أسرى الحلم الأميركي

بروجيكت سنديكيت

2018-03-03 06:14

STEFANIE STANTCHEVA

 

كمبريدج ــ مع تفاقم التفاوت الاقتصادي في الولايات المتحدة، ربما يفترض كثيرون من المراقبين أن الأميركيين يرغبون في تقليص الفوارق في الدخل من خلال إنشاء نظام ضريبي أكثر تصاعدية. لكنه افتراض غير صحيح. ففي شهر ديسمبر/كانون الأول، أقر الكونجرس الأميركي مشروع القانون الضريبي الشامل الذي ستستفيد منه على نحو غير متناسب، في الأمد القريب على الأقل، الأسر الأعلى دخلا.

على الرغم من فجوة الدخل المتزايدة الاتساع في بلادهم، فإن دعم الأميركيين لإعادة التوزيع ظل ثابتا لعقود من الزمن، وفقا للمسح الاجتماعي العام. ولعل جون شتاينبك كان على حق عندما قال: "لم تمد الاشتراكية جذورها في أميركا قَط لأن الفقراء هناك لا يرون أنفسهم بوصفهم بروليتاريا مُسْتَغَلَّة، بل باعتبارهم أصحاب ملايين يمرون بفترة حرجة مؤقتة".

ومن منظور أولئك الذين يعتقدون أن المجتمع لابد أن يقدم لأعضائه تكافؤ الفرص، وأن كل من يجتهد في عمله يستطيع أن يرتقي السلم الاجتماعي الاقتصادي، تُعَد عملية إعادة التوزيع غير ضرورية وظالمة. فكما يقول أنصار تكافؤ الفرص، إذا انطلق الجميع من نفس نقطة البداية، فلابد أن تكون أي نتيجة سيئة راجعة إلى أخطاء فردية.

تماثل هذه النظرة رؤية غالبية الأميركيين. فوفقا لدراسة مسح القيم العالمية، يعتقد نحو 70% من الأميركيين أن الفقير يمكنه الخروج من الفقر دون مساعدة من أحد. ويتناقض هذا بشدة مع المواقف في أوروبا، حيث يرى 35% فقط نفس الرأي. بعبارة أخرى، يرى أغلب الأوروبيين أن الفقراء قليلو الحظ، في حين يعتبرهم أغلب الأميركيين كسولين. ولعل هذا من الأسباب التي تدفع الدول الأوروبية إلى دعم تحويلات اجتماعية أكثر سخاء ــ وأكثر تكلفة ــ مقارنة بالولايات المتحدة.

يتبنى الأميركيون وجهات نظر متفائلة عميقة الجذور حول الحراك الاجتماعي، وهي آراء تضرب جذورها عميقا في تاريخ الولايات المتحدة وتعززها روايات حول مهاجرين تحولوا من الفقر إلى الثراء. غير أن معتقدات الأميركيين حول الحراك الاجتماعي اليوم أصبحت تستند إلى الأساطير أكثر من استنادها إلى الواقع.

وفقا لبحث استقصائي قمت مع بعض زملائي مؤخرا بإدارته وتحليل بياناته، يخمن الأميركيون أن 12% من الأطفال في الشريحة الدنيا من الدخل سوف يشقون طريقهم إلى الشريحة العليا بحلول وقت تقاعدهم. كما يعتقد الأميركيون أنه من خلال العمل الشاق لن يظل سوى 22% فقط من الأطفال الفقراء اليوم على فقرهم عندما يبلغون.

لكن الأرقام الفعلية هي 8% و33% على التوالي. بعبارة أخرى، يبالغ الأميركيون في تقدير الحراك لاجتماعي الصاعد ويقللون من احتمال البقاء في الفقر لأجيال. وهم يعتقدون أيضا أنه إذا عمل الجميع بجدية، فإن الحلم الأميركي المتمثل في تحقيق النجاح العصامي يُصبِح أقرب إلى الواقع.

من الواضح أن المشاركين في الاستطلاع من الأوروبيين أكثر تشاؤما بشأن الحراك الاجتماعي: فهم على عكس الأميركيين، يبالغون في تقدير احتمالات البقاء في الفقر. على سبيل المثال، قال المشاركون من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا على التوالي إن 35%، و34%، و38% من الأطفال ذوي الدخل المنخفض سوف يبقون فقراء، في حين كانت النسب الحقيقية 29%، و27%، و31% على التوالي.

الواقع أن وجهات النظر حول الحراك الاجتماعي ليست موحدة عبر الطيف السياسي أو المناطق الجغرافية. ففي كل من الولايات المتحدة وأوروبا، على سبيل المثال، يعتقد الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم "محافظين" في ما يتصل بشؤون السياسة الاقتصادية أن الفرصة المتكافئة متاحة لكل الأطفال، وأن اقتصاد السوق الحرة في بلادهم عادل.

والعكس صحيح في نظر أولئك الذين يسمون أنفسهم "ليبراليين" اقتصاديا. فهؤلاء الناس يفضلون التدخل الحكومي، لأنهم يعتقدون أن الأسواق، إذا تُرِكَت تتدبر أمورها دون تدخل، لن تضمن العدالة، بل وربما حتى تعمل على توليد المزيد من التفاوت.

يتمثل النمط الأكثر إثارة للدهشة في تفاؤل الأميركيين المفرط بشأن الحراك الاجتماعي في أجزاء من البلاد حيث الحراك الفعل منخفض ــ بما في ذلك الولايات الجنوبية الشرقية مثل جورجيا، وألاباما، وفيرجينيا، ونورث كارولينا، وساوث كارولينا. في هذه الولايات، تتجاوز تقديرات المستجيبين للاستطلاع للحراك الاجتماعي ضِعف حقيقته. وعلى النقيض من هذا، يقلل المستجيبون من تقديرهم للحراك الاجتماعي في الولايات الشمالية ــ بما في ذلك فيرمونت، ومونتانا، ونورث داكوتا، وساوث داكوتا، وواشنطن ــ حيث هو أعلى في حقيقة الأمر.

وكجزء من دراستنا، تبادلنا مع شركائنا البيانات حول الترتيب الطبقي الاجتماعي في أوروبا وأميركا. وقد وجدنا أن تفسيرات هذه المعلومات تتباين بين من يعتبرون أنفسهم ليبراليين ومن يعتبرون أنفسهم محافظين. على سبيل المثال، أصبح الليبراليون أكثر دعما لسياسات إعادة التوزيع، مثل التعليم العام والرعاية الصحية الشاملة، عندما أُطلِعوا على معلومات متشائمة حول الحراك الاجتماعي.

على النقيض من ذلك، لم تتحرك مشاعر المحافظين عندما أطلعوا على نفس المعلومات. وفي حين أقروا بأن الحراك الاجتماعي المنخفض يعمل على الحد من القدرة الاقتصادية، فإنهم ظلوا على بغضهم للتدخل الحكومي وإعادة التوزيع كما كانوا من قبل أن نطلعهم على البيانات.

أعتقد أن جزءا من السبب وراء رد فِعل المحافظين هو انعدام الثقة. فالعديد من المحافظين يزدرون الحكومة بدرجة عميقة؛ يقول 17% فقط من الناخبين في الولايات المتحدة إنهم يستطيعون وضع ثقتهم في القادة السياسيين في بلادهم. وقد بلغت نسبة المحافظين الذين يحملون وجهة نظر سلبية في الإجمال للحكومة 80%؛ وبين الليبراليين كانت النسبة أقرب إلى 50%. وعلاوة على ذلك، ترى نسبة مرتفعة من المحافظين أن أفضل وسيلة لتضييق فجوة التفاوت بين الناس هي خفض الضرائب المفروضة على الشركات والأشخاص.

لكن الشكوك في الحكومة قد تنبع أيضا من اعتقاد مفاده أن الأنظمة السياسية مزورة وأن الساسة غير قادرين على تحسين الأمور أو غير راغبين في تحسينها لأنهم أصبحوا "فاسدين" بفِعل مصالح راسخة، أو غارقين في الجمود التشريعي، أو مقيدين بفِعل البيروقراطية. باختصار، عندما يعلم المحافظون أن الحراك الاجتماعي أقل مما كانوا يتصورون، فإنهم يعتقدون أن الحكومة هي المشكلة، وليست الحل. وكما لاحظ جيه. دي. فانس في مذكراته المنشورة في عام 2016 بعنوان "هيليبيلي إيليجي"، فإن كثيرين من اليمين الأميركي يعتقدون الآن أنه "ليس خطأ المرء أن يكون خاسرا؛ بل الخطأ من جانب الحكومة".

ربما أصبحنا مستقطبين في الولايات المتحدة وأوروبا، إلى الحد الذي يجعلنا حتى بعد تلقي نفس المعلومات نستجيب بطرق مختلفة. فاليسار يريد دورا أكبر للحكومة، في حين يريد اليمين تحجيم دورها. ومن الواضح أن الواقع ليس بسيطا إلى هذا الحد. لكن الأمر الواضح هو أن آراء الناس حول الحراك الاجتماعي ترتبط بالإيديولوجية والجغرافيا بقدر ما ترتبط بظروفهم.

* ستيفاني ستانتشيفا، أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا