الأسلوب المحمدي في صناعة النفوس.. أسرار التربية المؤثرة
صباح الصافي
2025-08-24 04:29
حين يتأمَّل المرء في واقع المسلمين الرَّاهن، ويقف عند مسيرة الحركات الإسلاميَّة التي حملت على عاتقها نشر رسالة الله (تعالى) في الأرض، يجد صورةً مزدوجة تستدعي الوقوف الطَّويل؛ فقد اجتهدت هذه الحركات في إعداد المناهج، ورسمت الخطط والبرامج، وهيَّأت الطَّاقات التَّربويَّة والتَّعليميَّة، واستجمعت ما وسعها من معلمين ودعاة ومرشدين، غير أنَّ الفرد قد يمضي أعوامًا متطاولة بين جدران هذه المؤسسات وهو بعد لم يبلغ تلك القامة الربَّانية المنشودة، ولم يتحوَّل إلى ذلك القلب المضيء الذي يعوَّل عليه عند نزول البلاء واحتدام الصراع بين الحقِّ والباطل. وقد يخرج أحيانًا أكثر اطِّلاعًا في العلوم، أو أشد التزامًا بالشَّعائر الظَّاهرة؛ لكنه يفتقد الرُّوح التي تجعل من علمه نورًا، ومن التزامه حياة، ومن حضوره رسالةً تشعُّ فيمن حوله.
وعلى الضفة الأخرى، يكشف لنا التَّاريخ الإسلامي الأوَّل عن مشهد آخر يثير الدَّهشة ويستدعي العبرة؛ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله) لِيُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ، فَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ (تَعَالَى): (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(1).
فَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، وَانْصَرَفَ!
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله): "انْصَرَفَ الرَّجُلُ وَهُوَ فَقِيهٌ"(2). فنلاحظ أنَّ الأعرابي كان يأتي إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فيؤمن بما جاء به من غير تكلُّف ولا طول مكث. ولم تكن الأيَّام تمضي حتَّى يتحوَّل ذلك القادم البسيط، الذي لا يملك ثقافةً متراكمة ولا خبرةً سابقة، إلى إنسان يتزوَّد من معين الرِّسالة الصَّافي، ويتخلَّق بالأخلاق المحمَّديَّة الكاملة، فيغدو صورةً ناطقةً لمدرسة الإسلام. ولا يقف الأمر عند ذلك؛ وإنَّما ينطلق من إصلاح ذاته، فيبني مجتمعه من جديد، ويتهيأ لتحويل حاضره إلى جسرٍ لمستقبلٍ أرحب، ويجعل من التَّغيير سلَّمًا لتغيير الأمَّة بأسرها.
إنَّ هذا التَّباين العميق بين المشهدينِ يثير في العقل والقلب معًا سؤالًا جوهريًّا: كيف أمكن للكلمة النَّبويَّة الصَّادقة أن تُحدث انقلابًا جذريًّا في نفوس النَّاس، بأدوات قليلة ووسائل محدودة، فتجعل منهم بناة حضارة وحَمَلة نور، بينما نجد في حاضرنا أدوات كثيرة، وخططًا مكتوبة، وتوجيهًا متكررًا، ومع ذلك يظلُّ التَّحول الإيماني متباطئًا أو عسيرًا؟
هل السرُّ في صدق المبلِّغ، أم في صفاء المتلقي، أم في بركة الرِّسالة حين تُلقى من قلبٍ متصل يسكنه الله (تعالى) إلى قلبٍ متعطش للحقِّ؟
لماذا لم تتمكَّن الكثير من الهيئات الإسلاميَّة من أداء هذه الرِّسالة العظمى، على الرَّغم من وضوحها وضرورتها؟
هل كان الخلل في ضعف البرامج التَّربويَّة وضيق أفقها؟
أم في الوسائل التي بقيت أسيرة القوالب التَّقليديَّة، فلم تُلامس روح العصر ولم تخاطب حاجات الجيل؟
أم أنَّ العيب الأكبر يكمن في إغفال التَّطبيقات العمليَّة، والاكتفاء بالجانب النَّظري الذي يثقل الذَّاكرة ولا يغذِّي الرُّوح؟
قد يصدق أنَّ لكلِّ هذه العوامل نصيبًا من المسؤوليَّة؛ لكن لبَّ المشكلة أبعد مدى؛ فإنَّ السَّبب الأبرز في هذا التَّعثر هو غياب "العالِم الربَّاني" الذي يرى فيه الطَّالب أخًا أو ابنًا، لا مجرَّد تابع أو متلقٍ؛ إذ المربِّي الحقيقي هو الذي لا يقف عند حدود إلقاء المعلومات أو ترديد الشعارات، وإنَّما يعكس أخلاق النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وأخلاق أهل بيته (صلوات الله عليهم) في تربيته، فيعطي العلم وهو ممزوج بالرَّحمة، ويبث الهداية وهي مشفوعة بالمحبَّة، ويجعل من سيرته مرآة لشمائل الرَّسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، فيسري أثره في القلوب كما تسري الحياة في العروق؛ فتبني القلب قبل أن تبني الفكر، وتحوّل المدرسة من قاعة للتلقين إلى ملاذٍ يفيض بالنُّور.
