الاتجاه الديالكتيكي في المدرسة الاقتصادية النمساوية
حاتم حميد محسن
2015-07-27 08:00
مقدمة
ان استخدام الكلاسيك الجدد لمفهوم التوازن يعبّر عن نموذج وضعي للفكر. اما الاتجاهات المغايرة بدءاً من الاقتصاد الماركسي والنمساوي وحتى ما بعد الكنزيين فهي تجسد نموذجا ديالكتيكيا للفكر في رفضها المشترك لتوازن الكلاسيك الجدد. هذه الورقة تعتمد على اعمال سيابارا(1)، التي يجادل فيها بان الاقتصاديين الماركسيين والنمساويين يشتركون بنفس الاتجاه الفكري الميثدولوجي. هو يرى ان جوهر الديالكتيك هو في اعتبار العمليات هي الاساس.
كانت المدرسة النمساوية في الفكر الاقتصادي تميزت اساسا بالمنهجية الديالكتيكية، وهي بهذا تشترك بنفس التراث مع الماركسية. هذه الرسالة مع انها لم تكن سهلة الفهم لكنها حظيت بالإعجاب من جانب تيار التحرريين، وبالذات النقاشات العلمية للاقتصاديين النمساويين. سوف نفحص هنا فهم سيابارا للديالكتيك ومن ثم تطبيقات الفكرة لدى الاقتصاديين النمساويين وبالذات لدى (هايك)(2).
تجدر الاشارة الى انه: 1- مع ان سيابارا ليس ماركسيا، لكن عمله يشكل تفسيرا صادقا وحماسيا لماركس 2- فكرة سيابارا عن الديالكتيك هي محاولة فكرية عميقة للاستيعاب الجيد لما يعتبرها القضية المنهجية الاساسية للاقتصاد 3- يطرح سيابارا موقفا مقنعا عن المنهجية الديالكتيكية الضمنية لدى الاقتصاديين النمساوين 4- يشكل عمل سيابارا تحديا للمنهجية غير الديالكتيكية لأرثودكسية الكلاسيك الجدد، ويوفر اساسا لمحادثات واسعة ليس فقط بين الاقتصاديين الماركسيين والنمساويين وانما بين العناصر الاخرى للتيار المغاير(heterodoxy)، مثل مدرسة افكار ما بعد الكنزيين.
تعريف الديالكتيك
سننظر في النقاط الرئيسية في عرض سيابارا وفهمه للاتجاه الديالكتي، مع ملاحظة عمق واتساع الاتجاه الذي تبنّاه. سنتطرق الى المظاهر الشائكة في فهمه للديالكتيك، والى القضية الرئيسية في موقفه من قانون عدم التناقض ومنزلة التناقض من وجهة النظر الديالكتيكية.
ماذا يعني سيابارا بالديالكتيك؟ جوابه جاء في التعريفات الرئيسية التالية :
"الديالكتيك يتطلب فحص الكل (whole) زمانيا (في لحظة زمنية معينة) وتاريخيا ( وفق الطريقة التي تطورت بها الظاهرة او اللغة عبر الزمن). في المنظور الاول، انه يتناول الاجزاء باعتبارها مترابطة منهجيا، مكونة الكل، بينما هي تتشكل منه. اما من الناحية التاريخية، يُفهم الديالكتيك كأي نظام ينشأ عبر الزمن، له ماضي وحاضر ومستقبل. انه يرفض فصل العناصر والاحداث والمشاكل والقضايا عن بعضها او عن النظام الذي تشكله تلك العناصر مجتمعة... المفكر الديالكتيكي يسعى ليس فقط للفهم النقدي للنظام، وانما ليغيّره بشكل جوهري".
"الديالكتيك هو توجّه نحو تحليلات نصية للعلاقات المنهجية والديناميكية للعناصر ضمن الكلية... (الديالكتيك هو اسلوب للتفكير يؤكد على مركزية النص في التحليل – وتغيير – الانظمة الاجتماعية بمرور الزمن. انه يوفر بناءا منهجيا من الادوات التحليلية التي تمكّننا من مباشرة فعل منهجي لتحقيق هدف معين، اي، الفهم الصحيح للواقع وتحويله. في الاتجاه الديالكتيكي، يتم ادراك مظاهر الكلية منهجيا – اي، طبقا لارتباطاتها المكانية او الزمانية – وديناميكيا – اي، طبقا لترابطاتها المتطورة تاريخيا. السمة المتكررة للتحقيق الديالكتيكي هي فهم الشيء عبر دراسة مظاهره المترابطة، الواقعة ضمن نظام محدد منهجيا ومفهوم بمرور الزمن، ومنطوي على الماضي والحاضر والتجسيدات المحتملة للمستقبل.
هذه التعريفات الهامة وما تنطوي عليه من عناصر سوف تفرح الهيجليين والنمساويين والماركسيين ومفكري الانظمة ومابعد الكنزيين.
وهناك تعريفات اخرى تتضمن عدة جوانب من تعريف سيابارا : "الديالكتيك هو طريقة في التفكير. المنظور الديالكتيكي يركز ليس على العلاقات الخارجية بين عناصر ثابتة، وانما على العلاقات الداخلية الديناميكية. هذه العلاقات تشكل وتتشكل بعناصر من الكل قيد التحقيق"." الديالكتيك يعيد بناء تفكيرنا حول الواقع عبر استبدال فكرة الاحساس المشترك بـ "الشيء"، كشيء له تاريخ وارتباطات خارجية مع اشياء اخرى، بفكرة "العمليات"، التي تحتوي على تاريخ وامكانية المستقبل، و"علاقات" كجزء من ارتباطها بعلاقات اخرى.
نقطة هامة تبرز من تعريفات الديالكتيك تشير الى ان الاحساس الديالكتيكي يبدأ بـ "الواقع الملموس"، او "العالم كما يجسد ذاته لنا". انه يهدف الى "فكر ملموس"، فيه العقل يعيد تشكيل الكل ككلية (totality)، اي، كبناء او وحدة مركبة من علاقات متعددة الابعاد وبدرجات مختلفة من التعقيد.. هذه الحركة من "الواقع الملموس" الى "الفكر الملموس" غير ممكنة بدون عملية من التجريد". هنا يقوم سيابارا بإعادة التأكيد على رؤية ماركس بان "الملموس هو ملموس لأنه تكثيف لعدة قوى، ومن ثم لوحدة التنوع... ان الطريقة في الانبثاق من المجرد الى الملموس هي الطريقة الوحيدة التي يكيّف بها الفكر للملموس، يعيد انتاجه كملموس في الذهن"(ماركس،Grundrisse 101).
ان سيابارا على وعي تام بان عملية التجريد، التي تلعب دورا حاسما في تكييف الملموس واقعيا كملموس مثالي، هي عملية ذات خطين، اي انها عملية من لحظات تحليلية وتركيبية: "عملية التجريد هي عملية رسم حدود.. في رسم الحدود التي تحدد وحداتنا التحليلية، نحن لا نزيل الاجزاء من الكل. الوحدات ذاتها هي علاقات.. عملية التجريد.. تتطلب عملية ملازمة من التكامل. لا يستطيع احد التجريد بدون تكامل، ولا يستطيع احد ايضا التكامل بدون التجريد. لكي نفصل بين الاثنين، يرى سيابارا، يجب ان نقوم بتحويل المفهوم المجرد الى شيء مادي وهو ما يسميه reification (3). هذا المفهوم هو هام جدا في عمل سيابارا.
ان فكرة النص هي جوهر مفهوم سيابارا عن الديالكتيك، وهو يتكرر في كل الصفحات. اكثر التعريفات الملائمة الواردة في القواميس للنص هو " بناء مركب من مقاطع مترابطة يُنظر اليها من حيث صلتها باي من الاجزاء المكونة له. وبتمديد المفهوم نحن نستطيع بوضوح تطبيقه ليس فقط على المقاطع الادبية وانما على العالم كله او على اي جزء منه يُفهم ككل مترابط. يشير سيابارا بموافقته على الكلمة المشتقة من الاصل اللاتيني "ينسج خيوط القماش الى بعضها".
نقد ديالكتيك سيابارا
في معرض النقد هنا لا نعني ان سيابارا خاطئا او فاشلا امام العالم، وانما الهدف الانخراط مع مساهماته والبحث عن طرق الى الامام بروح من الانفتاح تجاه ادّعاء بعض الكتاب المعاصرين عدم كشفه للارضية المشتركة. سيابارا يفهم (الكل) بطريقة مختلفة. في الاتجاه الديالكتيكي الحقيقي، يُفهم الكل كشيء في العالم فيه بناء ديالكتيكي داخلي يحتوي على التناقضات التي تدفعه دائما الى الامام. لكن الكل لدى سيابارا لا يبدو حول العالم وانما حول فهمنا له، انه حول الابستيمولوجي وليس الانطولوجي. الكلية بهذا ليس شيئا في الخارج نسعى لفهمه وانما هو فكرة او نموذج في ذهننا ينتج عن محاولة فهم العالم. فلا اشارة بان هذا النموذج الذهني يتطابق مع اي شيء موضوعي. هو يقول ان الديالكتيك هو اسلوب للتفكير وليس الاسلوب للتفكير الذي نحن ملزمين بتبنّيه بواسطة الطبيعة الديالكتيكية التناقضية للعالم الذي نعيش فيه.
القضية الاخرى التي هي مثار للنقد هي حول قانون عدم التناقض.
القوانين الثلاثة للمنطق الرسمي هي:
1- قانون التناقض – الشيء لا يمكن ان يوجد ولا يوجد في نفس الوقت.
2- قانون الوسط المستبعد – الشيء اما يوجد او لا يوجد، لا وسط بينهما.
3- قانون الهوية – الشيء دائما مطابق لذاته.
جميع هذه القوانين الثلاثة تُنتهك في الديالكتيك. لو اخذنا مثال "البداية" وهو المثال الذي يشير اليه هيجل في (مدخل لعلم المنطق). عندما ننظر في بداية اي شيء، فان الشيء يكون في كلا الحالتين:
أ- هو
ب- ليس هو
كل من (أ) و (ب) صحيحان، لأنه اذا كانت (أ) وحدها صحيحة فان الشيء يكون بدأ سلفا، واذا كانت (ب) وحدها صحيحة فان الشيء لن يبدأ بعد.
القانون(1) يُنتهك بحقيقة ان الشيء ذاته يوجد ولا يوجد.
القانون(2) يُنتهك لأن البداية هي بالضبط الوسط بين عدم وجود الشيء (قبل بدايته)، ووجوده (فيما بعد).
القانون (3) يُنتهك لأن الشيء ليس دائما مطابق لذاته، وانما يتغير، في تناقض مع نفسه، يتحرك قدما من لحظة الى اخرى، من اللاوجود الى الوجود. ما موجود في لحظة معينة ليس هو في لحظة اخرى، انه في تحول دائم.
الطريقة الوحيدة التي يمكن تطبيق القوانين الثلاثة بها هي تجميد الزمن. في لحظة واحدة من الزمن ومع اعتبار قيود المنطق في اقصر فاصلة زمنية، فان القوانين الثلاثة تصلح للعمل، ولن تكون هناك تناقضات. غير ان هذا تجريد مفيد بلاشك لكنه لا يجسد الواقع. هذا هو جوهر الديالكتيك الذي يتفق عليه كل من هيجل وماركس. وفي الضد من ذلك يأتي كانط الذي يعتبر التناقضات ليست الجوهر، وانما هي شيء ما ظاهري وليست شيئا موجودا في العالم، هي خطأ او عدم كفاية في الطريقة التي نتصور بها العالم. الديالكتيك ليس بديلا عن المنطق الرسمي، كلاهما صالحان حينما يُطبّقان بشكل صحيح.
ديالكتيك هايك
الآن سنحاول تلخيص حجة سيابارا بان عمل هايك كان مرتكزا على اتجاه ديالكتيكي لمشكلة تأسيس علم اجتماعي غير اختزالي.
وبعيدا عن التفاصيل، يلاحظ سيبارا الجذور المشتركة لوجهات النظر النمساوية والماركسية في التقاليد الارسطية والفلسفة الالمانية الكلاسيكية والتنوير الاسكتلندي. هو يربط هذا مباشرة بديناميتها ورفضها للتوازن الثابت للارثودكسية الكلاسيكية الجديدة، ورفضها لحدودها الضيقة المتعددة الحقول:
"النمساويون والماركسيون كانت لديهم دائما المقدرة لإثارة اسئلة اساسية متشابهة. كلا المدرستين من الفكر كانت متأثرة فكريا بمجموعة من التقاليد الارسطية والالمانية والاسكتلندية. كلاهما يشتركان بالرؤية بان الواقع الاجتماعي هو عملية ديناميكية تتشكل بواسطة الفعل الانساني. كلاهما ينتقد التحليلات الاقتصادية السائدة والثابتة والمرتكزة على التوازن. كلاهما يرفض الفصل بين العالم الاقتصادي والكل الاجتماعي العضوي حيث الاول جزء من الاخير".
سيابارا لا يقول بان هايك ادّعى صراحة تبنّيه الاتجاه الديالكتيكي. فكيف اذاً يكون ديالكتيكيا؟ "الديالكتيك لا غنى عنه للعقل المفكر. هو مظهر للتفكير... من الممكن ان نجد تجليات لقدرة الذهن الديالكتيكية حتى بين المفكرين غير الديالكتيكيين. يقتبس سيابارا من تروتسكي " كل فرد هو ديالكتيكي بدرجة او باخرى، في اغلب الحالات، بلا وعي". اذاً ما هو الاساس الذي اعتمد عليه سيابارا في الادّعاء باللحظة الديالكتيكية الهامة في فكر هايك؟
اساسا، ادّعاء سيابارا هو ان هايك لديه اتجاه ديالكتيكي يتمثل بفهمه للعلاقات العضوية بين الافراد الذين يؤلفون المجتمع الذي يندغمون فيه والذي يقرر معنى ما يقومون به: "الطريقة الديالكتيكية، كما استُخدمت من قبل ماركس وهايك، تحتفظ بالتكامل التحليلي والوحدة العضوية للكل.. انها تتجنب التجزئة، اي، انها تتجنب فصل الجزء من الكل. الطريقة الديالكتيكية تعترف بان ما يمكن فصله في الفكر لا يمكن فصله في الواقع". ان الوحدة العضوية، كما يرى هايك، تقيم في الكل، لكن الكل ليس تراكما لأشياء مُلاحظة انفراديا. انه يتألف من تراكيب من العلاقات تُدرك من خلال عدسة النظرية. هذه التراكيب هي متواصلة وقابلة للتطبيق على المجتمع العضوي.
لكي يوضح، يقتبس سيابارا من (النظام الحسي لهايك):"كما في الاحياء البايولوجية نحن عادة نلاحظ في التكوينات الاجتماعية العفوية ان الاجزاء تتحرك كما لو ان هدفها هو الحفاظ على الكل.. في العالم الاجتماعي هذه الحركات العفوية تحافظ على ارتباطات هيكلية معينة بين الاجزاء". هو ربما اقتبس جيدا مقطعا يضع المكانة النظرية للفرد في اتجاه هايك: "الافراد هم النقطة المركزية في شبكة العلاقات". هذا هو عالم بعيد عن تصور الكلاسيكيين الجدد مثل ملتن فريدمن الذي يؤكد على ان الاقتصاد هو دراسة "مجموعة من روبنسن كروسو".
في الفصل الاول من "الديالكتيك الهاييكي" يحدد سيابارا القضية الاساسية بقوله: "الفردية الميثدولوجيكية.. عادة جرى تشخيصها بالذرية، الاختزالية، والتاريخية. قيل ان الكل هو مجرد مجموع اجزاءه. انه يرى الفرد او الجزء هو الاهمية الابستمولوجية الرئيسية، ويركّب الكل من خلال عملية تحليلية مضافة". هذا هو بالضبط ما يقوم به الارثودكسي، يقارن (دينس) الاختزالية الميثدولوجيكية لهؤلاء الكلاسيك الجدد امثال (فريدمن) و(لوكاس) مع الميثدولوجيكية الكلية (holism) لهايك وسمث. سيابارا يدافع عن هايك ضد تهمة الذرية: هو مهتم بفهم الكل ككلية. "انها عملية تشويه حين ننظر الى اتجاه هايك اما فردي او كلي. طريقة هايك هي ديالكتيكية في الجوهر، تضم عناصر من الفردانية والكلية.. الفحص المفصل لنموذج هايك في التحقيق يشير الى انه كان ديالكتيكيا الى حد كبير في عدة طرق هامة".
"في جميع كتابات هايك، هناك تأكيد حاسم على اهمية السياق المنهجي والتاريخي، وعلى الوحدة العضوية المعقدة والمتطورة للعالم الاجتماعي. هذا الفهم يشكل جوهر الطريقة المعقدة اللااختزالية للتحقيق الاجتماعي. كل من هايك وبوبر يجادلان ضد الاختزالية في العلوم الاجتماعية طالما ان المجتمع اكبر من مجموع اجزاءه. الاختزالية تثق بالاسطورة التاريخية حسب رؤية بروبر لأنها ترى الكائن البشري نوعا ما ايجابي. وكما يجادل بروبر ان اسلاف الانسان كانوا اجتماعيين قبل ان يكونوا اناسا... الناس هم نتاج للحياة في المجتمع بدلا من ان يكونوا الخالقين له.. هايك يرى ان الفرد، العقل، الاخلاق، الثقافة هي سمات طارئة للتطور الاجتماعي. هو يؤكد بان لا يوجد هناك مفهوم للفرد غير مرتبط بالبناء التاريخي والاجتماعي المعين، هو يرى تبادلا معقدا بين الاجزاء والكل".
استنتاج
الهدف من قراءة اعمال سيابارا هنا هو اولا، لتسليط الضوء على ارضية مشتركة وعلى مساحة الاتفاق، وثانيا، لنبيّن النقاط و دالمساحات التي يمكن فيها تقوية تصورات سيابارا وتجسيداته للديالكتيك، حيث انه حالما يُوضّح منطقهُ الخاص، سيكون اشارة نحو فهم جديد.
هناك الكثير لدى سياباريا يمكن تطويره وتمديده بشكل بنّاء. الاتجاه الاكثر وضوحا للبحث هنا هو موقف كنز. جادل سيابارا بان الاقتصاديين النمساويين – وبلا وعي – هم ديالكتيكيين. وعلى خلفية مشابهة يمكن للمرء بناء حجة قوية بان (النظرية العامة) لكنز تمثل رؤية وطريقة ديالكتيكية عميقة. كنز يتبنى وجهة نظر عضوية او كلية في (النظرية العامة)، حين عارض "اختزالية" ما سماه المدرسة الكلاسيكية. نقطة سيابارا الرئيسية حول ميثدولوجيا هايك هي ان"العضوية" لديه تمثل توجّها ديالكتيكيا ضمنيا، اما نظيرتها "الذرية"(الاختزالية)، هي مساوية لرفض الديالكتيك.
