الدعوة الى الله تعالى عبر الادب التصويري والمشاهد التجسيدية
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2016-02-29 05:57
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)([1])
بمناسبة الايام الفاطمية الشريفة نعقد الصلة بين هذه الآية الشريفة التي تتحدث عن الغاية من بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين بعض المباحث الهامة التي تتعلق ببضعته الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وسيكون منطلق الحديث قول تعالى: (وَمُبَشِّرًا * وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ) وذلك ضمن البصائر التالية بإذن الله تعالى:
البصيرة الاولى: طرق الدعوة الى الله تعالى
قال تعالى: (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ)
ان للدعوة الى الله تعالى طرقاً وسبلاً، كذلك البشارة والانذار وهما من أنواع الدعوة، لهما سبل وطرق؛ فان البشارة لها أساليب وآليات يختلف بعضها عن بعض في الكيفية وفي درجة التأثير شدةً او ضعفاً أو حتى في التأثير المعاكس، وكذلك الانذار فانه الاخر له طرقه وأساليبه.
والبحث معقود للإشارة إلى بعض تلكم الطرق في الدعوة والانذار والتبشير والتي نرى ان قسما كبيرا من الساحة يفتقدها رغم مسيس الحاجة إليها وشدة تأثيرها في أكثر إن لم يكن كل شرائح المجتمع، فنقول:
هناك فنّ بل وعلم لا بد أن يسمى بـ(الادب التصويري) كما هناك طريقة شديدة التأثير في النفوس تسمى بـ(المشاهد التجسيدية) وهي التي أضحت الآن فناً وعلماً قائماً برأسه.
الأدب التصويري
ويعتبر الأدب التصويري من أهم الطرق في الدعوة الى الله أو –في الاتجاه المعاكس- الى الاضلال، فهو طريق هداية كما هو طريق ضلال، مرتهناً ذلك بالعلتين الفاعلية والغائية، وكذلك الحال تماماً في (المشاهد التجسيدية).
وفي تراثنا الخالد نجد مثلاً ان (حديث الكساء) جمع وبطريقة متميزة بين هذين اللونين من أساليب التأثير والإقناع، إذ نجد في حديث الكساء روعة الأدب التصويري وجمال المشاهد التجسيدية بشكل قد لا تضاهيها روعة ادبية تصويرية - تجسيدية أخرى، بل يمكننا القول ان حديث الكساء معجزة متجسدة لما فيه من اللفتات والدقائق الشكلية والمضمونية التي تجسدت في ضمن حبكة فطرية بسيطة ورائعة تلامس الوجدان كالنسيم الشذي والأريج الفواح، كما سيأتي بإذن الله تعالى.
ان الأدب التصويري اكثر من ضرورة وذلك لأن الداعية إذا أرسل المعنى مجردا وكما هو هو، الى الطرف الاخر فانه لا يدغدغ قوته المتخيلة، فيكون حينئذٍ ضعيف التأثير سريع الاندثار، لكنه إذا قام بصياغة المفاهيم والمعاني في قوالب مصورة متجسدة، فانها تكون اكثر وقعا وتأثيراً، وستلتصق بالذهن التصاقا يصعب – معه - على الذاكرة ان تنساه أبداً.
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
أبو تراب
أ- من ألقاب أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) هو (أبو تراب)، وذلك لما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) نائما على التراب فلقبه بذلك، وهو لفظ ذو معنى يكشف عن عمق التواضع، إلا انه جاء في قالب الأدب التصويري لذلك فانه معنى لا يمكن عن يمحى عن الذهن على كرور الليالي والايام.
جاء علي في السحاب
ب- روي عن الرسول الأعظم قوله: "أقبل علي في السحاب"([2]) أو ما أشبه ذلك([3])، وهذه من الكلمات التي تصور بعض المخالفين ان فيها مؤاخذة علينا في حين انها لنا، وهي تكشف عن أنماط من استخدام المعصومين (عليهم السلام) لمختلف السبل المتطورة جدا رغم بساطتها الظاهرية والتي وصل العلم الحديث إليها متأخراً.
وكان السبب في ذلك ان عمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت تسمى (السحاب) اقتداءً بالرسول (صلى الله عليه وآله) إذ كان من دأب الرسول (صلى الله عليه وآله) ان يسمى الاشياء بالأسماء فكان يسمى ناقته بـ(العضباء)، وحماره بـ(دلدل)، وعصاه بـ(الممشوق) وهكذا وهي عادة جيدة ولطيفة بل هي سنة حسنة علينا ان نتأسى بها فاننا اعتدنا على تسمية الأشخاص ولم نتعود على تسمية الأشياء.
كذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد كانت له عمائم وقد أهداه الرسول (صلى الله عليه وآله) احدها وهي المسماة بالسحاب فكان اذا اقبل بعمامته السحاب على الاصحاب قال (صلى الله عليه وآله) وربما قال الأصحاب: (جاء علي في السحاب) ولم تكن تلك التسمية عفوية، بل لها دلالات ومعاني مهمة ومنها ان تبقى عالقة بالأذهان على مر التاريخ إذ اصبحت مورد نقاش عقدي طويل وقال اعدائنا ان الشيعة مغالون ويقولون (علي في السحاب) متوهمين ان المراد انه (عليه السلام) في سحب السماء هناك في الأعلى!.