حين أراد النَّبيُّ محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) أن يُلخِّص رسالته بكلمة جامعة، قال: "بعثت معلِّماً" (3)، وفي هذا الإعلان الموجز يكمن جوهر الرِّسالة المحمديَّة؛ فالدَّعوة جاءت في ثوب التَّربيَّة العميقة التي تصوغ النُّفوس وتبني العقول. ولهذا لم يكن مستغربًا أن تسير التَّربيَّة جنبًا إلى جنب مع الدَّعوة منذ فجرها الأوَّل، وأن تكون ركيزة محوريَّة في مشروع الإسلام الحضاري.
لقد كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) -وهو خريج المدرسة الإلهيَّة الكبرى- أعظم معلِّم في تاريخ البشريَّة، فكان يزرع في القلوب حبَّ الحقِّ، ويربط بين المعرفة والعمل، ويجعل الكلمة نورًا يهدي، والموعظة دواءً يشفي. وبذلك غدا (صلَّى الله عليه وآله) المثل الأعلى لكلِّ من أراد أن يحمل رسالة التَّعليم والتَّربيَّة، والأسوة الحسنة التي ينبغي أن يستلهم منها المعلمون والدُّعاة طريقهم، فيحوّلوا التَّعليم من مهنة إلى رسالة، ومن حرفة إلى عبادة، ومن وظيفة إلى صناعة إنسان. وفي هذا السِّياق، قال الإمام علي (عليه السلام): "إنَّ رسولَ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) أدَّبهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، وهو أدَّبني، وأنا أؤدبُ المؤمنينَ، وأورث الأدب المكرمينَ" (4). وعن الإمام الصَّادق (عليه السلام): " إِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) أَدَّبَ نَبِيَّهُ، فَأَحْسَنَ أَدَبَهُ، فَلَمَّا أَكْمَلَ لَهُ الْأَدَبَ، قَالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (5)، ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ الدِّينِ وَالْأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبَادَهُ" (6).
إنَّ التَّأمل في السِّيرة العمليَّة لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، والوقوف عند أساليبه التَّربويَّة التي طبَّقها في بناء الأمَّة، يكشف لنا عن أعظم ثروة تربويَّة عرفها التَّاريخ؛ فقد انتقل بأصحابه من ظلمات الجهل إلى نور العلم والمعرفة، وحوَّل خشونة طباعهم إلى رقَّة وأدب، وبدَّل فيهم نزعة الأنانيَّة الجامحة بروح الإنسانيَّة الرَّحيمة، واقتلع من قلوبهم رواسب الجبروت القبلي والعصبيَّة العمياء ليغرس مكانها أخوَّة في الله (تعالى). ولم يقتصر أثره على إصلاح حاضرهم؛ بل جعلهم قادرين على صناعة الحاضر وبناء المستقبل معًا، حتَّى تحوَّلوا إلى حملة رسالة وعمَّار حضارة.
وهذا الاستعراض لمسيرة النَّبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) يؤكِّد بوضوح أنَّه المربِّي الأوَّل، والمعلِّم الأعظم للأجيال، وأنَّ بصماته التَّربويَّة كانت حياة متجسِّدة في أقواله وأفعاله وتوجيهاته. وكلُّ من تأثَّر به وجد فكره يتغيَّر، وعاطفته تتطهَّر، وسلوكه يتسامى إلى مدارج الكمال.
ومن هنا، سنحاول أن نتوقف عند بعض الملامح البارزة لشخصيته (صلَّى الله عليه وآله) التَّربويَّة؛ لنستضيء بها في فهم معنى التَّربيَّة المحمَّديَّة، ونستلهم منها طريق الإصلاح الحقيقي للإنسان والمجتمع.
المحور الأوَّل: جذور التربيَّة النبويَّة.
1- العلم عبادة ورسالة.