اول موقف لكلية كنز او الديالكتيك يتعلق بتبنّيه صيغة ماركس في دورة السلع، حيث (C- M –C*)، و رأس المال (M –C –M*). الصيغة الاولى تقول ان السلعة او القيمة الاستعمالية تُباع من اجل شراء سلعة اخرى: الفرق بين السلعة الاولى (C) والسلعة الثانية (C*) هو نوعي. اما الصيغة الثانية تقول ان النقود(M) تُستبدل بالسلع من اجل بيع سلع واكتساب المزيد من النقود: الفرق بين (M) و (M*) هو كمي. كنز يشير الى ان الاولى هي موقف المستهلك الخاص، بينما الثانية تمثل موقف الشركات. هنا نقف على رؤية سيابارا الجوهرية في التفكير الديالكتيكي. نجد ايضا اعترافا ضمنيا بان ظهور الرأسمالية من الأبسط، والمزيد من وسائل الانتاج يستلزم انقلابا ديالكتيكيا وتحولا من النوعي الى الكمي.
اما من وجهة نظر الشركات، فان هيكل الحوافز في ظل الرأسمالية، يتطلب تناقضات، وحسب رؤية كنز: رغم اننا نتصرف كما لو ان الانتاج يتم لأجل ذاته، لكن هذا لا يمكن ان يكون صادقا. يشير كنز مرارا وتكرارا في كتابه (النظرية العامة) الى ان الاستهلاك هو الفعالية الاقتصادية الوحيدة التي تعتبر هدف ووسيلة. ذلك لأن الانتاج يجب ان يُفعّل عبر الاستهلاك لكي يُعد انتاجا: المخرجات يجب ان تباع لكي تتحول مجددا الى نقود، وهي في الحقيقة اكثر نقودا مما بدأنا به. ان إخضاع الغايات للوسائل، او الاستهلاك للانتاج يعني ضمنا ان الرأسمالية تضع باستمرار عائقا متجددا للتراكم على شكل (تحت – الاستهلاك) وفشلا في الطلب المتراكم. طريقة كنز هذه تنسجم جيدا مع تعريف سيابارا للديالكتيك.
يلخص كنز موقفه هذا في (النظرية العامة) بالعبارة التالية:
".... انا سميت نظريتي بالعامة. لأني مهتم بشكل رئيسي بسلوك النظام الاقتصادي ككل.. وانا اجزم بان اخطاء هامة وقعت عند التوسع في النظام حينما تم الوصول الى استنتاجات كلية صحيحة بشأن جزء منه جرى التعامل معه بشكل انفرادي".
كنز هنا يشير بوضوح الى ضرورة التمييز بين اتجاهين: فمن جهة، نحن نشتق استنتاجات صحيحة من دراسة الاقتصاد الجزئي حين تُدرس الظاهرة على انفراد، ولكن حين نمدد تلك الاستنتاجات الى ظاهرة الاقتصاد الكلي فسنرتكب الاخطاء، ومن جهة اخرى، الاتجاه الصحيح في الكلي او (الماكرو) هو ما يُطلق عليه الآن بـ اتجاه الانظمة، يهدف الى اختبار سلوك النظام الاقتصادي ككل. وهذا بالضبط ما شخّصه سيابارا بالارتباط الديالكتيكي بين الجزئي والكلي.
رؤية كنز هذه استمرت لدى حركة ما بعد الكنزيين :ان وهم التركيب الذي يصح على الفرد المنعزل لا يصح على الافراد مجتمعين. ذلك يعني اننا حينما ننظر لعمليات الاقتصاد الكلي في الرأسمالية، لا نستطيع افتراض ان الكل هو مجموع اجزاءه. في الحقيقة هو ليس كذلك.