المكر والاحتيال في الحكومة والمجتمع
وكيف نتقي شر الماكرين والمحتالين؟ (1)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2025-09-11 04:05
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْديلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْويلاً)[1].
ظاهرة المكر والاحتيال في المجتمع
لعلَّ من الغرائب أنَّ حالات المـَكرَ، والاحتيالَ، والدجلَ، والخداعَ أصبحت ظاهرةً عامة في هذا العصر؛ إذ تملأ ألوانُ الحيلِ، وأنواعُ الدجلِ، الأسواق، والمؤسسات، والأحزاب، والمنظمات، وحتّى العوائل... وما أكثر ما تجد جارًا يخدع جيرانه، أو زوجًا يخدع زوجته، أو العكس، أو رئيسًا يحتال على مرؤوسيه، أو العكس، أو مديرًا، أو معلمًا، أو تلميذًا، أو زميلًا، يخدع كلٌّ منهم الآخر... أو بقالًا، أو مزارعًا، أو عاملًا، أو طبيبًا، أو محاميًا، أو صحفيًا، أو غير ذلك!
ومن ألوانِ الخداعِ والاحتيالِ: تقليد الماركات (والعلائم التجارية)، سواءٌ في الأدوية، أم الأغذية، أم الأجهزة، وتزوير التواريخ، والغشُّ في الامتحان، والوعود الانتخابية الكاذبة التي تستهدف خداع المواطن، كي يدلي بصوته لصالح هذه الجهة أو تلك أو هذا أو ذاك.
ومن أنواعها التظاهر بالطيبة والوداعة، مع أنه ذئبٌ في ثوب حمل، والسرقات المقنّعة، والنميمة، والإيقاع بين اثنين، متسترًا بستار أنّه ناصحٌ لهما، حريصٌ على مصلحة كلٍّ منهما، وكذلك إرساء المناقصات على غير أهلها، وسرقة الألقاب، وغير ذلك...
والحديث يقع في فصول: الأول: ألوانٌ من الخُدعِ والحِيَلِ على المستوى الشخصي، الثاني: المـَكْرُ على ضوء الآيات الكريمة والروايات الشريفة، الثالث: الخداعُ على مستوى الحُكومات والمسؤولين ومَن يرتبط بهم، الرابع: كيف نَتَوَقَّى حِيَلَ المـُحتالين وخُدَعَ الماكرين؟
الفصل الأول: ألوان من الحِيَل والـخُدَع
ونستعرض هنا ألواناً من الحِيلِ والخُدَع، تزيدنا معرفتها تبصّرًا بطيفها الواسع وبتعدُّد مناحيها:
باعه البئر، لا ماء البئر!
النموذج الأول: نُقل أنَّ مُحتالًا باع شخصًا ساذجًا بئرًا، فلمّا جاءَ المـُشتري الساذج ليستخرج ماء البئر ويسقي به مزرعته المجاورة، قال له البائع المحتال: لقد بعتك البئر ولم أبعك ماء البئر!، فإذا أردت الماء، فعليك بدفع مبلغ آخر!
وحيث تحيّر المشتري وعجز عن الجواب، رجع إلى خبيرٍ بالمحتالين، فجاء معه إلى المحتال، ولكن الخبير لم يستدلَّ عليه باستدلالٍ علمي (نظير أنَّ البئر وإن صحَّ إطلاقها على البئر من دون ماء، ولذا لا يصحُّ السَّلب، سلب عنوان البئر عمّا لا ماء فيه، إلّا أنّها يُراد بها -بمُناسبات الحُكمِ والموضوع وبالدلالة الالتزاميّة – مع ما فيها من ماء)، بل ردّ عليه الحجر من حيث أتى، إذ قال له: إذاً أنت تقول بأنَّك بعته البئر (أي جدرانها وأرضها) دون مائها؟ أليس كذلك؟
قال: نعم.
قال: إذاً، فعليك أن تدفع يومياً أُجرة بقاء مياهك في بئر هذا المـُشتري، أو عليك العمل بالخيار الآخر وهو أن تنزح مياهك من بئره بأكملها. وحيث إنَّ البئر كُلّما نُزِحتْ منها، خرج ماءٌ جديد، فعليك أن تظلَّ أبدَ الدّهر تنزح البئر أو تدفع الأجرة يومياً؟ فبُهِتَ المحتال.
يدفع لك أرباحاً خيالية ولكن!