مع ان هذا المعنى ايضا مما لا اشكال فيه فان أولياء الله اكرم على الله من ان يحلقوا في السماء ببساط كبساط سليمان أو غيره أو ان يمشوا على السحاب ومما هو أصعب من السحاب!!
ان الادب التصويري على درجة كبرى من الاهمية في الدعوة الى الله تعالى والى عرض الاسلام الاصيل وقادة الاسلام الحقيقيين عبر استدعاء القوة المتخيلة لتتجسد فيها المعاني التجريدية فتمنحها حيوية وفاعلية كبيرة.
المشاهد التجسيدية والمسرح
كذلك المشاهد التجسيدية إذ تارة يلقي الانسان الحقائق مجردة عن أي مؤثر فقال وتارة يلقي الحقيقة الى الطرف الاخر بأدب تصويري او وفوق ذلك بمشهد تجسيدي آخاذ، وهو ما يصطلح به الآن (المسرح).
ولقد قال احد أشهر أدباء الغرب ومن الخبراء في السينما والمسرح التمثيلي كلمة خالدة عندما اطلع على واقعة الطف المقدسة وعلى الأحداث المتسارعة التي جرت فيها والمشاهد العظيمة الصارخة والناطقة بالقيم العليا والمثل الانسانية السامية والبطولات الفذة، قال:
(إن واقعة الطف تصلح أساسا للألوف من المسرحيات الناجحة)! ذلك ان كل حدث فيها يستحق ان تفرد له مسرحية ناجحة وهادفة، فمثلا حدث مصرع الطفل الرضيع وكيف استسقى له الامام الحسين (عليه السلام) من الأعداء فأبوا عنادا وقسوة ولجاجا حتى انكشف للجميع لؤم أعداءه فانه بنفسه يصلح ليهز عروش الطغاة لو جرى تصويره بالشكل المناسب.
ان المنبر لا شك انه احد الوسائل المهمة الناجحة في الدعوة الا انه ليس بوحده بالكافي لإيصال الحقائق الى جميع اصقاع العالم إذ لا تجد سوقاً له في الصين مثلاً بينما نجد ان المسرح التمثيلي والمشاهد التجسيدية يمكنها ان تصل بالحقائق تحت غطاء المسرح، الى الصيني والياباني والاسترالي والامريكي والبرازيلي وغيرهم، وما أعظم تأثير المشاهد التجسيدية لواقعة كربلاء الاليمة على كل نفس إنسانية!.
ان المسرحية الاحترافية الهادفة ذات أثر بالغ في الجميع: في الاطفال والكبار والنساء والرجال، والعوام والمثقفين جميعاً، بل انها قد تؤثر حتى في قساة القلوب وبعض الظلمة من الحكام وغيرهم إذ قد يصغون عبرها الى نداء القِيَم المودعة فيها وقد يتفاعلون مع المشاهد التي تهز الضمائر والوجدان.
الا ان ما يؤسف له ان المشاهد التجسيدية والمسارح الجذابة الهادفة مهملة في عالمنا بينما نجد الغرب متطوراً في هذا المجال الى ابعد الحدود.
المشاهد التصويرية في حديث الكساء
في المسرح هناك نوعان من المسرحيات: نوع يميل الى التعقيد حتى يصعب على المتلقي ان يميز بين عناصر الشر وعناصر الخير أو حتى من هو القاتل مثلاً.
ونوع اخر تجد فيه المشاهد والاحداث متسلسلة بسيطة من حيث الإخراج الفني والابداع التصويري، الا ان تأثيرها قوي جدا يوصل الرسالة المبتغاة ويبين الهدف بروعة وبساطة فتهتز المشاعر والاحاسيس والعواطف وتتفاعل النفوس مع المشاهد والرسائل المتضمنة بشكل عفوي طبيعي ساذج يلامس أعماق الوجدان دون حواجز فنية مصطنعة.
وفي حديث الكساء تجد النموذج الثاني الفطري – الوجداني متجلياً فيه بأروع الصور.
ويعد هذا الوجه من طرق دفع تشكيك البعض في صحته لعدم إدراكه لعمق محتواه وبعض ابعاده، في حين ان روعته في بعدي الأدب التصويري والمشاهد التجسيدية وابداعه في ذلك كاشف عن صدقه ووقوعه([4]).
روي عن الزهراء (عليها السلام) انها قالت: "دخل عليّ أبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في بعض الأيّام فقال: السلام عليك يا فاطمة، فقلت: وعليك السلام، قال: إنّي أجد في بدني ضعفا.."([5])
وهذا مشهد تجسيدي يداعب القوة المتخيلة ويرتكز في الأذهان جيدا حيث يتجسد في الأذهان منظر دخول رسول رب العالمين على ابنته الزهراء في المنزل وهو يشكو إليها ضعفاً في بدنه، وكان هذا المشهد هو المدخل للمشاهد اللاحقة وللرسائل المتضمنة فيها، فهو مطلوب طريقياً لتكريس الرسائل الآتية في الأذهان.
