دعوة إلى وقف الهجوم التركي في شمال شرق سورية
مجموعة الازمات الدولية
2019-10-15 05:59
يهدد التوغل التركي في شمال شرق سورية بتحويل منطقة يسودها هدوء نسبي إلى مساحة يحتدم الصراع عليها؛ فقد يواجَه هذا الهجوم بمقاومة عنيدة، ويتسبب بعمليات نزوح هائلة وبإعادة الحياة إلى تنظيم الدولة الإسلامية. ينبغي على واشنطن أن تضغط على أنقرة بشكل ملح لوقف هجومها قبل أن تتقدم أكثر في المنطقة..
مرة أخرى يُدخل إعلان مفاجئ للرئيس دونالد ترامب السياسة الأميركية حيال سورية في حالة من الفوضى والتشوش، ما مهد الطريق للهجوم التركي في شمال شرق سورية الذي كانت أنقرة قد هددت منذ وقت طويل بشنه وشرعت بتنفيذه في 9 تشرين الأول/أكتوبر. إن تدخلاً تركياً، حتى لو كان محدوداً، يخاطر بإشعال حلقة مكلفة من التصعيد بين الجيش التركي ووحدات حماية الشعب، الشريك الكردي لواشنطن في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وإذا تصاعدت الأعمال القتالية، يمكن أن يترتب على تقدم أوسع للجيش التركي إلى المناطق المكتظة بالسكان سقوط ضحايا من المدنيين، ونزوح عدد كبير من سكان المنطقة، وتغذية التمرد المحلي المسلح ضد القوات التركية، وجرّ النظام السوري والقوات المتحالفة معه، بما في ذلك حتى روسيا، إلى المعترك. في أي سيناريو، ستتضاعف فرص عودة الحياة إلى تنظيم الدولة الإسلامية وانتشار نفوذه بالتناسب مع ازدياد حدة العنف والفوضى.
بدأت الأزمة في 6 تشرين الأول/أكتوبر، عندما قرر الرئيس ترامب، بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن الولايات المتحدة لن تقف في طريق هجوم تركي كان أردوغان قد أعلن عنه قبل أيام (وكان قد أعلن عن ذلك عدة مرات في الماضي لكنه كان دائماً يتلقى إشارات أميركية بالتراجع). كانت القوات التركية قد بدأت أصلاً بالتحرك إلى موقع قرب الحدود السورية، بنيّة العبور عند الحصول على الضوء الأخضر من أنقرة – وواشنطن. في بيان لاحق، أعلن البيت الأبيض عن انسحاب القوات الأميركية من المناطق "المجاورة مباشرة"، ما يعني على ما يبدو من أجزاء من سورية توقعت الإدارة أن تغزوها تركيا. وأضاف البيان أن تركيا ستكون مسؤولة عن مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين تم اعتقالهم في شمال شرق سورية على مدى العامين الماضيين.
التحول الدراماتيكي في موقف البيت الأبيض أحدث صدمة لدى قوات سورية الديمقراطية التي تقودها وحدات حماية الشعب، بل إنه أثار أيضاً احتجاجاً قوياً في أوساط الحزبين في الكونغرس ومواقع أخرى في المؤسسة السياسية الأميركية. وسط رد الفعل المتنامي، هدد ترامب في تغريدات لاحقة بـ "تدمير ومحو" الاقتصاد التركي إذا قامت أنقرة بفعل شيء "يتجاوز الحدود" في سورية. ووصف الهجوم التركي بأنه "فكرة سيئة" لكنه قال أيضاً إنه سيحمل تركيا مسؤولية الالتزام بحماية المدنيين والأقليات الدينية، ما يعني القبول ضمنياً بالإجراء التركي.
في هذه الأثناء، أوضح مسؤولون كبار في إدارة ترامب أن الولايات المتحدة لم تتغاضَ عن الهجوم التركي، وأنها سحبت نحو 50 جندياً فقط من موقعين قرب المدينتين الحدوديتين تل أبيض ورأس العين (حيث كان من المتوقع للتوغل التركي أن يبدأ)، وأنها لم تقم بعملية أوسع لسحب القوات في هذه المرحلة. ولذلك يبقى نطاق التوغل التركي في الشمال الشرقي غير واضح حتى الآن، وكذلك نطاق الانسحاب الأميركي. إلا أن تركيا أبلغت مسؤولين غربيين أنها تخطط للسيطرة على كل "المنطقة الآمنة" بعمق 30 كم، على طول الحدود السورية، والتي طالبت بها في محادثات استمرت على مدى العام الماضي. في 9 تشرين الأول/أكتوبر، بدأت تركيا بقصف مواقع على طول الحدود بالمدفعية والطيران، وأعلنت وزارة الدفاع أن هجوماً برياً قد بدأ.