النموذج الثاني: ومن نماذج الاحتيال الشائعة التي ابتُلِي بها الكثيرون جداً في مختلف أصقاع الأرض النموذج الآتي: فإن كثيراً من الناس يبحث عن تأمين دخل شهري ثابت له، فيجمع كميّة من المال، مثلاً عشرة ملايين أو مائة مليون، وحيث إنّه لا يُحسن التجارة أو يخشى من عواقبها، لذلك فإنه يبحث عن تاجر أو مصرف أو صديق يستثمر له أمواله ويدفع له شهرياً مبلغاً معيّناً، وهو ربا محرّم طبعاً، إلّا أن يكون عبر معاملتين أو غير ذلك ممّا فصّلناه في كتاب (التنمية الاقتصادية في نصوص الإمام عليٍّ عليه السلام).
ومن المعروف أن الربح السنوي الذي يُدفع على الأموال المـُقترَضة هو 12%، أو لنفرض حتى 20% أو أكثر بقليل.. ولكن المـُحتال، كي يتمكّن من ابتلاع أموال زملائه والآخرين، يُمنّيهم ويعدهم بأنّه سيدفع لهم مثلاً 120%، أي: لو دفعت لي مائة مليون فسأدفع لك شهرياً عشرة ملايين.. وبذلك يفتح لهم بوّابة خضراء نحو ربح مضمون وعيش رَغَد، مدّعياً أنّه يعرف بعض الاستثمارات المربحة جداً، وقد يذكر لهم، مثلاً، أن الأراضي في بعض المناطق ترتفع قيمتها بشدّة، وأنا بها خبير، وباقتناص الفرص بصير..
وبالفعل، تجده يدفع في الشهر الأوّل للأوّل عشرة ملايين، وهكذا في الشهر الثاني كذلك.. وينتشر الخبر، ويكتسب هذا المحتال المصداقيّة، فتنهال عليه الطلبات، فقد تصل بيده مليارات الدنانير.. لكنّه في الواقع، إنّما يدفع المبالغ الشهريّة للأشهر الثلاثة أو الخمسة الأولى مثلاً، من رأس المال لا من الأرباح المتوهّمة (إذ لا تجارة ولا استثمار، بل مجرّد كذبة كبيرة!)، ثمّ يسرق الباقي كلّه[2] ويهرب إلى بلد آخر.. أو يدّعي أنّه انكسر في تجارته وسيعوضهم لاحقاً.. وهكذا..
والغريب أنّ بعض المصارف (البنوك) تفعل ذلك لدى علمها ببوادر انكسارها في السوق، فتعلن إنّها تدفع سنوياً 60% مثلاً، فتنهال عليها الأموال من كل البلاد، ولكنها تجد طريقها إلى جيوب المدراء، ثمّ يُعلن المصرف إفلاسه، ويحميه المتواطئون معه من المسؤولين، وقد حدث ذلك في عدد من البلاد المجاورة.. وللقصّة تفاصيل محزنة ومخزية.
الأسعار منخفضة لكنك تدفع أكثر بكثير!
النموذج الثالث: يقول أحد الأشخاص: كنتُ مسافرًا إلى بلدٍ أجنبيٍّ لمهمةٍ معينة، فبحثت عن فندقٍ رخيصٍ نسبيًا أقيم فيه أيامًا، إذ كانت أسعار الفنادق في تلك المنطقة غاليةً جدًّا، فاستوقفني إعلان أحد الفنادق، إذ وجدت أسعاره رخيصة جدّاً (على النصف من سائر الفنادق).
ولما ذهبتُ إلى ذلك الفندق، وكنت أتصوره فندقًا متداعيًا، وجدته فندقًا جيدًا، حديثًا، جيد الخدمات، فاستأجرت غرفةً من الغرف لأيام، ولكنني عند المغادرة فوجئت بالفاتورة، إذ كان المبلغُ المتحتِّمُ عليَّ أغلى بكثير من أسعار الفنادق الغالية (فبدل أن يتحتم عليَّ مثلًا أن أدفع ألف دولار، نصف أسعار سائر الفنادق، وهي ألفا دولار، فوجئت بأن المكتوب في الفاتورة أربعة آلاف دولار – والأرقام هنا للمثال فقط).
وحيث قطعت بأن في الفاتورة خطأ ما، أو أنها لشخصٍ آخر، اعترضتُ، فقالوا: بل هي صحيحةٌ تمامًا!!.
وعندما واجهتهم بثورة عارمة، أجابوا بهدوءٍ بأن كلَّ شيءٍ مسجل وقانوني، لكنك لم تقرأ أسعار الخدمات على لوحة الإعلانات!.. وهنا اكتشفت مكمنَ احتيالهم، إذ وجدتُ أنهم يستقطبون العملاء بأسعارٍ مخفضةٍ جدًّا للسكن، هي المـُعلن عنها، لكن الخدمات غاليةٌ جدّاً، وللتهرب من الملاحقة القانونية، كانوا يكتبونها على لوحة الإعلانات، كي لا يُعد غشّاً، لكنهم يعلمون أن غالب النزلاء لا يقرؤون لوحة الإعلانات!! وكانت الخدماتُ أغلى بعدة أضعاف من الوضع الطبيعي، مثلًا: موقف السيارات، وفاتورة الهواتف الداخلية والخارجية، وقيمة الوجبات، وما أشبه ذلك!
الغشّ في الامتحانات
النموذج الرابع: الكثير ممَّن يعتمد على الغشّ في الامتحانات، أو التزوير، عبر الاتفاق مع المعلم أو المدير، في الدرجات، لقاء امتياز معيَّن، وقد حرَّم بعض الفقهاء الغشّ في الامتحانات..
ولعلَّ من أدلَّته على ذلك استظهارُه حرمة الغشّ نفسيّاً، ولعلَّ من أدلته جهة المقدِّمية، إذ إنَّ طالب الطب أو المهندس أو غيرهما إذا غشّ في الامتحانات، فإنَّه بعد التخرج قد يُلحِق أكبر الأضرار بالمرضى، إذ لا يمتلك العلم والخبروية الوافية، بل قد يقتل بعضهم بتشخيصه الخاطئ أو علاجه الناقص، وكذلك المهندس المعماري مثلًا، وقد سمعتم أخيراً بحادثة انهيار جسر في كربلاء، وعلى الرغم من أنه أدَّى إلى مأساة قتل عدد من النفوس البريئة، وإلى هدر أموال الشعب، وغيرِ ذلك.. إلا أن الغريب أننا لم لا نجد أحدًا يتحمَّل المسؤولية.. فلا المهندس.. ولا الشركة.. ولا الحكومة..! وكيف نتوقَّع أن يرحمنا الله، وشركاتنا مصَّاصةٌ للدماء، ومسؤولُونا ساكتون أو متواطئون؟
والمشكلة أنَّ مسيرة الغشّ في الامتحانات وفي المناقصات.. وفي كلِّ شيء، مستمرَّة.. والفواجع تترى وتتكاثر يومًا بعد يوم، وما من مغيث، ولا من منجد..! والغريب أنَّ الكلَّ ساكت والإعلام مسكّت أو مُكمّم، بينما اللصوص يحمي بعضهم بعضًا.
الفصل الثاني: المكر في منظار الأحاديث
إنّ السبب الذي يكمن وراء اندفاع كثير من الناس وراء المكر والاحتيال والخداع، هو:
أولًا: أنَّهم يجدونه طرقاً قصيرًا جدًّا نحو الثراء السريع، أو الشهرة، أو تَسَنُّم المناصب الإدارية والوزارية والرياسة والقوة والسلطة، وبأقلّ التكاليف.
ثانياً: أنَّهم بذلك يتجاوزون حاجز الكفاءة المطلوبة، والشروط الضرورية، والتدرُّج الطبيعيَّ اللازم للوصول إلى هذه المنزلة أو تلك المرتبة.
ولكنَّ الروايات الشريفة ترشدنا إلى خطورة ذلك على إنسانية الإنسان، وعلى مستقبله، وعلى سلامة مسيرة المجتمع.
الْمَكُورُ شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ
وقد ورد في الحديث: (الْمَكُورُ شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ)[3]، والمكور فَعول صيغة مبالغة؛ فإنَّ صورته صورة إنسان، وواقعه واقع شيطان، وكذلك يراه الملائكة، وكذلك يحاسبه الله تعالى.
كما ورد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه، عن عليٍّ (عليه السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مَنْ كَانَ مُسْلِماً فَلَا يَمْكُرُ وَلَا يَخْدَعُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الْمَكْرَ وَالْخَدِيعَةَ فِي النَّارِ)[4].
