التزاحم بين الوحدة الإسلامية وبين الشورى

العدل والحق و(النزاهة) الفيصل الأول في تقييم المسؤولين

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2016-05-01 08:30

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)([1])

ويقول تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)([2])

ويقول أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليهم صلوات المصلين "وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَمُلِكَ بِهِ الْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَق"‏([3]).

آيتان وبصيرتان:

الحديث بإذن الله تعالى سوف يدور على ضوء هاتين الآيتين الكريمتين، حول مفهومين:

الاول: موقع الأمة الواحدة في منظومة القيم الإسلامية، انطلاقاً من الآية الكريمة الأولى.

الثاني: مواصفات (الأمة في الأمة) في ضوء الآية الكريمة الثانية، فههنا بحثان هامان وبصيرتان نحاول استشراف بعض أبعادهما واستخراج نمير المعرفة فيهما من خلال التدبر في آيات الكتاب المبين والاستلهام منها بعد ملاحظة الآيات الأخرى والروايات والقواعد المبرهنة.

البصيرة الأولى: تحليل ابعاد الوحدة الاسلامية والتزاحم بين الوحدة وسائر القيم

اما البصيرة الأولى فهي تدور حول موقع الوحدة فيما لو تزاحم مفاد الآية الاولى في الوحدة الاسلامية وهي (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) مع قيم أخرى صرحت بها الآيات القرآنية الكريمة أيضاً مثل الشورى كما في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)([4]) فلو دار الأمر فرضاً بين العمل بالشورى إذا استلزم انشقاق الأمة أو انشقاق تجمعٍ مّا إذا كان البناء على العمل برأي الاكثرية، وبين العمل بمفاد الوحدة الاسلامية ونترك الشورى وتطبيقها في حياتنا، فما العمل؟ وما هو الحكم لو حصل التزاحم بين الوحدة الاسلامية وبين العمل الصالح؟ قال تعالى (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً)، فان صيغة اعملوا امر يستفاد منه الوجوب فيما لو كان المتعلَّق واجباً وإلا فالاستحباب ومعه فلو قمنا بسلسلة من الاعمال الصالحة المباركة لكنها كانت ستؤول إلى تفرق الامة وانشقاقها كما لو اعلنا المبدأ الحق في ولاية أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين وجاهرنا باتباعهم فكرا ومنهجا في الحياة او اعلنا البراءة من اعداء آل محمد ولو بمرتبة من المراتب، بما كان سيرتب عليه فرض الانشقاق والتفرق بدرجة أو أخرى؟ فأيهما المقدم؟

وكذا الحال لو تزاحم العمل الصالح على مستوى الشريعة او الاحكام العملية مع الوحدة أو درجات منها كما لو اننا لو قمنا فرضاً بتأسيس مسجد في منطقة ما او محلة وأدى ذلك الى انفراط عقد الوحدة في البلد او الوطن او المحلة؟ فهل هذا العمل هو الأولى أو التخلي عنه لصالح الوحدة؟

ومن هنا نجد ان بعض الدول قد تلجأ الى الحكم الفيدرالي او حتى الكونفدرالي او حتى التقسيم فيما اذا رأوا ان هذه الوحدة الوطنية تضر بالمصالح العامة المتبادلة بين المناطق المتعددة وبالتعايش السلمي بينهم.

والسؤال مطروح كذلك لو تزاحم تطبيق الوحدة مع قيم اخرى كالعدل إذا كان تطبيقه ينجر إلى انفراط عقد تجمع الامة بحيث يضرب بعضها بعضاً او وقعت المزاحمة بين الحق والوحدة؟ او غير ذلك كما لو وقع التزاحم بين الحكومة الإسلامية والوحدة، فان كل هذه التزاحمات لا بد من بيان الموقف الشرعي والعقلائي السليم منها.

الفرق بين (التزاحم) و(التعارض)

مفهوم التزاحم معلوم اصوليا لأهل الفن، والمراد منه ان يوجد أمران بملاكين مختلفين (من المصلحة او المفسدة او الحسن والقبح) قد عجز المكلف عن الجمع بينهما، وكانت المشكلة في قدرة المكلف على الجمع بينهما مما يعبر عنه بالعجز في مقام الامتثال، اما التعارض فهو راجع إلى تكاذب الدليلين في مقام الجعل فالمجعول اما هذا أو ذاك، فالفرق بينهما في انه في باب التزاحم يوجد الملاكان لكل الفعلين، فهما في مرحلة الجعل ثابتان متحققان، بخلاف باب التعارض حيث ان احد الأمرين أو الفعلين فقط واجد للملاك دون الآخر، كما هو الحال في انقاذ الغريق حيث توجد فيه المصلحة الملزمة، لكن المتوقف على اجتياز الارض المغصوبة الذي يوجد فيه ملاك القبح والمفسدة، وهكذا لو اضطر إلى إقامة الصلاة في الارض المغصوبة، فالأمران هنا وهما ملاك الحسن والوجوب في الصلاة وملاك القبح والحرمة في الغصب، تامان متحققان، إلا ان المكلف قد يعجز عن الجمع بين الاثنين امتثالاً.