لقد جعل النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) العلم والتَّربيَّة محور رسالته، وقرن بين التِّلاوة والتَّزكيَّة والتَّعليم، كما نصَّ القرآن الكريم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (7). فقد كانت رسالته جامعةً بين تزكيَّة النُّفوس وبناء العقول، ليخرج أمَّةً من ظلمات الجهل إلى أنوار الهداية.
لم يقتصر دوره على تعليم أصحابه؛ وإنَّما دفعهم أيضًا إلى نشر العلم في مجتمعاتهم، ليشيع النور بين النَّاس كما يشيع الضِّياء في الفضاء؛ قال (صلَّى الله عليه وآله): "... واللهِ ليعلمن قومٌ جيرانَهم ويفقهونَهم ويعظونَهم ويأمرونَهم وينهونهم وليتعلمن قومٌ من جيرانِهم ويتفقهونَ ويتعظونَ أو لأعاجلنهم العقوبةَ في الدُّنيا" (8). وهو نصٌّ بالغ القوَّة؛ إذ جعل التَّقصير في تبليغ العلم أو تلقيه معصيَّة تستحق العقوبة في الدُّنيا قبل الآخرة، وهنا يبرز أنَّ التعلُّم والتَّعليم هما فريضة شرعيَّة، كما صرَّح بقوله: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلِم، أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ" (9).
أمَّا طبيعة هذا العلم المطلوب، فقد ركَّز النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) على العلم النَّافع الذي يبني الفرد، ويرتقي بالمجتمع، ويخدم الإنسانيَّة؛ ذلك العلم الذي يكون أساسًا للعمران، وعدّةً للنهضة، وجسراً إلى معرفة الله (تعالى). وأمَّا العلم الذي لا يعود بخير، ولا يقدِّم منفعة، فقد استعاذ منه الحبيب المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) قائلًا: "اللهم إنِّي أعوذُ بكَ من علمٍ لا ينفع"(10).
وهكذا، تتضح عظمة النَّظرة النَّبويَّة للتَّعلم والتَّعليم، وأنَّها عبادة، وفريضة، ورسالة، ووسيلة لصناعة الإنسان الربَّاني الذي يُصلح نفسه ويُصلح العالم من حوله.
2- الرَّحمة أساس التربيَّة.
العلم لا يستقر في القلب، ولا يتجاوز حدود الألفاظ والشِّفاه، ما لم تُظَلِّله المحبَّة، وتُحيط به الرَّحمة، ويُصاحبه اللطف والرِّفق. وهذه هي القاعدة الذهبيَّة التي جسَّدها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في سيرته التَّربويَّة؛ إذ جمع بين العلم والرَّحمة، فكان عطاؤه المعرفي مرتبطًا بروح الشَّفقة، ومبثوثًا في أجواء المودَّة واللين. قال الله (تبارك وتعالى) في وصفه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (11).
لقد كانت رحمته (صلَّى الله عليه وآله) ورحمة أهل بيته (عليهم السلام) منهجًا عمليًّا وتعليمًا دائمًا؛ فهو الذي قال: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، مَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ، وَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ" (12).
ومن هنا نفهم أنَّ المربِّي إذا خلا قلبه من الرَّحمة، وكان جافًّا غليظًا، فلن ينجح في مهمَّته، ولن يجد إلى القلوب سبيلًا. وقد أكَّد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله (تعالى): (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (13).
وهذه آية شاملة لأهمِّ الخصائص النَّفسيَّة في شخصيَّة المربِّي مثل:
- إنَّ التَّربيَّة الحقَّة تقوم على الرَّحمة الواعية، لا على الشدَّة أو الغلظة التي تفتت جسور العلاقات الإيجابيَّة. وحتَّى إن زلَّ المتعلِّم بخطيئة، فإنَّ تلك الرَّوابط ينبغي أن تبقى متينة، تستمد قوَّتها من العفو والسَّماح، لا من العقاب والقسوة.
- إشعار المتعلِّم بكرامته وشخصيته وأهميته (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)؛ لأنَّ المرء لا يتعلَّم إلَّا إذا أحبَّ معلمه، وعلاقات المحبَّة إنَّما تتزايد بالإحترام المتبادل.
وهكذا علَّمنا النَّبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) أنَّ التَّربيَّة هي رحمة شاملة تُترجم إلى سلوك يومي، فيكبر العلم في ظلِّها، وتزكو النُّفوس بثمرتها.
3- إعطاء الحقِّ للجلساء.
ممَّا تميَّزت به شخصيَّة النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) في أسلوبه التَّربوي، أنَّه كان يُنزل كلَّ جليس منزلته، ويمنحه حقَّه من الاهتمام والاحترام، فلا يشعر أحدٌ في مجلسه أنَّ غيره أقرب إلى قلب النَّبي المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) منه. ولقد كان (صلَّى الله عليه وآله) بحسن خُلقه وسعة صدره يجعل كلَّ من يجلس بين يديه يظنُّ أنَّه أحبُّ النَّاس إليه، فيفيض ذلك على النَّفس راحةً وطمأنينة، ويغرس في القلب شعورًا بالكرامة والاعتبار.
وقد وصف أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) هذه الميزة النَّبوية البارزة، فقال: "يُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ بِنَصِيبِهِ. لا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ..." (14). إنَّها شهادة تكشف لنا عن مجلسٍ كان ساحة مفتوحة تسع الجميع، فيذوق فيها كلُّ واحدٍ حلاوة الحضور وقيمة الذَّات.
إنَّ هذا السُّلوك التَّربوي الفريد هو في جوهره درسٌ بليغ للمربين والدُّعاة والمعلمين: أنَّ نجاحهم يقاس بقدرتهم على احتضان النفوس، وإشعار كلِّ فرد بخصوصيته ومكانته، وليس بوفرة ما يلقون من كلمات.
المحور الثَّاني: فنون التربيَّة العمليَّة.
1- حسن الاستماع.
كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) مثالًا يُقتدى به في حسن الاستماع؛ فقد أدرك أنَّ حسن الإصغاء هو نصف الجواب، وأنَّ السَّامع الجيِّد يملك القدرة على الفهم العميق واتِّخاذ القرار الصَّائب؛ فالكلمة إذا لم تُسمع كاملة ضاعت دلالتها، ونصف الحديث لا يصلح لبناء موقف أو إصدار حكم.
ومن معالم حسن الاستماع أن يتفرغ المربِّي أو المسؤول لمحدثه تفرغًا كاملًا، فلا يشغله شأن آخر ولا يقطعه همّ مختلف، فيولي سمعه وقلبه ووجهه لمن يحدثه؛ ولذلك، كان (صلَّى الله عليه وآله) إذا أقبل عليه إنسانٌ بحديثه، أقبل إليه بوجهه كلِّه، وأصغى له كأنَّه الوحيد الذي يخاطبه، فيشعر السَّائل بمهابته أوَّلًا وبكرامته ثانيًا.
ومن حسن الاستماع أيضًا أن يركِّز المستمع على لبِّ الموضوع، فيبتعد عن الهامشيات التي تشتِّت الذِّهن وتضعف التَّركيز، فيخرج الحوار مثمرًا واضحًا. كما يبتعد عن التَّسرُّع في الاستنتاج أو إصدار الأحكام على السَّائل قبل أن يتمَّ كلامه، إذ كم من حكمٍ جائر أو موقفٍ خاطئ نشأ من عجلةٍ في الفهم، أو من مقاطعةٍ غير حكيمة؛ لذا، ينبغي أن نتدبر في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما يصف سكوت وتفكر واستماع النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، فيقول:
"كَانَ سُكُوتُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ) عَلَى أَرْبَعة: عَلَى الْحِلْمِ وَالْحَذَرِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّفْكِيرِ، فَأَمَّا تَقْدِيُرهُ، فَفِي تَسْوِيَتِهِ النَّظَرُ وَالاسْتِمَاعُ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَمَّا تَفْكرُهُ، فَفِيمَا يَبْقَى وَيَفْنَى، وَجُمِعَ لَهُ الْحِلْمُ وَالصَّبْرُ، فَكَانَ لَا يُغْضِبُهُ شَيْءٌ، وَلا يَسْتَنفِرهُ، وَجُمِعَ لَهُ الْحَذَرُ فِي أَرْبَعَةٍ: أَخْذِهِ بِالْحَسَنِ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَتَرْكِهِ الْقَبِيحَ لِيُنتَهَى عَنْهُ، وَاجْتِهَادِهِ فِيمَا أَصْلَحَ أُمَّتَهُ، وَالْقِيَامِ فِيمَا جَمَعَ لهُم خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ"(15).
وعنه (عليه السلام): "قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ:
الْمِرَاءِ، وَالإِكْثَارِ، وَمِمَّا لا يَعْنِيهِ. وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلاثٍ: كَانَ لا يَذِمُّ أَحَدًا وَلا يُعَيِّرُهُ، وَلا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ، وَلا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ. إذا تكلَّم أطرق جلساؤه كأنَّما على رؤوسِهم الطَّيْرُ، فَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا وَلا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ. مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ..." (16).
