عند تحرير الموصل لا بد أن يبدأ فصل جديد في صناعة السياسة
مركز بروكنجز
2017-04-03 07:53
رانج علاء الدين
تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أزمة سلطة وأمن سوف تستمر حتى بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية والحملات العسكرية في العراق وسوريا. صحيح أنّ تحرير الموصل وسقوط مدينة الرقة المحتمل هو إشارة إلى نھایة “الخلافة”، لكن قد يكون ذلك أيضاً إشارة إلى بداية عصر المجموعات المسلحة.
أصبح انهيار المؤسسات وهشاشة الدول يهددان نظام الدولة القومية كما لم يشهده تاريخ المنطقة الحديث من قبل. كما نمت الهويات دون الوطنية القائمة على أساس العرق والدين في هذه المناطق التي تعاني فراغاً سياسياً وأمنياً، وقد أصبحت تشكّل محرّكاً قوية للناس والموارد. وما يجب أن يثير قلق المجتمع الدولي هو بروز الجهات الفاعلة العنيفة وغير الحكومية، وليس التحديات التي تطرحها الهوية والسياسات الطائفية البالية التي يمكن عكسها والتي تتطور باستمرار.
ويمكن أن تُصنّف هذه المجموعات بالإرهابية أو على أنها عشائر أو ميليشيات أو حتى قوات شبه عسكرية، وذلك بحسب وجهة نظرك، إلا أنّ هذه المجموعات المتطورة على نحو متزايد قد سدت الفجوة التي خلّفها تراجع الدولة، وهي تتمتع بتداخل واسع النطاق مع السكان المحليين، وذلك ما يمدّها غالباً بالشرعية الشعبية. حتى وإنّ بعضها قد تحول إلى جهات فاعلة اجتماعية – ثقافية، فأصبحت تصدر صحفاً أسبوعية وأنشأت مدارس وعيادات ومواعظ دينية خاصة بها. وبالتالي، أصبحت بالفعل تدير المجتمعات التابعة لها وتقدّم لها الخدمات وتوفّر لها الأمن. حتى وأنّ بعض هذه المجموعات يتفاعل مع الدولة بشكل منتظم، كما الحال في العراق حيث شغلت الميليشيات مناصب وزارية وسيطرت على وزارات رئيسية.
وبعبارة أخرى، فإن هذه الجهات الفاعلة هي هنا لتبقى ووضعها جيد للمحافظة على الوضع الراهن. ويترتب على ذلك عواقب على الطريقة التي تتفاعل بها الحكومات والشركات والمنظمات الدولية مع منطقة توفّر فرصاً بقدر ما تشكّل تهديداً للأمن القومي. وقريباً قد يصبح من غير المعقول القيام “بالأعمال” مع المنطقة كما كنا نفعل في السابق.
لن يكون بمقدور الشركات التي تود الاستثمار في الفرص التجارية المتاحة في المنطقة، والحكومات الباحثة عن حل مسائل الأمن القومي، والمنظمات الإنسانية الساعية إلى الوصول إلى المجتمعات المحاصرة تحقيق أهدافها بمجرد التعاون مع النخب في بغداد ودمشق أو عواصم أخرى. إذا رغبت الحكومة البريطانية في مرحلةٍ ما في حلّ أزمة تتعلّق برعايا بريطانيين، فإن تقرير مصيرهم سيكون بيد الميليشيات والعشائر وحتى رجال الدين الذين لهم الغلبة على الأرض. وفي حين كان هذا استثناءً في الماضي، إلا أنه، وعلى نحو متزايد، أصبح القاعدة.
وبينما كان هنالك في السابق رغبة سياسية وموارد للاستثمار في الدول الهشة، إلا أن الحال تغير الآن. كما ظهر جلياً مع إدارة ترامب، ثمة تراجع على الصعيد العالمي ضدّ مفهوم الاستمرار باستثمار مليارات الدولارات في دول ونخب لا يمكنها أن تقوم إلا بالقليل بهذه الموارد، كما هو الحال في العراق. وفي النظام العالمي الحالي، تواجه الحكومات تحديات سياسية واقتصادية في الداخل.
لا بد من الإشارة إلى أنّ نظام الحوكمة هذا وبنيته غير مستدام – إذ إن تحول قادة ميليشيات ومجموعات مسلحة إلى رجال دولة، علماً أنّ هذه المجموعات، التي نشأت من رحم الصراعات الدينية، لا تشكّل الصياغة المثالية للحوكمة الرشيدة، وهي التي لا تحترم كثيراً المعايير الدولية وحقوق الإنسان. يتداخل الاستقرار السياسي والأمن لتمكين خلق فرص العمل، وتوفير الخدمات العامة، وتخفيف وطأة الأزمات الإنسانية التي لم تؤدي إلى خلق مجموعات مسلحة كداعش فحسب، بل تسببت أيضاً بتدفق اللاجئين إلى أوروبا وإلى مناطق أخرى.
والتحدي الذي يواجه المجتمع الدولي هو قبول الديناميكيات المتغيرة لتعزيز وضعه لكي يكون أكثر استعداداً للاستجابة للتهديدات الناجمة عن ذلك. وذلك يستلزم إعادة النظر في الطريقة التي يراعي بها النظام الدولي بنى الحوكمة والأمن التي ستتحقق في ما بعد والتي هي الآن في طور التطور.
لم يعد النهج التقليدي لمكافحة المجموعات على غرار داعش أو الميليشيات الطائفية مقبولاً. إذ إن استثمار مليارات الدولارات في بناء القدرات وعملية بناء المؤسسات أو إصلاح القطاع الأمني لن يحقق وحده النتائج الضرورية. وغالباً ما تقاتل الجهات الفاعلة غير الحكومية العنيفة من أجل الدولة والموارد التي يقدمها لها المجتمع الدولي، كما هو الحال مع منافسي هذه الجهات. وبالطبع، غالباً ما ينتهي المطاف بالموارد الدولية في أيدي من يملكون السلاح والمال.
لكن رغم ذلك، لا بدّ أن تستمر مبادرات بناء الدولة – ستهمش المجتمعات المحلية المجموعات المسلحة في المناطق التي فشل فيها في توفير الخدمات الأساسية والأمن، ولكن فقط إن وُجد بديل ليحل محلها. لا بد أن يصبح النظام الدولي أكثر مرونة لكي يأخذ بالاعتبار ويدعم المجموعات المستعدة لاعتماد المعايير الدولية والتي لا يرتبط وجودها بالتوترات الإثنية والطائفية.
تنقسم المجموعات المسلحة إلى سيئة وجيدة. إن ما يجعل أكراد سوريا موضع ثقة وحلفاء يسهل التعامل معهم في نظر الغرب في الحرب ضد داعش هو طموحهم للاندماج في النظام الدولي. فهم يتكلمون لغة الديمقراطية وسيادة القانون، تبعاً لوضعهم كبناة للدولة. على نحوٍ مماثل، تسعى ميليشيات شيعية في العراق إلى الاندماج في المؤسسات القائمة. ويتعارض ذلك بشدة مع الميليشيات الشيعية المتنافسة والطامحة إلى حل محل مؤسسات الدولة الراهنة على غرار الجيش العراقي.
لا بدّ أن يتطلع صناع السياسة إلى الجهات الفاعلة التي ترمي وتهدف إلى مؤسسات تعددية لا طائفية. إن عزل تلك الجهات وتهميشها بالطريقة ذاتها المتبعة مع المجموعات الحاقدة سيولد مشاكل عوضاً عن تقديم حلول. لا بد أن يتوجه الاستثمار إلى الديناميكيات الشعبية والوطنية من أجل تحقيق الاستقرار. إذ تتمتع الجهات الفاعلة التابعة للمجتمع المدني (بما في ذلك المنظمات غير الربحية، والعشائر ورجال الدين) في المنطقة بقدرة أكبر على التواصل وسلطة أخلاقية أكبر من تلك التي يملكها البيروقراطيون والنخب الفاسدة. إلا أنها غير مجهزة بشكلٍ مناسب وتفتقر إلى الموارد والاستقلالية الذاتية التي من شأنها أن تمكنها من التأثير على التغيير على أرض الواقع، وتحدي النخب الفاسدة وكذلك الميليشيات والجيوش المجرمة التي تعيث في الأرض فساداً وعنفاً.