ثورات لمن؟
بروجيكت سنديكيت
2019-11-13 04:25
بقلم: كريستين جودسي/ميتشل أورينشتاين
فيلاديفيا- "لا يوجد احد سيكون في وضع اسوأ من وضعه السابق، ولكن الوضع سيكون افضل بكثير للعديد من الناس" هكذا طمأن المستشار الالماني هيلموت كول الالمان الشرقيين بعد انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 ولقد ساعدت كلماته في حدوث تغيرات سياسية واقتصادية سريعة في كامل اوروبا في الفترة التي تلت الحقبة الشيوعية وبعد ثلاثين سنة من ذلك التاريخ، يتوجب علينا أن نسأل هل أوفى كول وغيره من القادة الغربيين بهذا الوعد.
لو سافرنا الى براغ أو كييف أو بوخارست اليوم ستجد مراكز تسوق متألقة مليئة بالبضاع الاستهلاكية المستوردة: العطور من فرنسا والازياء من ايطاليا وساعات اليد من سويسرا وفي قاعات السينما يصطف الشباب الاوروبي المتمدن لمشاهدة افلام مارفيل التي تحظى بنجاح منقطع النظير كما يحدقون في هواتفهم النقالة الايفون وربما يخططون لاجازتهم القدمة في باريس أو غوا أو بيونس ايرس. ان وسط المدينة يعج بمقاهي وحانات تخدم الاجانب والنخب المحلية الذين يشترون السلع الغذائية الذواقة من محلات السوبرماركت الضخمة ومقارنة بشح وعزلة الماضي الشيوعي فإن وسط وشرق اوروبا اليوم يتمتع بوفرة من الفرص الجديدة.
ولكن في نفس المدن يعاني المتقاعدون والفقراء من اجل تحمل تكلفة المستلزمات الاساسية حيث يتوجب على المواطنين الطاعنين في السن ان يختاروا بين التدفئة والادوية والطعام وفي الأماكن الريفية عادت بعض العائلات الى زراعة الكفاف والشباب يهربون بإعداد كبيرة سعيا لفرص افضل في الخارج. ان المعاناة الاقتصادية والعدمية السياسية تشعل انعدام الثقة في المجتمع بينما يزداد الحنين للأمن والاستقرار اثناء الماضي السلطوي علما ان القادة الشعبويين يستغلون الاستياء الشعبي لتفكيك المؤسسات الديمقراطية وتوجيه الاقتصاد لمصلحة اصدقائهم وافراد عائلاتهم ومناصريهم.
إن هذين العالمين يتواجدان جنبا الى جنب وكلاهما ولد بعد ثورات سنة 1989 وبينما جلبت السنوات الثلاثين الماضية تغيرا ايجابيا لأقلية معتبرة فإن غالبية المواطنين الاشتراكيين السابقين في وسط وشرق اوروبا ووسط اسيا يعانون من المصاعب الاقتصادية والتي تركت جروحا عميقة في النفسية الجماعية لعالم ما بعد الشيوعية.
عندما قامت تلك البلدان بتحرير اقتصاداتها في تسعينات القرن الماضي، أدرك الاقتصاديون وصناع السياسات انه ستكون هناك فترات ركود ولكن لم يحسبوا حساب التأثير المدمر لعمق وطول فترات الركود. لقد استخدمنا بيانات من دائرة الزراعة الامريكية والبنك الدولي والبنك الاوروبي لإعادة التعمير والتنمية وذلك من اجل حساب حجم فترات الركود الانتقالية ومقارنة عمق تلك الفترات في اوروبا واوراسيا (ابتداء من سنة 1989) بالركود العظيم في الولايات المتحدة الامريكية (ابتداء من سنة 1929).
لقد قمنا بتقسيم بلدان ما بعد الحقبة الشيوعية لثلاث مجموعات بالنسبة لمعدل طول وعمق فترات الركود الاقتصادي في تلك البلدان وفي اكثر البلدان نجاحا كان يمكن مقارنة فترة الركود الانتقالية بالركود العظيم في الولايات المتحدة الامريكية (انخفاض بنسبة 30% في حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي) وبالنسبة للبلدان المتوسطة فإن الركود الانتقالي دمّر الاقتصاد وتجاوز حجم الركود العظيم في العمق (انخفاض بنسبة 40% في حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي) وطول الفترة (17 عام مقابل 10 اعوام) والبلدان الاكثر تضررا لم تستطع ان تستعيد نشاطها مجددا: بعد ثلاثين سنة فإن حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي ما تزال اقل من مستواها في الفترات الاشتراكية المتأخرة.
ان مولدوفا هي افضل مثال على البلدان التي خذل التحول الاقتصادي فيها معظم الناس فبعد تفكك الاتحاد السوفياتي انخفضت بشدة حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي ومن ثم استقرت سنة 1999 وذلك عندما وصلت الى نسبة 66% دون مستواها سنة 1989 وفي سنة 2007 كانت حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي ما تزال اقل بنسبة 42% مقارنة بسنة 1989 وعلى الرغم من ان مولدوفا نمت بشكل كبير بعد سنة 2010، إلا انها كانت ما تزال سنة 2016 أقل بنسبة 12% مقارنة بمستواها سنة 1989.
مولدوفا ليست لوحدها فحصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي في خمسة بلدان شيوعية سابقة –جورجيا وكوسوفو وصربيا وطاجيكستان واوكرانيا- كانت ما تزال سنة 2016 أقل من مستويات سنة 1989 وبالنسبة لتلك البلدان فإن التحول جلب مستويات غير مسبوقة من الالم الاقتصادي وقليل من المكاسب باستثناء لقلة من النخب. ان الكوارث الاقتصادية في الحقبة ما يعد الشيوعية تسببت بملايين الوفيات الزائدة والهجرة الجماعية ومجموعة مختلفة من المشاكل الاجتماعية والتي كانت في معظمها غير معروفه آبان الحكم الشيوعي مثل الفقر والجريمة المنظمة وتزايد انعدام المساواة وفي مرحلة ما بعد الشيوعية في تلك الدول فإن إجمالي ارقام الناتج المحلي الاجمالي تخفي وراءها نمو كبير في الاستقطاب المتعلق بالدخل منذ سنة 1989.
يوجد في تلك البلدان أسرع نسبة انخفاض في عدد السكان حيث يتسبب معدل الوفيات المرتفع وانخفاض الخصوبة وزيادة الهجرة في انكماش عدد السكان. لقد لاحظت دراسة اجراها البنك الاوروبي لإعادة الاعمار والتنمية سنة 2016 ان الأطفال المولودين عند بداية التحول في بلدانهم كانوا أقصر بحوالي سنتمتر واحد بالمعدل مقارنة بأقرانهم في المجموعات التي جاءت قبلهم او بعدهم مباشرة وهذا الفرق نجده في مناطق الحروب وغيرها من الاماكن التي يعاني فيها الأطفال الصغار من نقص المغذيات الدقيقة والضغط النفسي.
وبينما تحتفل النخب الليبرالية في كل من الشرق والغرب بالنهاية السلمية للحرب الباردة والنجاحات الحقيقية للعقود الثلاثة الماضية، فإن من المهم ان نتذكر ان ليس كل شخص استفاد من قدوم الرأسمالية. ان استطلاعات الرأي العام تكشف مستويات منخفضة من الثقة الاجتماعية وتدهور الثقة في المؤسسات العامة وزيادة الغضب من انعدام المساواة بالدخل.
لقد خلق ذلك ارضا خصبة للأحزاب والقادة الشعبويين حتى في بعض من انجح الدول مثل هنغاريا وبولندا. ان البؤس العميق الذي تسببت به فترات الركود الانتقالية ما يزال حاضرا في اذهان العديد من المواطنين وسيؤثر على خياراتهم السياسية والاقتصادية في المنطقة لعقود عديدة قادمة تماما كما هو الحال في امريكا والذي ما تزال السياسة العامة فيه متأثرة بتجربة الركود العظيم.
بعد ثلاثين سنة من سقوط جدار برلين فإن الواقع قد قلب وعد كول الشهير رأسا على عقب فالعديد من الناس أصبحوا في وضع اسوأ بكثير من الماضي ولكن الوضع تحسن كثيرا لقليل من الناس وما لم يعم الازدهار والرخاء ليشمل الجميع فإن الثورات التي بدأت سنة 1989 ستبقى ثورات غير مكتملة.