إرث الصراع وتحديات التحول: قراءة في بنية السلوك الانتخابي في العراق

علي الطالقاني

2025-11-17 02:53

تُشكل الانتخابات في العراق الآن اختباراً مزدوجاً. من جهة فانها تمثل أحد مظاهر الشرعية والمؤسساتية، ومن جهة أخرى ساحة تتكثف فيها عناصر الصراع، والمال السياسي، وآليات التسقيط التي تقوض إيجابية العملية الديمقراطية، وفي هذا المقال نحاول إعادة تركيب الوقائع والتحديات ثم نقدم تحليلاً منسقاً مستنداً إلى وقائع.

منذ 2003 تطورت عملية الانتخابات في العراق داخل بنية سياسية تقوم على تقاسم النفوذ والمواقع، هذه البنية جعلت من الانتخابات وسيلة لتوزيع المنافع أكثر منها فرصة للمساءلة والتحول، فأن الاقتصاد السياسي لعملية الترشح والحملات الانتخابية في العراق يهيمن عليه فاعلون يمتلكون موارد وشبكات نفوذ تجعل المنافسة غير متكافئة، ما يزرع شعوراً واسعاً بالاستياء لدى الناخبين.

أحد المظاهر الأشد وضوحاً هو امتداد دور المال الانتخابي إلى مستويات مؤثرة، منها شراء الأصوات، وتمويل حملات انتخابية بمبالغ ضخمة، وحتى تجارة بطاقات الناخبين في السوق السوداء، وأشارت لذلك تقارير محلية ودولية رصدت أمثلة من عمليات شراء أصوات بشكل منظم وعبر أساليب مدفوعة الأجر تُستخدم لضمان نتائج محسوبة، وهو ما يلقي بظلاله على نزاهة العملية الانتخابية والديمقراطية وشرعيتهما، هذه الحالة لا تفسر فقط كحدث فردي وإنما تتجاوزه كأداة مهيكلة داخل النظام السياسي لتحقيق الاستمرارية لدى القوى القائمة.

إلى جانب المال، برزت ظاهرة التسقيط السياسي بأشكال متعددة عبر حملات تشويه ممنهجة تقوم بها شبكات إعلامية، واللجوء إلى اتهامات قانونية تستهدف منافسين، وإقصاء سياسي قبل أن تبدأ المنافسة الحقيقية، مثل هذه الممارسات تعمل على إضعاف البدائل المستقلة وتكريس سطوة التحالفات التقليدية، وتحول الساحة الانتخابية إلى ساحة لتصفية الحسابات أكثر منها لمناظرة السياسات.

أما عامل الأمن فله أثر مزدوج عبر انخفاض العنف المسلح نسبياً لكنه لا يعني غياب الضغوط، إذ تُستخدم قوى محلية للضغط على المرشحين والناخبين أو لتأطير النتائج بمنطق الأمر الواقع، وبهذا تصبح قدرة الدولة على حماية نزاهة الانتخابات مرتبطة أيضاً بمدى تحييد نفوذ هذه القوى عن العملية السياسية، فان في الغالب استقرار الشارع، يُقابل بزيادة وسائل القمع أو الاحتواء السياسي التي تُقوض حرية المنافسة. نتيجة هذا المزيج، تظهر تداعيات ملموسة من بينها: 

أولا، تراجع الثقة العامة في المؤسسات الانتخابية، وانخفاض المشاركة في بعض المناطق أو مقاطعتها، وترسيخ دورة إعادة إنتاج النخب بدل صنع تغيير حقيقي في أداء الحكومة أو توزيع الموارد، كما أن التنافس القائم على الأموال والولاءات الحزبية يضعف فاعلية البرلمانات ويُبعد التركيز عن قضايا يومية مثل الخدمات والوظائف ومكافحة الفساد.

مشكلة العراق تتطلب معالجات تتعدى المال الانتخابي، بل تصل إلى معالجة بنية دولة تتأثر بمصالح فاعلين محددين يحتكرون المال والسلطة، لذا فان الإصلاح يجب أن يتعدى تشريعات الحملة إلى إصلاحات أوسع في إدارة الموارد والوظيفة العامة. 

ثانياً، الشفافية والرقابة المستقلة فهي ضرورية، لكنها لن تكون كافية من دون إرادة سياسية حقيقية لتطبيقها وحماية المراقبين والمبلغين عن الانتهاكات أو المخالفات. 

ثالثاً، تجريد الانتخابات من تأثير العنف بكل أنواعه من خلال مقاربة أمنية – مؤسساتية تراعي الحماية القانونية للناخبين والمرشحين، وفصل العنف عن السياسة.

وفي حال أراد العراق أن ينتقل بالانتخابات من مجرد طقس يعيد إنتاج الواقع نفسه إلى أداة حقيقية للتغيير، فلا يكفي إدخال تعديلات تقنية محدودة، بل المطلوب رؤية شاملة تقوم على إصلاحات قانونية وانتخابية واضحة، وتشديد الرقابة على التمويل السياسي، وضمان حرية الإعلام وحماية الفضاء المدني، إضافة إلى سياسات فعالة تشجع مشاركة الشباب والمجتمع المدني وتزيد من مساءلة المسؤولين، ومن خلال هذه المقاربة المتكاملة يمكن الحد من نفوذ المال السياسي وحملات التسقيط، واستعادة ثقة المواطنين بأن الانتخابات قادرة فعلاً على صناعة تغيير ملموس.

ذات صلة

الغضب ونصائح الأطباءالتعددية والوحدة.. أية علاقةكيف ستشكل الانتخابات البرلمانية العراقية سياسات البلاد؟حين يعاقب الجاني القضاء‏التحديات الكبرى التي تنتظر الحكومة العراقية الجديدة