وهكذا، كان التواضع النبوي في الاستماع درسًا عمليًّا لكل مربٍ وداعية: أنَّ التربيَّة تكون بالإنصات العميق، والاهتمام الصَّادق بحاجات السَّائل حتّى يجد عندك قلبًا رحبًا وعقلًا منصفًا، وليس بالكلمات فقط.
2- مراعاة الفروق الفرديَّة.
لقد كان المعلِّم الأوَّل (صلَّى الله عليه وآله) بارعًا في مراعاة الفروق الفرديَّة والنَّفسيَّة بين المتعلمينَ؛ إذ كان يخاطب كلَّ شخص بحسب قدراته واستعداده، ويقدِّم له ما يتوافق مع منزلته ومستوى فهمه.
وكان يقول (صلَّى الله عليه وآله): "إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلى قَدْرِ عُقُولِهِمْ" (17)، فلم يكن يثقل على المبتدئين بما يتجاوز طاقتهم، ولم يلقِ على المتقدمينَ ما قد يضعف إدراكهم أو يحجب عنهم التَّقدم؛ بل كان يحافظ على قلوبهم ويصون طاقتهم المعرفيَّة والنَّفسيَّة.
3- تحويل الإساءة إلى درس.
إنَّ العلاقات المليئة بالمودَّة والاحترام ينبغي أن تكون حجر الزاوية في بناء كلِّ شخصيَّة إنسانيَّة كريمة؛ فهي تمنح الفرد القدرة على أن يعيش سعيدًا في ذاته، وتنشر السَّعادة فيمن حوله. ويصبح هذا السلوك أكثر وجوبًا وأشد إلحاحًا حين يتعلَّق الأمر بمن يمتلك سلطة تربويَّة أو تعليميَّة أو إشرافيَّة؛ إذ إنَّ سلامة الصَّدر، واتِّساع القلب، وهدوء النَّفس، هي عناصر عاطفيَّة وعقليَّة ضروريَّة لنجاح أي علاقة إنسانيَّة ذات قيمة.
ولننظر إلى موقف تربوي نفسي رائع يضيء لنا هذا الأسلوب في حياة الرَّسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله): "أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلى النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟
قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَلا أَجْمَلْتَ.
فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ، وَقامُوا إِلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا، ثُمَّ قَامَ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَأرْسَلَ إِلَيْهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ)، وَزَادَهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟
قَالَ: نَعَمْ. فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله): إِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ وَفِي نَفْسِ أَصْحَابِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِي صُدُورِهمْ عَلَيْكَ، قَالَ: نَعَمْ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَوِ الْعَشِيُّ جَاءَ، فَقَالَ (صلَّى الله عليه وآله): إِنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ قَالَ مَا قَالَ فَزِدْنَاهُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ رَضِيَ أَكَذَلِكَ؟
قَالَ: نَعَمْ. فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعِشِيرَةٍ خَيْرًا.
فَقَالَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله): مَثَلِي وَمَثَلُ هَذَا، مثل رَجُلٍ لَهُ نَاقَةٌ شَرَدَتْ عَلَيْهِ، فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُهَا: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي، فَإِنِّي أَرْفَقُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْلَمُ، فَتَوَجَّهَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا فَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الْأَرْضِ، فَرَدَّهَا حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ، وَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا، وَاسْتَوَى عَلَيْهَا، وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ، فَقَتَلْتُمُوهُ دَخَلَ النَّارَ"(18).
وهنا نجد علاجًا تربويًّا نفسيًّا مزدوجًا: فهو يعالج الأعرابي ليصحح ما بدر منه، ويعالج نفوس أصحابه ليزول عنهم أي شعور بالاستياء.
إنَّ هذا الموقف يحمل درسًا تربويًّا وإداريًّا بالغ الأهميَّة: التَّحليل الدَّقيق لعقليَّة الأفراد، ومراعاة فروقهم النَّفسية، وحسن المعاملة، ورد الإساءة بالإحسان، كلها عوامل تصنع سلوكًا راقيًا وتزرع السَّعادة في القلوب، وتؤكِّد أنَّ التَّربيَّة النَّاجحة تشمل فن إدارة القلوب بذكاء ورحمة.
إنَّ أعظم درس نستخلصه من سيرة الرَّسول الأكرم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) أنَّ التربيَّة المثمرة لا تقتصر على نقل المعلومات؛ وإنَّما تمتد لتبني القلب والعقل. ومن أراد أن يسلك هذا الطَّريق؛ فعليه أن يزرع القيم قبل أن يغرس المعرفة، وهذا هو السَّبيل إلى صنع جيلٍ قادر على الإصلاح الذَّاتي والاجتماعي بصدق وإخلاص.