"فقلت له: أعيذك باللّه يا أبتاه من الضعف، فقال: يا فاطمة، ايتيني بالكساء اليماني فغطّيني به.."
ومع ان الرسالة التي يعدّ حديث الكساء لإيصالها للسامع لا تحتاج (صلى الله عليه وآله) الى هذا التفصيل ولا تتوقف على هذه المقدمة لكن هذا المشهد التجسيدي هو من أهم عوامل بقاء الفكرة في الاذهان والتصاقها بالوجدان.
"فأتيته بالكساء اليماني فغطّيته به وصرت أنظر إليه، وإذا وجهه يتلألأ كأنّه البدر في ليلة تمامه وكماله.."!
وهذا اسلوب دعوة متطور جدا إذ ينطلق من تسليط الأضواء على الشخصية الرئيسية في مجمل الحدث بادئة من الصورة الأولى التي تنطبع في الأذهان عنها مقارنةً بالمحيط بأجمعه ولذا نجدها (عليها السلام) تعرض لقطة مضيئة عن وجه الرسول (صلى الله عليه وآله) "وإذا وجهه يتلألأ كأنّه البدر في ليلة تمامه وكماله..." فتصوره كأجمل ما يصور الناس به الحُسن والجمال وهو القمر في الليل الاسود البهيم وقد اكتمل ضوءه ونوره.
هذه المشاهد التجسيدية الأخاذة الهادفة، انخفضت نسبتها في خطبنا وخطاباتنا مع شديد الاسف، وبنفس هذه النسبة سيقل حيز التأثير عند المتلقين.
ثم لاحظوا بعد ذلك: "فلمّا اكتملنا جميعا تحت الكساء، أخذ أبي رسول اللّه بطرفي الكساء، وأومئ بيده اليمنى إلى السماء..."([6]).
وهذا مشهد تجسيدي آخر، والا فانه لا ضرورة – ظاهراً – للأخذ بطرفي الكساء والإيماء باليد إلى السماء.
"وقال: اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي، وخاصّتي وحامّتي..."
إن كل ما سبق –وما سيأتي- يشكل مشاهد تجسيدية هي قمة في الإبداع والتصوير، الا ان البعض غافل عن ادراك كنه ذلك ولا يدرك مدى التأثير الذي تفرغه هذه المشاهد التجسيدية والمعاني الحضارية في الذهن والخيال والقلب كونها تمس وتراً حساساً في أعماق النفس الانسانية وتتفاعل بشكل معمق مع منطقة الوعي واللاوعي في وقت واحد عند الانسان.
كما نجد الادب التصويري([7]) من خلال: "فقال اللّه عزّ وجلّ: يا ملائكتي، وياسكّان سمواتي، إنّي ما خلقت سماء مبنيّة، ولا أرضا مدحيّة، ولا قمرا منيرا، ولا شمسا مضيئة، ولا فلكا يدور، ولا بحرا يجري، ولا فلكا تسري، إلّا في محبّة هؤلاء الخمسة الّذين هم تحت الكساء".
فلقد كان من الممكن ان يقول تعالى: (ياملائكتي ويا سكان سماواتي اني ما خلقت العالم (فقط) الا في محبة هؤلاء الخمسة ) ويكتفي بذلك، لكن لمكان اهمية الادب التصويري وتأثيره على السامعين كونه يداعب القوة المتخيلة والتي بدورها تساعد القوة المتعقلة على استحكام المعلومات فيها وتجذرها، جاءت الفكرة مصوغة بهذا النحو من الكلام الذي يحتضن أدباً تصويرياً يتضمن مناظر عديدة.
فالرب تعالى يستحضر كل هذه المعاني كعلل معدة ويفصّل في الكلام من اجل هذه الغاية الهامة وهي التأثير في النفوس وايصال الرسالة الالهية الى كل الاجيال بأسلس عبارة تصويرية واصدق شاهد تعبيري.
المشاهد التجسيدية في حديث الغدير
لقد كان من سيرة النبي ص وكذا جميع الانبياء (عليهم السلام) صناعة المشاهد التجسيدية الأكثر تأثيراً في ايصال رسالات الله إلى الناس كافة.
ففي حديث الغدير الشهير نجد ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفرغَ من الصور المؤثرة وأحدَثَ من المشاهد التجسيدية الشيء الجمّ الكثير الرائع المميز، فمع انه (صلى الله عليه وآله) كان بإمكانه ان يجمع الناس كالمعتاد ويلقي خطبته عليهم في تعيين علي (عليه السلام) خليفةً من بعده لكنه (صلى الله عليه وآله) أعدّ لذلك مشهداً تجسيدياً فريداً، فقد كان الموقع الذي اختاره لذلك هو – كما عبّر عنه البعض – أشبه بالمسرح التكويني الإلهي الأكثر تأثيراً من أي مسرح فني معدّ من قبل العاملين في مجال الفن والتمثيل والاخراج.
فمن المعروف في الوقت الحاضر ان الخبراء يصنعون منصات متدرجة بحيث تكون الدرجات الدنيا اقرب الى ساحة المسرح وتبتعد الدرجات العليا صاعدة الى الاعلى، حتى يمكن ان يشاهد اكبر قدر من الناس المتجمعين تلك المشاهد التمثيلية، ليكون بمقدور الكل الإشراف على النقطة المركزية التي تجري فيها الأحداث.
واذا اتينا الى واقعة الغدير نجد ان الرسول (صلى الله عليه وآله) قام باختيار ساحة العرض أروع اختيار بدون بذل أدنى جهد بشري في إعدادها والذي لعله كان بحاجة إلى سنوات من الجهد العضلي الشاق، لكنه استعاض عن ذلك بأفضل ما يمكن إذ جاء بالمسلمين إلى المسرح المثالي التكويني المعدّ إلهياً من قبل وهو (غدير خم) وهو مسرح تكويني متدرج من نقطة منخفضة في الوسط متصاعدة إلى الأعلى في الأطراف كي يشاهده الجميع بوضوح ويشاهدوا ما يصنعه (صلى الله عليه وآله) بأمير المؤمنين (عليه السلام) إذ حمله من وسطه وشاله إلى الأعلى مصرحاً حينئذٍ بإمرته من بعده على المؤمنين جميعا. وأيضاً كي يصل صوته (صلى الله عليه وآله) إلى أكبر عدد ممكن من الناس لأن الصدى ينتشر في الأرض المسطحة عكس الغدير الذي تحبس أطرافُه الصوتَ عن الانتشار فيصل بشكل أقوى إلى شرائح أكبر من الناس.
هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى:
تقول الرواية "فَرَفَعَهُمَا حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَى بَيَاضِ إِبْطَيْهِمَا"([8]) ولكن لماذا؟ مع ان ذلك قد يبدو عرضياً أو مما لا دخل له في الرسالة المزمع إيصالها في بادئ النظر، لكن الواقع ان هذه المناظر التجسيدية هي التي تقوم بترسيخ الأمر كله على طريقة الاستجابة الشرطية في أذهان الناس على مر التاريخ إضافة إلى ان الانسان لا يحركه العقل فقط بل المحرك بشكل فاعل هو مزيج العقل والخيال، واذا تطابقت قوة العقل مع قوة الخيال مع القوة المتوهمة فستقهر أية قوة شيطانية تقف أمامها عندئذٍ.
والكلام عن هذا الجانب من حديث الغدير طويل جدا فلنكتف هنا بهذا المقدار.
الادب التصويري في مظلومية الزهراء (عليها السلام)
ومن أروع وأغرب لقطات الأدب التصويري أيضا قول الزهراء (عليها السلام) للإمام علي (عليه السلام): "اشْتَمَلْتَ شَمْلَةَ الْجَنِينِ وَ قَعَدْتَ حُجْرَةَ الظَّنِينِ نَقَضْتَ قَادِمَةَ الْأَجْدَلِ فَخَانَكَ رِيشُ الْأَعْزَل"([9])
فلماذا تقول الزهراء (عليها السلام) ذلك وهي تعلم انه صلوات الله عليه مقيد بوصية من أخيه (صلى الله عليه وآله)؟ ان الهدف من ذلك إيصال رسالة قوية جداً عبر أسلوب الأدب التصويري إلى الأجيال كافة بانها مظلومة مهضومة منكسرة حزينة مقهورة تشكو الى زوجها أحزانها وأشجانها فلا يبقى مجال للتشكيك الذي يتثبت به المخالفون في مظلوميتها، دفاعا عن خلفائهم زورا وبهتانا.
"اشْتَمَلْتَ شَمْلَةَ الْجَنِين"([10]) والجنين في بطن أمه، وكما هو واضح، مشتمل بالمشيمة مقيد بها ولا يستطيع ان يخرج منها أو يتحرك هنا وهناك فهو سجن اضطراري قهري.
"وَقَعَدْتَ حُجْرَةَ الظَّنِين" والظنين هو المتهم، ومن المعلوم ان المتهم مقيد لا يتحرك طبيعيا؛ لأنه محاصر تلاحقه العيون والقلوب بسوء الظن فتقل حركته ويندر تواجده بين الناس.