يمكن أن يواجَه توغل تركي كبير بمقاومة قوية من قوات سورية الديمقراطية وأن يؤدي إلى موجات جديدة من اللاجئين الذين سيهربون إلى العراق المجاور وحتى إلى تركيا. النية المعلنة لأردوغان هي إعادة توطين ثلاثة ملايين لاجئ سوري يعيشون الآن في تركيا في "المنطقة الآمنة" التي يسعى إلى تأسيسها، والتي ستحدث تغييراً ديموغرافياً جوهرياً في المنطقة، وهو ما سيؤدي إلى تصلب الرفض المحلي لوجود القوات التركية ومقاتلي المعارضة السورية المتحالفين معها والقتال ضدهما.
عدد من مسؤولي إدارة ترامب والضباط الأميركيين يخشون تبعات انسحاب أميركي غير مشروط من شمال سورية وسط توغل عسكري تركي أحادي، بصرف النظر عن نطاقه. في حين أن تفاصيل هواجسهم تتفاوت، فإن ثمة مؤشراً مشتركاً واضحاً: إذا سحبت الولايات المتحدة فجأة جزءاً كبيراً من مظلتها الرادعة، وقدراتها العسكرية وبرامج دعم الاستقرار التي توفرها، ويتوقع أن يتبعها في ذلك الأعضاء الآخرون في التحالف الدولي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، يمكن لشمال شرق سورية أن ينزلق إلى صراع عنيف متعدد الأطراف على الأرض والموارد، وتوسيع مجالات عودة تنظيم الدولة الإسلامية إلى الحياة.
الوضع الأمني يتداعى أصلاً في المناطق التي انتُزعت السيطرة عليها من تنظيم الدولة الإسلامية في مطلع العام 2019، شرق وجنوب دير الزور في وادي نهر الفرات، فأصبحت مساحات من شرق سورية مراكز لتجدد التمرد الجهادي المسلح. من شبه المؤكد أن يكون استعداد وقدرة قوات سورية الديمقراطية على الاستمرار في مواجهة العمليات الجهادية في هذه المنطقة مشروطين باستمرار الدعم الأميركي، بالنظر إلى التهديدات التي تواجهها من تركيا ومن النظام السوري.
كما أنه من غير الواضح كيف ستتحمل تركيا مسؤولية عشرات الآلاف من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية وأسرهم المسجونين لدى قوات سورية الديمقراطية وليس الولايات المتحدة كما أشار ترامب. أكبر معسكرات الاعتقال هذه، الذي يضم نحو 70,000 من أفراد أسر المقاتلين، يقع في الهول، الذي يبعد نحو 80 كم عن الحدود. إن رغبة أو قدرة قوات سورية الديمقراطية التي تقاتل من أجل بقائها على أداء هذه المهمة سيكون موضع شك. لكن من الصعب رؤية كيف يمكن لتركيا أن تضطلع بهذا الدور، بالنظر إلى المسافة التي يبعدها المخيم جنوباً عن الحدود السورية.
تصميم تركيا على تغيير الوضع الراهن في شمال شرق سورية متجذر في هواجسها الاستراتيجية وتلك المتعلقة بأمنها القومي والتي تشعر، سواء كانت محقة أم مخطئة، بأن واشنطن لم تفعل الكثير لمعالجتها. لقد تذمرت تركيا منذ سنوات من أن الولايات المتحدة اختارت وحدات حماية الشعب وقوات سورية الديمقراطية التي تقودها هذه الوحدات شريكاً رئيسياً لها في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سورية.
تركيا تعتبر وحدات حماية الشعب منظمة إرهابية، غير منفصلة عن حزب العمال الكردستاني، الذي يشن تمرداً مسلحاً في جنوب شرق تركيا منذ العام 1984. وقد قُتل أكثر من 40,000 شخص في الصراع بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية. الحزب مصنف في تركيا، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية. وحدات حماية الشعب، التي ترتبط بعلاقات عضوية مع الحزب من حيث المنظور والعضوية، تنكر أنها تحتفظ بعلاقات عملياتية معه، وتقول إنها ظلت محايدة في القتال الدائر بين الحزب والدولة التركية. المسؤولون الأميركيون الذين شاركوا في القرار الأولي بدعم وحدات حماية الشعب يقولون إن ذلك حدث بعد محاولات متكررة غير ناجحة لإقامة شراكة مع تركيا والفصائل السورية التي تفضلها ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
لتهدئة أنقرة، اتفقت الولايات المتحدة مع تركيا في آب/أغسطس 2019 على تأسيس آلية مشتركة في شمال شرق سورية. في الأسابيع التي تلت، سحبت وحدات حماية الشعب قواتها من مناطق حدودية محددة وفككت تحصيناتها في مدينتي تل أبيض ورأس العين الحدوديتين. ورافقت القوات الأميركية الجيش التركي في دوريات مشتركة وأطلق الطرفان طلعات جوية في سورية لمراقبة تنفيذ الاتفاق. إلا أن المسؤولين الأتراك يدّعون أن هذه الخطوات لم ترقَ إلى تحقيق الهدف التركي في تطهير المنطقة من وحدات حماية الشعب لتصبح "منطقة آمنة" تسمح بإعادة توطين اللاجئين السوريين الذين يعيشون الآن في تركيا. مرة أخرى، حذر هؤلاء من اتخاذ إجراء تركي أحادي.
