أشباح فرساي
بروجيكت سنديكيت
2019-02-10 04:35
هارولد جيمس
برينستون — قبل ما يزيد قليلا على قرن كامل من الزمن، انعقد مؤتمر باريس للسلام، والذي أنتج معاهدات "فرساي"، و"سان جيرمان أونلي"، و"نويلي سور سين"، و"تريانون"، و"سيفر"، التي أنهت الحرب العالمية الأولى. وحتى يومنا هذا، لا يزال الاستياء إزاء معاهدة "تريانون" يؤجج القومية المجرية والنزعة الرجعية، وخاصة في ظل حكومة رئيس الوزراء فيكتور أوربان الحالية.
الواقع أن عملية السلام في باريس تُذكَر في عموم الأمر بوصفها مثالا للكيفية التي يمكن بها أن تنتهي جهود التعاون الدولي والترويج للديمقراطية القائمة على النوايا الحسنة إلى المسار الخطأ.
والآن ونحن نعيش عبر لحظة تتعرض فيها التعددية والديمقراطية مرة أخرى لضغوط هائلة، يجدر بنا أن نسأل أنفسنا لماذا تفشل الجهود الرامية إلى تعزيز التعددية والديمقراطية غالبا.
في عام 1919، أثبتت محاولة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون لصياغة سلام دائم عن طريق تدمير الأنظمة الاستبدادية في العالَم، كونها سامية المبادئ إلى حد المبالغة، حتى برغم أنها كانت فاتحة للإجماع على مبدأ التدخل الذي هيمن على فِكر السياسة الخارجية الأميركية منذ ذلك الحين. ورغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يزعم أنه هَجَر ذلك التقليد، فإنه أمر بضرب مواقع عسكرية حكومية في سوريا واعترف بزعيم فنزويلا المعارض رئيسا شرعيا للبلاد.
لقد فشلت عملية باريس لأنها وضعت سقفا بالغ الارتفاع للتوقعات. فلم يكن انتصار القوى الديمقراطية يعني أن الأمنيات الديمقراطية ستتحقق حتما، وخاصة عندما تستلزم هذه الأمنيات أن يدفع الخاسرون الثمن. على مدار الحرب العالمية الأولى، افترض كل جانب ببساطة أن التوصل إلى تسوية سلمية في نهاية المطاف لابد أن يثقل كاهل الجانب المهزوم بتكاليف الحرب المادية ــ بل وحتى المعنوية، ولم يُفض هذا إلا إلى حل غير مرض للصراع.
على نحو مماثل، في عام 2019، قد لا تقبل المشاكل الناجمة عن التغير التكنولوجي السريع والعولمة أي حلول مقبولة على نطاق واسع. ونتيجة لهذا فإن الدول المختلفة ستنتج كل منها روايتها الخاصة حول تعرضها للخداع بسبب العولمة. وكما كانت الحال في عام 1919، فإنها ستخترع "أوغادا" تلقي عليهم باللائمة. على سبيل المثال، تشتكي إدارة ترمب على نحو روتيني من ممارسات الصين التجارية غير العادلة، وفائض الحساب الجاري المفرط لدى ألمانيا، والمساعدات المقدمة للدول النامية، وما إلى ذلك. وغني عن القول إن تكديس الشكاوى والمظالم لا يرقى إلى حل.
التفسير الثاني لفشل عملية باريس هو أن بعض المشاركين ــ رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو، ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج، وويلسون ــ كانوا يفتقرون إلى الكفاءة بدرجة فريدة أو كانوا غير راغبين في التعاون. كان كليمنصو طوال حياته قوميا مكرسا لهدف واحد تلخص في السعي إلى تحقيق المصالح الفرنسية، في حين كان لويد جورج العكس تماما، وبالتالي كان أكثر إذعانا وتجردا من المبادئ من أن يصلح للمهمة. وكان ميالا إلى مهاجمة الآخرين شخصيا، إلا أنه كان ينسى أنه فعل ذلك عندما يلتقي بنفس الناس مرة أخرى.
من جانبه، تجاوزت طموحات ويلسون النبيلة قدرته على صنع الصفقات السياسية بأشواط، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. ومن المؤكد أن مشاكله الصحية المتفاقمة لم تساعد. فبسبب ارتفاع ضغط دمه الشديد، والذي لم يُعالَج إلى حد كبير، أصيب ويلسون بسكتة دماغية كبرى بعد فترة وجيزة من عملية باريس. ومن الدروس الواضحة المستفادة من تلك الواقعة في التاريخ أن مراقبة الصحة البدنية والعقلية لزعماء العالَم، وخاصة رئيس الولايات المتحدة، أمر بالغ الأهمية خلال فترات اتخاذ القرارات المصيرية.
عندما يتعلق الأمر بعيوب القادة الشخصية، لا تقل دروس 2019 أهمية عن الدروس المستفادة من 1919. فلا يختلف ترمب ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي كثيرا عندما نتحدث عن شخصية كل منهما، ومع ذلك استغنى كلاهما عن نصيحة الخبراء وألحقا ضررا بالغا بالنظام السياسي في بلديهما. وفي حين يُنتَقَد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غالبا بسبب قِلة خبرته نسبيا، فإن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تعتبر خبيرة أكثر مما ينبغي في الحفاظ على الوضع الراهن الذي عفا عليه الزمن.
ولعل السبب الثالث وراء فشل عملية باريس هو الأكثر أهمية. كانت أهداف المؤتمر المفرطة الطموح، والشخصيات المعيبة التي كانت تلاحق تلك الأهداف، شديدة الوضوح، حتى أنها أثارت توبيخا عاما قاتلا. وجاء التوبيخ على لسان الخبير الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز، أحد أكثر العقول تألقا في ذلك العصر، في كتابه الصادر في عام 1919 بعنوان "العواقب الاقتصادية للسلام".
كان انتقاد كينز لعملية باريس والمشاركين فيها مدمرا، وكان يعرف ذلك. ففي شهر أكتوبر/تشرين الأول 1919، حضر اجتماعات استضافها الخبير المصرفي الهولندي جيرارد فيسيرينج، حيث عكف مصرفيون من الولايات المتحدة وقوى محايدة متنوعة على وضع خطة متطورة للاستفادة من التمويل الأميركي الخاص لإعادة بناء أوروبا. وكانت الخطة مبشرة إلى حد كبير، لكن كينز لم يكن بوسعه أن يربط نفسه بها، لأن هجومه العنيف تسبب في نفور الزعماء السياسيين الذين كانوا لازمين لتنفيذها. في نهاية المطاف، جرى تبني قِلة من عناصر الخطة، وليس قبل عام 1924، عندما كان الأوان فات بالفعل.
الدرس المستفاد هنا هو أن الانتقاد المفرط قد يكون هَدّاما. ويتطلب وضع القادة السياسيين على المسار الصحيح للعمل الإقناع وليس الهجوم العنيف. وعلى هذا فعندما حان الوقت لإعادة تشكيل العالَم في الفترة 1944-1945، تبنى كينز نهجا مختلفا للغاية. وقد وضع خطة معقدة لإعادة البناء، لكنه هذه المرة كان يعمل من وراء الكواليس. ولم يكن من الصعب مهاجمة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والرئيس الأميركي فرانكلين د. روزفلت بسبب سياساتهم الاقتصادية السابقة، لكن هذا ما كان ليحقق أي شيء.
صحيح أن تشرشل وروزفلت كانا قائدين أفضل كثيرا من لويد جورج وويلسون. ولكن حتى لو كانا معيبين بنفس القدر، فقد تعلم كينز تكاليف التركيز بإفراط على نقاط ضعف القادة السيئين خلال الأوقات السيئة. وسواء كنا نتحدث عن 1919 أو 2019، فإن الهوس بالقادة الأفراد قد يصرف انتباهنا عن ضرورة العمل نحو التوصل إلى الحلول المطلوبة للمشاكل الأكثر إلحاحا اليوم.