هل يمكن للديمقراطية هزيمة الاصولية؟
حاتم حميد محسن
2017-10-21 05:10
كيف تستطيع الديمقراطية الانسجام مع العدد المتزايد من الرؤى لبناء نظام سياسي احادي شرعي ومستقر؟ هذا هو السؤال الاكثر الحاحا في وقتنا الراهن. هل هناك طريقة ناجحة للتصدي للأصوليين من مختلف المذاهب الدينية والعلمانية، وحماية التعددية الديمقراطية من الخضوع لجماعة معينة ذات برنامج اخلاقي ضيق؟
هذه القضية البالغة الأهمية تجعلنا سعداء لمعرفة ان جون رولس (1921-2002) أحد اشهر العقول الفلسفية في القرن العشرين، أمضى العقدين الاخيرين من حياته مصارعاً مع هذه المشكلة. فهو يقول " السؤال المؤلم في العالم المعاصر هو هل تستطيع الديمقراطية الانسجام مع العقائد الشمولية دينية كانت ام غير دينية؟ واذا كان الامر كذلك فكيف؟" (الليبرالية السياسية، ص 485).
في هذا المقال سنعرض جواب رولس لهذا السؤال الذي درسه بتفصيل تام في الطبعة الموسعة من الليبرالية السياسية (عام 1993). ان أعظم قيمة لمحاولة فهم الفلسفة السياسية لرولس هي ان المرء يكتسب فهما واضحا للشروط المطلوبة للديمقراطية كي تتوصل الى حوار ناجح مع التعددية وتنال الاستقرار. ولكن ما هو اكثر اهمية، هو حينما يأتي المرء للاعتراف بتلك الشروط، فهو سيدرك ايضا لماذا بعد سبتمبر 2001 لم يعد الحل الذي طرحه رولس ملائما للمستقبل.
مأزق التبرير الديمقراطي
تبدأ الليبرالية السياسية بملاحظة ان البيئة الثقافية للديمقراطيات الحديثة تحتوي على اديان متنوعة وعقائد اخلاقية ذات اصول فلسفية. يرى رولس ان هذا التنوع ليس غريبا طالما ان حماية الحرية الفردية التي ترسخها المجتمعات الديمقراطية تقود بطبيعتها و بمرور الزمن الى زيادة التنوع بما يسميه"الخلفية الثقافية"، اي، المجتمع المدني – المكان الذي نزرع فيه اهدافنا ومثلنا الشخصية. ان تسليط الضوء على الخلفية الثقافية للديمقراطيات الحديثة التي تتسم بالتنوع هو ليس جديدا. معظمنا يدرك ذلك عند النظر الى ما حوله. الشيء الجديد هو اعتراف رولس بان هذا التنوع المتزايد خلق المشكلة التبريرية للديمقراطية.
المشكلة هي كالتالي : اذا كانت العقائد التي نؤمن بها متصارعة ولايمكن تسويتها، فأي منها يمكن استخدامه لتبرير النظام الديمقراطي ذاته؟ وبعبارة اخرى، اذا كنت انا لا ارغب القبول بالنظام السياسي المرتكز على عقيدتك وانت ايضا لا ترغب القبول بالنظام المرتكز على عقيدتي، عندئذ كيف سنتمكن من وضع قواعد مشتركة تساعدنا لنعيش سويةً؟ هذه المشكلة تُعرف من جانب الفلاسفة السياسيين بـ "مأزق التبرير الديمقراطي". لكن دعنا نتفحص هذا المأزق وبتركيز اكبر.
ايّ نظام سياسي بما فيه الديمقراطية يأمر باستخدام سلطة الدولة من خلال نظامها في العدالة، ويضع القواعد لما يُعد الزاما شرعيا. انه يقرر ما هو قانوني وما هو غير قانوني، ومن ثم يسمح للحكومة باستخدام القوة من خلال المحاكم والشرطة والجيش، لإجبار من يخرج عن الخط. ولكن في الديمقراطية، حسب التعريف، كل المواطنين لهم نصيب متساوي من السلطة السياسية – اي بمعنى لا احد له سلطة إجبار الآخرين بدون قبول حر مسبق من أغلبية المواطنين. لذا، لكي تكون ممارسة السلطة السياسية شرعية في الديمقراطية، فان سبب تبرير القمع يجب ان يُحدد في عبارات ملزمة لكلا الاطراف بحيث يمكن قبولها من كل شخص(على الاقل من الغالبية المصوتة).هذا يُعرف بمبدأ الشرعية الديمقراطية او مبدأ التبرير الديمقراطي. وهنا يكمن المأزق: اذا كانت الحرية الديمقراطية تسمح لعقائدنا بالتنوع المتزايد لدرجة تبدو فيه غير قابلة للتوافق، فكيف نستطيع ايجاد عبارات تنال القبول من الجميع؟ وكيف ستكون تلك العبارات؟
بكلمة اخرى، لو اعتبرنا الديمقراطية كنظام مبرر بمبادئ اخلاقية تتقاطع احيانا، حينما كل مساحة او جزء تمثل رؤية مختلفة او مجموعة من الافكار. اذا كان كل جزء يصبح اكثر واكثر تميزا، وينسحب بعيدا عن الاجزاء الاخرى للفكر مع زيادة التنوع، فان المساحة المشتركة للاتفاق تصبح اصغر ثم اصغر، والديمقراطية تكون في خطر.
الإشكالات السياسية تحدث باستمرار في المجتمع الديمقراطي خاصة عندما تصبح اكثر تنوعا، والقيم المشتركة التي نلجأ اليها لتسوية الخلافات تصبح اقل مع زيادة التنوع. المأزق يبدو كما لو ان مزيدا من الديمقراطية يقودها لتأكل ذاتها. هل نحن اذاً مُلامون على الديمقراطية الهشة التي فقدت تبريريتها المشتركة والتي يُساء استخدامها دائما واننا امام خطر التدمير من جانب اولئك القادرين على تطوير مبادئهم الخاصة؟ ام ان هناك طريق آخر للخروج من هذا المأزق؟
السياسة المستقلة freestanding politics
بما ان المتطلبات التبريرية للديمقراطية تجعل من المستحيل إسناد قوانينها الى عقائد غير مقبولة لدى عدد كبير من المواطنين، لذا سنحتاج لنبذ الفكرة القديمة بان السياسة تُشتق من عقيدة معينة. وكما يوضح رولس "بدءاً من الفكر اليوناني فان التقليد السائد كان هناك تصور عقلاني واحد عن الخير. الهدف من الفلسفة السياسية- دائما يُنظر اليه كجزء من الفلسفة الاخلاقية الى جانب الثيولوجي والميتافيزيقا – كان تقرير طبيعة الخير ومحتواه" (الليبرالية السياسية ص 135). لكنه يستدرك حالا "ان السؤال الذي سعى الاتجاه السائد للاجابة عليه لم يجد جوابا: لا وجود لمعتقد شمولي عن الخير يكون ملائما كتصور سياسي لنظام مؤسسي". بكلمة اخرى، النموذج القديم للسياسة والذي تُبرر فيه المؤسسات والقوانين بالمقدار الذي تعزز به رؤية محددة عن الخير، لم يعد قابلا للتطبيق في عالم لانتفق فيه اصلا حول نوع الخير. في عالم التنوع المفرط لم نعد نفرض تصورا معينا حول الكيفية التي يجب ان نعيش بها جميعا واي اهداف يجب السعي نحوها دون النيل من حرية الآخرين.
يصر رولس بانه في هذا العالم المتنوع الذي ساعدت الديمقراطية ذاتها على خلقه، لايمكن ان يأتي تبرير للسلطة السياسية من الدين ولا من القيم الاخلاقية العلمانية. القوانين دائما تنطوي على استعمال قسري لسلطة الحكومة، لذا اذا كان التبرير لبعض القوانين يأتي من الدين، فان ذلك مخالف لمبدأ التبرير الديمقراطي لأنه ليس جميع المواطنين يقبلون الأسباب الدينية كمصدر للقوانين والذي في النهاية سيختزل حرياتهم. ونفس الشيء ينطبق على التقاليد العلمانية : اذا كان على سبيل المثال تبرير قوانين معينة مشتق من افكار التنوير عن الكائن البشري كسبب عالمي مشترك(كما يرى كانط)، او من حسابات النفعية للخير الأعظم (كما بالنسبة لجون ستيوارت مل)، فان الافراد المتدينين في المجتمع بدورهم سيعارضون ما يرونه اكراها علمانيا غير مقبول.
اذا كانت عقائدنا الدينية والاخلاقية لاتستطيع العمل كأساس للنظام السياسي في مجتمع تعددي، فكيف سنعمل؟ اول خطوة لدى رولس تكمن في إدخال فكرة السياسة "المستقلة"، التي لا تُشتق من اي من المذاهب المتنافسة. لكي نبدأ بفهم الفرق بين التصور السياسي المستقل وعقائدنا السياسية العادية، يدعونا رولس للتفكير بمبادئ العدالة "كما صُممت لتشكل العالم الاجتماعي الذي فيه تُكتسب اولا شخصيتنا وتصورنا عن ذاتنا كافراد، بالاضافة الى رؤانا الشمولية وتصوراتنا عن الخير"(ص41).
في هذا، هو يسألنا لنتصور اطارا في ظله نتابع اهدافنا المختلفة وغاياتنا الشخصية. هذا الاطار هو الاستقلالية بمعنى انه يسبق اي قيم نتابعها ضمن حدوده، وبالنتيجة يجب ان يُبنى هذا الاطار قبل ادخال اي اديان معينة او افكار اخلاقية. لكي نفهم هذا اكثر، يسألنا رولس لنفكر حول ما يحدث عندما يغيّر اي واحد منا تصوره عن ماهية الخير اما فجأة او بمرور الزمن. عندما يحدث هذا نحن عادة نذهب للقول اننا لم نعد نفس الاشخاص. لكن رغم هذا، فان هويتنا المؤسسية والسياسية والحقوق يجب ان تبقى سليمة. هذا هو بالضبط معنى السياسي المستقل. هذا يبين كيف ان التصور المستقل للعدالة السياسية يشكل الاطار المؤسسي الذي يمكّننا لنصبح مواطنين مستقلين لدينا المقدرة لمتابعة اهدافنا.
ولكن لو قبلنا افتراض رولس بان الفلسفة السياسية تحتاج لعرض نفسها بعبارات مستقلة، فماذا يعني هذا بالضبط وكيف نستطيع انجازه؟ لكي يوضح رولس كيف يتم هذا حقا، هو يُدخل اهم افكاره وهو مفهوم المعقول reasonable.
لنكن معقولين
اذا كان النظام السياسي يهدف فعلا ليكون مستقلا، عندئذ لكي يتجنب الانحياز الى احد الاطراف فهو يحتاج للوقوف خارج عالم "الحقيقة" المتنازع عليها. ايّ ادّعاء بالمصداقية سوف يسحبه فورا الى دين معين او قيم اخلاقية اخرى ويضعه في منافسة مع عقائد اخرى حول ماهية الحقيقة. لذا بدلا من عمل ادّعاءات مطلقة للحقيقة فان الليبرالية السياسية لرولس تشير الى تصوره السياسي للعدالة كمعقول.
وكما يعرّف رولس المفردة، فان الفكرة او الفرد يُعد معقولا سياسيا اذا كشف عن سمتين رئيسيتين:
1- انهما يجب عليهما احترام مبدأ التبرير الديمقراطي اي انهما يجب ان يقترحا عبارات للتعاون الاجتماعي يقبل بها الآخرون.
2- يجب عليهما الاعتراف بما يسميه رولس "أعباء الحكم " burdens of judgment (1)– حقيقة ان المواطنين يمكنهم الوصول الى مختلف العقائد في بحثهم الجاد عن الحقيقة.
حين نضع هذين العنصرين الى بعضهما نستطيع القول ان الفرد المعقول سياسيا هو الذي يقدم عبارات متبادلة للتعاون ويتوقف عن استعمال السلطة السياسية في تفضيل رؤيته او قمع اراء الناس المعقولين الاخرين. الناس المعقولين سياسيا يعترفون بانه في السياسة والاخلاق والدين تكون "الحقيقة التامة" غير متفق عليها ويصعب الوصول اليها، ويقبلون بالقيود التي يضعها هذا على ما يمكن جلبه للميدان السياسي. هذا المطلب لمعقولية الفضيلة السياسية يسمح لرولس للوصول الى واحدة من الاطروحات المركزية في ليبراليته: في عالم متنوع، لكي يكون تصور العدالة معقولا، لابد ان يكون محايدا بين المذاهب الرافضة للتسوية. يجب ان لا يعبّر عن افضلية او تعزيز اي نوع معين من العقائد، ولايحاول اقناع الافراد لإحتضان رؤية محددة. السياسة التي تقف الى جانب اي عقيدة سواء كانت دينية ام علمانية هي غير معقولة وبالتالي غير شرعية.
الموقف الاصلي: تقليد المعقولية
بعد تأسيس المعقولية كمستوى يعمل به النظام السياسي المستقل، يبدأ رولس اخيرا بعمل موقف لرؤيته عن العدالة. غير ان متطلبات الحيادية التي تحتاجها المعقولية تبدو قيدا صعبا للناس الذين يفضلون في الظروف العادية صيغتهم الخاصة للخير. لذا، لكي نخلق الظروف لتسهيل مشاورات معقولة، يرى رولس اننا يجب ان نجد وجهة نظر فيها توضع جانبا ظروفنا الخاصة. لهذا هو يستخدم "الموقف الاصلي" الذي طوّره في (نظرية العدالة 1971).
الموقف الاصلي هو تجربة فكرية تسمح لنا لنكون معقولين الى أكبر قدر ممكن. يسألنا رولس ان نتصور اننا مختفين وراء ما يسمى "قناع الجهل" الذي يزيح معرفتنا بظروفنا الاجتماعية وتصوراتنا عن الخير. يقول رولس "ان الخصائص المتصلة بالموقف الاجتماعي، الموهبة الاصلية، الاحداث التاريخية بالاضافة الى محتوى الافراد" التي تقرر التصورات عن الخير هي غير ملائمة، ولهذا توضع خلف قناع الجهل(ص79). هو يرى انه في ظل هذه الظروف سنفضل تصورا معقولا للعدالة، وبما اننا لا نتبنّى اي مذهب معين عندئذ سنكون منشغلين فقط بوضع اطار مؤسسي يكون عادلا بصرف النظر عن العقائد والمواقف الاجتماعية التي ستكون لدينا حينما يُرفع القناع.
يقول رولس ان رؤيته للعدالة التي يسميها "العدالة كإنصاف" هي محصلة واضحة للموقف الاصلي، طالما ان الافكار السياسية التي تؤيدها هي الاكثر معقولية. انها تصور ليبرالي للعدالة بمعنى ان الحريات الاساسية كحرية المعتقد وحرية التجمع والكلام تُعطى اولوية على اي قيم او ادّعاءات عامة اخرى. الليبرالية السياسية ذات تبرير مستقل، اي، انها نتيجة واضحة لمتطلبات المعقولية كفضيلة سياسية غير مشتقة من اي دين او مذهب علماني. بكلمة اخرى، اذا كان الفرد العقلاني شخصا يحترم مبدأ التبرير الديمقراطي لسلطة الدولة، ويقبل بعدم امكانية الوصول الى حقيقة واحدة متفق عليها، فان هذا الفرد سيفضل الاطار المؤسسي الليبرالي. وهذا هو استنتاج مستقل بمعنى لا لجوء فيه لدين او اي اعتبارات اخلاقية اخرى.
مشكلة الاستقرار
تحدثنا عن الكيفية التي عالج بها رولس مشكلة التبرير الديمقراطي في المجتمعات التي تعاني من انقسام عميق في آرائها المتنافسة. يعرض رولس ما يراه اطارا ملائما للعدالة للديمقراطية المتنوعة. هذا يُنتج حسب زعمه نسخة لليبرالية محايدة ايديولوجيا وسياسية خالصة. لكن المشكلة الكبرى تبقى هي مشكلة الاستقرار. ماذا لو بعد رفع القناع، لن نستطيع التسوية بين العقائد التي نجد انفسنا فيها و الاطار المؤسسي الذي اتفقنا عليه اثناء الموقف الاصلي؟ نحن يُحتمل ان نبقى نقبل بالنتيجة طالما ليست لدينا الوسائل لفرض رؤيتنا على اي شخص اخر. لكن رولس يعتقد ان هذه نتيجة غير مرضية وغير مستقرة. ما يأمله رولس هو حالما يُرفع القناع سنجد مصادر كافية ضمن عقائدنا لدعم الترتيبات السياسية التي نجد انفسنا بها الآن. وهكذا بينما صيغتنا الخاصة للحقيقة يجب ان لا تؤسس الاطار السياسي، لكنها يجب ان توفر اسبابا كافية لدعمه. هنا، يلتفت رولس الى فكرة"الاجماع المتشابك" overlapping consensus (2) للعقائد المعقولة.
اذا كنت انت وانا والاخرين لانتفق جذريا في عقائدنا، و كنا جميعا نحتفظ بمتطلبات المعقولية (نحترم الحاجة الى تبرير ديمقراطي ونقبل بان الناس سيكون لديهم دائما عقائد مختلفة) عندئذ سيكون هناك التقاء كافي بيننا لتسهيل الاجماع على المستوى السياسي. حقيقة ان تفكيرنا معقول هو ما يشدّنا مجتمعين رغم اختلافاتنا الاصولية. الديمقراطية الليبرالية لايهمها بالضبط الكيفية التي يبرر بها كل دين او اتجاه علماني لنفسه احترام فضيلة المعقولية، بل ان المهم ان تقوم بذلك بطريقة ما. لكي تكون الديمقراطية مستقلة وسط التنوع الرافض للتسوية، فان عقائد مواطنيها بحاجة لتكون معقولة. هذا المطلب يحمل نتائج عملية هائلة سنشير لها الان.
اللامعقول وصعود الاصولية
بالرغم من العديد من الانتقادات لليبرالية رولس السياسية لكن افكاره المركزية تعكس الى مدى كبير الكيفية التي تعمل بها الديمقراطيات حاليا. ما تقوم به الدولة من تعزيز للحقوق الاساسية والحريات الى جانب هدفها في البقاء محايدة وسط رؤى مواطنيها غير القابلة للتسوية، هو خاصية رئيسية لمجتمعاتنا. الفكرة بان هناك اطار مستقل للعدالة يضمن الحريات الفردية وسابق لما نؤمن به، هو اساس ما نأمله من تعزيز للاستقرار في الديمقراطيات المتنوعة. ولكن ما يؤكده رولس هو ان هذا الأمل يعتمد على قبول كل شخص بفضيلة المعقولية. المواطنون غير العقلانيين يرفضون فكرة ان التزاماتهم كمواطنين لها أسبقية على عقائدهم. هذا يقود الى رفض ما تدعو اليه فكرة رولس في المعقول. اي، الاعتراف بان التنوع يضع حدودا لما يمكن ان يدخل ضمن السياسي.
اعترف رولس بانه اذا فشل المواطنون في الاحتفاظ بالمعقولية، فان هيكل الديمقراطية الليبرالية بالكامل سيكون في خطر. في مكان ما هو يسأل "ماذا لو ثبت ان مبادئ العدالة كإنصاف لاتستطيع ان تنال دعم العقائد المعقولة، وبذلك سيفشل الاستقرار؟... العدالة كإنصاف ستكون في مشكلة"(ص65).
في التسعينات من القرن الماضي عندما كتب رولس الليبرالية السياسية كان لايزال هناك سبب للتفاؤل الحذر بان معظم الجماعات الدينية والعلمانية ستدعم الانظمة الديمقراطية بالاستفادة من المصادر ضمن رؤياتها الخاصة. ولكن رغم كل ذلك هو ادرك ان هذا كان خيالا :"انا افترض هنا بتفاؤل كبير انه ماعدا انواع معينة من الاصولية فان جميع الاديان التاريخية تعترف بهذا التفكير وهي بهذا ربما ينظر اليها كعقائد شمولية معقولة."( ص 170)، في عالم ما بعد سبتمبر 2001، نستطيع ان نرى ان هذا التفاؤل بلا اساس. اذا كان استقرار الديمقراطيات التعددية يعتمد حقا على جعل جميع المواطنين يقبلون بفكرة ان "الايمان بصحة التصور السياسي كحقيقة... هو خاص، وحتى طائفي، ويُحتمل ان يسرّع الانقسام السياسي"(ص129)، حينئذ سنكون في مشكلة عميقة. لاتوجد ليبرالية سياسية لأولئك الساعين لرفع صيغتهم حول الاخلاق الى الميدان السياسي بدلا من الاشارة لحقيقة انهم غير معقولين سياسيا. رولس واع جيدا بهذا عندما يناقش كيفية الرد على الاصولية: "نحن ببساطة نقول ان هكذا عقيدة هي غير معقولة سياسيا. ضمن الليبرالية السياسية لاحاجة للقول اكثر من هذا". طالما لدينا القليل من القول للفاعلين غير العقلانيين عدى الاشارة الى افتقارهم للعقلانية- والذي لا يُحتمل ان يسبب لهم القلق – عندئذ فان الشيء الوحيد المتبقي لليبرالية السياسية هو "المهمة العملية في احتواء عيوب ما يُسمح به كمعقولية وترخيص الدولة لتحطم كليا الاصولية غير المتعاونة كما في حالة المرض. ولكن ماذا لو انتشر المرض لدرجة تصبح فيه اي محاولة لاحتوائه تقود الى اتساع الوباء؟ نعتقد ان هذا هو الموقف الذي نحن فيه الآن.
كما قلنا في البداية، القيمة الكبرى لفهم جدال رولس هي الاعتراف بان الشروط المطلوبة لليبرالية السياسية كي تعمل هي الان بعيدة المنال. الحقيقة هي ان التحديات ايام رولس كانت رقيقة قياسا بالتحديات امام الاجيال الحالية. رغم النية الحسنة لليبرالية السياسية فهي لم تعد الجواب. وراء حدود المعقول، ايّ اصرار على نسخة رولس من الليبرالية لن يقودنا للنجاح. اذا اريد النجاح للديمقراطية في هذه الاوقات غير العقلانية سنحتاج لخلق دفاع اخلاقي عن التعددية تستطيع فيه الاستحواذ على قلوب وعقول جميع اولئك المفتونين بالاناشيد الوطنية والشعارات العنصرية.