"نَقَضْتَ قَادِمَةَ الْأَجْدَل" أي انك يا علي نكثت قوادم ريش الصقر بيديك القويتين([11]) مع ان الصقر يضرب بقوة شديدة اذا ما هوجم فكيف إذا ما حاول شخص ان يقتلع الريش الموجود في مقدم جناحيه، وفي ذلك كناية رائعة جداً عن شجاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) فانك إذا كنت كذلك فما قيمة هؤلاء الذين لا تحرك ساكنا أمامهم رغم عظيم إجرامهم "فَخَانَكَ رِيشُ الْأَعْزَل" والأعزل هو الطير المهين الضعيف!! حقا ان ذلك لعجيب؟
ومن الغريب في العبارة ودقتها انها (عليها السلام) تقول له "فخانك" ولم تقل (فعجزت عن مواجهة الأعزل)، إذ السبب – الذي تجيب به ضمنياً عن الإشكال المطروح ظاهرياً – هو ان هناك خيانةً وانقلاباً داخلياً عسكرياً ضده صلوات الله عليه وقد قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)([12])
فمن الصحيح ان الامام (عليه السلام) مقيد بالوصية من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله)، الا ان العلة الرئيسية التي دعت إلى تلك الوصية هي الخيانة في قيادات الأمة وفقدان الناصر الذي يحسم المعركة لصالح جبهة الحق، وانه لو ثار للأخذ بحقه، وحيث لا يمكن حسم المعركة فانه كانت المعركة الداخلية تستعر من غير حسم نهائي عسكري وكانت الفتنة تشتد وسينتهز الروم حينئذٍ الفرصة وهي الدولة العظمى المنافسة آنذاك للهجوم على بلاد المسلمين، ومن الوارد جداً ان يقضوا على الدولة الاسلامية الفتية بشكل كامل، كما حصل ذات الامر في التاريخ في بلاد الاندلس لاحقاً.
ولقد أجابها الأمير (عليه السلام) بما يقرب من هذا: "اذا اردتي ان يبقى هذا النداء عاليا فعلينا ان نصبر"
وكان النداء هو الاذان الذي يعلو مآذن بلاد المسلمين بالشهادة لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله).
المشاهد التجسيدية في قصة موسى (عليه السلام)
وكذلك عندما نتتبع التاريخ نجد العديد من المشاهد التجسيدية العظيمة في مراحل دعوة الأنبياء (عليهم السلام) ففي قصة موسى (عليه السلام) عندما رجع من الطور ووجد قومه يعبدون العجل حيث أضلهم السامري، غضب موسى وأخذ برأس أخيه ولحيته يجره إليه (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)([13])
لقد كان غضب موسى ع على قومه وليس على اخيه، لكنه ارد ان يبدي لهم فداحة جرمهم وانه بلغ من الشناعة إلى درجة انه صور لهم ان أخيه هارون (عليه السلام) الذي لم يكن راضيا عنهم انه كالمستحق للعتاب والعقاب وانه سيناله الغضب وإن كان هو المرآتي الطريقي وانه ليس هو – هارون – رغم براءته بمأمن ايضا.
لقد كان هارون (عليه السلام) نبيا لا يعقل ان يرتكب الصغيرة فكيف بالشرك بالله تعالى، ولو كان أي نبي مكانه لما فعل أكثر مما فعله هارون (عليه السلام)، إلا موسى (عليه السلام) عبر ذلك المشهد التجسيدي الصارخ أراد ان يهز الضمائر الميتة والغافلة ليترك أكبر الأثر الرادع على الخاطئين من قومه وعلى الذين ستصل إلى أسماعهم على مر العصور تلك المشاهد ليعلموا ان من يعبد شيئا من دون الله سيناله غضب الله تعالى ورسوله مهما كانت مكانته ومنزلته.
المشهد التجسيدي في مصارعة الحسنين (عليهما السلام)
وعلى ضوء فلسفة المشاهد التجسيدية يمكن تفسير قصة تصارع الحسنين (عليهما السلام) وهما طفلان صغيران وحضور جبرائيل في القصة المعروفة، ونص الرواية "بَيْنَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَصْطَرِعَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): هِئْ يَا حَسَنُ. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُعِينُ الْكَبِيرَ عَلَى الصَّغِيرِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: جَبْرَئِيلُ يَقُولُ: هِئْ يَا حُسَيْنُ، وَأَنَا أَقُولُ: هِئْ يَا حَسَنُ"([14])
وفي رواية أخرى: "قَالَ فَلَمَّا أَتَى بِهِمَا مَنْزِلَ فَاطِمَةَ أَقْبَلَا يَصْطَرِعَانِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ إِيهِ يَا حَسَنُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَقُولُ إِيهِ يَا حَسَنُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فَقَالَ هَذَا جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) يَقُولُ إِيهِ يَا حُسَيْنُ فَصَرَعَ الْحُسَيْنَ الْحَسَنُ قَالَ وَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِمَا يَوْماً وَقَدْ أَقْبَلَا فَقَالَ هَذَانِ وَاللَّهِ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّة..."([15]) ولعل الغرض من هذا المشهد التجسيدي والمصارعة هو تكريس كلام النبي (صلى الله عليه وآله) وان جبرئيل كان يقول للحسن (عليه السلام) كذا وكذا، فتتكرس مكانة الحسنين (عليهما السلام) أكثر عبر التاريخ في نفوس الناس، هذا كله إضافة إلى ان مصارعتهما (عليهما السلام) هي مشهد تجسيدي يعبّر عن مراحل الطفولة البريئة السليمة وكيف ينبغي ان تكون، فان المعصوم حتى وان كان طفلا فانه اسوة وقدوة وينبغي ان يعيش طبيعيا وفقا للسنن الإلهية في الطفولة والتنشئة والنمو، وليكون معتدل المزاج ويقوم بما يتناسب مع كل مرحل من مراحل حياته، وفقاً للقواعد الشرعية العامة.
ومنه نستفيد بأن من الحسَن ان يتدرب الصغار على فنون القتال والمصارعة لتقوية اجسامهم واشتداد عضلاتهم، وكما قيل العقل السليم في الجسم السليم فالمؤمن ينبغي ان يكون بطلا ليثا هزبرا مدربا، والا فكيف له ان يقاتل الاعداء من الخوارج إلى الدواعش؟
ان المصارعة ليست لهواً ولعباً مجرداً بل هي نوع تربية رياضية تصقل الاجسام وتنمي العضلات والأعصاب وتكسب الطفل او الشاب المهارة والخبرة وتمنحهم القدرة على التصدي لأعداء الاسلام الذين يحملون السلاح في وجه الشعوب والمظلومين.
ومن مفردات المشاهد التجسيدية أيضاً: القصة المعروفة في تعليم الحسنين (عليهما السلام) للشيخ الكبير الذي دخل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يحسن الوضوء، فطلب منه الإمامان الحسن والحسين - وكانا صبيين صغيرين - ان يحكم بينهما في ان وضوء أيهما هو الأصح أو الأحسن؟.
كل هذه مشاهد تجسيدية رائعة ترتكز في الاذهان وقصص أخاذة تعلقُ في النفوس فتتربى عليها الاجيال.
المشهد التجسيدي في المباهلة
ومن نماذج المشاهد التجسيدية المعبرة: واقعة المباهلة، حيث خرج رسول الله وامير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسننان (عليهم السلام) في منظر تاريخي لم نجد نظيراً له على مر التاريخ حيث خرج خمسة من المعصومين وهم افضل خلائق الله تعالى في مشهد تحدٍ عظيم ومباشر، وقد خلّد القران الكريم هذا المشهد الرائع بقوله تعالى: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)([16]).
وقوفها (عليها السلام) للعبادة حتى تتورم قدماها
ومنها أيضاً: قضية الزهراء (عليها السلام) حيث كانت تقف للعبادة حتى تتورم قدماها في مشهد إنساني – رباني نادر يكشف عن انقطاعها الى الله تعالى وكثرة عبادتها، فمَن مثلُها الآن في كل العالم؟، وان وجد احد فرضاً([17]) فمشابهته لها من هذه الجهة لا ترقى في البعد الكيفي الى أية نسبة من عبادتها صلوات الله عليها.
والأمثلة بالمئات بل بالألوف، وقد جرت الإشارة الى بعضها فقط بما يلقي بعض الضوء على أهمية الأدب التصويري والمشاهد التجسيدية في الدعوة الى الله تعالى والى نشر الاسلام وفضائل قادة الاسلام وقصصههم واحاديثهم عبر هذين الأسلوبين الفاعلين المتطورين.
البصيرة الثانية: شروط نجاح البشارة الانذار وتأثيرهما
هنا نتوقف قليلاً عند مفردتي (البشارة) و(الإنذار) فنقول: لعل من الغريب ان تبشيرنا وانذارنا للعالمين ليس مجديا بالشكل المطلوب ولذا تجد الإلحاد ينتشر بين اوساط الطلاب الجامعيين فضلا عن الفسوق والعصيان وترك الواجبات وارتكاب انواع المحرمات في الاسواق والجامعات والتجمعات وغير ذلك فهناك موجة لعلها غير مسبوقة من الفساد والعلمنة بتفسيرها الثاني الذي تبنته تركيا أتاتورك وفرنسا والتي تعادي الدين مع قطع النظر عن تفسيرها الأول الذي يدعو الى فصل الدين عن السياسة وعن كل الشؤون العامة.
وماذلك الا لاننا لم نقم بحق التبشير والانذار بحدودهما وادابهما الصحيحة فان للانذار شروطا كي يؤثر في المنذَر، وحينئذٍ لا بد ان يؤثر إلا اذا كان هناك نقص خَلْقي أو عناد ذاتي يمنعه من قبول الانذار والاهتداء.
البشارة هي الحاكية عن المستقبل المشرق وهي المطابقة للواقع
كذلك البشارة فان لها شروطاً وآداباً كثيرة والحديث عن ذلك طويل إلا اننا ننطلق في إلقاء الضوء على احدى تلك الشروط من نفس مفردة البشارة ومعناها؛ فان (البشارة) لكي تكون بشارة حقاً فانها يجب ان تكون حاكية عن المستقبل المشرق ومطابقةً للواقع وإلا لكانت دجلاً وخداعاً وكذباً، وإذا لم تحمل البشارة ميّزة المطابقة فان الناس سيعتبرون ما يصدر إليهم من أنواع البشارات من بعض رجال الحق كذباً ومجرد تخدير للأعصاب.
ولنمثل لذلك بمثال عرفي: لو انك بشرت ابنك بانك ستأتيه بهدية ما إن هو فعل كذا، وكنت في الواقع تكذب عليه غير جادٍ في وعدك ولا ناويا للوفاء به، فان هذا اللون من التبشير يعتبر دجلاً وكذباً وسياتي بنتائج عكسية.
