التحوّل النيوليبرالي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر
الرأسمال الضائع
مركز كارنيغي
2019-02-20 04:05
بقلم وائل جمال
تبنّت جماعة الإخوان المسلمين النيوليبرالية قبل اندلاع الربيع العربي في العام 2011، لذا كان عهدها في السلطة محكوماً عليه بالفشل منذ البداية.
شدّد حسن مالك، أحد رجال الأعمال البارزين في جماعة الإخوان المسلمين، (في مقابلة في تشرين الأول/أكتوبر 2011)، على أن موقف الجماعة ودود إزاء عالم الأعمال. وأضاف أن المشكلة الرئيسة لهذه الأخيرة مع السياسات الاقتصادية للرئيس الأسبق حسني مبارك لم تكمن في هذه السياسات بحد ذاتها، بل في فساد رجال الأعمال المُقرّبين من النظام.
الإسلام السياسي
وبالفعل، أكدّت السنة التي أمضتها جماعة الإخوان في السلطة، بين 2012 و2013 في عهد الرئيس محمد مرسي، أن نهج السوق النيوليبرالية الحاد كان حجر الأساس في برنامجها الاقتصادي. والحال ان الجماعة تبنّت النيوليبرالية (الليبرالية الجديدة) قبل عقود من العام 2011، تماشياً مع تبنّي النخب الحاكمة المصرية لها. وقد كشفت سياسات مرسي وحكومته النقاب عن عدم قدرتهما على القطيعة مع هذه المدرسة الاقتصادية، الأمر الذي أدام أزمة القيادة التي بدأت في عهد مبارك، وكرّست الفشل في معالجة السخط العام من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. كل هذا ساعد على تقويض رئاسة مرسي، وسهّل في نهاية المطاف إطاحته من منصبه في تموز/يوليو 2013، ما أدى إلى رمي الآلاف من أعضاء الجماعة في السجون وإنزال الدمار بهيكلها التنظيمي.
يمكن تعريف النيوليبرالية عموماً بأنها تمديد السوق التنافسية إلى كل مناحي الحياة، بما في ذلك الاقتصاد والسياسات والمجتمع. وتنطوي السياسات الاقتصادية النيوليبرالية على عمليات التحرير التجاري، وخصخصة الخدمات الاجتماعية، ومنح الأولوية للتعزيز المالي. وعدا الاقتصاد، تأخذ الليبرالية الجديدة بفكرة أن رفاه الفرد يرتبط في نهاية الأمر بجعل مبادئ السوق هي القيم الهادية لحياته، إضافةً إلى اعتبار نفسه شخصاً قادراً على الابتكار، والبيع، وتحقيق أعلى مردود.
ليست الليبرالية الجديدة في العالم العربي قصراً على أرباب السلطة، إذ تتبنّاها أيضاً أحزاب سياسية معارضة وحتى حركات اجتماعية في طول المنطقة وعرضها، بوصفها شكلاً مميّزاً من أشكال الرأسمالية ومشروعاً سياسياً. وهذا صحيح على وجه الخصوص في مصر. فبالإضافة إلى جماعة الإخوان، تتشاطر مروحة من الأحزاب والحركات أفكاراً نيوليبرالية، بينها حركة شباب 6 إبريل وجبهة الإنقاذ الوطني (الائتلاف العلماني الذي عارض مرسي) وبعض تيارات حركات تحرّر المرأة وحقوق الإنسان.
في العادة، تتناول النقاشات حول اقتصاديات جماعة الإخوان الجوانب المالية فيها، وتركّز على تمويلها متعدّد الجنسيات أو نشاطاتها الاقتصادية. بيد أن مثل هذه المقاربة لاتسمح بفهم دقيق لتوجهاتها النيوليبرالية التي تطوّرت قبل العام 2011، أو (وهنا الأهم) لكيفية تحوّلاتها لاحقاً. فالتفسيرات السائدة للجماعة بكونها لاعباً ثقافياً ودينياً-سياسياً، والتي تركز على مسائل الهوية والانضباط الداخلي والخطاب الديني، تُغفل الكيفية التي تطورت بها مقارباتها للاقتصاد في وقتٍ كانت الليبرالية الجديدة تسحب تأثيراتها على كل مجالات الحياة المصرية تقريباً.
ركائز جماعة الإخوان النيوليبرالية
نادراً ما كانت حركات الإسلام السياسي مناوئة للرأسمالية أو مُعادية لاقتصادات السوق، حتى في أكثر تجلّياتها جذريةً. ولأن هذه الحركات تزعم أنها تمثّل كل المجتمع، تجنّبت المقاربات التي قد تُبرز الخلافات الطبقية أو الصراعات الاجتماعية. هذا الحجب النسبي لأهمية الصراعات الاجتماعية، سمح تاريخياً لجماعة الإخوان بأن تكون قوة جذب للجماعات ذات المصالح المتنافرة، الأمر الذي مكّن الحركة من اجتذاب أعضاء متنوّعين (لكن مع احتلال مهنيي الطبقة الوسطى مراتبها القيادية)، فيما هي تطرح رؤى اقتصادية مراوغة وتغيّر مقاربتها وخطابها الاقتصاديين وفق الحاجة.
بيد أن تجنّب الصراع الاجتماعي ليس السبب الوحيد الذي دفع بعض جماعات الإسلام السياسي إلى تبنّي الليبرالية الجديدة. فألوان الطيف الإسلامي السياسي، كما الأمر مع كل الإيديولوجيات المتمحورة حول الدين، منفتحة على مختلف التفسيرات وتتفاعل بشكل عميق مع السياقات الطبقية والسياسية والتاريخية. وفي مصر كما في أماكن أخرى، دافعت حركات ومقاربات الإسلام السياسي عن التجارة الحرة والأسواق، جنباً إلى جنب مع حركات أخرى كانت تدعو إلى المساواة والعدالة الاجتماعية. وفي حين أن كل هذه الإيديولوجيات استخدمت الدين لتسويغ آرائها، إلا أنها تلوّنت بالمصالح المميّزة داخل مختلف السياقات الاجتماعية والسياسية. وأدبيات جماعة الإخوان تعكس مثل هذه التعددية، حيث أنها تتضمن إشارات إلى العدالة الاجتماعية وانتقادات للفجوة في الثروات، لكن جنباً إلى جنب مع التشديد على قدسية الملكية الخاصة، والتجارة، والأسواق.
خلال رئاسة مبارك، كان لدى جماعة الإخوان رجال أعمالها ومشاريعها الاقتصادية، لكن كان في وسعها أيضاً الادّعاء بأنها تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال تسليط الضوء على نشاطات جمعياتها الخيرية الاجتماعية. بيد أنها حاذرت توجيه سهام النقد إلى التحوّلات نحو اللبرلة والنيوليبرالية، عدا التركيز على حالات الفساد أو ترداد الشكاوى الشعبية من تدهور مستويات معيشة الفقراء. من جهته، تبنّى نظام مبارك تكتيكات مرنة في التعاطي مع الأعمال التجارية لجماعة الإخوان، فسمح لهذه النشاطات بالعمل عند مستوى معيّن بحيث لاتصبح كبيرة جدّاً أو قوية. وإذا ما تنامت هذه الأعمال أكثر من اللازم، كان يتم إغلاقها وإحالتها إلى المحاكم، غالباً استناداً إلى تهم قيامها بتمويل جماعة الإخوان التي كانت حينذاك محظورة قانوناً. وهذا ما حدث، مثلاً، لشركة "سلسبيل" للكمبيوتر العام 1992، حيث أمضى حسن مالك، أحد شركاء "سلسبيل"، سنة في السجن نتيجةً لذلك.
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم يعد في وسع مبارك مواصلة دعم المواد الغذائية والطاقة، أو توفير عمالة طويلة الأمد في بيروقراطية الدولة، بفعل الأزمة العميقة التي سبّبها تراجع عائدات النفط والغاز وقناة السويس وتحويلات المصريين العاملين في الخارج. وفي العام 2003، تبنّى النظام إجراءات نيوليبرالية لم يسبق لها مثيل كوسيلة لمواجهة هذه المعضلة، فسرّع وتيرة التحوّل النيوليبراليالذي بدأ في مصر في التسعينيات. وحين وصلت حكومة أحمد نظيف، التي كان رجال الأعمال مكوّنها الأساسي، إلى سدة الحكم في 2003، كان لها تأثيرات كبرى على تطوّر الأجندة الاقتصادية لجماعة الإخوان. إذ رحّبت نخبة رجال الأعمال المرتبطة بالجماعة بهذه التوجهات الجديدة، ورأت فيها فرصة للنمو. بيد أن الجماعة لم تكن الوحيدة في هذا المضمار، حيث إن السياسات النيوليبرالية في طول المنطقة وعرضها أطلقت درجات متباينة من التغيير لدى مروحة واسعة من الحركات الإسلامية. لكن تسريع حكومة نظيف لوتائر خصخصة المؤسسات العامة والخفض الهائل للدعم، فيما كانت الأجور الحقيقية لمعظم المصريين تنحدر، أجّج وأشعل موجة عاتية من الاحتجاجات الاجتماعية. وفي الفترة بين 2004 و2010، اندلع نحو 3000 احتجاج نتيجةً لذلك، وتعبّاً آلاف العمّال في كل محافظات البلاد، في ما بدا أنه بروفة بالصور البطيئة لانتفاضة 2011.