فالسؤال المطروح: لو ان الوحدة الاسلامية تزاحمت مع أية قيمة اخرى، فما هو الحل في اطاره النظري؟ ثم ما هو التكليف في الاطار العملي([5]) والذي سيأتي لاحقاً ان شاء الله تعالى.

حل التزاحم بين الوحدة وغيرها ضمن الاطار النظري:

وفي مقام حل ما ذكرناه من التزاحم المفترض فإننا نجيب ونقول:

اولا: عدم تحقق التزاحم في بعض الموارد

ان كل ما ذكر من الأمثلة لتزاحم العديد من القِيمَ مع الوحدة ليس هو من باب التزاحم إذ قد بينا سابقا وبالتفصيل ان الوحدة بما هي هي لا حسن ذاتي لها، بل هي ذات قيمة طريقية مقدمية بلحاظ متعلقها، وبلحاظ الراية التي تمضي خلفها وبلحاظ إطارها وغايتها كما مضى، وبعبارة أخرى: ان موضوع التزاحم منتفٍ في المقام حيث ان الوحدة التي تقابلها قيمةٌ من القيم، فاقدة للملاك فلا ملاك لها ليتحقق التزاحم. ويظهر الفرق بوضوح إذا لاحظنا انه قد تكون الوحدة طريقاً إلى إحقاق الحق وإقامة العدل في الامة وقد تكون مقدمة للظلم والعدوان والتخلف والانحطاط.

مراتب الظلم:

الإمام الباقر (عليه السلام) يذكر ثلاث مراتب للظلم اذ يقول (عليه السلام): "الظُّلْمُ‏ ثَلَاثَةٌ ظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللَّهُ وَظُلْمٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ وَظُلْمٌ لَا يَدَعُهُ اللَّهُ فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ فَالشِّرْكُ وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ- فَظُلْمُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَدَعُهُ فَالْمُدَايَنَةُ بَيْنَ الْعِبَادِ"([6]).

فانه وعند سبر غور الرواية المباركة نجد فيها تقسيما دقيقا للظلم: واما الظلم الذي لا يغفره الله فهو الشرك، فقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)([7]) وفي اية مباركة اخرى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)([8]) إذ هو ظلم للنفس عظيم وللحقيقة بل لأعظم الحقائق.

واما الظلم الذي لا يدعه الله فهو ظلم العباد بعضهم لبعض او ما يعرف بالمداينة.

وهنا نقول: انه لو اتفقت الامة او الجماعة فرضاً على ظلم بعض العباد فلا شك في ان هذا الاتفاق اتفاق باطل وان هذه الوحدة على الظلم هي وحدة مقيتة، فان قيمة الوحدة هي بحسب الغاية والهدف والنتيجة المتوخاة منها: فان كانت حقاً فهي حق أو باطلاً فهي باطل.

الظلم البسيط.. ظلمات يوم القيامة

ان على الانسان ان لا يستخف بأية مرتبة من مراتب الظلم للآخرين فقد يستخف البعض بظلم الزوجة او الجار أو الموظف الذي تحت يديه، فان الظلم ظلمات وهو من السنخ الذي لا يدعه الله تعالى، بل الظلم حتى بالنسبة للعدو فانه محرم شرعاً قال تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا)([9]).

لا تزاحم بين المقدمة وذي المقدمة:

وصفوة القول: انه لا تزاحم بين مقدمة الشيء وذيها كما في الحج والمشي اليه فان المشي الى الحج لو سبب فوات الحج فانه يحرم عندئذٍ بل عليه أن ينتقل إلى مقدمة أخرى موصلة كالانتقال بوسيلة حديثة، إذ المقدمة أخذ فيها ان تكون طريقاً محضاً للوصول إلى ذي المقدمة فلو عاندته وضادته يرفع اليد عنها حتماً إذ تكون هي العقبة التي تحول دون تحقق الواجب الإلهي.

والمتحصل من ما ذكرناه: ان قيمة الوحدة تدور مدار متعلقها كما ان قيمة المقدمة وروحها تقتبس وتكتسب من ذيها لا غير.

