خلافة مفاجئة: هل هناك أهمية لوفاة الملك؟
دراسة تأثير التغيير المفاجئ في الشرق الأوسط
معهد واشنطن
2019-08-14 06:54
بقلم: مارتن كريمر
"رغم مناقشة الخلافة كثيراً بين محللي شؤون الشرق الأوسط ونقاده، إّلا أنها غالبًا ما ُتطرح في الشرق الأوسط، خارج أي سياق أوسع، إما تاريخيًا أو نظريًا. وتتمثل المقاربة المعتادة في نشر بعض السيناريوهات - ثالثة دائماً عدد شائع - ثم تحديد أولوياتها وفقاً للحدس. والحق يقال، إن التخمين هو أفضل طريقة مثبتة للتنبؤ.
ولكن هناك سؤال أكثر عمقًاِ من ذلك المتعلق بالشخص الذي قد يخلف زعيماً راحلاً وكيف سيتم ذلك:
هل ُيعتبر وفاته في غير أوانه مهمًا؟"
يعتبر السؤال العام حول ما إذا كان القادة مهمين بأنفسهم سؤالا واسعاً وقديماً. وقد ُيعذر من يعتقد بأن الإجابة واضحة، بالنظر إلى أنه يتم استثمار الكثير من الوقت والطاقة في دراسة ذهنية القادة. وتقوم وكالات الاستخبارات بتجميع ملفات السير الذاتية، وحتى النفسية منها، وهي على يقين بأن القادة يضطلعون بأهمية كبرى. ولكن هناك مذهب فكري غير مقتنع بهذا الرأي، والذي يعتبر أنه لا يمكن للقادة تحويل مجرى التاريخ العام، أو أنهم ُيدفعون بأنفسهم إلى الواجهة في خضم ذلك المجرى.
ويغذي هذا النقاش مجاّلً رمادياً كاملا يعرف بالتاريخ البديل. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا، ماذا لو كان لنكولن قد ترأس إعادة الإعمار؟ ماذا لو قتلت تلك القنبلة هتلر في ميونيخ عام 1939؟ ماذا لو لم تصب الرصاصات جون أف كندي؟ إلى أي مدى لعب القائد دوراً مصيرياً في الأحداث التي أعقبت رحيله أو نجاته بأعجوبة؟ كل من يبدأ بمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، يكشف عن افتراضاته الأساسية بسرعة نسبية.
لذلك، لاستباق افتراضاتي الأساسية، يمكن دراسة حالتين متناقضتين: الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل السعودي الملك سلمان. إذا توفي أي منهما غداً، فستبرز قضية خلافة، وربما حتى أزمة. ولكن التأثيرات المحتملة قد تكون مختلفة. فأحد هذين الرجلين هو جنرال مفعم بالحيوية في الرابعة والستين من عمره، وفي منتصف خطته (للبلاد)، والآخر عاهل في الثالثة والثمانين من عمره، سبق أن تعرض لجلطة دماغية ويعاني من عته خفيف. وبمجرد عرض المقارنة على هذا النحو، يمكن الاستنتاج أنه إذا رحل السيسي، سيُحدث ذلك على الأرجح وقعاً أكبر من رحيل سلمان. وإذا تخطى المرء تفاصيل الخلافة وسأل عما سيكون عليه التأثير، فستدخل العديد من المتغيرات في عين الاعتبار. أقترح إثبات أن أحد هذه المتغيرات هو الأكثر أهمية: قوس الحياة أو مسار الشخص المعني.
لا يمكن اختبار هذا الافتراض من خلال التكهنات المستقبلية، لذلك، أرغب أن أعرض مقارنة بين الحالات التاريخية التي أحدث فيها رحيل القادة المفاجئ أثراً كبيراً أو بسيطاً، على اعتبار أن قوس الحياة هو العامل المتغير.
***
دعوني أبدأ بمثالين نموذجيين من التاريخ العربي الحديث. إن أبرز قائدين عربيين في كل نصف من القرن العشرين توفيا وهما في السلطة، توفيا وهما شابين، توفيا بسبب المرض، وتوفيا بشكل غير متوقع. وهما الملك فيصل الأول في العراق، الذي توفي عام 1933 عن عمر يناهز الخمسين عاماً، والرئيس جمال عبد الناصر في مصر، الذي توفي عام 1970 عن عمر يناهز اثنين وخمسين عاماً. وهناك أوجه تشابه بين هاتين الحالتين، ولكن أيضاً بعض الاختلافات الملفتة للنظر.
كان الملك فيصل الأول، الأمير السابق، أول رئيس دولة عربي مستقل. فقد قاد الثورة العربية بالشراكة مع بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، وأصبح الشخصية العربية المفضلة لدى البريطانيين في حقبة الهيمنة البريطانية. وأسس لفترة وجيزة مملكة عربية فاشلة في سوريا عام 1920؛ وعندما طردته فرنسا، عينه البريطانيون ملكاً على العراق عام .1921 وأصبحت العراق دولة مستقلة تحت قيادته عام .1932
وكان هدف الملك فيصل تأسيس العراق، بعربه وأكراده وسنته وشيعته، كأمة. وبحلول عام 1932، كان لا يزال أمامه الكثير من العمل للقيام به. وكما كتب في مذكرة مشهورة في ذلك العام: "لم يتكون الشعب العراقي بعد، ما لدينا هو حشود من البشر يفتقرون الى وعي وطني أو شعور بالوحدة، منغمسين في الخرافات الدينية والتقاليد، يتقبلون الشر، ويميلون نحو الفوضى وهم مستعدون دائماً للوقوف ضد أي حكومة أياً كانت".
وغادر فيصل المدمن على التدخين إلى سويسرا للتشافي عام 1933 فقد كان مرهقاً ومصاباً بوعكة صحية، ولكن لم يعتقد أحد أنه على شفير الموت. ففي فندقه الفاخر في برن، استقبل منفيين عرب من كافة أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان نشطاً في الدوائر الاجتماعية، ولا سيما سباقات الخيل. ولكن بينما كان يأوي إلى فراشه في إحدى الليالي، شعر بخفقان في قلبه. وأعطاه طبيب "المشاهير" السويسري حقنة من نوع ما، ولكن بعد وقت قصير، أصيب بنوبة قلبية. وأظهر التشريح أنه توفي من جراء تمزق في شريان ناجم عن تصلب شرياني متقدم. واستقبلت الحشود نعشه خلال رحلته الطويلة من سويسرا إلى العراق، حيث أقيمت له جنازة مهيبة. وخلفه ابنه غازي البالغ من العمر واحد وعشرين عاماً.
هل أدت وفاة فيصل السابقة لأوانها إلى تغيير مجرى التاريخ؟ قد ينفي البعض ذلك. ففي النهاية، صمدت المملكة العراقية لمدة خمس وعشرين سنة أخرى، حتى ثورة عام 1958 وكان غازي يفتقر إلى اعتدال والده، ولكنه توفي في حادث سيارة عام 1939 وكان الخلف المتوقع طفلاً، وبالتالي، حكم العراق آنذاك وصي على العرش، بالشراكة مع ملازمي فيصل المخلصين له. واستمرت بريطانيا في دعم المملكة العراقية. حتى أن بريطانيا غزت العراق لإنقاذه عام 1941، بعد أن نفذ الضباط الموالون لدول المحور انقلاباً.
ولكن آخرين اعتبروا أن وفاة فيصل كانت مأساة لا ُتضاهى أبعادها، وهي العامل الأساسي الذي وجاه العراق نحو انعدام الاستقرار والعنف، اللذان تفشيا في بقية العالم العربي. وبعد الاستقلال، أصبح الجيش العراقي جهة فاعلة مهيمنة في السياسة. فوفقاً لمحمد طربوش، مؤرخ في السياسة العراقية: "لو عاش فيصل لفترة أطول، لربما كان قادراً على كبح نمو قوة الجيش". وعوضاً عن ذلك، "ازدادت هيبة الجيش وثقته"، وفي غضون بضع سنوات، " كان ضباط الجيش وليس السياسيون هم المسؤولون فعلياً".
وبالتالي، كان فيصل قد عمل على مواجهة الجيش، أو ربما أعادت وفاته فتح الباب أمام البريطانيين بشكل مأساوي. ووفقاً لمؤرخ آخر في السياسة العراقية إدموند غريب: "لو عاش فيصل عشر سنوات أخرى، لكان تاريخ العراق مختلفاً تماماً. فبعد وفاته، تمكن البريطانيون من تقويض الحكومة والملكية من خلال الضغط عليهما باستمرار لخدمة المصالح البريطانية".
ومؤخراً سُئل كاتب سيرة فيصل المعجب به، علي علاوي، عما كان سيحدث لو عاش فيصل حتى سن السبعين، أي حتى عام 1953 بدّلً من 1933 فأجاب على النحو التالي: لكان فيصل قد نجح في خلق ما يفتقر إليه العراق والمنطقة بأسرها: "شعور بالسيادة القومية لمجموعات ومجتمعات متباينة". وأضاف، "لم تكن مؤسسات الدولة العراقية الحديثة قد تدهورت كما حصل في ظل الانقلابات المختلفة التي أعقبت وفاته. لا أعتقد أننا كنا سنخوض المواجهة مع بريطانيا عام 1941، التي أدت إلى غزو آخر وكافة الصدمات اللاحقة التي انبثقت عنه. لا أريد الخوض في تاريخ منافي للواقع، ولكنني أعتقد أنه كان من الممكن أن تكون هناك نتيجة مختلفة".
قد يعترض المرء على ذلك. وربما كانت المشاكل التي حددها فيصل نفسه قد هزمته بحد ذاتها، بغض النظر عن المدة التي عاشها. وربما كانت المؤسسة العسكرية والبريطانيون والعراقيون المشاكسون قد حطموه، إذ أن بنيته الجسدية لم تكن قوية. ولكن هناك أمر واحد مؤكد: غادر فيصل الساحة في منتصف قوس حياته. صحيح أنه أنجز الكثير، لكن بقي هناك المزيد مما كان ينبغي عمله، وكان لا يزال في وضع يتيح له القيام بذلك.
هذا هو السؤال المصيري الذي يجب طرحه. إذا رحل قائد، فأين يكون في قوس حياته ومسيرته ورسالته؟ إذا كان قائداً يفترض أن يكون لديه سجل من الإنجازات. هل هو في منتصف الأعمال التي قام بها في حياته أم ما زال متفرغاً لها؟ هل يقودها إلى خاتمتها؟ أم أنها أصبحت وراءه؟ (كما سنرى، لا يرتبط ذلك مباشرةً بالعمر. في بعض الأحيان يبدأ القادة في وقت مبكر، بينما ينطلق البعض الآخر في مرحلة متأخرة).
دعوني الآن أعطيكم مثالا معاكساً، عن وفاة غير متوقعة جاءت في مرحلة متأخرة جداً لكي ُتحدث تأثيراً هائلا. في عام 1952، أطاح جمال عبد الناصر و"حركة الضباط الأحرار" التي كان ينتمي إليها بالملكية المصرية. وسرعان ما برز بين أقرانه ليصبح حاكم مصر بلا منازع. وأصبحت سيرته الذاتية مشابهة لتاريخ مصر: التحالف مع الاتحاد السوفياتي، حرب السويس، الموجة الناصرية لعام 1958، تكون الاتحاد مع سوريا وتفككه، التعثر في حرب اليمن، وكارثة حرب عام 1967 مع إسرائيل.
ووفقاً لزوجته، أصيب عبد الناصر بداء السكري عام 1958 كان يدخن مائة سيجارة كل يوم وكان يوم عمله يتألف من ثماني عشرة ساعة، وكان يعاني من تصلب الشرايين ومن ألم حاد في ساقيه، بحيث أنه كان يعتمد بشدة على المسكنات. وفي عام 1969، أصيب بنوبة قلبية وبقي طريح الفراش لمدة ستة أسابيع. ووفقاً لطبيبه المصري، أدى ذلك إلى تعطيل 40 في المائة من وظيفة القلب. وبعد بضعة أشهر، عين عبد الناصر أنور السادات نائبًا للرئيس. وفي صيف عام 1970، قام ناصر بزيارة إلى موسكو لمدة ثالثة أسابيع للعلاج فيها.
وفي غضون ذلك، تم إبقاء الشعب المصري في حالة من الجهل التام، إذ قيل له أن عبد الناصر مصاب بالإنفلونزا. وقد حثه أطباؤه السوفيات على تجنب الإجهاد، ولكنه تجاهلهم. وفي عام 1970، عند اختتام قمة عربية في القاهرة، في خضم أزمة أيلول الأسود في الأردن، أصيب بنوبة قلبية أخرى وتوفي. وأفاد السادات لاحقاً أنه كان هو وعبد الناصر يمزحان بشأن "الزميل المسكين" الذي سيخلف الرئيس. وكتب السادات: "لم يخطر بالطبع على بالنا قط أن عبد الناصر سيموت في الشهر ذاته".
نظراً لوهم الخلود الذي خلقه عبد الناصر، يمكن لمناصريه، مثل محمد هيكل، أن يدعوا أنه كان على وشكُ كتابة فصل رائع آخر من (إنجازاته) عندما أنهيت حياته. ولهذا السبب، اعتقد الكثير من الناصريين القدامى أن ناصر ربما لم يكن قد توفي لأسباب طبيعية. ووصل الأمر بهيكل لاحقاً إلى التلميح بأن السادات قد سمَّمه.
ولكن هل أدت حقاً وفاة عبد الناصر، وهو في الثانية والخمسين من عمره، إلى تغيير مجرى الأحداث؟ من المثير للاهتمام قراءة تحليل لـ "وكالة الاستخبارات المركزية" الأمريكية حول ذلك، ُكتب في أوائل عام 1971، بعد بضعة أشهر من وفاة عبد الناصر. فقد استعرض التحليل جميع الأحداث التي صنعت التاريخ في عهد عبد الناصر، على المستوى المحلي وعلى مستوى المنطقة. ثم أضاف ما يلي:
في ظاهر الأمر، يبدو أن وفاة قائد قوي يتمتع بشخصية ملهمة تعني تغييراً واسع النطاق وأساسياً في العالم العربي. وفي الواقع، شهدت الأشهر التي مضت منذ وفاة عبد الناصر تغييرات في العلاقات بين العرب. ولكن هذه الاختلافات كانت خفية... وُيعزى ذلك إلى تراجع قدرة عبد الناصر على التأثير على الأحداث في العالم العربي بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة نتيجة الهزيمة المصرية المهينة على يد إسرائيل في عام .1967 وشعر جميع القادة العرب الآخرين... أنه يتمتعون بحرية رفض اتباع توجيهات سياسة عبد الناصر. وبالتالي، فمن ناحية معينة، حصلت أبرز التغييرات "ما بعد عبد الناصر" قبل وفاته.
بعبارة أخرى، كان قد انتهى قبل وفاته، إذ كان أصلاً في نهاية قوس حياته.
وقد تكهن الباحث الراحل في شؤون الشرق الأوسط فؤاد عجمي ذات مرة حول ما كان سيحدث لو عاش عبد الناصر بضع سنوات إضافية. فكما فعل السادات، ربما كان عبد الناصر قد خاض حرباً مع إسرائيل لكسر الجمود الذي حدث بعد عام 1967 وهو نقاش عرضه السادات نفسه عام 1974، عندما أعلن أنه "لو عاش عبد الناصر حتى اليوم، لكان قد فعل ما أقوم به". ولكن عجمي تابع مضيفاً أنه لو عاش عبد الناصر، "لكانت شخصيته الملهمة قد استمرت بالتضاؤل والضعف، ولكان مناصروه قد أصبحوا أكثر فتوراً وغير مبالين به. إن وفاته المبكرة والمفاجئة وهو في الثانية والخمسين من عمره ربما حافظت على إرثه وزادت من قوته".
واليوم، يدور نقاش حول مدى الاستمرارية والتغيير بين عبد الناصر والسادات. ولكن يمكن الإجماع على أن وفاة عبد الناصر في عام 1970 لم تحدث التأثير الذي كانت لتحدثه، على سبيل المثال، في عام 1954 ولم يتم اختيار هذا التاريخ بشكل عشوائي. ففي تشرين الأول/أكتوبر عام 1954، ألقى عبد الناصر خطاباً في ميدان الإسكندرية المركزي. وفي منتصف خطابه، وجه قاتل محتمل ينتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، ثماني طلقات إلى عبد الناصر. ولم تصبه أي طلقة منها، ولم يرف جفن لعبد الناصر، ثم بدأ بقمع «الإخوان المسلمين.» وإذا تركنا جانباً نظريات المؤامرة (وأبرزها أن عبد الناصر خطط بنفسه للحادثة برمتها)، فإن بيت القصيد هو: لو ُقتل عبد الناصر في عام 1954، أي قبل أزمة السويس، وقبل إقامة الجمهورية العربية المتحدة، وقبل عام 1967، لكان تأثير ذلك على مصر والمنطقة أعمق بكثير من تأثير وفاته الفعلي في عام 1970.
وثانية، عند إجراء التقييمات، لا بد من التساؤل عن موقع القائد في قوس حياته. هل هو في منتصف القوس، أو نحو نهايته، أم أن كل ذلك أصبح وراءه؟ في عام 1954، وفي أعقاب الثورة، كان عبد الناصر في منتصف القوس، مليئاً بالطموح، ولكن لم يكن قد أنجز ما يكفي من أهدافه بعد. وكان مقتله برصاصة ليُحدث تأثيرات لا حصر لها. وبحلول عام 1970، كانت إنجازاته وأخطائه الكبرى جزءاً من الماضي، وكان لوفاته إثر نوبة قلبية تأثيرات أقل، وتم التخفيف منها من قبل خلفه المختار.
ولا يمكن القول إنه ليست هناك عواقب لمثل هذا الرحيل. يمكن للاختصاصيين أن يعدوا دائماً قائمة طويلة منها. ولكن القائمة تتقلص عندما يضع القائد اللمسات على مشروعه المنجز إلى حد كبير. وبالطبع، يمكن القول دائماً أن القائد الراحل كانت لديه خطوة أخرى للقيام بها، وخدعة أخرى في جعبته. ولكن لا أحد لديه خطوات أو خدع غير محدودة، وتنحسر الفرص بمرور الوقت، وأحياناً يعارض القادة الكبار في السن المبادرات الجريئة، خاصة إذا انتقلوا إلى التخطيط للخلافة.
***
يمكن اعتبار بأن ذلك قد انطبق على ثالثة من أشهر حالات الرحيل لقادة عرب. كان كل رحيل مأساوياً بالتأكيد وحتى صادماً للأشخاص المقربين من القائد أو المتحالفين معه. ولكن بالعودة إلى الماضي، لم تكن حالات الرحيل هذه نقاط تحول، بل معالم ضمن مسار مستمر.
الاول، الملك عبد الله عاهل الأردن، مؤسس المملكة الأردنية الهاشمية، التي اقتطعها من العدم بدعم من بريطانيا. سقط برصاص قتلة فلسطينيين أثناء زيارته للمسجد الاقصى عام :1951 المسجد الاقصى نفسه، في القدس، في الضفة الغربية، التي ضمها إلى إمارة شرق الأردن في أعقاب حرب عام 1948 مع إسرائيل. وكان عبد الله الشخصية المهيمنة في البلاد لفترة دامت ثلاثين عاماً. وعند وفاته، كان في التاسعة والستين من عمره.
ما الذي كان تأثير ذلك؟ حول هذه المرحلة من تاريخ الأردن، ألف روبرت ساتلوف كتاباً بعنوان "مِن عبد الله إلى حسين". نعم، كانت تسود حالة من عدم اليقين، خاصة حول الخلافة الملكية. لم تكن قد عولجت. فخلف عبد الله المباشر، طلال، كان مريضاً عقلياً. ولكن بحلول ذلك الوقت، لم يكن عبد الله الشخص الوحيد الذي حافظ على وحدة الأردن. فإلى جانب البريطانيين، كان هناك أشخاص أطلق عليهم ساتلوف اسم "الملكيين" أو "رجال الملك"، الذين أداروا البلاد في غياب ملك كفوء. وقد نجحوا في توجيه الأردن لكي تتخطى تحديات الخمسينات، بخلاف أقارب الدم خاصتهم في العراق، الذين انتهى بهم المطاف بالتعرض للذبح والجر في الشوارع.
لم يكن هذا واضحاً في ذلك الوقت، وكان العديد من المراقبين المعاصرين يخشون من أن يؤدي الاغتيال إلى فتح الباب على مصراعيه أمام الفوضى. وفي هذا الصدد، كتب المراسل الرئيسي للشؤون الخارجية في صحيفة "نيويورك تايمز": "إن العالم الإسلامي في حالة توتر، واغتيال الملك عبد الله عاهل الأردن سيجعل الأمور أسوأ بكثير". من هذا المنظور، كان الملك الأردني هو الوحيد الذي منع الاضطرابات عن المنطقة. وأعلن فيلم إخباري بريطاني ما يلي: "قتل شاب متعصب الرجل الوحيد الذي كان بإمكانه إحلال السلام في الشرق الأوسط". ووفقاً لهذا الرأي، قضى الاغتيال على الفرصة الوحيدة لإرساء سلام دائم بين إسرائيل وجيرانها العرب.
ولكن الاغتيال لم "يجعل الأمور أسوأ بكثير"، حتى في الأردن. أما بالنسبة إلى السلام مع إسرائيل، فإن الأدلة المرتبطة بهذا الادعاء غامضة. فوصولا إلى تلك المرحلة، لم تحرز المفاوضات مع إسرائيل، كما كانت عليه، أي تقدم. لذلك، فإن اعتبار رحيل عبد الله نقطة تحول فيه بعض المبالغة. وفيما يتعلق بذلك، أشارت كاتبة سيرة عبد الله، ماري ويلسون، إلى أن اغتياله "جاء كانتقام لأحداث أصبحت بالفعل جزءاً من التاريخ، وليست كبداية لنظام جديد. وبالتالي، شكلت هذه المحطة نهاية، وليست بداية... ولم يعكس اغتيال عبد الله فشل الأعمال التي قام بها في حياته. على العكس من ذلك، أظهر غياب التداعيات فيما بعد مدى نجاحه". وفي سن التاسعة والستين، كان عبد الله قريباً من نهاية قوس حياته. فخلال ثلاثين عاماً، بنى مملكة وقام بتوسيعها واستقرارها. وكان شخصية مؤثرة جداً في التاريخ؛ الا أن اغتياله لم يكن مؤثراً بالقدر نفسه.
وبالمثل، لنأخذ اغتيال العاهل السعودي الملك فيصل في عام 1975 على يد ابن أخيه الساخط. كان فيصل، الملك السعودي الثالث، مصلح جريء، فتح المملكة أمام العالم، تماماً كما فعل والده، الملك عبد العزيز بن سعود. وقد حصلت معظم هذه التطورات في الستينيات، عندما سارع فيصل بتحديث المملكة، في حين أعد مقاومة ناجحة لموجة من التخريب الناصري الذي هدد الملكيات في جميع أنحاء المنطقة. وفيصل هو أيضاً من قاد السياسة السعودية خلال حظر تصدير النفط عام 1973 وفي عام 1974، أطلقت عليه مجلة "تايم" لقب "رجل العام". ووفقاً لمجلة "تايم"، "خلال عام 1974، أثارت إجراءات فيصل بشأن أسعار النفط والمسائل ذات الصلة بدرجات متفاوتة على حياة كل شخص على الأرض تقريباً وعلى موارده المالية".
ولكن من الداخل، بدا الأمر مختلفاً نوعاً ما. فكدبلوماسي أمريكي، تذكار جيم لاروكو لاحقاً ما يلي: "أمضى فيصل سنواته الأخيرة في نزع الوبر عن ثوبه". قبل سنوات، كان قد نجح في تأسيس خط خلافة غير مباشرة للملِكين اللاحقين (خالد وفهد)، وحصل الانتقال عند وفاته من دون أي مشكلة. وكان رحيل فيصل عام 1975 نتيجة متوازنة، وليس نقطة انعطاف في تاريخ السعودية.
ثم برز أنور السادات، وهو أحد الأعضاء الأصليين من "حركة الضباط الأحرار"، وخلف عبد الناصر المختار، وبطل حرب عام 1973 وسلام كامب ديفيد. اغتيل السادات من قبل جنوده الخاصين خلال عرض عسكري عام 1981، وهو في الثانية والستين من عمره. وقد أذهل موته العالم: إذ تم تكريمه من واشنطن إلى القدس،
وربما أصبح العربي الأكثر شعبية في الغرب عبر التاريخ. وبوفاته، برزت سلسلة كاملة من الاستعارات القائمة على مبدأ "لو بقي السادات على قيد الحياة".
وقال مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي تفاوض على معاهدة السلام مع السادات، إن المزيد من التقدم كان ليُحرز نحو الحكم الذاتي الفلسطيني لو بقي السادات على قيد الحياة، الأمر الذي كان سيؤدي إلى سلام أكثر دفئاً. وقالت جيهان، أرملة السادات، إن زوجها كان سيحرر سياسة البلاد. وذهب الصحفي ديفيد أوتاواي أبعد من ذلك حيث كتب: "حتى أن السادات بدأ بعض الإصلاحات الرائدة - مثل السماح بإنشاء أحزاب سياسية معارضة، وتنفيذ تغييرات اقتصادية موجهة نحو السوق - التي ربما كانت قد امتدت عبر العالم العربي لو عاش السادات". ووفقاً هذا الرأي، لو عاش السادات لمدة أطول، كان ذلك سيغير ليس فقط مصر بل العالم العربي بأسره.
إن الفكرة بأن السادات كان يخبئ مفاجأة ثالثة في يده، وأنه لو تسنى له المزيد من الوقت لكان قد حول مصر إلى ما يمكن اعتباره مكسيك الشرق الأوسط، مثيرة للفضول. ولكن الأدلة من السنوات الأخيرة من حياة السادات لا ُتظهر الكثير من المبادرات. وبدلا من ذلك، كان يناضل من أجل احتواء الاستياء الداخلي المتزايد الذي شكال تهديداً لحكمه. وأفاد ديفيد أوتاواي نفسه في تقريره من القاهرة، قبل تسعة أيام فقط من اغتيال السادات، أنه "سواء أراد الاعتراف بذلك أم لا... يعيش السادات في ظل شاه إيران [المخلوع."]
عندما توفي السادات، لم يبتعد خلفه المختار، حسني مبارك، عن أي من سياسات سلفه - لدرجة أنه من الصعب التفريق بين السادات وما بعد السادات. وكان مبارك يفتقر لبريق السادات، إلا أن الحزب الحاكم استمر بالحكم، وبقيت المؤسسة العسكرية تمسك بزمام الأمور، واستمرت القيادة في مهاجمة الإسلاميين، وهكذا دواليك. وكما قال الكاتب يوسف إدريس: "السادات الميت هو بطريقة ما أقوى من السادات الحي. ولا يزال رجاله في كل زاوية من مصر، سواء كلصوص أو كرجال شرطة". عاش السادات حياة مؤثرة جداً بحيث أن وفاته لم ُتحدث تأثيراً يذكر.
ثم هناك الحالات التي ُيحدث فيها الموت المفاجئ تأثيراً شديداً. إذا كان قائد في خضم مشروع تحويلي، يمكن أن ُيحدث رحيله المفاجئ شرخاً لا يمكن الى شخص آخر إصلاحها.
إن المثال الأبرز على ذلك هو اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين عام 1995 كان رابين في ذلك الوقت في الثالثة والسبعين من عمره، وهو سن يكون فيه الكثير من القادة قد أنجزوا المشروع الرئيسي في حياتهم. ولكن لأسباب مختلفة، بدأ رابين متأخراً. شغل منصب رئيس الوزراء وهو في الخمسينيات من عمره، ولكن أداءه لم يكن متكافئاً، وعوقب حزبه بسبب ذلك في صناديق الاقتراع. وعندما عاد إلى رئاسة الوزراء، كان ذلك متأخراً، مما نقل إحساساً بالحاجة الملحة، إن لم تكن العجلة، إلى إدارته. وعند وفاة رابين، كان قد صافح يد عرفات في حديقة البيت الأبيض، غير أن اتفاق السلام الموعود كان أبعد ما يكون عن الاكتمال أو الترسيخ. أصابته الرصاصات وهو في خضم مشروعه الأبرز.
إذاً، هل غير قاتله، يغآل عامير، التاريخ؟ فبقتله لرابين، هل قضى على سلام مستقبلي؟ أم أن رابين رأى حماقة في كل ذلك، وكان على وشك التراجع؟ وفقاً لما قاله بيل كلينتون: "ما زلتُ مقتنعاً بأنه لو بقي رابين على قيد الحياة، لكنا قد توصلنا إلى اتفاق شامل مع الفلسطينيين بحلول عام 1998 ولكنا نعيش في عالم مختلف اليوم...
ربما كان ذلك أمراً صعباً، ولكن كان من المحتمل أن ُينجز". ويتشارك يسار الوسط الإسرائيلي وجهة النظر هذه أيضاً، على اعتبار أن اغتيال رابين، كما وصفه كاتب سيرته، إيتامار رابينوفيتش، يشكل "نقطة تحول في تاريخ إسرائيل". أم أن وجهة نظر رئيس الأركان السابق موشيه يعلون أكثر دقة؟. "حتى هذا اليوم، أنا مقتنع بأنه لو لم يتم اغتيال رابين، لكانت إسرائيل قد تصرفت على نحو مختلف... أعتبر أنه لو بقي رابين على قيد الحياة، لكان قد وصل إلى مواجهة مع عرفات في أوائل عام 1996 هذه هي وجهة نظر يمين الوسط: لم يمت رابين قبل أن يتمكن من المضي قدماً، بل قبل أن يتمكن من تغيير اتجاهه.
لا يهم حقاً أي وجهة نظر يفضلها المرء لكي يستنتج أن تأثيرات الاغتيال كانت عميقة. بطريقة أو بأخرى، كان رابين في منتصف رحلته وعند نقطة اتخاذ القرار.
وتضاعف تأثير اغتيال رابين من خلال سلوك خلفه، شمعون بيرس بيريز. فقد حثا العديد من المشاركين في اتفاقية أوسلو رئيس الوزراء بيريز على المضي قدماً باتجاه التوصل إلى اتفاق نهائي مع الفلسطينيين، انطلاقا من الزخم الذي ولده الاغتيال بذاته. ولكن بيريز امتنع عن ذلك، ربما لأنه رفض رؤية نفسه فقط كخلف لرابين وأراد في المقابل أن يقوم بالخطوة التالية تحت حكمه. فاختار أن يخوض الانتخابات أولا، ولكنه خسرها، فجعل بذلك بنيامين نتنياهو خلف رابين. وأصبح اغتيال رابين حالة تغيير نظام بوتيرة بطيئة، سعى بعدها خلف الراحل إلى تفكيك مشروعه.
يمكن تشبيه قضية رابين بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. والحريري، ابن بائع خضار سني، أصبح من عمالقة رجال الأعمال، وهو رجل صنع نفسه بنفسه انطلاقا من السعودية، بنى إمبراطورية أعمال، ثم تولى كرئيس وزراء إعادة إعمار لبنان ما بعد الحرب، خلال معظم الفترة بين عامي 1992 و2004 وكان هناك الكثيرون الذين انتقدوا حملة إعادة الإعمار التي قام بها الحريري، ولكنهم لم يكونوا مستعدين لإراقة دمه على خلفية ذلك، ومهما كانت أوجه القصور في خطة الحريري الكبرى، فقد أعادت إحياء الاقتصاد اللبناني إلى حد ما. وعندما غادر رئاسة الوزراء عام 2004، وهو في سن الستين، كان قد بدأ مشروعاً آخراً، وهو: إعادة قدر من الاستقلال السياسي إلى لبنان، مما يعني الاحتكاك مع سوريا وعميلها «حزب الله.» لذلك، عوقب باغتياله في انفجار ضخم بواسطة سيارة مفخخة عام 2005.
لو بقي الحريري على قيد الحياة، فقد كانت خطوته التالية تهدف إلى حشد قاعدة دعم حقيقية، كما تبين من خلال واقع أن اغتياله بحد ذاته حفز الحركة التي كان يأمل في قيادتها، والتي أرغمت بدورها سوريا على الانسحاب من لبنان. ولكن كما هو الحال مع رابين، لم يكن هناك من يترجم المشاعر التي ولادها مقتل الحريري إلى برنامج دائم يهدف إلى تطبيق رؤيته. وكما هو الحال مع رابين، أصبح أبطال إرث الحريري في حالة من الفوضى في غضون ستة أشهر من اغتياله.
وفي لبنان، حيث ُتعتبر الاغتيالات أمراً شائعاً، فإن احتمال التعرض للاغتيال السياسي هو ببساطة القيد المفترض لجميع القادة. لقد كان الحريري يدرك ذلك تماماً، وأمضى حياته في قلعة افتراضية. ولكن حتى مقتله، أظهر براعة فريدة نوعاً ما في الإفلات من القوى المتجاذبة، الطائفية وغيرها، التي ُتسقِط قادة لبنان. على أي حال، كان بالتأكيد في منتصف رحلته ونشاطه عندما تم اغتياله، وكان لبنان عند منعطف مصيري، وفي حالة انعدام استقرار حاد. ولم يكن قتلة الحريري، على غرار قتلة رابين، يسعون إلى الثأر، بل أرادوا تغيير المستقبل. ولا شك أنهم اعتبروا أنفسهم على حقا.
***
تعرض هذه المقالة وجهة نظر بديلة حول الخلافة. ففي النهاية، ُيعتبر أحد أشكال الخلافة أمر لا مفر منه. وهناك قول مأثور يفيد بأن المقابر مليئة بالأشخاص الذين لا غنى عنهم، وفي بعض الإدراك الرسمي، يمكن استبدال الجميع. سيكون هناك دائماً رئيسا لمصر أو ملكا للسعودية، طالما أن هناك جمهورية مصرية أو مملكة سعودية. لذلك من المهم معرفة قواعد الخلافة، ومختلف المتنافسين، والسيناريوهات المحتملة.
ولكن في موازاة ذلك، من الضروري تقدير أي مستقبل محتمل تمت خسارته مع رحيل قائد. قد يكون أساسياً أو غير أساسي. لا يمكن معرفة الكثير من هذه التفاصيل إلا بعد فوات الأوان، ولكن المقاربة الأولى المفيدة تكمن بالتساؤل حول أي مرحلة من قوس الحياة، تم انتهاء تلك الحياة قبل أوانها.
أما القاعدة العملية الأساسية التي تنطوي على مفارقة فهي التالية: كلما كان القائد أكثر نجاحاً في تحقيق مشروعه، كلما كان رحيله أقل تأثيراً، مهما كان مفاجئاً أو غير متوقع. ونوعاً ما يعتبر ذلك غير منطقي. فعندما يموت قائد عظيم، ألم يحرم التاريخ من خطوته التالية، أو خطوته الأخيرة؟ كلا: إن أعظم القادة، وأكثرهم حظاً، الذين عملوا بسرعة وأفلتوا من الرصاص أو العناصر المسببة للمرض، أتموا خطوتهم الأخيرة. لا يبقى سوى القليل على جدول الأعمال، وتكون لدى الخلف مساحة أقل لتغيير المسار المحدد. فالقادة الراحلون قد صنعوا التاريخ.