أميركا اللاتينية بين كينان وأوباما
بروجيكت سنديكيت
2015-05-07 04:06
خوان غابرييل توكاتليان
بوينس آيرس ــ إن العالم يتذكر الدبلوماسي والاستراتيجي الأميركي الراحل جورج كينان بوصفه مؤسس مبدأ "الاحتواء"، والذي شكل نواة السياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة في إطلاق الحرب الباردة. ولكن كينان كان أيضاً أحد المهندسين الأساسيين لاستراتيجية كبرى أخرى تبنتها الولايات المتحدة: نهج "الهيمنة والانضباط" في التعامل مع أميركا اللاتينية. ورغم أن هذه الاستراتيجية كانت أقل خضوعاً للمناقشة، فإنها دامت لفترة أطول من الحرب الباردة. ومن حسن الحظ أن هذا ربما بدأ يتغير أخيرا، بفضل الرئيس الأميركي باراك أوباما.
في عام 1950 ــ بعد أربع سنوات من إرسال برقية من ثماني آلاف كلمة إلى وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال شرح فيها بالتفصيل وجهات نظره حول الاتحاد السوفييتي وسياسية الولايات المتحدة في التعامل معه ــ أرسل كينان مذكرة أخرى إلى وزير الخارجية دين أتشيسون. وهذه المرة، زعم كينان أن الولايات المتحدة لابد أن تتخذ موقفاً أكثر صرامة في المناطق المنتسبة إلى الشيوعية أو المتعاطفة معها. وقد تضمن التقرير الذي أعده كينان بعد جولة قام بها في أميركا اللاتينية تأكيدات وجيهة بشأن المنطقة.
فبادئ ذي بدء، زعم كينان أن التركيبة الخاصة التي جمعت بين "الطبيعة والسلوك البشري" في أميركا اللاتينية أنتجت "خلفية فريدة تعيسة وباعثة على اليأس لتسيير حياة البشر". وقد لاحظ كينان أن معوقات التقدم في المنطقة كانت "مكتوبة بدماء البشر وتتقفى أثر الجغرافيا"، وأن الحلول التي اقتُرِحَت كانت "ضعيفة وغير واعدة". وزعم أن هذا أفضى إلى "اعتراف غير واع بفشل الجهود الجماعية"، والتي تجلت "في حس مبالغ فيه بالمركزية الذاتية والأنانية".
من منظور كينان، كان من الأهمية بمكان أن تقاوم أميركا اللاتينية "الضغوط الشيوعية" الصادرة من الاتحاد السوفييتي ــ وهي النتيجة التي ينبغي للولايات المتحدة أن تساعد في تحقيقها. وكان ذلك يعني، أولاً وفي المقام الأول، خلق الحوافز لحكومات أميركا اللاتينية لتنفيذ سياسات موالية للولايات المتحدة.
ولكن الحوافز التي تصورها كينان لم تكن كلها إيجابية. بل على العكس من ذلك، زعم كينان أنه "عندما تكون مفاهيم وتقاليد الحكومة الشعبية أضعف من أن تستوعب بنجاح شدة الهجوم الشيوعي" فيتعين على الولايات المتحدة أن تعترف بأن "التدابير الحكومية القاسية" لقمع المشاعر الشيوعية هي "الحل الوحيد". ورغم أن هذه التدابير "لن تصمد أمام اختبار المفاهيم الأميركية للأساليب الديمقراطية"، فإنه كان مقتنعاً بأنها كانت ضرورية.
وعلى نحو مماثل، رأي كينان الحاجة إلى زيادة الاستثمارات الأميركية، مع قيام كبار رجال الأعمال بنشر "قوتهم المالية" بحكمة. ولكنه لاحظ أيضاً أن الرشوة ربما "حلت محل التدخلات الدبلوماسية باعتبارها وسيلة الحماية الرئيسية لرأس المال الخاص". وبهذا المعنى فإن توقعات الاستثمار الخاص في أميركا اللاتينية كانت تستند في الكثير من الحالات إلى "قابلية الأنظمة المحلية للفساد وليس استنارتها".
لقد تركزت توصيات كينان السياسية حول الهيمنة. فالولايات المتحدة كما يعتقد لابد أن تؤكد على مكانتها باعتبارها قوة عظمى ــ القوة التي كان احتياجها إلى أميركا اللاتينية اقل كثيراً من احتياج أميركا اللاتينية إليها. وإذا لم تتعاون حكومات أميركا اللاتينية مع الولايات المتحدة، فلابد من تأديبها بشكل مباشر أو غير مباشر. وعلى حد تعبيره " فإن خطر الفشل في استنفاد احتمالات علاقاتنا المشتركة أعظم كثيراً في كل الأحوال بالنسبة لهم مقارنة بحاله بالنسبة لنا". وهذا هو الافتراض الذي شكل سياسة الولايات المتحدة في التعامل مع المنطقة منذ ذلك الحين.
ولكن يبدو أن أوباما عاقد العزم الآن على جلب السياسة الأميركية أخيراً إلى عالم القرن الحادي والعشرين. ففي قمة الأميركيتين الأخيرة التي استضافتها بنما، أكَّد أوباما على حقيقة مفادها "أن الحرب الباردة انتهت منذ فترة طويلة". وأضاف أوباما أنه بدلاً من البقاء حبيساً في أجواء معارك بدأت قبل أن يولد، فإنه سيسعى إلى التعاون مع قادة أميركا اللاتينية لحل مشاكل اليوم.
وعلاوة على ذلك، أكَّد أوباما على رغبته في "بداية جديدة" في العلاقات الأميركية الكوبية. وعلى عكس أول إعلان من هذا القبيل، والذي صدر في إطار قمة الأميركيتين في عام 2009، فإن هذا الإعلان أعقبته تحركات ملموسة مع القرار الذي اتخذه أوباما برفع كوبا من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب.
ولكن على الرغم من هذه الخطوات الإيجابية فإن الولايات المتحدة لم تفلت بشكل كامل من تركة الديمقراطية القسرية من زمن الحرب الباردة. ويتجلى هذا في أوضح صوره في الأمر التنفيذي الذي أصدره أوباما مؤخراً بفرض العقوبات على سبعة من مسؤولي الشرطة والجيش من الرتب المتوسطة في فنزويلا، والذين اتُهِموا بانتهاك حقوق المحتجين خلال المظاهرات المناهضة للحكومة في العام الماضي. وقد أبرزت هذه الخطوة التأثير المستمر المتخلف عن اعتقاد كينان بأن الولايات المتحدة تحتفظ بالحق في ــ بل والمسؤولية عن ــ التدخل في الشؤون الداخلية لبلدان أميركا اللاتينية حيث السياسات الحكومية ليست على هواها.
إذا كانت الولايات المتحدة جادة في إنشاء شراكة حقيقية مع جيرانها في أميركا اللاتينية، فيتعين عليها أن تغير ليس فقط سياساتها، بل وأيضا ًمواقفها ــ التي تمتد جذورها إلى افتراض التفوق الثقافي القديم ــ التي تقوم عليها هذه السياسات. والسؤال الآن هو إلى متى قد تتمكن رسالة أوباما الجديدة من الحوار الصادق المخلص والمصالح المشتركة مع أميركا اللاتينية من التعايش مع استراتيجية كينان القائمة على الهيمنة قبل أن تتغلب إحداهما على الأخرى.
ومن هنا فإن انتخابات الرئاسة الأميركية العام المقبل قد تثبت كونها نقطة تحول. ولكن هل يعني هذا انتصار أفضل ما عَرَضَه أوباما أو العودة إلى أسوأ ما طَرَحَه كينان.