التزاحم بين الوحدة وغيرها تعبير مجازي:

وبذلك نكتشف: ان تعبيرنا بان الوحدة لو تزاحمت مع القيم الموضوعية الاخرى الذاتية كالعدل أو الحق فما هو الحكم، هو تعبير مجازي، إذ العدل والحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لها قيمة موضوعية فهي المقدّم، ومع مضادة الوحدة لهذه القيم ومقابلتها لها فلا قيمة اصلا للوحدة فتكون الساحة حينئذٍ هي ساحة التعارض لا التزاحم فان أحد الأمرين واجد للملاك وهو العدل أو الحق مثلاً، والآخر أي الوحدة والاتحاد واللون الواحد فاقد للملاك.

ومن هنا نرى ان الأمة إذا اجتمعت تحت راية حاكم جائر كيزيد وصدام وهتلر وأشباههما، فان الخروج عليه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أجل الحق والمبادئ العليا، كما صنعه سيد الشهداء (عليه السلام) مطلوب حسن، وإن استلزم – بزعمهم - شق عصا المسلمين، ولقد أراد يزيد وغير يزيد أن يوهم الناس ان حركة الإمام (عليه السلام) كانت حركة غير شرعية لأنها تهدم الوحدة وتشق العصى، لكن ليس هذا إلا توهماً باطلاً تجهيلياً بل ليس إلا إضلالاً مبيناً، إذ أية قيمة للوحدة والاجتماع إذا كان على الباطل؟، وأية قيمة للاجتماع على الضلال والظلام؟ قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)([10])

ثانياً - ملاحظة معايير التقديم في المتزاحمين

سلمنا وتنزلنا بان للوحدة قيمة ذاتية وليست باكتسابية صرفة، ولكن هذه القيمة الموضوعية وان كانت فرضاً تندرج مع القيم الاخرى في باب التزاحم إلا انا نقول ان تقدمها على القيم الأخرى ليس بقول مطلق، بل لابد من مراعاة حدودها وتبعاتها ونتائجها وفوائدها والمقارنة والموازنة بينها وبين كل قيمة قيمة من القيم الاخرى، أي: لا بد من إعمال معايير الترجيح وموازينه في باب المتزاحمين ودراسة كل حالة حالة، باستقلال بل الموازنة بين الكلّيّين فقط بل حتى بين مصداق هذا الكلي ومصداق ذاك الآخر.

ومعه: فان علينا ان ندرس في بحث فقهي مفصل وفي مدار (الفقه الاجتماعي) الميزان العلمي الدقيق للوحدة وان الوحدة لو آمنا بقيمتها الموضوعية فماهي نسبتها مع العدل؟ وكذا الحق؟ وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يحتاج الى بحث مصداقي تفصيلي لكل مفردة مفردة من القيم، وملاحظة الأهم والمهم وملاحظة الأدلة الدالة على قوة القيمة، فانه لا تساق الامور بعصا واحدة وبمعادلة سلسة سهلة.

التطوير الفقهي يقتضي الابداع الاستدلالي في المواضيع الحيوية:

وهنا نجد لزاما علينا ان ندعوا انفسنا وبقية العلماء في الحوزة المباركة ان يعملوا على تخصيص جزء من اوقاتهم للبحث في هذه المواضيع الحيوية والاساسية والتي لها مسيس الأثر في بناء المجتمع وسعادته وتطويره بل ونهضته.

وهذا كله لا يعني بحال من الاحوال ترك البحوث الاصولية المعهودة فإنها ضرورية باعتبار مقدمتيها وكذا الحال في البحوث الفقهية في الأحوال الشخصية فإنها واجبة بنحو الموضوعية كما لها جهة مقدمية أيضاً.

إلا ان من الواضح ان البحوث المرتبطة بفقه المجتمع هي ذات ابتلاء شديد بل ان اهميتها قد تفوق فقه الأحكام الفردية والأحوال الشخصية، ولو في الجملة، ولكن ومع ذلك فان مثل بحث الوحدة، رغم أهميته الفائقة وآثاره الجسيمة على الأمة في حاضر أمرها ومستقبله، نجد أنها لم تُستوعب بحثاً ودراسةً ومناقشةً، ولعل ذلك من أسباب الإفراط والتفريط في أمر الوحدة بين رافض مطلقاً ومؤيّدٍ مطلقٍ، فهناك من يذهب وبشدة الى تقديم الوحدة بقول مطلق على أية قيمة أخرى من القيم وفي قباله هناك من يقدم الشريعة أو الحقيقة وبيانها او بعض القيم الاخرى على الوحدة بقول مطلق أيضاً.

والدعوة هنا معقودة من اجل تكوين رؤية قرآنية حديثية تستند إلى فقه القرآن وإلى تحليل روائي وحديثي وعقلي بمدى متكامل يتناول قضية الوحدة بشتى تضاريسها من اجل اثراء الساحة العلمية في هذه المسألة وبلورة رأي أكثر كمالاً ودقة وواقعية وإصابة، ومن أهم مفردات ذلك دراسة قضية الوحدة في معادلة باب التزاحم ببحث مفصل في درجاته وفي نوعية مزاحماته.

الأولوية المطلقة هي لحق الناس

فقد يقال: بالتفريق بين حقوق الله وحقوق الناس، إذ دلت الروايات ومعها فتوى جمهرة كبيرة من الفقهاء على ان حقوق الناس مقدمة على حقوق الله تعالى، ويمكن مراجعة ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره) في ذلك فان السيد الحكيم يدعي تسالم([11]) الفقهاء والذي هو فوق الاجماع على ان حقوق الناس مقدمة على حقوق الله تعالى، قال السيد العم: (سادسها: ما ذكره السيد الحكيم رحمه الله ايضا هناك، من: "ظهور التسالم على عدم وجوب الحجّ أو الصلاة أو الصوم إذا توقف أداؤها على التصرّف في مال الغير" وحيث لا خصوصية في الحجّ والصوم والصلاة، ولا خصوصية في المال، فيكشف ذلك عن تقدّم حقّ الناس على حقّ الله – مطلقاً في الجانبين -)([12]) فان التسالم على عدم وجوب الحج او الصلاة او الصوم اذا توقف الاداء على التصرف في مال الغير كما هو حال صلاة السجين في المكان المغصوب فان البعض يقول: بسقوطها والانتقال إلى الصلاة بالإشارة والإيماء بل قد يقال بسقوطها أيضاً ولو بالإشارة حيث ان الصلاة مكونة من حركات والإشارة منها وهي محرمة فيقع التزاحم بين وجوب الصلاة وحرمة التصرف في مال الغير، فتقدم الحرمة على الوجوب، ولا يخفى ما فيه بل ان السيد الوالد يناقش حتى في الانتقال إلى الإشارة في خصوص صلاة السجين في المغصوب اذ يقول ان الشارع لا يزيد المظلوم مظلومية بتقييد حركاته إلى هذه الدرجة فأدلة الغصب منصرفة عن مثل حركة السجين في المكان المغصوب بالمقدار المعهود إنما الإثم على من سجنه.

بل: السيد العم ينقل تطوير الكلام فيقول (لم يثبت ان ذلك لأهمية حق الناس على حقّ الله تعالى، فانّ الظاهر: التسالم أيضاً على عدم وجوب أداء الزكاة والخمس والكفّارات إذا توقف على ذلك، مع أنها من حق الناس، وكذا الحال في وفاء الدّين إذا توقف على ذلك)([13]).

والحاصل: يمكن القول انه إذا وقع التزاحم بين الوحدة وبين غصب حق من حقوق الناس كما إذا اجتمعت الأمة على سرقة أو غصب مال الغير، فان جانب حقوق الناس ومراعاتها مقدمة على الوحدة بل وكذا الأمر لو اجتمعت الأمة على تحريم حلال أو تحليل حلال.

نعم يبقى البحث عن حكم الغير لو رأى الأمة مجمعة فرضاً على غصب حق مظلوم ورأى ان تصديه لإحقاق الحق قد يزيد الطين بلّة ويسبب إزهاق روح أو أرواح، فما هو حكمه؟

وللمسألة فروع كثيرة ليس هنا مجال ذكرها، ويجب ان تدرس هذه القضية دراسة مستوعبة من شتى زواياها وجوانبها ولعلنا نوفق لذلك في المستقبل بإذن الله تعالى.

البصيرة الثانية: من مواصفات (الأمة في الأمة)

واما البصيرة الثانية فسنتناولها في ضمن الآية الكريمة الثانية وهي قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)([14]) فان الامة في الامة لها مواصفات متعددة وقد مضى الحديث عن بعضها سابقا؛ كصفة العالمية والكفاية وأوكلنا بحث بعض الصفات الأخرى كالكفاءة والتخصص وغيرها للمستقبل، وهنا وفي هذه البصيرة سوف نلقي الأضواء على صفة (النزاهة):

النزاهة ومحوريتها في مواصفات (الامة في الامة):

إن من المواصفات المهمة جدا للأمة في الامة هي صفة النزاهة؛ فان الامة الرائدة التي تدعو الى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا بد من ان تتصف بالنزاهة بأعلى الدرجات وفي كل مستوياتها.

