه الولايات المتحدة في نهاية المطاف. وأضاف كينان: "إن الفشل في توفيق النظام وملاءمته يدفع الناس إلى مهاجمة ذلك النظام. لذا فمن غير الحكمة أبداً أن نقصف الأمم بالقنابل في سبيل الحرية".