فشل القيادة الذريع
بروجيكت سنديكيت
2020-05-09 04:25
بقلم: جوزيف ناي
كمبريدج ــ تشكل القيادة ــ القدرة على مساعدة الناس في وضع أهدافهم في الإطار المناسب وتحقيقها ــ أهمية بالغة أثناء الأزمات. أظهر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل هذه القدرة في عام 1940، كما فعل نيلسون مانديلا خلال انتقال جنوب أفريقيا من حكم الفصل العنصري.
قياسا على هذه المعايير التاريخية، كان فشل قادة أكبر اقتصادين في العالَم في الآونة الأخيرة ذريعا. لم يتفاعل كل من الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الصيني شي جين بينج مع فاشية فيروس كورونا في مستهل الأمر بإعلام وتنوير جماهير الناس وتثقيفهم، بل بإنكار المشكلة، وبالتالي دفع الناس ثمن إنكارهما من حياتهم. ثم ذهب كل منهما إلى إعادة توجيه طاقاته نحو توزيع اللوم بدلا من العمل على إيجاد الحلول. وبسبب إخفاقاتهما، ربما فَـوَّتَ العالَم فرصة الاستجابة للأزمة بما يمكن تسميته "لحظة سبوتنيك"، أو "خطة مارشال للتصدي لجائحة مرض فيروس كورونا 2019".
يميز منظرو القيادة بين القادة "التحويليين" والقادة "المتعاملين". يحاول الصِنف الأخير توجيه الدفة عبر المواقف المختلفة من خلال العمل كالمعتاد، في حين يحاول المنتمون إلى الصِنف الأول إعادة تشكيل المواقف التي يجدون أنفسهم فيها.
بطبيعة الحال، لا ينجح القادة التحويليون دائما. حاول الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش إعادة تشكيل الشرق الأوسط بغزو العراق، وكانت العواقب وخيمة. على النقيض من ذلك، كان والده، الرئيس جورج بوش الأب، أكثر ميلا إلى أسلوب المعاملات؛ لكنه كان أيضا يتمتع بالمهارات اللازمة لإدارة الوضع المائع الذي وجد العالم نفسه فيه بعد انهيار الشيوعية في أوروبا. فقد انتهت الحرب الباردة، وأعيد توحيد شطرا ألمانيا وترسيخها بقوة في الغرب، دون إطلاق رصاصة واحدة.
أيا كان الأسلوب الذي ينتهجه القائد، فإنه قادر على ممارسة تأثير قوي على الهوية الجمعية ــ القوة التي تعمل على تحويل "أنا" و"أنت" إلى "نحن". يميل القادة المتكاسلون إلى تعزيز الوضع الراهن، من خلال استغلال الانقسامات القائمة لحشد الدعم لأنفسهم، كما فعل ترمب. لكن القادة التحويليين الفاعلين قادرون على فرض تأثير أبعد مدى بأشواط على الطابع الأخلاقي للمجتمع. كان بوسع مانديلا، على سبيل المثال، أن يلجأ إلى تعريف قاعدته في جنوب أفريقيا على أنهم السود، ثم يسعى إلى الانتقام لعقود من الظلم. لكنه بدلا من ذلك عمل بلا كلل أو ملل على توسيع نطاق هوية أتباعه.
على نحو مماثل، بعد الحرب العالمية الثانية ــ التي شهدت قيام ألمانيا بغزو فرنسا للمرة الثالثة في غضون سبعين عاما ــ خلص الدبلوماسي الفرنسي جان مونيه إلى أن الانتقام لن يُـفضي إلا إلى إعادة إنتاج المأساة. ولتغيير الوضع، ابتكر مونيه خطة للإنتاج الأوروبي المشترك للفحم والفولاذ، وهو الترتيب الذي تطور في نهاية المطاف ليتحول إلى الاتحاد الأوروبي.
لم تكن هذه الإنجازات حتمية. فعندما ننظر إلى ما وراء أُسَـرِنا وأقرب المقربين منا، نجد أن أغلب الهويات البشرية تندرج تحت ما أسماه العالِم السياسي بنيدكت أندرسون "المجتمعات المتخيلة". فلا أحد يشارك بشكل مباشرة في تجربة ملايين الآخرين الذين ينتمون إلى ذات الجنسية. ومع ذلك، على مدار القرنين الماضيين، كانت الأمة هي المجتمع المتخيل الذي كان الناس على استعداد للموت من أجله.
لكن التهديدات العالمية مثل جائحة مرض فيروس كورونا 2019 ( كوفيد-19 COVID-19) وتغير المناخ لا تميز حسب الجنسية. في عالَم تحكمه العولمة، ينتمي أغلب الناس إلى عدد من المجتمعات المتخيلة المتداخلة ــ المحلية، والإقليمية، والوطنية، والعِرقية، والدينية، والمهنية ــ ولا يضطر القادة إلى مناشدة أضيق الهويات من أجل حشد الدعم أو التضامن.
الواقع أن اندلاع جائحة كوفيد-19 قدمت فرصة سانحة للقيادة التحويلية. كان الزعيم التحويلي ليشرح في وقت مبكر من الجائحة: "لأن الأزمة عالمية بطبيعتها، فلن يتسنى لأي دولة تعمل بشكل منفرد حلها". لكن ترمب وشي جين بينج أهدرا هذه الفرصة. فقد فشل كل منهما في إدراك حقيقة مفادها أن ممارسة القوة من الممكن أن تصبح مباراة محصلتها إيجابية. فبدلا من التفكير من منظور فرض القوة على الآخرين، كان بوسعهما أن يفكرا في استخدام القوة جنبا إلى جنب مع الآخرين لصالح الجميع.
في العديد من القضايا العابرة للحدود الوطنية، قد يساعد عمل الآخرين على تمكين دولة مثل الولايات المتحدة في تحقيق أهدافهم الخاصة. فإذا تمكنت الصين من تعزيز نظام الصحة العامة لديها أو الحد من بصمتها الكربونية، فسوف يستفيد الأميركيون والجميع غيرهم. في عالَم تحكمه العولمة، تُـعَـد الشبكات مصدرا أساسيا للقوة. وفي عالَم متزايد التعقيد، تصبح الدول الأكثر ارتباطا ــ تلك الأكثر قدرة على اجتذاب الشركاء للمساهمة في جهود تعاونية ــ هي الأكثر قوة.
بقدر ما يكمن المفتاح إلى أمن أميركا وازدهارها في المستقبل في إدراك أهمية "القوة مع" وكذا "القوة على"، كان أداء إدارة ترمب خلال الجائحة مثبطا. والمشكلة ليست في شعار "أميركا أولا" (فكل دولة تضع مصالحها أولا). بل تكمن المشكلة في كيفية تعريف ترمب للمصالح الأميركية. فبسبب تركيزه بشكل منفرد على مكاسب قصيرة الأجل تتحقق من خلال صفقات محصلتها صِفر، أولى ترمب اهتماما ضئيلا للمصالح الأطول أمدا التي تخدمها المؤسسات، والتحالفات، والمعاملة بالمثل.
في ظل الظروف الحالية، تخلت الولايات المتحدة عن تقاليدها في السعي إلى تحقيق المصلحة الذاتية المستنيرة البعيدة الأمد. ولكن برغم ذلك، لا يزال بإمكان إدارة ترمب أن تلتفت إلى الدروس التي دعمت نجاحات الرؤساء الأميركيين في مرحلة ما بعد عام 1945 والتي وصفتها في كتابي الأخير بعنوان "هل تشكل الأخلاق أي أهمية؟ الرؤساء والسياسة الخارجية من فرانكلين ديلانو روزفلت إلى ترمب". الواقع أن الولايات المتحدة لا يزال بوسعها أن تطلق برنامجا ضخما للمساعدة في التصدي لجائحة كوفيد-19 على غرار خطة مارشال.
كما زعم هنري كيسنجر مؤخرا، يتعين على قادة اليوم أن يختاروا مسار التعاون الذي يُـفضي إلى تحسين المرونة والقدرة على الصمود على المستوى الدولي. وبدلا من اللجوء إلى الدعاية التنافسية، يستطيع ترمب أن يدعو إلى عقد قمة طارئة لمجموعة العشرين أو اجتماع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإنشاء أطر ثنائية ومتعددة الأطراف لتعزيز التعاون.
وربما يشير ترمب أيضا إلى أن الموجات الجديدة من جائحة كوفيد-19 ستضرب الدول الأشد فقرا بقوة، وأن الفاشيات الجديدة في جنوب الكرة الأرضية ستلحق الأذى بالجميع عندما تنتشر شمالا. ويجدر بنا أن نتذكر هنا أن الموجة الثانية من جائحة الإنفلونزا في عام 1918 قتلت عددا من الناس أكبر من أولئك الذين قتلتهم موجتها الأولى. إن القائد التحويلي كان ليعلم عامة الأميركيين أن حشد المساهمات السخية لإنشاء صندوق جديد لمكافحة جائحة كوفيد-19 مفتوح لكل البلدان النامية يصب في مصلحتهم الشخصية.
إذا كان لمثيل تشرشل أو مانديلا أميركي أن يثقف الناس على هذا النحو، فإن الجائحة من الممكن أن تفتح طريقا إلى سياسية عالمية أفضل. ولكن من المحزن أننا ربما فاتتنا بالفعل لحظة القيادة التحويلية، وقد يعمل الفيروس ببساطة على تسريع وتيرة الظروف العالمية القائمة مسبقا من القومية الشعبوية وإساءة استخدام التكنولوجيا على يد الحكومات المستبدة. لا شك أن إخفاقات القيادة مثار للأسف والحزن دائما، لكنها تصبح أشد إيلاما في مواجهة الأزمات.