الحكومات ومشكلة النزاهة المالية:

وهذه الصفة الحيوية – اي النزاهة – نجدها مفقودة بشكل غريب في الحكومات الاستبدادية، بل وحتى الحكومات التي تتشدق بالديمقراطية فانهم برغم ما يدعون من توفر الحريات والتعددية والصحافة مستقلة، إلا اننا نجد في هذه البلاد مفردات كثيرة من اللانزاهة والغش والخداع والارتشاء والاختلاس بل لعلها أصبحت ظاهرة لكن تحت ستار من التمويهات الاحترافية والحيل المتطورة جداً ومن تلك التمويهات: اللوبيات الضاغطة فانها تقوم بالرشوة على أوسع نطاق مقنن ورسمي وغير رسمي أيضاً!

نعم الحرية النسبية للصحافة وبعض المؤسسات المستقلة تكبل هؤلاء الفاسدين الى حد كبير، ولذلك تجدهم يحتاجون الى طرق معقدة ملتوية كيما يسرقون ويرتشون، وهذا بخلافه في الدول الديكتاتورية او شبه الديكتاتورية فان الامر أسهل من ذلك بكثير فإننا نجد ان السرقات العامة وبمليارات الدولارات رائجة في هكذا دول بل قد تجدها مقننة ومغطاة بأنظمة وأطر مشرعنة.

أنواع النزاهة

ان (النزاهة) عنوان عريض ذو نطاق واسع جداً فانه يشمل جميع طبقات المجتمع: الاطباء والمهندسين والمحامين وسائر المتخصصين وكذلك رؤساء العشائر والأحزاب والنقابات وغيرها فان الكل مبتلى بهذا الامتحان المفتاحي، هذا من جهة ومن جهة أخرى فان جميع الناس وجميع النخب والقيادات يجب ان يتحلوا بحساسية كبيرة جداً تجاه (النزاهة): نزاهة الرئيس والمسؤول والموظف، ومن هو أعلى رتبةً أو أدنى ومن هو مساوٍ في الرتبة، وإلا فان المخاطر والأضرار التي ستنجم عن التفريط في ذلك ستكون جسيمة جداً بل قد تتهدد إضافة إلى اقتصاد البلاد أمنه أيضاً واستقراره.

والنزاهة على أنواع:

1- النزاهة السياسية، وللنزاهة واللانزاهة السياسية تجليات كثيرة ومنها اللانزاهة في صناديق الاقتراع وفي مرحلة فرز الأصوات إذ ما أكثر ما تسرق الحكومة أو الحزب الحاكم أصوات مئات الألوف من الناس وتصبها لصالح مرشحيها بحيل وألاعيب متطورة جداً.

2- النزاهة الاجتماعية.

3- النزاهة الحقوقية.

4- النزاهة في المواقف.

5- النزاهة الفكرية.

6- النزاهة العلمية.

7- النزاهة العَقَدِية([15]).

8- النزاهة المالية.

وكل هذه الأنماط – وغيرها – تحتاج إلى بحوث وبحوث، وسنقتصر ههنا على الإشارة للنوع الأخير.

النزاهة المالية:

وامتحان النزاهة المالية من أصعب الامتحانات، إذ جُبل البشر على حب المال وقد قال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً)([16]) وقال جل اسمه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)([17]) مما يحتاج إلى مزيد من التخطيط للحيلولة دون ذلك في مرحلة المقتضى ومرحلة الموانع والعوائق، ومن المقدمات في مرحلة المقتضي: تهذيب النفس ومراقبتها ووعظها على مدار الساعة لئلا تسقط في مثل هذا الامتحان كما سقط الكثيرون.

مثال عجيب لدكتاتور مقيت:

ولنضرب مثالا لدكتاتور فاسد تجسدت اللانزاهة في حياته وتاريخه وهو فردينالد ماركوس الذي حكم الفلبين ولمدة اكثر من عشرين عاما فقد وصلت به الحال الى ما لا يخطر على ذي بال فانه كان يصنع القصور العظيمة حتى وصل عددها الى 28 قصرا – شأنه شأن باقي الحكام الطغاة الفاسدين كصدام وغيره الذين ما انفكوا ينهبون أموال الشعب ليبنوا بها القصور المنيعة على أكتاف الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام.