لم تكن جماعة الإخوان البتة طرفاً رئيساً في هذه الاحتجاجات، لا بل هي أبقت نفسها على مسافة منها وكانت قانعة بألا تفعل شيئاً عدا إصدار البيانات بين الفينة والأخرى التي تنتقد عمليات الخصخصة بكونها فاسدة، أو تحذّر من تدهور الأوضاع الاقتصادية. أحد أسباب هذا الموقف، إضافةً إلى إفادة نخبة رجال الأعمال في الجماعة من السياسات النيوليبرالية، هو أن هيكلية العضوية في هذه الحركة تغيّرت وباتت تميل لصالح الطبقة الوسطى العليا والأعضاء الأكثر ثراء. وكذا، بدت لغة الحركة أقل حساسية إزاء الفقراء، (وهم طبقة متنامية من المصريين بفعل الإجراءات النيوليبرالية التي أثقلت كاهل المحامين والمعلّمين وأساتذة الجامعات ومهنيي الطب وغيرهم)، بعد أن باتت الجماعة تعزف على نحو متزايد على إيقاع أعضائها الأكثر محافظة اقتصادياً.
هذا التطوّر يوضح لماذا تمنّعت جماعة الإخوان عن الانضمام إلى المتظاهرين في الأيام الثلاثة الأولى من الاحتجاجات ضد نظام مبارك في كانون الثاني/يناير 2011. وهذا خلق رد فعل دفع بعض أعضائها اليافعين من الكوادر الوسطى إلى تحديّ الانضباط التنظيمي والنزول إلى الشوارع، لابل لعب هؤلاء أحياناً دوراً قيادياً. وعلى الرغم من أن الجماعة سرعان ما غيّرت نهجها وانضمت إلى هؤلاء الشبان، إلا أنها عمدت لاحقاً إلى طرد الأعضاء المتمرّدين، الذين شكّلوا أحزاباً سياسية جديدة تبنّت آراء أكثر انتقاداً لليبرالية الجديدة. كان من بين هؤلاء حزبا "التيار المصري ومصر القوية اللذان اندمجا لاحقاً تحت قيادة عبد المنعم أبو الفتوح، عضو قيادة جماعة الإخوان الذي استقال في أوائل 2011. بيد أن رحيل هؤلاء الأكثر راديكالية نسبياً، أزال أي عوائق مقاومة داخل الحركة، ومهّد الطريق أمام تمكين من هم في قمة التنظيم الذين يحبّذون السياسات النيوليبرالية، وكانوا تواقين إلى احتلال مواقعهم في صفوف نخبة رجال الأعمال- السياسيين المصريين.
لكن تغيير هيكلية العضوية وتنامي أعداد رجال الأعمال في الجماعة، لم يكونا وحدهما وراء تبنّي الحركة لليبرالية الجديدة. ذلك أن بروز النيوليبرالية الورعة في التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، ساهم أيضاً في ولادة مثل هذا التحوّل. النيوليبرالية الورعة ظاهرة يتفاعل في حضنها كلٌ من الدين، والأعمال الخيرية، والنشاطات الاقتصادية. وهكذا، باتت السلوكيات الدينية التي أُعيد تصميمها بما يتوافق مع الليبرالية الجديدة تُعتبر جزءاً مما يعنيه ان يكون المرء متديّناً. وهذا ما سمح لجماعة الإخوان بالاندماج في حقبة ما بعد سقوط مبارك مع نخبة رجال الأعمال التي كانت موجودة قبل الانتفاضة. وحالما وصلت الجماعة إلى السلطة أيضاً، دفعتها هذه النخبة إلى تنفيذ سياسات نفّرت العديد من المصريين.
كانت تركيا، التي يُعتبر حزب العدالة والتنمية الحاكم فيها مقرّباً من جماعة الإخوان، من روّاد النيوليبرالية الورعة، ولعبت دور النموذج في مجال إدخال الأعمال الخيرية إلى النشاطات الاقتصادية. بيد أن هذا المنحى كان ملحوظاً أيضاً في مصر مع صعود دُعاة مثل عمرو خالد في 2003، الذي أشرف على أنشطة مزدهرة من الأعمال الخيرية بالتركيز على الطبقة الوسطى وإطلاق الرسائل الدينية الودية تجاه رجال الأعمال. لا بل أعاد دُعاة مثله تأطير الممارسات الدينية بحيث جرى تصوير الرشادة الاقتصادية، والإنتاجية، والخصخصة بوصفها جزءاً مما يعنيه أن يكون المرء متديّناً. كما استخدم خالد أيضاً علم الإدارة والخطاب اللغوي حول المساعدة الذاتية لإدخال النشاطات النيوليبرالية إلى الدين. جماعة الإخوان، من جانبها، لم تكن محصّنة إزاء هذه التطورات، كما أثبت ذلك سلوكها حين وصلت إلى السلطة.
أصدقاء مع أصدقاء حسني مبارك
اغتنم حسن مالك وخيرت الشاطر، وهذا الأخير شخصية نافذة أخرى في جماعة الإخوان، خطوة إطاحة مبارك لإدماج رجال أعمال الحركة في نخبة رجال الأعمال القديمة، وأطلقا إشارات إيجابية إلى الشركات المحلية والعالمية. وقبل انتخاب محمد مرسي في منتصف العام 2012، باشر مالك والشاطر نسج علاقات مع حلفاء مبارك المُقرّبين الذين كانوا يتهمونهم سابقاً بالفساد؛ كما اجتمع الشاطر مع أعضاء بارزين في جالية رجال الأعمال. وفي 2012 أيضاً، ساعد مصرف الاستثمار المصري "المجموعة المالية هيرميس"، الذي كان جمال، نجل حسني مبارك، شريكاً فيه، الشاطر على الاجتماع بـ14 مدير استثمارات كبير من أوروبا والولايات المتحدة وأفريقيا. وقد انتهز الشاطر هذه الفرصة لإعادة تطمين المستثمرين بأن حكومة جماعة الإخوان الجديدة تشاطرهم الأهداف نفسها.
في آذار/مارس 2012، عيّن مرسي مالك رئيساً للجمعية المصرية لتنمية الأعمال (EBDA)، وحضر حفل التدشين العديد من قادة رجال الأعمال في الحزب الوطني الديمقراطي المحظور. وبعد انتخاب مرسي في حزيران/يونيو، بدأت هذه الجمعية بتنظيم اجتماعات مع الرئيس الجديد، وقادت مفاوضات مصالحة مع رجال الأعمال الذين فرّوا من البلاد بعد توجيه تهم الفساد إليهم، وكان بينهم وزير التجارة والصناعة في حكومة ظريف، رشيد محمد رشيد وحسين سالم، وهو صديق مبارك ولاعب أساسي في صفقة تصدير الغاز مع إسرائيل.
في البرلمان المنتخب الأول بعد إطاحة مبارك، فشلت جماعة الإخوان في طرح أي تشريع يُعتدّ به لترقية الإصلاحات الاقتصادية الاجتماعية. بيد أن حياة هذا البرلمان كانت قصيرة، حيث أقدم المجلس الأعلى للقوات المسلحة على حلّه بعد ساعات من بدء التصويت في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في 6 حزيران/يونيو 2012. ولذلك، ربما لم يتسنّ للإخوان الوقت الكافي لبلورة أجندتهم السياسية على نحو كامل.
هذا الخمود شجّع الانطباع بأنه حين كانت جماعة الإخوان في المعارضة، كان يمكن لمقاربتها غير الرسمية، أي الجمع بين النيوليبرالية الورعة وغياب أي إجراءات واضحة في مجال السياسة العامة، أن تكون ناجعة. لكن، حالما تسلّمت الجماعة صولجان السلطة، بات المسؤولون فيها مُجبرين على التقدّم بسياسات محدّدة. وهنا يجب أن نذكّر بأن مرسي كان أكثر المرشحين ليبرالية في الانتخابات الرئاسية التي شملت شخصيات من النظام القديم. وقد دعا برنامجه الانتخابي، الذي أُطلق عليه اسم مشروع النهضة إلى استئناف الخصخصة - حتى للقطاعات الاقتصادية الاستراتيجية - بعد توقّفها العام 2007. وقد عمدت الحكومة التي يهمين عليها الإخوان برئاسة هشام قنديل إلى تحرير التجارة، وتعهّدت باجتذاب مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتمويل مشاريع البنى التحتية. كما وعدت بزيادة الإنفاق على التعليم والصحة، لكنها ألمعت إلى أنها تستهدف في نهاية المطاف خصخصة هذه الخدمات عبر شراكات بين القطاعين العام والخاص، والاعتماد على القطاع الخاص في عملية التمويل. كانت العدالة الاجتماعية هدفاً أساسياً في برنامج مرسي الذي سعى إلى إعادة هيكلة النظام الضريبي المصري. بيد أن هذا البرنامج فشل في تقديم خطط مفصّلة حول الضريبة التصاعدية التي كانت مطلب حركات الاحتجاج الاجتماعية منذ سنوات طويلة.
تغيّر موقف جماعة الإخوان المسلمين من الخصخصة بشكلٍ كبير عمّا كان عليه قبل انتفاضة العام 2011. فخلال حكومة نظيف، هاجمت الجماعة الخصخصة، إذ اعتبرتها شرطاً أملاه صندوق النقد الدولي على المصريين، على الرغم من أنه يتنافى مع مصالحهم، ووصفتها بأنها "بيع لمصر ولثرواتها". لكن حكومة قنديل تبنّت مبادئ المقاربة النيوليبرالية، فأعطت الأولوية إلى تعزيز النمو الاقتصادي وخفض الدين العام، واستأنفت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض الإنقاذ، ووافقت على حزمة إجراءات تقشّفية تضمّنت رفع أسعار الطاقة والخدمات العامة. وفي آذار/مارس 2012، اجتمع برلمانيو الإخوان مع بعثة من خبراء صندوق النقد الدولي، وقبلوا اتفاق الحصول على قرض.
كذلك، وبعد تسنّم سُدة الحكم، عدّل مرسي والإخوان المسلمين موقفهم من اتفاقية المناطق الصناعية المؤهّلة المُوقّعة مع إسرائيل والولايات المتحدة. وواقع الحال أن الكتلة البرلمانية لنواب الإخوان رفضت الاتفاقية عند توقيعها في كانون الأول/ديسمبر 2004، واعتبرت أنها تشكّل تهديداً للأمن المصري ولن تساعد في دعم قطاع الغزل والنسيج المتدهور في البلاد. لكن، بعد ثماني سنوات، أي عَقِب انتخاب مرسي، زار وفدٌ مصري واشنطن للتفاوض بشأن توسيع نطاق الاتفاقية وخفض نسبة المكوّن الإسرائيلي في المنتجات المصرية المصدَّرة إلى الولايات المتحدة.
كان هذا أمراً أساسياً بالنسبة إلى أرباب صناعة النسيج المصري المقرّبين من مبارك. فقد قال قنديل في مقابلة أُجريت معه في 9 أيلول/سبتمبر 2012 إنها ]الاتفاقية[ "مفيدة لأعمال الكثيرين الاقتصادية: ونحن حريصون على القيام بكل ما في وسعنا كي تزدهر مثل هذه الأعمال". كان يمكن لأي تحدٍّ جوهري للاتفاقية أن يستعدي الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا ما أراد الإخوان تفاديه على الأرجح. مع ذلك، كان مُلفتاً قرار الحكومة المصرية بتوسيع نطاق اتفاقية المناطق الصناعية المؤهّلة، بدلاً من الحفاظ على الوضع القائم وحسب، وهذه خطوة كانت مدفوعة أساساً بالتحالفات الداخلية وبمطالب لاعبين بارزين في قطاع النسيج كانوا يفيدون من الاتفاقية.
الاحتجاجات الاجتماعية تستمر في عهد مرسي
توقّفت الاحتجاجات عند انتخاب مرسي، إذ كان الناشطون يترقّبون كيف سيتصرّف الرئيس الجديد. كان سقف التوقعات مرتفعاً حين أنشأ مرسي ديوان المظالم الرئاسي في 16 تموز/يوليو 2012 لمعالجة الشكاوى. وفي غضون تسعة أشهر، تلقّى الديوان حوالى 298000 شكوى.
لكن سُرعان ما تبدّدت التوقعات وحلّت مكانها خيبة الأمل، واستعادت المظاهرات زخمها بعد بضعة أشهر، حين رأى المواطنون أن وضعهم لم يتحسّن. فقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة "غالوب" قبل انتخاب مرسي بفترة وجيزة أن أولوية المصريين كانت خلق فرص العمل، في وقتٍ كان ارتفاع أسعار المواد الغذائية يقصم ظهر العديد من المواطنين. ومع تصاعد حدة الاحتجاجات، طالب المتظاهرون بإبرام عقود عمل طويلة الأمد، وزيادة الرواتب والأجور، ودفع المستحقات المتأخرة، كما كانت الخدمات والنفاذ إليها مشكلة أخرى، حيث طالب المحتجوّن بتحسين توفير إمدادات الكهرباء ومياه الشرب والري.
قدّر تقرير صادرٌ عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تموز/يوليو 2014، بعد عام من الإطاحة بمرسي، أن النصف الأول من العام 2013 شهد أكثر من 4500 احتجاج. وأكّد التقرير أن معظم الاحتجاجات كانت نابعة من السخط الشعبي على حكومة قنديل وسياسات الإخوان المسلمين. وتناغمت هذه الخلاصة مع فحوى نتائج استطلاع أجرته مؤسسة "غالوب" قبل أسبوعين من تنحية مرسي على يد الجيش في تموز/يوليو 2013، والذي أظهر أن 29 في المئة فقط من المصريين يثقون بحكومتهم – وهذه أدنى نسبة استطلعتها مؤسسة "غالوب" منذ بدء الثورة المصرية في العام 2011، وهي شكّلت هبوطاً حادّاً من مستوى الثقة الذي بلغ 57 في المئة في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، بعد خمسة أشهر على انتخاب مرسي. يُضاف إلى ذلك أن الاستياء كان واسع النطاق، إذ عمّت المظاهرات طول البلاد وعرضها: فثمانٍ من محافظات مصر شهد كلٌّ منها أكثر من 200 مظاهرة خلال الأشهر الستة الأخيرة من عهد مرسي.
خاتمة
أدّت رغبة المصريين في التغيير إلى انتفاضة العام 2011، بيد أن أحوالهم بقيت على حالها. وقد لعبت الأجندة النيوليبرالية للإخوان المسلمين دوراً أساسياً في تقويض مصداقية مرسي. لكن هذا لم ينمّ فقط عن خيارات سياسية سيئة أو أخطاء في التنفيذ، بل كان النتيجة الطبيعية لمسار نيوليبرالي أوسع اتّبعه الإخوان منذ ما قبل العام 2011، وشكّل في حدّ ذاته تجسيداً للتحوّل النيوليبرالي الأكبر الذي شهدته مصر آنذاك.
وجد الإخوان المسلمون أنفسهم في خضمّ أزمة فاقمها التحوّل النيوليبرالي الحاد لنظام مبارك في العام 2003. فقد عيّنت حكومة نظيف رجال أعمال نافذين من القطاع الخاص في مناصب وزارية، وخفّضت الدعم ووظائف الدولة، وقلّصت الضرائب المفروضة على الشركات، وخصخصت المصارف والخدمات العامة. وجاءت الاحتجاجات التي اندلعت بدءاً من العام 2004 تعبيراً عن فشل السياسات النيوليبرالية ونظرية أثر تساقط ثمار النمو (trickle-down) (ما يفيد الأغنياء سيفيد كل المجتمع في نهاية الأمر)، في تلبية حاجات الفقراء. ولقد مثّلت ثورة العام 2011 ذروة هذه الأزمة.
لقد عجز مرسي، وحكومته التي هيمن عليها الإخوان، عن توفير مسار بديل من شأنه أن يلبّي تطلّعات الحراك الاجتماعي الاحتجاجي، ناهيك عن صياغة عقد اجتماعي جديد للمصريين. فمن خلال انتهاج السياسات الاقتصادية النيوليبرالية ذاتها التي أثارت سخط الرأي العام في المقام الأول، شكّل الإخوان تمثيلاً حيّاً للأزمة المتنامية التي تعصف بالنخبة المصرية الحاكمة، والتي لاتزال مستمرّة اليوم على نحو أقسى وأعتى بكثير.