إن غزواً تركياً لشمال سورية يمكن أن يؤدي فقط إلى حرب جديدة وأزمة إنسانية جديدة. في أفضل السيناريوهات، ستبذل الولايات المتحدة الآن جهوداً لخفض تصعيد التوترات بين تركيا ووحدات حماية الشعب. لكن التوصل إلى ترتيب عسكري مستدام مقبول لكل من تركيا ووحدات حماية الشعب كان صعباً حتى قبل الهجوم التركي الأخير، حيث إن مطالبهما المحورية بدت غير متوافقة. فقد كانت أنقرة تتطلع إلى إنهاء هيمنة وحدات حماية الشعب على شمال شرق سورية، وتطالب بأن يكون للقوات التركية أو القوات الوكيلة لها السلطة النهائية، كما فعلت تركيا في منطقة "درع الفرات" في محافظة حلب ومنطقة عفرين في الماضي القريب. من جهتها، وحدات حماية الشعب، التي أشارت إلى أنها ستكون مستعدة للانسحاب من بعض المناطق الحدودية، ربطت هذا التنازل بنشر قوة دولية يمكن أن تردع تقدماً تركياً أكبر، وبذلك تحافظ على سيطرتها هي على الشمال الشرقي.
مع تقدم تركيا في هجومها، يبدو من غير المرجح التوصل إلى تسوية على أساس الأهداف التي سعت الولايات المتحدة لتحقيقها سابقاً؛ كما أنه من غير الواضح أن بعض الخطوات الإضافية لطمأنة أنقرة ستقنعها بتقييد نطاق عملياتها.
بصرف النظر عن الترتيب طويل الأمد، فإن الأولوية الملحة بالنسبة للولايات المتحدة ينبغي أن تكون إعلان وتكرار معارضتها لأي غزو تركي أكبر وأعمق. لقد أدى التصعيد العسكري على طول الحدود التركية السورية أصلاً إلى موجات جديدة من النازحين الهاربين من القتال وصرف اهتمام قوات وحدات حماية الشعب عن وادي نهر الفرات، حيث كانت تحارب بقايا تنظيم الدولة الإسلامية، وعن مراكز الاعتقال التي تحتفظ فيها قوات سورية الديمقراطية بمقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية وأسرهم. إذا استمر هذا النمط، يبدو من المرجح أن يعيد تنظيم الدولة الإسلامية تجميع قواته وتصعيد هجماته، ليس فقط في المناطق غير المستقرة مثل دير الزور، بل أيضاً في مناطق كانت مستقرة إلى حد كبير حتى الآن مثل مدينة الرقة، حيث شن تنظيم الدولة هجوماً قبيل بداية الهجوم التركي.
ينبغي أن ترى تركيا الكلفة الأوسع للهجوم؛ فعندما أطلقت هجومها في 9 تشرين الأول/أكتوبر، لم يصب قصفها فقط الأهداف الموجودة في منطقة توغلها البري الأولي (بين تل أبيض ورأس العين) بل أصاب أيضاً المراكز السكانية الرئيسية على طول الحدود شرق نهر الفرات، مثل القامشلي. وهذا أمر مثير للرعب؛ فإذا حاولت تركيا السيطرة على منطقة واسعة من الأرض كهذه، فإنها قد تتسبب بسقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين وبعملية نزوح كبرى.
كما أن من المرجح أن يواجَه ذلك بإدانة دولية أقوى مما حصل حتى الآن. ولذلك ينبغي على أنقرة أن تقلص أهدافها العسكرية، خشية أن تحدث عمليتها أثراً عكسياً، وتفاقم العلاقات المتوترة أصلاً مع واشنطن، ما سيدفع وحدات حماية الشعب إلى العودة إلى تكتيكات حرب العصابات وتغذية التمرد المسلح لحزب العمال الكردستاني في تركيا.
إن عدم التحرك بشكل حاسم الآن لمنع هجوم أوسع يمكن أن يلغي بسرعة النصر الذي تحقق على تنظيم الدولة الإسلامية وتحويل منطقة بدا أنها اجتازت منعطف الصراع إلى ساحة للصراع العنيف مرة أخرى.