والغريب ان هذا الرجل قد صنع مقبرة – قصراً! أي انه اتخذ لأسرته مقبرة وصنع منها قصرا منيفا شامخا وكأنه يحارب الموت بذلك أو يستخف به لينسى مرارة الموت ليشرب من كأس الدنيا وسكرها من غير ان تنغصّ عليه علامات الشيخوخة وامارات الموت وقد اسمى هذه المقبرة – القصر: (سانفيانوا) وكان يذهب الى هذا القصر –المقبرة- كمكان مفضل للنزهة وقد انشا في هذا القصر–المقبرة من مباهج الدنيا ما يحير العقل؛ فبنى فيه مسبحاً كبيراً جداً بمقاييس المسابقات الأولمبية كما خصص فيه قاعة كبيرة جداً كمرقص وهو من أبرز مظاهر اماكن الشياطين! كما صنع فيها متحفاً يتضمن اللوحات الفنية الاثرية النادرة، كما وبنى هناك غرف استقبال للضيوف بعدد 13 قاعة استقبال كبيرة جداً بأنماط تراثية وتقليدية وعصرية متنوعة مختلفة حتى ان من يدخل في هذه الغرف وينتقل من واحدة الى اخرى كأنه أنتقل من عالم الى عالم اخر لشدة اختلاف أنواع الديكور والإضاءة والزخارف والجو العام، ولكن انتهت كل هذه الحلقات من المباهج الزائفة بموت مؤسف وفضيحة مدوية.

أمير المؤمنين (عليه السلام) قمة النزاهة ونزاهة القمة:

ولو اردنا ان نرى النزاهة متجسدة حقاً في شخصية واحدة نموذجية فعلينا ان نطرق باب أمير المؤمنين (عليه السلام) ونتصفح أوراقاً من حياته التي لا تزال مجهولة بالنسبة الى أكثر الناس والكثير من الباحثين وحتى البعض من رجال الدين، مع الاسف الشديد فان مواقفه العظيمة لازالت مجهولة ولا يعرف العالم كل العالم إلا شذرات من تلك الأبعاد النورانية لحركته الربانية والتي لو جمعت لاحتاجت الى العشرات بل المئات من المجلدات.

ولو اننا لو طالعنا تلك الصفحات الذهبية من تاريخ هذا الرجل العظيم الخالد فإننا سنجد من الدروس والعبر ما تصلح حافزاً قوياً جداً لاستقامة الأفراد والامة والمجتمع.

وقد صدرنا البحث برواية الأمير (عليه السلام) عن الفساد المالي لعثمان "وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ([18]) قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَمُلِكَ بِهِ الْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ"‏ وذلك لأن أكل ذلك المال بلا مبرر شرعي أكل للمال بالباطل وقد قال تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ).

ولنتوقف عند رواية أخرى قلّ ما يسمعها الناس:

قضية تفريط والي الأمير (عليه السلام) ببعض الأموال

فان إمام المتقين (عليه السلام) نصب عبد الله ابن عباس واليا على البصرة والأخير عيّن رجلا يدعى مصقلة بن هبيرة الشيباني حاكما على منطقة (أردشيرخره) وكانت هذه المنطقة تابعة إدارياً للبصرة بالإضافة الى الاهواز وكرمان فإنها كلها كانت تتبع من الجهة الادارية البصرة.

وقد حدثت حادثة هامة حينذاك وهي ان جماعة خرجوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) شاهرين سيوفهم بعد وقعة صفين، بقيادة الخريت بن راشد الناجي وفيهم الكثير من النصارى (نصارى ناجية) فارسل الامير (عليه السلام) شخصا باسم معقل بن قيس، فتصدى لقتالهم وانتصر عليهم واسر منهم 500 شخص او اكثر، ولما رجع بهم قيس مرّ بالوالي مصقلة ولسبب او اخر رقّ قلب مصقلة على هؤلاء الاسارى من رجال ونساء واطفال وبما انه كان يعرف المعادلات، فقد قال تعالى: (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) قال لمعقل: أنا مستعد لدفع الفدية عنهم كي يطلق سراحهم فطلب معقل مليون درهم لكن مصقلة طالب بخفض الفدية واستمرت المفاوضات حتى تقرر ان يكون فداء كل شخص منهم الف درهم فانتهى المبلغ الكلي إلى 500 ألف درهم، بعد ان كان مليوناً.

ثم ان مصقلة قال لمعقل: ان هذا المبلغ كبير جداً فاسمح لي بان أبعثه بالتدريج وعلى دفعات لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم انه بعث إلا انه توقف من إرسال المبلغ المتبقى.

(وبلغ عليّا عليه السّلام أنّ مصقلة خلّى الأسارى ولم يسألهم أن يُعينوه في فَكاكِ أنفسهم بشي‌ء، فقال: "ما أرى مصقلة إلّا قد حمل حمالةً، لا أراكم إلّا سترونه عن قريب مبلدحا([19])" ثم كتب إليه: "أمّا بعد، فإنّ من أعظم الخيانة خيانة الأمّة، وأعظم الغشّ على أهل المصر غشُّ الإمام، وعندك من حقّ المسلمين خمسمائة ألف درهم‌، فابعث إليّ بها حين يأتيك رسولي؛ وإلّا فأقبل إليّ حين تنظر في كتابي؛ فإنّي قد تقدّمت إلى رسولي ألّا يدعك ساعة واحدة تقيم بعد قدومه عليك؛ إلّا أن تبعث بالمال، والسّلام".

وكان الرسول أبا جرة الحنفيّ‌ فقال له أبو جرة: إن تبعث بهذا المال وإلّا فاشخص معي إلى أمير المؤمنين)([20])

وكأنه أمر باعتقال مؤدب إن لم يستجب، فوصل مبعوث الإمام علي (عليه السلام) الى مصقلة ثم جاء به مصحوبا الى امير المؤمنين (عليه السلام) فاستضافه (عليه السلام) من دون أن يتطرق الامام (عليه السلام) الى قضية المبلغ، ولعل ذلك كان اختبارا منه لشخص مصقلة؛ إذ كان المفروض به ان يبادر بدفع المبلغ أو يذكر عذراً وجيهاً للتأخير لكنه لم يتطرق للأمر بتاتاً! بعد ايام طالبه امير المؤمنين (عليه السلام) بالمبلغ، فدفع مئتي ألف فقط.

وهنا جاءت لحظة الامتحان الحاسم في تاريخ هذا الرجل اذ ان الشيطان وسوس له، ونفسه الامارة سوّلت له فبدل ان يذهب إلى الإمام معتذراً بانه لا يستطيع توفير المبلغ بأكمله ويضع الأمر كله بين يدي الإمام إلا انه اختار طريق التبرير ثم الخيانة فقال لشخص دعاه إلى طعام العشاء يسمى بـ(ذهل بن الحارث):

ان امير المؤمنين (عليه السلام) يسألني هذا المال ووالله لا اقدر عليه (وهنا لاحظ تدخل الشيطان) قال مصقلة: ووالله لو ان ابن هند اي معاوية او ابن عفان كانا يطلبان المبلغ مني ورأيا حالي لتركا هذا المال لي! ولاحظ نص التاريخ (قال ابن أبي الحديد: فروى ابن أبي سيف، عن أبي الصلت، عن ذهل بن الحارث، قال: دعاني مصقلة إلى رحله، فقدم عشاء فطعمنا منه، ثم قال: والله إن أمير المؤمنين عليه السلام يسألني هذا المال، ووالله ما أقدر عليه!!، فقلت له: لو شئت لم يمض عليك جمعة حتى تجمع هذا المال، فقال: ما كنت لأحملها قومي، ولا أطلب فيها إلى أحد.

ثم قال: والله لو أن ابن هند مُطالبي بها، أو ابن عفان، لتركها لي، ألم تر إلى عثمان كيف أعطى الأشعث مائة ألف درهم من خراج أذربيجان في كل سنة! فقلت: إن هذا لا يرى ذلك الرأي، وما هو بتارك لك شيئا. فسكت ساعة، وسكتُّ عنه، فما مكث ليلة واحدة بعد هذا الكلام حتى لحق بمعاوية.

فبلغ ذلك عليا عليه السلام فقال: "ما له ترحه الله! فعل فعل السيد وفر فرار العبد، وخان خيانة الفاجر، أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه، فإن وجدنا له شيئا أخذناه، وإن لم نجد له مالا تركناه".([21])

وهكذا تكلم بمنطق عثماني واستشهد بسلوك معاوية الشيطاني: فقد استشهد بان عثمان ابن عفان اعطى للأشعث ابن قيس 100 الف من خراج اذربيجان في كل سنة، فقال هذل: ان هذا (أي علي بن ابي طالب (عليه السلام)) لا يرى ذلك الرأي (أي الرأي الفاسد) في اموال المسلمين، وما هو بتارك لك شيئا.

ثم الغريب هو ما الذي حدث بعد ذلك: إذ هرب مصقلة الى معاوية وترك علياً ودولة الحق كما نشاهده اليوم والتاريخ يكرر نفسه من هروب الفاسدين إلى بلاد أخرى. فبلغ ذلك علياً (عليه السلام) فقال: "مَا لَهُ؟ تَرَّحَهُ اللَّهُ فَعَلَ فِعْلَ السَّيِّدِ وَفَرَّ فِرَارَ الْعَبِيد"([22]) إذ ان افتداءه للاسارى كان فعلاً حسناً ولكن هروبه الى معاوية وفراره عن تسديد الدين الذي بذمته انتكاسة عظيمة وخيانة كبيرة. وقد قال علي (عليه السلام): "أَمَا إِنَّهُ لَوْ أَقَامَ فَعَجَزَ مَا زِدْنَا عَلَى حَبْسِهِ فَإِنْ وَجَدْنَا لَهُ شَيْئاً أَخَذْنَاهُ وَ إِنْ لَمْ نَقْدِرْ لَهُ عَلَى مَالٍ تَرَكْنَاه..."‏ وهذا هو الحكم الشرعي للعاجز حقاً عن تسديد دينه: ان يسجن أولاً ثم يجري التحقيق الكامل والجرد الشامل لكافة أمواله المنقولة وغيرها فان كان عاجزاً حقاً أطلق سراحه بعد ذلك.

وهذه القضية تكشف لنا مدى صعوبة الالتزام بالنزاهة والتقيد بها، والاستمرار عليها رغم الوساوس والمشتهيات النفسانية، وانها من اصعب واشق الامور كما تكشف لنا ضرورة التشديد على الولاة والمسؤولين في قضية النزاهة؛ فان امير المؤمنين قد تشدد في التطبيق مع علمه بان ذلك يؤدي إلى تخلي الكثير من أعوانه وأياديه والمسؤولين عنه وإلتحاقهم بالعدو الخطِر معاوية ابن آكلة الأكباد ولكن ذلك يكشف أيضاً عن ان الأولوية المطلقة هي للنزاهة، لقطع عُرَى الفساد وايقاف انتشار هذا السرطان المخيف (سرطان السرقات والاختلاسات والتلاعب بأموال المسلمين) في جسد الامة.

وصفوة القول: ان صفة النزاهة تعد من اهم صفات (الامة في الامة) ولو تحلت بها أية أمة من الأمم والتزمت بها في كافة الأبعاد: في البعد الاقتصادي والسياسي والعلمي وغيرها، لترقت في مدارج الكمال بسرعة كبيرة وأصبحت مما يضرب بها المثل في الاستقامة وقدوة لسائر العباد والبلاد.

بعض علماء الغرب والسرقات:

وكما يأتي أمر النزاهة في الأموال، كذلك يجري في الحقوق وحفظ أتعاب الآخرين، خاصة الأفكار والتحقيقات العلمية للآخرين، وقد استقرأ بعض الباحثين –في دراسة مفصلة– عدداً من المشاهير في عالم الغرب ممن سرقوا أتعاب الآخرين العلمية ونسبوها إلى أنفسهم، وفيهم عدد من أشهر العلماء والغريب ان هؤلاء الباحثين وجدوا ان اليهود كانوا يقفون وراء الكثير من تلك السرقات العلمية! ولعلنا نتحدث عن ذلك في بحث قادم.

وخاتمة المطاف:

ان النزاهة هي أصعب امتحان يمرّ به الإنسان وهي الـمُعبَّر عنها الاصطلاح الشرعي بالورع فهي تلك القمة السامقة والدرجة الرائقة التي لا بد من الوصول إليها بكل صورة ولا بد من الجهاد للمحافظة عليها وبها يمكن للفرد والامة والجماعة النهوض بالدور الحضاري الانساني للأمة الإسلامية وصولاً إلى سعادة الدنيا والآخرة فان النزاهة في الدنيا هي القنطرة إلى جنة الاخرة.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

.................................
([1]) المؤمنون: 51 ـ 52.
([2]) آل عمران: 104.
([3]) نهج البلاغة: ص57.
([4]) الشورى: 38.
([5]) ونحن نرى في الاطار العملي ان التعايش السلمي في مختلف الطوائف ممكن وعملي، بما يعطي لكل فريق حقه حسب الضوابط الشرعية التي من أهمها قاعدة الإمضاء وقاعدة الإلزام.
([6]) الكافي (ط – الإسلامية): ج2 ص331، تحف العقول ص293.
([7]) نساء 48
([8]) لقمان 13
([9]) مائدة 9
([10]) البقرة: 213.
([11]) والتسالم هو مرتبة اعلى من الاجماع فانه لو افتى الاول والثاني والاخر باجتهاد وصار ذلك الظن قطع عندهم الا ان التسالم بديهي واعلى.
([12]) بيان الأصول (التعادل والترجيح): ص24.
([13]) بيان الأصول (التعادل والترجيح): ص25.
([14]) آل عمران: 104.
([15]) أي العقائدية.
([16]) الفجر: 20.
([17]) آل عمران: 14.
([18]) أي ما اقطعه عثمان.
([19]) المبلدح: الملقى على الأرض من الضرب.
([20]) الغارات (ط – الحديثة) ج1 ص364.
([21]) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج3 ص145-146.
([22]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج3 ص145، وراجع (رجال الدولة العلوية دولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ص481-482).

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي