لـمـاذا فشل بناء الدولة في أفغانستان
بروجيكت سنديكيت
2021-08-26 01:58
بقلم: دارون أسيموغلو
إسطنبول ــ قبل عشرين عاما، غَـزَت الولايات المتحدة أفغانستان على أمل إعادة بناء دولة تحولت إلى بلوى ألَـمَّـت بالعالم أجمع وبشعبها ذاته. كما أوضح الجنرال ستانلي ماكريستال في الفترة التي سبقت زيادة القوات الأميركية هناك في عام 2009، كان الهدف يتلخص في "تمكين حكومة أفغانستان من فرض سيطرتها بالقدر الكافي على أراضيها لدعم الاستقرار الإقليمي ومنع استخدامها لنشر الإرهاب الدولي".
الآن، بعد مقتل أكثر من 100 ألف إنسان وإنفاق نحو 2 تريليون دولار، لم تقدم لنا أميركا أي نتيجة لجهودها غير المشاهد التي رأيناها هذا الشهر من التدافع اليائس للخروج من أفغانستان ــ وهو انهيار مُـذِل يذكرنا بسقوط سايجون في عام 1975. تُـرى ما الذي أدى إلى هذه النتيجة المشينة؟
كل شيء تقريبا، ولكن ليس بالطريقة التي يتصورها أغلب الناس. ففي حين ساهم التخطيط الرديء والافتقار إلى المعلومات الاستخباراتية الدقيقة في هذه الكارثة بكل تأكيد، فإن المشكلة كانت في حقيقة الأمر في طور التكوين طوال عشرين عاما.
أدركت الولايات المتحدة في وقت مبكر أن الطريقة الوحيدة لإنشاء دولة مستقرة تتسم ببعض مظاهر القانون والنظام تتلخص في إنشاء مؤسسات دولة قوية. وبتشجيع من العديد من الخبراء، ونظريات صارت بائدة الآن، تعاملت المؤسسة العسكرية الأميركية مع هذا التحدي على أنه مشكلة هندسية: إذ كانت أفغانستان تفتقر إلى مؤسسات الدولة، وقوة أمنية عاملة، ومحاكم، وجهاز بيروقراطي حسن الاطلاع، وعلى هذا فإن الحل يتمثل في ضخ الموارد ونقل الخبرات من الأجانب. وكانت المنظمات غير الحكومية ــ ومجمع المساعدات الخارجية الغربي في عموم الأمر ــ حاضرة للمساعدة بطريقتها الخاصة (سواء كان السكان المحليون راغبين في تلقي هذه المساعدة أو غير راغبين). ولأن عمل هذه المنظمات كان يتطلب درجة من الاستقرار، فكان من الضروري نشر جنود أجانب ــ قوات حلف شمال الأطلسي بشكل أساسي، ولكن أيضا قوات تتألف من متعاقدين من القطاع الخاص ــ للحفاظ على الأمن.
انطلاقا من نظرتهم إلى بناء الدولة على أنها عملية تجري من القمة إلى القاعدة، "الدولة أولا"، كان صناع السياسات الأميركيون يتبعون "تقليدا موقرا" في العلوم السياسية. الافتراض الأساسي هنا مفاده أنك إذا تمكنت من فرض هيمنتك العسكرية بشكل ساحق على منطقة من الأرض وإخضاع جميع مصادر القوة الأخرى، فيمكنك حينئذ أن تفرض إرادتك. مع ذلك، كانت هذه النظرية في معظم الأماكن نصف صحيحة فقط، في أحسن الأحوال؛ وفي أفغانستان كانت خاطئة تماما.
بطبيعة الحال، كانت أفغانستان في احتياج إلى دولة فاعلة. لكن الافتراض بأن هذه الدولة يمكن فرضها من أعلى من قِـبَـل قوات أجنبية كان في غير محله. كما زعمت أنا وجيمس روبنسون في كتابنا الصادر عام 2019 بعنوان "الممر الضيق"، يفتقر هذا المنهج إلى أي منطق عندما تكون نقطة البداية لتطبيقه مجتمعا شديد التجانس ومنظم حول عادات وأعراف محلية، حيث كانت مؤسسات الدولة غائبة أو معطلة لفترة طويلة.
صحيح أن نهج بناء الدولة من القمة إلى القاعدة نجح في بعض الحالات (مثل سلالة تشين في الصين أو الإمبراطورية العثمانية). لكن أغلب الدول لم تُـبـن بالقوة بل عن طريق التسوية والتعاون. تنطوي مركزية السلطة الناجحة في ظل مؤسسات الدولة بشكل أكثر شيوعا على الرضا والتعاون من جانب رعايا هذه الدولة. في هذا النموذج، لا تُـفرَض الدولة على مجتمع ضد رغبته؛ بل تعمل مؤسسات الدولة على بناء الشرعية من خلال تأمين الحد الأدنى من الدعم الشعبي.
هذا لا يعني أن الولايات المتحدة كان ينبغي لها أن تعمل مع طالبان. بل يعني أنها كان من الواجب عليها أن تعمل بشكل وثيق مع مجموعات محلية مختلفة، بدلا من ضخ الموارد إلى النظام الفاسد غير التمثيلي بقيادة أول رئيس لأفغانستان بعد طالبان، حامد كرزاي (وإخوته). في عام 2009، شارَكَ أشرف غني، الرئيس الأفغاني المدعوم من الولايات المتحدة الذي فَـرَّ إلى الإمارات العربية المتحدة هذا الأسبوع، في تأليف كتاب يوثق كيف تسببت هذه الاستراتيجية في تغذية الفساد وفشلت في تحقيق هدفها المعلن. ولكن، بمجرد وصوله إلى السلطة، استمر غني على ذات الطريق.
الواقع أن الوضع الذي واجهته الولايات المتحدة في أفغانستان كان أسوأ حتى من الوضع المعتاد الذي يواجه بناء الأمم الطموحين. فمنذ البداية، كان الشعب الأفغاني ينظر إلى الوجود الأميركي على أنه عملية أجنبية تسعى إلى إضعاف مجتمعهم. لم تكن تلك صفقة يريدون إبرامها بطبيعة الحال.
لكن ماذا يحدث عندما تسير جهود بناء الدولة من القمة إلى القاعدة ضد رغبات المجتمع؟ في العديد من الأماكن، يكون الخيار الجذاب الوحيد هو الانسحاب. في بعض الأحيان، يأتي الانسحاب على هيئة رحيل جماعي مادي، كما يوضح جيمس سكوت في دراسته حول شعب زوميا في جنوب شرق آسيا بعنوان "فَـن ألّا تُــحْــكَـم". أو قد يعني التعايش المشترك دون تعاون، كما في حالة الأسكتلنديين في بريطانيا أو الكتالونيين في إسبانيا. لكن في مجتمع مستقل بشدة، وجيد التسليح، ويراعي تقليدا قديما من صراعات الدم والثأر، ولا يخلو تاريخه الحديث من حرب أهلية، فإن الاستجابة الأكثر ترجيحا هي الصراع العنيف.
ربما كانت الأمور لتتخذ منحى مختلفا لو لم تقدم وكالة الاستخبارات الباكستانية الدعم لحركة طالبان بعد هزيمتها عسكريا، ولو لم تتسبب هجمات الناتو بطائرات بدون طيار في إبعاد وتنفير السكان، ولو لم تكن النخب الأفغانية التي دعمتها الولايات المتحدة فاسدة إلى حد الإسراف. لكن أوراق اللعب كانت دوما ضد استراتيجية "الدولة أولا" التي انتهجتها أميركا.
الحقيقة هي أن قادة الولايات المتحدة كان ينبغي لهم أن يدركوا الواقع على الأرض بشكل أفضل. كما توثق ميليسا دِل وبابلو كويروبين، تبنت أميركا استراتيجية مماثلة من القمة إلى القاعدة في فيتنام، وأفضى ذلك إلى نتائج عكسية إلى حد مذهل. فقد أصبحت المناطق التي قُـصِـفَـت لإخضاع الفيتكونج أشد دعما للتمرد ضد أميركا.
كانت تجربة المؤسسة العسكرية الأميركية الحديثة في العراق أكثر دلالة. فكما يوضح بحث من تأليف إيلي بيرمان، وجاكوب شابيرو، وجوزيف فيلتر، عملت "زيادة القوات" هناك بشكل أفضل كثيرا عندما حاول الأميركيون الفوز بالقلوب والعقول من خلال حشد الدعم من جانب الجماعات المحلية. على نحو مماثل، كما أشرت في بحثي مع علي شيما، وعاصم خوجة، وجيمس روبنسون، يلجأ الناس في المناطق الريفية في باكستان إلى القوى الفاعلة غير التابعة للدولة على وجه التحديد عندما يعتقدون أن مؤسسات الدولة غير فعالة وغريبة عنهم.
لا يعني أي من هذا أن الانسحاب لم يكن من الممكن إدارته على نحو أفضل. ولكن بعد عشرين عاما من الجهود المضللة، كان من المحتم أن تفشل الولايات المتحدة في تحقيق هدفها المزدوج المتمثل في الانسحاب من أفغانستان وترك مجتمع مستقر قائم على القانون هناك.
كانت النتيجة مأساة إنسانية هائلة. وحتى لو لم تعد حركة طالبان إلى أسوأ ممارساتها، فسوف يدفع رجال افغانستان، ونساؤها بشكل خاص، ثمنا باهظا لإخفاقات أميركيا، في السنوات والعقود القادمة.