فالبشارة لاتكون بشارة حقا الا اذا كانت مطابقة للمبشّر به أي: إذا كانت ستؤول إليه وتؤدي له؛ ومن هنا نجد ان الله تعالى عندما يبشر عباده برحمة منه ورضوان فان ذلك هو الحق المطابق للواقع وان ذلك هو ما سيؤول إليه حال المبشَّر، أو بالعكس المنذَر.
قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)([18])
لماذا أساء الناس الظن بالإسلاميين؟
والمقصد من الكلام: اننا عندما نبشر الناس، كإسلاميين، بالحكم الاسلامي او ندعو الاخرين الى الاسلام ونصور لهم الاسلام على انه الجنة الأرضية حيث لا فقر ولا فاقة ولا مشاكل اجتماعية او أسرية وعندما نكرر (ان الاسلام هو الحل) وان الاسلام هو الذي ينزع فتيل التناحرات الحزبية والقبلية والنزاعات العشائرية وغير ذلك من البشارات الكبيرة الخالدة، فان الناس يتوقعون ان تكون هذه الوعود والبشائر مطابقة للواقع في حياتنا اليومية وقبل الوصول إلى الحكم وبعده أيضاً – على فرضه - لكن الآخرين يرون عكس ذلك في واقعنا تماماً إذ يرون الجحيم في ظل الإسلاميين المدّعين([19]) الا من عصمه الله تعالى.
فاذا كانت الحكومات استبدادية وإذا كان التعامل مع الناس على اساس الطبقية والاستعلاء، وإذا كان من هو في موقع أعلى يظلم من تحته ويسحقه سواء أكان في جامعةٍ او مدرسةٍ او في معملٍ او مديرية او غير ذلك، فان البشارة بالسعادة الحقيقية في الحكم الإسلامي أو المناهج الإسلامية ستكون زورا ودجلاً في نظر الاخرين.
فهل يرى الاخرون في بلادنا وفي جامعاتنا وحوزاتنا وأسواقنا وأحزابنا ومؤسساتنا، سيادة الشورى والحرية والعدل والانصاف والرحمة والمحبة والاخوة وغير ذلك من القيم التي دعى إليها الاسلام؟
وهل يرى الغرب أو الشرق ان لنا سياسة اقتصادية متوازنة منتجة؟ أو يرى لنا نظرية متطورة في التربية والتزكية والتعليم؟ أو يرى تكافلاً اجتماعياً صحيحاً عادلاً؟ أو هل يرى تنافساً إيجابياً حضارياً متطوراً بين أحزابنا وتياراتنا المتنوعة؟ كل هذا وغيره لا يشاهده العالم من البلدان الاسلامية التي تبشر بالإسلام، فكيف نتوقع منهم ان يذعنوا بان الإسلام هو الحل؟ وانه أفضل الأديان؟.
من أسباب تقدم الغرب: قانون الاخوة مع الغرباء!
ان من اسباب تقدم الغرب علينا انه تقدم علينا بأشواط طويلة في تطبيق قانون الاخوة والمواطنة فاذا هاجر أي انسان الى تلك البلدان ولبث فيها عدة سنوات([20]) فانه يمنح الجنسية لتلك الدولة ويصبح مواطناً، له كافة حقوق المواطن الأصلي حتى انه بإمكانه ان يتدرج في المناصب الى ان يصل الى رئاسة الجمهورية وفق ضوابط وشروط يتمكن الكثيرون أو الأكثر من إحرازها، فالقانون الغربي يعتبرك وأنت من دين أو عرق أو بلد آخر أخاً لك الحقوق نفسها التي لهم كما عليك الواجبات ذاتها.
لكنك اذا اتيت الى البلدان الاسلامية فانك ستجد القوانين العدائية، والتزمت الكبير والعنجهية المقيتة، والغريب ان الدول الإسلامية لا تمنح الجنسية لأي احد حتى لو كان مسلما من دولة مجاورة([21]) وحتى لو ولد هو وأبوه في البلد أو سكنته عائلته لمئات السنين، بل ويعامل على انه أجنبي ومقيم من الدرجة الثانية ولا يسمح له في الكثير من بلادنا بتملك دار أو معمل أو شركة او حتى الحصول على وظيفة حكومية او غير ذلك.
فالجنة التي ادعاها الإسلاميون في العمل بالإسلام وجد فيها الآخرون ناراً واقعية حسب المقاييس الدنيوية فكيف يصدّقنا الاخرون في حديثنا عن جنة الآخرة وهي غيب لا يمكن دركه بالمشاهدة؟!! أي انهم يتساءلون: اذا كان حال الدنيا عند البلدان الاسلامية هو هذا فكيف بالآخرة المبشر بها؟
الإسلام في واد والمسلمون في واد آخر
والكلام السابق كله انما هو بحسب الظاهر وما يراه الناس ويشهدونه اما من يملك الرؤية الصحية والعقل السليم فانه سوف يراجع الأدلة والبراهين والحجج ليكتشف ان الإسلام هو الحق وان مبادئه القرآنية والنبوية والعلوية هي الحل، وعندما يتصفح التاريخ بدقة ويدرس ما جرى من انحراف المسلمين وقادتهم عن مبادئهم الصحيحة فسيدرك جيدا الاسباب وراء تدهور البلدان الاسلامية والمجتمعات المتأسلمة وان الداء في المسلمين لا في الإسلام نفسه.
وكذلك إذا ما وجد الإنسان الحصيف هذا الداعية أو ذاك عبوسا قمطريرا ليس دأبه السلام والمحبة والإخاء وليس ديدنه إصلاح ذات البين والاخلاق الفاضلة الحميدة، فانه سيدرك الحقيقة ويفكك بين الاسلام الداعي الى كل خصال الخير والاحسان، وبين هذا المدّعي المقصر في أداء وظيفته ومهمته.
وفي المقابل نجد اننا اذا اتينا الى الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) والى بشارته فسوف نجده صادقا مصدّقا في كافة بشاراته الدنيوية قبل الآخروية، وفي القصة المعروفة في معركة الخندق حيث ضرب الأرض بالفأس فانطلقت شرارة من تلك الصخور فقال لأصحابه: لقد فتح عليَّ في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر، وبشرهم بالغلبة على فارس والشام واليمن. "سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ لَمَّا حَفَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْخَنْدَقَ مَرُّوا بِكُدْيَةٍ فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْمِعْوَلَ مِنْ يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَوْ مِنْ يَدِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضَرَبَ بِهَا ضَرْبَةً فَتَفَرَّقَتْ بِثَلَاثِ فِرَقٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَقَدْ فُتِحَ عَلَيَّ فِي ضَرْبَتِي هَذِهِ كُنُوزُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ يَعِدُنَا بِكُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَا يَقْدِرُ أَحَدُنَا أَن يَخْرُجَ يَتَخَلَّى"([22]) و(خبر الصخرة من المتواترات قد رواه الخاصّة والعامّة بأسانيد كثيرة فقد روى الصدوق بإسناده إلى البراء بن عازب قال: لما أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بحفر الخندق عرض له صخرة عظيمه شديدة في عرض الخندق لا تأخذ منها المعاول فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فلما رآها وضع ثوبه وأخذ المعول قال: بسم اللّه وضرب ضربة فكسر ثلثها وقال: اللّه أكبر اعطيت مفاتيح الشام واللّه إنّي لابصر قصورها الحمراء الساعة ثمّ ضرب الثانية فقال: بسم اللّه ففلق ثلثا آخر فقال: اللّه أكبر اعطيت مفاتيح فارس واللّه إنّي لابصر قصر المدائن الابيض، ثمّ ضرب الثالثة ففلق بقية الحجر وقال: اللّه أكبر اعطيت مفاتيح اليمن واللّه لابصر أبواب الصنعاء مكانى هذا.
وقال عليّ بن إبراهيم: فلما كان في اليوم الثاني بكروا إلى الحفر وقعد رسول اللّه في مسجد الفتح فبينا المهاجرون يحفرون إذ عرض لهم جبل لم يعمل المعاول فيه فبعثوا جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ إلى رسول اللّه يعلمه ذلك قال جابر: فجئت إلى المسجد ورسول اللّه مستلق على قفاه ورداءه تحت رأسه وقد شد على بطنه حجرا فقلت: يا رسول اللّه إنّه قد عرض لنا جبل لا يعمل المعاول فيه فقام مسرعا حتّى جاءه ثمّ دعا بماء في إناه وغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه ثمّ شرب ومج ذلك الماء في فيه ثمّ صبه على ذلك الحجر ثمّ أخذ معولا فضرب اخرى فبرقت برقة نظرنا فيها إلى قصور المدائن ثمّ ضرب اخرى فبرقت برقة نظرنا فيها إلى قصور اليمن، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: أما انه سيفتح عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق ثمّ انهاك علينا الجبل كما ينهاك الرمل)([23])
وقد رأى المسلمون صدق بشارته هذه، كسائر بشاراته، حيث انتصر المسلمون على الفرس وغنموا قصور كسرى وقيصر بكل ما فيها.
وصفوة القول: ان من أهم سبل الدعوة إلى الله تعالى ان تكون البشارة والانذار مستجمعة لشرائط التبشير والانذار وان اول شرط من شرائط التبشير هو ما ينتزع من حاق الكلمة نفسها أي ان تكون البشارة مطابقة للمبشر به من الافق السعيد المستقبلي الدنيوي قبل الاخروي. وان يكون الانذار كذلك.
واذا كان الامر كذلك فسيدخل الناس في دين الله افواجا كما صنعوا من قبل: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً)([24]) وهو ما سيحدث في زمن ظهور القائم من آل محمد (عليه السلام) مرة أخرى أيضاً فان الناس سيبصرون الحقائق ويتبينون الصدق في اقوال وافعال الامام المنتظر عجل الله فرجه، فيؤمنون ويخبتون له، وتمتلأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. "اللَّهُمَّ أَرِنِي الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ وَاكْحَلْ ناظري بِنَظِرَةٍ مِنِّي إِلَيْهِ وَعَجِّلْ فَرَجَهُ وَأَوْسِعْ مَنْهَجَهُ وَاسْلُكْ بِي مَحَجَّتَه"([25]) أمين رب العالمين.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين