مقاصد الشريعة في معادلة الرحمة والاستشارية
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2016-12-25 08:15
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(1)
بصائر النور في آية اللين والاستشارة
هذه الآية الكريمة تحتضن مجموعة من بصائر النور التي يمكن استلهامها منها بالتدبر، كما يمكن استنباط العديد من الحِكَم والأحكام والقواعد والدروس منها، كما أنها تشكل أساساً من أهم أسس الحكم الرشيد وترشد إلى دعامة من أهم دعائم تقوية النسيج الاجتماعي واستحكامه.
وسوف نشير في هذا البحث بشكل مبسط إلى بصيرين مفتاحيتين على ضوء هذه الآية القرآنية الكريمة.
البصيرة الأولى: للشريعة مقاصد وللمقاصد مقاصد
إن للشريعة مقاصدَ وللمقاصد مقاصد أخرى، وبعبارة أخرى: أن للشريعة مقاصد عظمى تنشعب منها مقاصد أخرى.
فمثلاً: حقن الدماء وصيانة الأعراض وحفظ الأموال تعد من مقاصد الشريعة أي مما شرعت مجموعة من التشريعات للمحافظة عليها كحرمة السرقة والغصب ومصادرة الأموال والرشوة والغش وغيرها لأجل المحافظة على الأموال، وهي مقاصد متفرعة عن المقصد الأسمى للشريعة وهو الرحمة الإلهية إذ يقول الله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(2).
اللين مقصد للشريعة، ومقصد المقصد هو الرحمة الإلهية
وفي آية البحث نجد أن المقصد الأسمى هو (رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) وأن من هذه الرحمة تفرع مقصد آخر هو (لين الرسول (صلى الله عليه وآله) قولاً وقلباً) ثم تفرعت من هذا المقصد الثاني سلسلة من الأحكام: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ).
فاللين والرفق واللاعنف هي من مقاصد الشريعة والتي تتفرع عنها سلسلة كبيرة من الأحكام، كما أنها بدورها متفرعة عن المقصد الأعظم للشريعة وهو (الرحمة) وأيضاً (الحكمة).
وذلك هو ما تشير إليه الروايات الشريفة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام أو بدلالة الاقتضاء أو الإيماء والتنبيه والإشارة، وسنشير إلى بعض الروايات فقط:
الإمام (عليه السلام): لا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلا أخذت باليسير منهما
فقد ورد في الرواية عن حنان بن سدير قال: "كُنْتُ أَنَا وَأَبِي وَأَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ وَعَبْدُ الرَّحِيمِ الْقَصِيرُ وَزِيَادُ الْأَحْلَامِ حُجَّاجاً فَدَخَلْنَا عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَرَأَى زِيَاداً وَقَدْ تَسَلَّخَ جِلْدُهُ، فَقَالَ (عليه السلام) لَهُ: مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ؟ قَالَ: مِنَ الْكُوفَةِ. قَالَ (عليه السلام): وَلِمَ أَحْرَمْتَ مِنَ الْكُوفَةِ؟ فَقَالَ: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِكُمْ أَنَّهُ قَالَ: مَا بَعُدَ مِنَ الْإِحْرَامِ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ. فَقَالَ (عليه السلام) مَا بَلَّغَكَ هَذَا إِلَّا كَذَّابٌ. ثُمَّ قَالَ (عليه السلام) لِأَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ: مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ؟ فَقَالَ: مِنَ الرَّبَذَةِ. فَقَالَ (عليه السلام) لَهُ: وَلِمَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ أَنَّ قَبْرَ أَبِي ذَرٍّ بِهَا فَأَحْبَبْتَ أَنْ لَا تَجُوزَهُ. ثُمَّ قَالَ (عليه السلام) لِأَبِي وَعَبْدِ الرَّحِيمِ: مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتُمَا؟ فَقَالَا: مِنَ الْعَقِيقِ. فَقَالَ (عليه السلام): أَصَبْتُمَا الرُّخْصَةَ وَاتَّبَعْتُمَا السُّنَّةَ وَلَا يَعْرِضُ لِي بَابَانِ كِلَاهُمَا حَلَالٌ إِلَّا أَخَذْتُ بِالْيَسِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَسِيرٌ يُحِبُّ الْيَسِيرَ وَيُعْطِي عَلَى الْيَسِيرِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ"(3)، وسيأتي في الحديث القادم بعض فقه هذا الحديث إذا شاء الله تعالى.
أحب الأعمال لله الإيمان به والرفق بعباده!
كما أن مما قد يستظهر منه ارتقاء الرفق واللين إلى مصاف مقاصد الشريعة ما ورد في الحديث "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): مَا مِنْ عَمَلٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالرِّفْقِ بِعِبَادِهِ، وَمَا مِنْ عَمَلٍ أَبْغَضَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْعُنْفِ عَلَى عِبَادِه"(4) وذلك هو الغريب حقاً أن يكون أحب عمل لله تعالى بعد الإيمان هو الرفق بعباده، بل يصرح الرسول (صلى الله عليه وآله) بأنهما أحب إلى الله والرسول من أي عمل آخر بما يشمل مختلف أنواع العبادات مما يستدعي عقد بحث خاص كلامي عن موقع الرفق بالعباد بين العبادات مع وجود ما هو ركن الدين فيها، وعن ما هو مقتضى الجمع بين الروايات وهل بعضها ناظر إلى جهة خاصة أو منصرف أو أن المحبوبية أمر والتكليف لمصلحة ملزمة أمر آخر؟ ولعله يأتي الكلام عن ذلك.
من شروط الوالي أن يكون الأفضل حلماً
كما نجد أن أمير المؤمنين عليه السلام اعتبر في عهده لمالك الاشتر من مواصفات الحاكم والوالي: "أَفْضَلَهُمْ حِلْماً" و"مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ..." فقال: "فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِكَ وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ(5) وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَيَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ مِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَلَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْف"(6) ولعله يأتي بعض فقه الحديث لاحقاً إذا شاء الله تعالى.
البصيرة الثانية: موقع مقاصد الشريعة في الفقه الإمامي
إن من المعروف اهتمام أهل العامة بفقه المقاصد، كما أن من المعروف –في المقابل- إهمال علماء الشيعة لفقه مقاصد الشريعة ولذا لا ترى في مثل المعالم والرسائل والكفاية ولا في مثل المسالك والحدائق والجواهر ونظائرها بحوثاً عن فقه المقاصد وإن وجدت إشارات وكلمات لكنها لا ترقى إلى مستوى (البحث) كسائر ما بحثوه باستيعاب فلاحظ بحثهم للاستصحاب مثلاً وقارنه بما أشاروا به إلى بحث المقاصد.
لماذا اهتم العامة بفقه المقاصد وأهملها الشيعة؟
والسر في ذلك واضح فإن أهل العامة عانوا من نقص ذريع في الروايات التي تبين الشرائع والأحكام لعدم رجوعهم إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من جهة ولسد عمر باب الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جهة أخرى إذ كان يعاقب على الرواية عنه ويقول: "حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّه"(7) لذا التجأوا إلى القياس والاستحسان وكانت مقاصد الشريعة لديهم من أبواب تنقيح القياس والاستحسان وسد الذرائع.
أما علماء الشيعة فقد أغنتهم الروايات المتكاثرة الواصلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن المعصومين (عليهم السلام) طوال حوالي قرنين ونصف، عن اللجوء إلى غير الاستنباط من النصوص الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) والثقل الآخر حسب حديث الثقلين، إضافة إلى وضوح بطلان القياس والاستحسان إذ "إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَةِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ"(8) لمجهولية ملاكات الأحكام لدينا فانها وإن عُلِم بعضها أو الكثير منها إجمالاً إلا أن عدم الإحاطة بها بأجمعها وعدم معرفة تزاحماتها والموانع عن كل واحد منها أو الشرائط لها وسائر معادلاتها، أوجب استحالة استخراج الحكم الإلهي عبر القياس والاستحسان.
وجه ثانوي مبتكر لضرورة طرق باب فقه المقاصد
ولكن ومع ذلك كله، نقول ما يفتح باباً جديداً لضرورة طرق باب فقه مقاصد الشريعة في علم الكلام، بل وعلم الفقه والأصول وغيرها وعقد فصل خاص لها لا لاستنباط الأحكام منها إذ لا يمكن ذلك لما سبق بل لجهات أخرى تعد عوامل مساعدة تكميلية.
1- الفائدة الكلامية لفقه المقاصد
فإن معرفة الغرض من الخلقة والمقاصد العامة للشريعة استناداً إلى نصوص الكتاب والسنة، يثري علم الكلام ويمنحه بعداً آخر أكثر حيوية وفاعلية إذ يتكفل بدفع كثير من الشبهات التي قد يطرحها أتباع المذاهب الأخرى أو التي قد يسأل عنها الشباب الحائر، إضافة إلى أنه يزيد الكثير من الناس اطمئناناً بالشرع الأقدس وهو مطلوب في حد ذاته، (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(9).
ويتضح ذلك أكثر عندما نعرف أن بعض المذاهب والأديان بُنيت على العنف والقسوة والشدة بشكل عام أو في الجملة، فالوهابية مثلاً بُنيت على العنف الشديد وعلى تكفير عامة المسلمين لمجرد انهم (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ)(10) بالتوسل بالأنبياء والأوصياء أو يتبركون بالمشاهد المشرفة كما يفعله عامة المسلمين، وهي التي أنتجت معاملها القاعدة وداعش وغيرهما كنتيجة طبيعية لما بني عليه مذهبهم من العنف في مجالات العقيدة والشريعة والسلوك.
وكذلك الديانة اليهودية فقد بنيت في الجملة على لمسات عنف حتى في الدين غير المحرف فقد قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(11)
أما الإسلام المحمدي الأصيل المستلهم من القرآن الكريم وسنة الرسول وأهل بيته الأطهار فقد بني على الرفق والرحمة واللين والمداراة والمحبة، وتدل على ذلك متواتر الروايات.
وفي الروايتين التاليتين أكبر الدلالية:
قال الإمام الصادق (عليه السلام):"أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ إِمَارَةَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ بِالسَّيْفِ وَالْعَسْفِ وَالْجَوْرِ وَأَنَّ إِمَامَتَنَا بِالرِّفْقِ وَالتَّأَلُّفِ وَالْوَقَارِ وَالتَّقِيَّةِ وَحُسْنِ الْخُلْطَةِ وَالْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ فَرَغِّبُوا النَّاسَ فِي دِينِكُمْ وَفِي مَا أَنْتُمْ فِيهِ"(12) فهذا هو الفارق بين الإمامتين إمامة الأوصياء بالحق (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)(13) وإمامة أئمة الجور: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)(14).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى الْهَيْنِ اللَّيْنِ السَّهْلِ الْقَرِيبِ"(15) والمراد من القريب القريب من الناس والذي لا يحجبه عنهم حِجاب وحُجّاب، كما يفعل الحكوميون والساسة وكثير من الشخصيات، وقد ورد الخطاب للمرجع الأعلى في زمانه السيد أبي الحسن الاصفهاني (أجلس في الدهليز وارخص نفسك للناس) وكان السيد الوالد قد حدد يومياً ساعة من الظهر قبل الزمن للقاء عامة الناس بدون مواعيد مسبقة كذلك يفعل السيد العم وعدد من الأعلام.
والمراد من السهل السهل في التعامل والقضاء والاقتضاء، ولعلنا نفرد لذلك بحثاً مستقلاً.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُون"(16)
2- الفائدة الاجتماعية لفقه المقاصد
ثانياً: أن مقاصد الشريعة تصلح أن تكون المرشد العام للأمة في كيفية العِشرة والمعاشرة والتعامل مع الآخرين: في العشائر والأحزاب والاتحادات والنقابات وفي الشركات والمؤسسات وفي الحكومة وغيرها.
فهي تصلح كمنهج حياة وموجه عام ولذا ورد "مَا وُضِعَ الرِّفْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا وُضِعَ الْخُرْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا شَانَه"(17) فإذا دار الأمر بين أن يتعامل الزوج مع زوجته أو الأب مع ابنه أو المعلم مع تلميذه بالرفق أو العنف (ولنفرض مرتبة جائزة منه) كانت مقاصد الشريعة هي المرشد للتعامل بالرفق بل بمنتهى اللطف، وهكذا في تعامل القيادات مع الأتباع والأعضاء والجماهير بل حتى وفي سنّ القوانين فمثلاً لو فرضنا جواز سنّ الضرائب (وهي محرمة قطعاً وبدعة إذ لا ضرائب في الإسلام إلا الخمس والزكاة والجزية والخراج وهي كافية وافية والدول كاذبة في دعوى حاجتها للضرائب إذ في مواردها الطبيعية خاصة للتي تمتلك حقول النفط وشبهها الكفاية وأكثر، بل الأموال تصب غالباً في تكريس استبداد الحاكم وشهواته) ودار الأمر بين سنّها لتنبسط يد الدولة أكثر أو عدم سنّها ليكون الناس في سعة وراحة، كان الثاني أولى قطعاً حسب فقه المقاصد وحسب المستفاد من ذوق الشريعة وسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ولذا قال (صلى الله عليه وآله): "بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَة"(18).
ولذلك نجد أن الناس يحبون من يتعامل معهم برفق ومن ينسى أخطاءهم ويصفح عنهم؛ فكما تحب أن يتعامل معك من هو فوقك بالرفق واللين فتعامل مع هو من دونك باللطف واللين كذلك!
ونجد في تعبير الأمير (عليه السلام) أكبر الدلالة في عهده للاشتر: "مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ" وفي التعبير بـ(يستريح) لطف بالغ وحكمة كبرى، إذ يستفاد منه انه من المحبذ سيكولوجياً أن يستريح المرء نفسياً من العذر أي اعتذار من ظلمه أو آذاه أو أزعجه ثم ينسى بعدها كل ما فعله ذلك الآخر (الصديق، الزوج، الزوجة، الشريك.. الخ) في حقه الشخصي، عكس ما يصنعه البعض حيث يتشددون في عدم قبول الأعذار متهمين المعتذر بأنه تبرير بارد أو مرفوض أو أنه عذر أقبح من ذنب!
والسبب واضح في حسن قبول الاعتذار فان الاعتذار دليل على الإذعان بقبح الكبرى ومجرد محاولة توجيه الصغرى، وهذا أفضل بكثير ممن يرفض قبح الكبرى أو يصر على العناد بارتكاب الصغرى!
3- الفائدة الأصولية الفقهية لفقه المقاصد
ثالثاً: يمكن أن نستنبط فوائد هامة لفقه المقاصد لا لاستنباط الحكم الشرعي منها مباشرة بل في جوانب أخرى نشير ههنا لأهمها بإيجاز وأما التفصيل فبحاجة إلى كتابة كتاب مستقل معمق في بحث جوانب القضية والأخذ والرد فيها:
أ- اللين والرفق الموازن الاستراتيجي للاحتياط
إن بعض مقاصد الشريعة، ولنقتصر الآن على الرحمة واللين والرفق باعتبار أن محور البحث هو الآية الشريفة، تعد الموازن الاستراتيجي للاحتياط؛ ذلك أن سيرة كثير من العلماء جرت على تحبيذ الاحتياط والسوق إليه باعتبار أنه حسن على كل حال لأنه موجب للتحفظ على مصلحة الواقع حتماً، ولكن إذا ثبت أن اللين والرحمة والتسهيل هي من مقاصد الشريعة – كما أسلفنا وكما سيأتي – فان ذلك قد يوجب عدم الاندفاع في الاحتياط في الفتوى (وهو غير الفتوى بالاحتياط) بل أن النتيجة تكون إلى التخيير بينها إن تساوت المصلحتان فرضاً(19) أو ترجيح جانب مصلحة التسهيل واللين والرفق على جانب الإحراز القطعي لمصلحة الواقع؛ وذلك هو ما قد تشهد به العديد من الروايات.
(سوق المسلمين) امارة تسهيلية تنبعث من مقصد اللين والرحمة
ومنها: "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ الْجُبُنِّ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ فَقَالَ: أَمِنْ أَجْلِ مَكَانٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ حُرِّمَ(20) فِي جَمِيعِ الْأَرَضِينَ؟! إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَلَا تَأْكُلْهُ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَاشْتَرِ وَبِعْ وَكُلْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْتَرِضُ السُّوقَ فَأَشْتَرِي بِهَا اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالْجُبُنَّ، وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ، هَذِهِ الْبَرْبَرَ وَهَذِهِ السُّودَانَ"(21)
ومن الواضح أن الكلام في الشبهة غير المحصورة وأن " وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ" ليس من دائرة شبهة الكثير في الكثير الموجب لتنجز العلم الإجمالي.
وذلك كله مع أن إحراز مصلحة الواقع بالاحتياط ممكنة بل كان من الممكن أن يقيد الإمام الاقتحام في الأكل منها بصورة عدم العسر والحرج، فإطلاق القول بـ" وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَاشْتَرِ وَبِعْ وَكُلْ" و"وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْتَرِضُ السُّوقَ فَأَشْتَرِي بِهَا اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالْجُبُنَّ، وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ هَذِهِ الْبَرْبَرَ وَهَذِهِ السُّودَانَ" دليل على أرجحية مصلحة التسهيل والرفق على مصلحة الاحتياط. ولتحقيق ذلك والأخذ والرد فيه مجال آخر، إذ الكلام كما سبق إنما هو بنحو الإشارة.
(اليد) امارة أخرى تسهيلية من منطلق اللطف والرحمة
ومنها: " عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاسَانِيِّ جَمِيعاً عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ إِذَا رَأَيْتُ شَيْئاً فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَيَجُوزُ لِي أَنْ أَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَلَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَهُ، فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِهِ! فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): أَفَيَحِلُّ الشِّرَاءُ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِهِ، فَمِنْ أَيْنَ جَازَ لَكَ أَنْ تَشْتَرِيَهُ وَ يَصِيرَ مِلْكاً لَكَ ثُمَّ تَقُولَ بَعْدَ الْمِلْكِ هُوَ لِي وَتَحْلِفَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْسِبَهُ إِلَى مَنْ صَارَ مِلْكُهُ مِنْ قِبَلِهِ إِلَيْكَ(22)؟ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): لَوْ لَمْ يَجُزْ هَذَا لَمْ يَقُمْ لِلْمُسْلِمِينَ سُوقٌ"(23)
ومن الواضح أن جعل قاعدة اليد امارة حسب الحدود الواسعة التي جعلها الشارع امارة فيه إلى درجة صحة الشهادة أنها له مع أنها في يده فقط، والتي أثارت استغراب السائل في هذا المورد، دليل على أن هنالك مصلحة مزاحمة أخرى غير مصلحة إدراك الواقع اقتضت هذا التشريع، والمستظهر أنها مصلحة التسهيل والرفق بالمسلمين ولعل لسان "لَوْ لَمْ يَجُزْ هَذَا لَمْ يَقُمْ لِلْمُسْلِمِينَ سُوقٌ" ناطق بذلك.
ب- مقاصد الشريعة تصلح مؤيداً لدعوى الانصراف أو العكس
ان مقاصد الشريعة قد(24) تصلح مساعدة على دعوى الانصراف أو تأكد دعوى العدم؛ فان الفقهاء كثيراً ما يستندون في عدم شمول عامٍ لحصةٍ من الحصص إلى دعوى الانصراف عنها رغم الشمول لفظاً، والمقاصد لو أذعن بها الفقيه قد تكون إحدى الأدلة أو على الأقل المؤيدات على الانصراف.
فمثلاً ارتأى العديد من الفقهاء أن المتنجس الأول منجس أما المتنجس الثاني فليس بمنجس إذا لاقى غير المائع، هذا رأي، والرأي الآخر، أن المتنجس الثاني منجس دون الثالث والرأي الآخر أن المتنجس الثالث منجس دون الرابع فصاعداً وقيل المتنجس منجس مطلقاً، فلو لاقت اليد اليسرى مثلاً نجاسة كالبول فجفّت فلاقت اليد اليمنى الرطبة اليد الأولى تنجست فلو لاقت الثوب المرطوب تنجس على رأي ولم ينجس على رأي آخر فعلى عدم التنجس فلو لاقى الثوب شيئاً آخر كالجدار لم يتنجس وقيل بل يتنجس مطلقاً فتوى أو احتياطاً.
فقد يكون الانصراف هو وجه دعوى عدم منجسية غير المتنجس الأول، أو عدم سراية النجاسة إلى سلسلة لا متناهية وقد يكون من مؤيدات الانصراف أن تسلسلها إلى ما لا نهاية خلاف الرفق بالخلق والرحمة بهم.
وكذلك لو قيل بانصراف نجاسة الدم عن الذرات غير المرئية، فان قاعدة الرحمة واللطف معينة مساعدة، بل لو قيل بأن الوجه هو عدم صدق الدم عرفاً عليها فان جعل الشارع الموضوع هو خصوص العرفي منه لا الدقي أيضاً يتجانس إن لم ينبعث عن الرحمة الإلهية ومصلحة التسهيل. فتأمل
ج- مقاصد الشريعة تصلح مرجِّحاً في باب التعارض
أن مقاصد الشريعة تصلح مرجحات في باب التعارض، بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة (كالشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة بل ومثل "الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا"(25) إن قيل بأنها من مرجحات الرواية لا الحاكم والحق خلافه) إلى غير المنصوصة كما هو مسلك الشيخ الانصاري (قدس سره) وحينئذٍ فإن مقاصد الشريعة تصلح كمرجّح غير منصوص لدى تعارض الروايتين.
فلو ورد حديث بالحرمة وآخر بالكراهة أو الجواز كانت مقتضى الرحمة واللين والرفق بالعباد ترجيح الكراهة أو الجواز وكذا لو تباين خبر دال على الوجوب مع آخر دال على الجواز، ولا يخفى أنه يكون مرجحاً مضمونياً.
وما ذكر ههنا ليس إلا طرحاً أولياً للبحث وليس المقصود منه حالياً تبني أي شيء مما سبق إذ ذلك يستدعي مزيداً من التدبر والتأمل والتحقيق والفحص، وإنما طرح لفتح هذا الباب كي يتناوله الأعلام بالأخذ والرد والنقاش كائناً ما كانت النتيجة حتى وإن كانت الرفض المطلق؛ ألا ترى أن بحث حجية الشهرة أو الإجماع المنقول مما يبحث عنه في علم الأصول، مع وضوح أن الكثيرين ذهبوا إلى عدم حجيتها إلا أن هذا المبنى لم يلغِ ضرورة بحثهما في علم الأصول وإن كانت النتيجة السلب. فتدبر جيداً والله الهادي العالم.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين