من الكالفينية الى الخلافة-الحروب الدينية وأزمة الشرعية
حاتم حميد محسن
2015-06-22 10:06
بعد قرن تقريبا من بداية نشوئه في مصر، راح الاسلام السياسي يعيد تعريف العالم الاسلامي. سُمي ايضا بـ الاسلاموية، هذه الايديولوجية الفعالة ترى ان الجماعة المسلمة القوية في العالم والبالغة بليون مسلم ستكون حرة وعظيمة فقط حينما تكون متدينة وتقية، اي، حينما يعيش المسلمون في ظل قانون اسلامي او شريعة تفرضها الدولة كما حصل في معظم التاريخ الاسلامي. الاسلاميون لطالما جوبهوا بمسلمين يرفضون الشريعة وبغير مسلمين يحثونهم لرفضها. هذه المواجهات التي كانت احيانا خفيفة وعنيفة في احيان اخرى اذكت الثورات في مصر عام 1952 وفي ايران عام 1979، وهجمات القاعدة عام 2001، والربيع العربي عام 2011، وظهور الجماعات الاسلامية المتشددة مثل داعش.
الاسلام كدين ليس هو من يولّد الخلاف. بل، ان المشكلة هي في الانقسام العميق بين المسلمين حول المقدار الذي يجب ان يصوغ به الاسلام القوانين والمؤسسات في المجتمع. معظم المسلمين، اسلاميين او غيرهم، هم بالطبع ليسوا جهاديين او ثوريين. لكن المنافسة المستمرة حول من الذي يشكل النظام العام الجيد قد استقطبتهم، موجدة عداوات شرسة ترفض التسويات. فكانت النتيجة هي مشاكل تتضخم ذاتيا فيها كل واحدة تفاقم الاخرى.
خبراء الغرب وصناع السياسة كافحوا طويلا لفهم طبيعة هذا الصراع، ولكن حتى الآن، لم تكن جهودهم كافية. وعلى الرغم من ان خبراء الفقه الاسلامي والثيولوجي والتاريخ انتجوا معرفة غنية في الاسلاموية، فهم تعاملوا معها كما لو انها متفردة. ما نسوه هو ان الاسلاموية ليست فقط اسلامية وانما ايضا ايديولوجيا – ايديولوجيا وخطة لترتيب الحياة العامة التي يجب ان تُحلّل الى جانب الايديولوجيات الاخرى. لا يوجد جزء من العالم انتج العديد من الايديولوجيات بقدر ما انتجه الغرب، ولذا فاننا لكي نبلور تفكيرا واضحا حول الشرق الاوسط المعاصر، فمن المفيد النظر رجوعا الى تاريخ الغرب من الصراع الايديولوجي.
ان جزء من العالم الاسلامي اليوم، في الحقيقة، يحمل تشابها ملفتا مع شمال غرب اوربا قبل 450 سنة، خلال ما سمي بالحروب الدينية. ولاحقا، كما الان، اكتسحت موجة من التمردات الدينية منطقة واسعة، ابتلعت عدة دول وهددت بالتوسع نحو المزيد. في عام 1560 وحده، واجهت كل من فرنسا وهولندا واسكتلندا ثورات قادها تابعون لفرع جديد من البروتستانتية سمي بالكالفينية. هي ليست كالفينية البابوات الكبار في القرن الحادي والعشرين او التاسع عشر. الكالفينية الحديثة المبكرة – مثل الكاثوليكية واللوثرية وغيرها من الايديولوجيات المسيحية في ذلك الوقت – كانت ايديولوجية سياسية بنفس القدر من العقيدة الدينية. انها برزت في عصر عندما بني النظام السوشيواقتصادي الاوربي جزئيا حول، وبواسطة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وهي عرّفت نفسها في معارضة ذلك النظام. اختيار ايديولوجية معينة كان بنفس المقدار يمثل التزاما سياسيا ودينيا، فالحروب الدينية كانت ايضا حروب السياسة.
التمردات جاءت وسط 150 سنة من الخلاف حول اي شكل من المسيحية يجب ان تتبعه الدولة – واليوم، للقصة نغمة مشابهة. عندما تتنافس الايديولوجيات على النفوذ، يتم قمع المعارضة بقوة، والمذابح الدينية تنفجر باستمرار، بينما تتدخل القوى الخارجية لمصلحة الاطراف المتنافسة. الفوضى بالنهاية قادت الى حرب الثلاثين عام المأساوية، التي قتلت ربع سكان المانيا. وعندما انتهت تلك الكارثة، تبعتها معركتان ايديولوجيتان اخريان: بين الملكية والدستورية في القرن الثامن عشر وبين الليبرالية والشيوعية في القرن العشرين.
هذه الفترات الطويلة الثلاث من الصراع الايديولوجي، التي انقسمت فيها الدول الغربية حول افضل طريقة لتنظيم المجتمع، تقدم دروسا حاسمة للحاضر. على المستوى الاوسع، يبيّن التاريخ الغربي ان ازمة الشرعية الحالية في الشرق الاوسط هي ليست غير مسبوقة من حيث الخطورة ولا هي يُحتمل ان تحل ذاتها باي طريقة مبسطة. الاسلام السياسي، وكما فعلت العديد من الايديولوجيات الصاعدة في الماضي، اكتسب قوة جديدة من الصراع الاقليمي الذي ساعد في اذكائه، وانه هنا ليبقى. ان ذلك النوع من الصراعات الايديولوجية الحاصلة في الشرق الاوسط نادرا ما تنتهي بفائز اوحد، انها عادة تستمر في الحدة حتى تصل المذاهب المتنافسة اما الى التحول نحو شكل جديد او الى الالتقاء. هذا يحدث عادة فقط بعد تورط قوى خارجية في الازمة واعادة تعريف النظام الاقليمي. هذه الدروس لا تعطي حلا اسطوريا للتحديات الحالية في الشرق الاوسط، لكنها على الاقل تبين ان مشاكل المنطقة ليست متفردة – وان القادة والدول يمكنهم اتخاذ خطوات لتقليل العنف وخلق ظروف مناسبة لإزدهار الانسان.
من كالفين في اوربا الى هوبز في الشرق الاوسط
"التاريخ لا يعيد نفسه"، يقول المثل وانما "له رنين". بالرغم من ان صعود الاسلاموية في الشرق الاوسط هو ظاهرة حديثة متفردة، لكن المسار الذي اتبعته والازمة التي خلقتها لها صدى من ماضي الغرب. ما بدا كخلاف بسيط بين الاسلاموية والعلمانية في العالم الاسلامي تطور الى صراع معقد، لكن جوهر السؤال هو لمن وما هي السيادة في المجتمع، وما هو مصدر ومضمون القوانين. الاسلاميون يصرون على ان الشريعة يجب ان تكون هي المصدر للقانون، بمعنى يمكن اشتقاقها من النصوص المقدسة في الاسلام وهي القرآن واحاديث النبي. العلمانيون يعارضون ذلك ويطالبون بان القانون يجب ان يُشتق من عقل الانسان وتجربته وليس من الاسلام، او بالنسبة للعلمانيين المعتدلين يجب ان لا تُشتق القوانين من الاسلام وحده.
جاءت العلمانية للشرق الاوسط مع الاستعمار الاوربي. العديد من النخب المسلمة تبنتها بعد الاستقلال لأن الدول الاوربية القوية تفوقت واذلت الامبراطورية العثمانية، التي اعتُبرت دولة خلافة او نظام اسلامي مهيمن. لكن العلمانية جوبهت بنكسة: الاسلاموية. رغم ان الاسلاميين يعرضون ايديولوجيتهم ليس كأيديولوجيا سياسية وانما ببساطة كاسلام، - الدين الاصلي للنبي-، لكن نظامهم العقائدي له اصول اكثر حداثة. في الربع الثاني من القرن العشرين، الاسلاميون المبكرون اصبحوا مقتنعين بانه من الصعب العيش كمسلم ورع تحت نظام علماني وبدأوا بتنظيم حركات مقاومة. في الخمسينات من القرن الماضي، اصبح الاسلاميون اكثر راديكالية وبدأوا التحريض للعودة للشريعة المفروضة من الدولة. العلمانية بقيت لها اليد العليا حتى 1960، لكن اللحظات الحاسمة في العقود اللاحقة – هي هزيمة مصر العلمانية من قبل اسرائيل عام 1967، ثورة ايران الاسلامية عام 1979 وحرب الخليج عام 90-91 قلبت الميول لتفضيل الاسلاموية.
بمعنى ما، الاسلام السياسي ربما انتصر سلفا. ورغم ان المسلمين المحدثين هم ليسوا علمانيين خالصين ولا اسلاميين خالصين، فان متوسط المسلمين في الشرق الاوسط وشمال افريقيا يميلون للاسلاميين. استفتاء اجري عام 2013 في مركز بيو للبحوث كشف بان غالبية المسلمين في مصر والعراق والاردن والمغرب وفلسطين يرغبون برؤية حكم الشريعة على الارض. وفي تصويت لمعهد غالوب عام 2012 افاد ان خمسة دول في المنطقة – مصر وليبيا وسوريا وتونس واليمن – كانت فيها المرأة كالرجل في تفضيل الشريعة. وعلى الرغم من تواصل الانقسام الداخلي العميق ضمن المعسكر الاسلامي – حول دور الدين في الحياة العامة ودور رجال الدين في الحكومة، مثلا، - لكن حتى الحكام العلمانيين الآن يقبلون ببعض العناصر من الاسلاموية.
ورغم هذه النجاحات، لكن الاسلام السياسي لايزال يواجه شكوكا حول مقدرته على البقاء. في وقت مبكر، رفضهُ المراقبون الخارجيون كفكرة بعيدة عن الحداثة. ومؤخرا، أكّد الخبراء بان تصاعد العنف في الشرق الاوسط، بما فيه الارهاب الانتحاري وقطع الرؤوس الذي تمارسه الجماعات الجهادية مثل داعش، هو علامة على الحركة اليائسة الموشكة على الموت.
ولكن اذا كان تاريخ اوربا من الصراع الايديولوجي يوفر درسا اساسيا للشرق الاوسط، فهو كالتالي: لا تقلل من شأن الاسلاموية. حروب اوربا الدينية توضح لماذا التقليل من شأن الايديولوجيات التي تبدو خارج الموضة هو امر خطير جدا. في عدة مناسبات اثناء تلك الحروب، بدا ان العقل والمنطق يقرران نهاية للعداوات، لأن المتنافسين الكاثوليك- البروتستانت كانوا يمارسون تأثيرهم المدمر على السكان المحليين والاقتصاد. في فترات – بضمنها في عام 1555، عندما وافق الملوك الالمان على تقرير المصير الديني، وفي عام 1590 عندما انتهت حروب فرنسا الدينية وحين رسخت جمهورية هولندا البروتستانتية استقلالها عن اسبانيا الكاثوليكية – بدا ان الازمة قد انتهت. وان الامراء، والنبلاء، ومجالس المدن ورعاياهم وافقوا على تحقيق السلام العملي. العقلانية السياسية البرجماتية بدت هي الحاكمة، فاتحة الامل باوربا جديدة تهتم فيها الدول بمصالحها المادية وليست الايديولوجية.
لكن اوربا لم تنهي العنف الايديولوجي، لأن ازمة الشرعية التي غذته بقيت بلا حل. معظم الاوربيين استمروا بالاعتقاد ان الاستقرار السياسي الدائم يتطلب تماثلا دينيا. وطالما هم اعتقدوا بهذا، فان اقل شرارة يمكنها اعادة استقطابهم نحو جماعات راديكالية معارضة – وهو بالضبط ما حدث عندما ثار البروتستانت في بوهيميا الامر الذي ادخل اوربا في حرب الثلاثين عاما عام 1618. لم يكن ممكنا للدوغما الدينية ان تفقد زخمها الاشتعالي الا بعد ان فصل الاوربيون في نهاية ذلك القرن اسئلة الايمان عن اسئلة السياسة.
نوع مختلف من الصراع الايديولوجي حدث في العهود المتأخرة وذلك اثناء الانقسام العالمي بين الليبرالية والشيوعية في القرن العشرين. في الثلاثينات من القرن الماضي، دفعت عذابات الكساد الكبير العديد من مفكري الغرب للاقتناع بان الديمقراطية الليبرالية كانت فكرة قد عفا عليها الزمن. ولفترة قصيرة، بدت الدول المركزية القمعية كأنها لديها الأهلية للتعامل مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، وهو ما قاد بعض المفكرين للمراهنة على الشيوعية. البعض زار الاتحاد السوفيتي واعجبوا به صراحة، حيث تسارعت في ظل حكم ستالين حركة التصنيع ولم يقم العمال باي اضراب. هذه العواطف التقطها الصحفي الامريكي لنكولن ستيفن بالقول: "انا على ثقة تامة بالمستقبل، انها تعمل بنجاح"، وفي النهاية عادت الديمقراطية الليبرالية وانتصرت.
المسألة هي ليس ان الاسلاموية ستفوز بالضرورة في الشرق الاوسط وانما ان الناس الاذكياء يقللون من قيمة الانظمة السياسية الاخرى، واحيانا بنتائج مروعة. في الحقيقة، ان احد اسرار بقاء واستمرارية الاسلام السياسي هو ان الاطراف الخارجية قللت من قيمة النظام دائما. التاريخ ايضا يبين ان حياة الايديولوجيا يمكن تمديدها حينما تمتلك تلك الايديولوجية دولا داعمة لها، كما فعلت الديمقراطية الليبرالية في الثلاثينات وكما تفعل الاسلاموية اليوم. الاسلام السياسي لازال بعيدا عن المغادرة وربما يكتسب قوة جديدة.
تحت اسم الله
ان الاسلام السياسي، مثل العديد من الايديولوجيات المتنافسة، لم يكن موحدا. ورغم اشتراك الاسلامين بتقديس الشريعة، لكنهم جاؤوا بعدة اشكال. سنة- شيعة، متشددين - معتدلين، قوميين -عالميين. هذا النوع من الاختلاف قاد الى نقاش في الغرب حول ما اذا كان على الولايات المتحدة وحلفائها مساعدة الاسلاموية البرجماتية المعتدلة في اماكن صراعها مع الحركات الاكثر راديكالية. الذين يقولون (لا) هم عموما يصفون الاسلاموية كحركة موحدة في عدائها للغرب. اما الذين يقولون (نعم) فهم يعتبرون الاسلاموية منقسمة داخليا.
هذا النقاش ليس جديدا، وان معارضي الايديولوجية عادة يحاولون استغلال الانقسام الايديولوجي الحاد لقيادة الصراع لصالحهم. وطوال التاريخ الغربي، حاولت القوى الخارجية بانتظام استخدام هذا التكتيك - فرّق تسد، رغم انه كانت له نتائج مزدوجة، وفي اوقات معينة، كان لجهودهم نتائج مضادة. لننظر في حروب الدين مرة اخرى. ذلك الصراع الطويل قاد الى تشظي ايديولوجيات اوربا المهيمنة، وان بعض الاشكال الجديدة الناتجة تمكنت من المنافسة مع تلك الاشكال الاصلية. البروتستانتية بدأت كـ لوثرية لكنها بسرعة تطورت الى زوينجيليزية(1) في سويسرا والى انابتزمية (2) في المانيا، قبل ظهور النسخة الكالفينية في فرنسا والانجيليكانية في انجلترا. الكلفانيون واللوثريون تنافسوا لأجل النفوذ وهم ربما كانوا اسوأ الاعداء لبعضهما منه الى اي جماعة كاثوليكية. ان سلالة هابسبورغ الكاثوليكية التي حكمت الامبراطورية الرومانية المجيدة عملت بقوة وصمود لتغذية هذه الانقسامات. لكن في النهاية، فشلت هذه الاستراتيجية في إضعاف الكالفينيين ولم تتمكن ايضا من منعهم من تكوين جبهة موحدة مع اللوثريين في حرب الثلاثين عاما.
ان خدعة القوى الخارجية كانت هي التأكد من ميول بعض الايديولوجيات ضد الراديكالية ومعرفة كيفية استثمارها وصقلها. كان بالإمكان إنجاز هذا بنجاح. وفي محاولات ما بعد الحرب العالمية الثانية للحد من نفوذ الاتحاد السوفيتي في اوربا، ابدى الرئيس الامريكي هاري ترومان براعة عظيمة في تشخيص اي من احزاب اليسار الاوربية الغربية يُحتمل ان تصبح حليفة للولايات المتحدة. هو استنتج بشكل صائب ان الشيوعيين الايطاليين والاشتراكيين كانوا متراصين: هم كانوا متحدين في دعم الاتحاد السوفيتي ومعارضة خطة مارشال المدعومة امريكيا. تروما بدلا من ذلك دعم الديمقراطيين المسيحيين، ساعدهم في الفوز بالانتخابات المصيرية عام 1948. وفي فرنسا، اعترف ترومان ان الاشتراكيين عارضوا الشيوعية وعقد تعاملا معهم، مما سمح لفرنسا لتصبح صعبة المراس لكنها شريك حقيقي للولايات المتحدة.
مثل هذه التدخلات الصريحة والسرية من جانب القوى الخارجية هي خاصية اخرى لأزمة الشرعية القديمة. التصادم بين الاسلاموية والعلمانية هو مجرد خلاف اخير فيه ورطت مجموعة من اللاعبين الخارجيين نفسها في الشؤون الداخلية للدول الاخرى اما بالعمل خلف المشهد او عبر استخدام الوسائل العسكرية. البعض انتقد التدخلات الخارجية، النقاد بالذات جادلوا بان حملات الولايات المتحدة في افغانستان والعراق واخيرا في ليبيا مثلت انفجارا غير رشيد لصليبية تعمل خارج حدود ومنطق الحكم السديد. في الحقيقة، انها من الممارسات العادية للقوى العظمى في استخدام القوة لتغيير او الحفاظ على نظام بلد آخر. لم تكن التدخلات الخارجية حماقة منفصلة، او اضافة للصراعات الايديولوجية يمكن تجنبها، انها جزء لا يتجزأ منها. هناك اكثر من 200 تدخل خارجي حدث في الـ 500 سنة الاخيرة، الغالبية العظمى منها حدث اثناء ازمة الشرعية الاقليمية كالأزمة التي تكتسح الشرق الاوسط حاليا.
ان الاستقطاب العميق الناجم عن هذه الانواع من الصراعات يوضح لماذا التدخلات الخارجية شائعة جدا. الصراعات الايديولوجية عادة تعمق الانقسامات الاجتماعية كثيرا لدرجة ان الناس يصبحون اكثر ولاءا للغرباء الاجانب الذين يشتركون معهم بالمبادئ منه الى ابناء وطنهم. هذه التصادمات تدفع الناس والدول وبقوة نحو اما الصداقة او العداوة مع اللاعبين الاجانب خاصة مع اولئك الذين هم من القوة الكافية لإعطائهم او لخصومهم اليد العليا. واللاعبون الاجانب من جهتهم يرون هذه الانواع من الأزمات كفرص لعمل اصدقاء جدد او منع ظهور اعداء جدد.
ان القوى المتدخلة لا تحتاج لمصلحة دينية في الصراع، احيانا تكفي المصلحة المادية. وفي اوقات اخرى، تجتمع الحسابات الايديولوجية والمادية لتشحذ التدخل. فمثلا، في عام 2011، خلال الربيع العربي، ارسلت العربية السعودية التي يسيطر عليها السنة قوات عسكرية الى البحرين لوقف الثوار الشيعة، ومن ثم احتواء كل من الاسلام الشيعي وقوة ايران المحكومة شيعيا. وبعد وقت قصير تدخلت ايران في سوريا لدعم نظام الحكم ضد الثوار السنة الذين يُحتمل ان يضعوا سوريا في تحالف مع العربية السعودية لو ربحوا الحرب. تطورات كهذه زادت المخاوف من ان الشرق الاوسط سيرى وبشكل متزايد دولا حمقاء مندفعة ايديولوجيا تميل لتحطيم النظام الاقليمي. بعض المراقبين قلقون من ان ايران لو اكتسبت سلاحا نوويا فانها ربما تستخدمه لزعزعة التوازن الهش في الشرق الاوسط وربما تقود الى اندلاع العنف الشامل.
التاريخ لا يوفر حلا مبسطا لتلك المخاوف، لكنه يبيّن ان الدولة يمكنها ان تكون ايديولوجية وعقلانية ايضا. النظام المحكوم بايديولوجية له غايات ايديولوجية، كالنظام الاقليمي المختلف راديكاليا. لتحقيق تلك الاهداف هو ربما يستخدم وسائل عقلانية، او يتراجع عندما يصبح القمع مكلف جدا. لكنه ايضا يعمل احيانا بطريقة تتعارض مع منطق الجيبولتيك التقليدي القائم على المنفعة – التكاليف.
ان سلوك حكم الامراء في المانيا والذي اُطلق عليه بـ البلاتينية (نسبة الى الجنرال الالماني بلاتين) اثناء الحروب الدينية يوضح كل تلك الاحتمالات. الحكام الامراء كانوا كالفينيين مسلحين كافحوا لإنهاء السيطرة الكاثوليكية على الامبراطورية الرومانية المجيدة وجميع اوربا. هم حاولوا مرات عديدة الاتحاد مع تحالف بروتستانتي كبير ضد القوى الكاثوليكية، حيث ارسلوا القوات في عدة مناسبات لمساعدة الكالفينيين في فرنسا وهولندا. في الشطر الأكبر من القرن السادس عشر، انطوى تفكير اولئك الحكام على مزيج من الايديولوجية والعقلانية: هم انسحبوا حينما واجهوا مقاومة قوية من الهابسبورغ ومن اتباع البروتستانت. ولكن لاحقا، طلب الثوار الكالفينين في بوهيميا (جزء آخر من الامبراطورية تحكمه الكاثوليكية) من الحاكم البلاتيني فردريك الخامس ليقاوم الهابسبرغ ويصبح ملكا عليهم. فردريك قبل بذلك، وفي عام 1619، طالب ببوهيميا لنفسه رغم المخاطر الواضحة من مقاومة الهابسبورغ والرفضْ الصريح من جانب معظم الاوربيين البروتستانت لمساعدته. لكن الهابسبورغ سحقوا جيش فردريك وذهبوا لتحطيم البلانتين وقمع البروتستانتية هناك. كانت هذه البداية لحرب الثلاثين عاما(3).
البقاء للاصلح
وكما في اي من الصراعات الايديولوجية الاقليمية، فان الصراع بين الاسلاموية والعلمانية سينتهي في يوم ما. ولكن كيف سيحدث ذلك، وما مستقبل الديمقراطية في الشرق الاوسط كلاهما سؤالان مفتوحان. التاريخ الغربي يبين ان ازمة الشرعية عادة تحل ذاتها في واحدة من الطرق الثلاث التالية: اما نصر حاسم من احد الاطراف، او تجاوز الصراع من جانب الاطراف المتحاربة، او ظهور نظام هجين يضم عقائد متنافسة بطرق بدت سابقا كأنها مستحيلة. حاليا، السيناريو الاول، الانتصار من جانب اي ايديولوجية منفردة يبدو بعيد الاحتمال، كون ان الاسلاموية بعيدة عن الوحدة المتراصة، انتصار الاسلاموية عموما سوف لن يجلب الاستقرار لأن اي من فروعها المتعددة – السنة ام الشيعة، المعتدلين ام المتشددين، الملكيين ام الجمهوريين – سوف يهيمنون. لكن السيناريوهين الآخرين يمكن تصورهما.
وعلى الرغم من صعوبة تصوّر الكيفية التي يتجاوز بها الشرق الاوسط ازمته الحالية في الشرعية، لكن احدى ازمات الغرب الماضية انتهت بتلك الطريقة. اوربا في فترة الحداثة المبكرة نجحت في النهاية في التغلب على انقساماتها الدينية بظهور نوع جديد من الانظمة جعلت من الاختلافات في الايديولوجيات القديمة غير ملائمة. الكاثوليك والبروتستانت بقوا مخلصين لدينهم لكنهم اوقفوا التفكير بمحصلة الصفر من اللعب وتدريجيا تبنّوا الفصل بين الكنيسة والدولة. نوع مشابه من المحصلة في الشرق الاوسط سوف يتطلب من المسلمين سواء النخب او عامة الناس التوقف عن النظر الى السؤال حول تأثير الاسلام على القوانين والحياة العامة كمسألة حياة او موت. وفي ضوء الاستقطاب العميق السائد، فان مستقبل مثل هذه التحول يبدو بعيدا.
الخيار الآخر، هو ان الايديولوجيات المتنافسة قد تبدأ بالتلاقي، تتبنّى كل واحدة بعض ممارسات ومؤسسات الاخرى. اوربا مارست هذا التطور ايضا. من عام 1770 حتى 1850، تمزقت القارة بين الملكيات التي اعتقدت ان الحكم يجب ان يورث، والجمهوريين الذين ارادوا الحكومات ان تُنتخب. هاتان الفكرتان بديا لأول وهلة تستبعدان كل منهما الاخرى، الملكيات سحقت دائما الثورات الجمهورية. ولكن بعد فترة من القمع، عقدت اوربا الملكية صفقة جديدة مع الطبقات الوسطى. وبعد قيادة المملكة المتحدة، قامت عدد من الدول مثل النمسا وفرنسا وايطاليا وبروسيا ببناء نوع جديد من النظام سمي احيانا بـ "المحافظة الليبرالية"، جمعت بين الملكية والقيود البرلمانية مع المزيد من الحريات المدنية.
هذه القصة تشير الى الدرس التاريخي الأخير: وهو ان النجاح الحتمي للايديولوجية او عدة ايديولوجيات هجينة، يعتمد عادة على ما اذا كانت لديها دولة قوية مؤثرة. انتصار المحافظة الليبرالية في اوربا كان جزئيا بسبب النجاح الواضح للمملكة المتحدة. وهي الدولة التي امتلكت نظاما هجينا لفترات طويلة، وملكية دستورية مزجت بين التقاليد والاصلاح. المملكة المتحدة كانت ايضا وبدون شك هي الدولة الاكثر نجاحا في زمانها، حيث الاقتصاد الكبير المزدهر، والامبراطورية الاكثر كثافة، ونظام اجتماعي مستقر. نجاح هذا النظام الهجين دفع كل دول المنطقة الى تقليده.
وفي العالم الاسلامي، النظام الهجين المختلف في النوع كشف مؤخرا عن علامات للقوة. ذلك النوع الهجين يسمى احيانا "الديمقراطية الاسلامية". وعلى الرغم من ان الباحثين اعتقدوا منذ وقت طويل بان الديمقراطية والاسلام لا ينسجمان، لكن بعض الاسلاميين والديمقراطيين في دول مختلفة كانوا يحاولون الربط بين هذين النظامين في النظرية والتطبيق. في عام 2011- 2013، مثلا، حزب العدالة والحرية المصري (الجناح السياسي للاخوان المسلمين) عمل جاهدا لتصوير نفسه كقوة معتدلة بقبول التعددية الايديولوجية والدينية. تلك الجهود فشلت بالنهاية، حين بدأ الرئيس محمد مرسي باحتكار السلطات ثم الاطاحة به لاحقا من الجيش. منذ ذلك الحين، بدت مصر كأنها تخلت عن الديمقراطية كليا، لكن البلد بالتأكيد يمتلك الحجم والنفوذ ليصبح نموذجا ناجحا حينما يبدأ التجربة مرة اخرى.
ان انجح المحاولات في دمج الاسلاموية بالديمقراطية جاءت من حزب النهضة التونسي الذي اجرى انتخابات ديمقراطية عام 2014 رغم احتضانه العلني للاسلام. تونس بلد صغير جدا ليصبح نموذجا للدولة، لكنه يمثل البقعة المشرقة من الربيع العربي، وهي تبيّن على الاقل، ما هو ممكن.
ان الكثير يعتمد على الخيارات السياسية لأكبر بلدين قويين مسلمين في المنطقة وهما ايران وتركيا. رغم انهما ليسا عربيين، كل منهما له تاريخ طويل من النفوذ الاقليمي. ايران تجسد الاسلاموية، كونها ادّعت لنفسها مستوى ايديولوجيا في ثورتها عام 1979. ورغم ان البلاد رسميا هي جمهورية وتُجري انتخابات شبه تنافسية، لكن السلطة العليا تبقى بيد المرشد الاعلى. مستقبل ايران كدولة نموذجية قاسى اثناء الربيع العربي وما اعقبه حين وقفت ايران بقوة مع نظام الحكم في سوريا فعزلت نفسها عن غالبية العرب السنة. كذلك، النظام بدا هشا منذ انتخابات عام 2009 مما اثار الشكوك من امكانية اعتماده كنموذج لجيرانه، وطالما تبقى ايران تمثل دور النموذج للاسلاموية، فان الاسلاموية ستبقى في مأزق.
اما تركيا فهي قصة مختلفة. رغم ان البلاد هي رسميا جمهورية علمانية لكنها كانت تنجرف في الاتجاه الاسلامي. في السنوات الثلاث الماضية، بدت تركيا جيدة في طريقتها لتصبح نموذج لنوع جديد وهجين من الديمقراطية الاسلامية. الانتخابات التنافسية باستمرار أنعشت حزبها الحاكم حزب التنمية والعدالة برئاسة رجب طيب اردوغان الذي يصور نفسه كمبشر للديمقراطية الاسلامية. تركيا تمتعت بشعبية بين شعوب الدول المجاورة في بداية الربيع العربي ولكن عندما نأتي الى هجين الديمقراطية الاسلامية فهو لم يأت بجديد نظرا لأن اردوغان بدأ باعتماد اسلوب سلطوي في الحكم. نظام تركيا الحالي في الحكم مع انه نظام هجين لكن عنصره الاسلامي طغى عليه الطراز الاوتوقراطي القديم.
لماذا هم يقاتلون؟
وكما حصل مع العديد من الخلافات الايديولوجية في السابق، فان الازمة في الشرق الاوسط دفعت بعض المراقبين للتساؤل ما اذا كانت الايديولوجية هي السبب الاصلي للازمة. العديد من النقاد يعزون الصراع الى شيء آخر، مدّعين ان الامبريالية الغربية – اوربا في السابق وامريكا حاليا- اذلت المسلمين وقيّدت بشدة مقدرتهم للسيطرة على مستقبلهم، كأفراد او كمجتمعات. وفق هذه الرؤية، فان الوجود العسكري الامريكي في المنطقة ودعمه لاسرائيل هو السبب في ظهور العنف. لكن هذه الحجة تتجاهل حقيقة اساسية وهي ان العالم مليء بالشعوب اليائسة والجماعات المحبطة، وان هيمنة الولايات المتحدة هي تقريبا عالمية. مع ذلك نجد المشاكل الغريبة تكتسح الشرق الاوسط – الاضطرابات والقمع والارهاب والوحشية والتدخلات الاجنبية المتكررة- يصعب العثور عليها في اي مكان آخر.
سبب آخر هو الفقر. لو كان لدى المسلمين ثروة كافية وفرص، حسب زعمهم، فان الازمة ستتضائل. لكن هذه الحجة ايضا تُواجه بالعديد من المجتمعات الفقيرة في العالم، التي هي اسوأ من متوسط دولة اوسطية، نجحت في تجنب الفوضى. لو ان الفقر هو العنصر الاهم لكانت جنوب الصحراء الافريقية تشهد العديد من الاعمال الارهابية وموجات ثورية وغزو اجنبي. الدليل يشير الى استنتاج مختلف: على الرغم من اهمية عنصر الفقر والعجز، لكنهما يخلقان اختلالا وظيفيا كالذي يشهده الشرق الاوسط حاليا فقط عندما يجتمعان مع ازمة شرعية اقليمية طويلة.
الشيء السار ان الولايات المتحدة ربما قادرة على تشجيع محصلة اكثر استقرارا في المدى الطويل عبر مساعدة الدول والاحزاب التي تنتهج نظاما معتدلا من الحكومة حتى لو لم يكن ذلك النظام علمانيا بالكامل. الاخبار السيئة هي ان ذلك كل ما يمكن تأمله لأنه حتى الولايات المتحدة القوية لا تستطيع حل مشاكل المنطقة، طالما كل الاطراف سترى حتما تدخلاتها كمساعد للطرف الاخر. الولايات المتحدة يجب عليها بالطبع حماية مصالحها – الواجب الذي ربما يتطلب في اوقات واماكن معينة استخدام القوة. ولكن مثلما لم تستطع الامبراطورية العثمانية، القوة العظمى المسلمة في زمن حروب الدين، انهاء الانقسام بين المسيحيين في القرن السادس عشر، كذلك لن يستطيع اي لاعب خارجي اعادة الاستقرار للشرق الاوسط حاليا. فقط المسلمون انفسهم يستطيعون انهاء حروبهم الايديولوجية.