وهذا يعني بالبرهان الإنيِّ أنَّ الماكر ليس بمسلم، وإن كانت على جبهته سجادة، وإن أمسك بيده المسبحة ليل نهار، فإنها لا تعدو كونها مكراً آخر لتغطية المكر الأوّل!! بل إنَّ عدم كونه مسلماً هو صريح الرواية إذ ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): (لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ مُسْلِماً، أَوْ ضَرَّهُ أَوْ مَاكَرَهُ)[5].
قصة سارق لجام حصان الإمام علي (عليه السلام)
ومن أكثر القصص دلالةً على عاقبة المكر، ما رواه الأبشيهي في كتابه المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف، وعبارتُه:
(دخل عليُّ بنُ أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ المسجد، وقال لرجلٍ كان واقفًا على بابِ المسجد: أمسكْ عليَّ بغلتي، فأخذ الرجلُ لجامَها، ومضى وترك البغلة، فخرج عليٌّ وفي يده درهمان ليُكافئَ بهما الرجلَ على إمساكه بغلته؛ فوجد البغلة واقفةً بغير لجام، فركبها ومضى، ودفع لغلامه درهمين يشتري بهما لجامًا، فوجد الغلامُ اللجامَ في السوق قد باعه السارقُ بدرهمين، فقال عليٌّ ـ رضي الله عنه: إنَّ العبدَ ليَحرِمَ نفسَه الرزقَ الحلالَ بتركِ الصبر، ولا يزداد على ما قُدِّر له)[6]. انتهى.
أقول: المـُستظهَر من مجموع الأخبار، ومن هذا الخبر، أنَّ الله تعالى قدَّر لكلِّ إنسانٍ رِزقًا محددًا طوال حياته (ولنفرضه مائة مليون مجموعًا، أو شهرةً بدرجة 450، أو رياسةً بدرجةٍ كذا)، فإذا تجنَّب الحرام في طريق الوصول إليها، أعطاه الله ما قدَّره له من الرزق، ولو بعدَ نوعٍ من التأخير.
لكنَّه لو سلكَ طريق الحرام، فإنَّه وإن حصل على ما أراد، لكنَّه لا يزيد على ما قُدِّر له من الرزق عن طريق الحلال، لكنَّه يكون آثمًا، معاقَبًا، عاصيًا، مستوجبًا عذاب الله تعالى.
وقال (صلى الله عليه وآله): (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ: الْمَكْرُ، وَالنَّكْثُ، وَالْبَغْيُ)[7].
أنكر الأستاذ اجتهاد العالم فواجهه بالشكر والثناء!
ومن هنا نجد أنَّ علماءنا الأبرار جسَّدوا أمثلةً من أعظم الأمثلة في النزاهة، والشفافية، والإنصاف، والابتعاد عن أيِّ نوع من أنواعِ المكر.
والقصةُ التالية فيها عبرةٌ من أعظم العِبَر: فقد نُقِل أنَّ أحد المجتهدين، قبل عدّة عقود، وكان أستاذًا مرموقًا، ومعروفًا بالفضل، دفعه عاملٌ ما لكي يذهب إلى أحد الأساتذة المعروفين ليمتحنه ويختبر مستواه واجتهاده.. وبعدما ناظره الأستاذ وحاوره، قال له: المؤسف أنَّ اجتهادَك لم يثبُت لدي!
والغريبُ أنَّ هذا المجتهدَ المـُمتَحَن لم يَثُر، ولم يَغضب، ولم يُوجّه أصابعَ الاتهام إلى الأستاذ بأنك متحامل، أو كاذب، أو... بل توجَّه إلى الأستاذ بكلّ طيبةٍ وأريحية، وقال له: في الواقع لابدَّ لي من أن أشكرك، على أن أخرجتَني من جهلٍ مركَّب، حيث كنتُ أعتقد أنني مجتهد، لكن كلامَك وتقييمَك شَكَّكني في اجتهادي، فمن الآن فصاعدًا، لا أرى صحَّةَ العمل بآرائي، بل سأكون محتاطًا في المسائل!
أيّةُ مثاليّةٍ هذه؟! وأيَّةُ روح كبيرة؟!
مع أنَّ أيًّا منّا، عادةً، لو أنكر فضلَه مُنكِرٌ، لَحَمَله على أسوأ المحامل، لا على أحسنها، ولا على حَسَنِها، بل ولا على سيّئها!
الفصل الثالث: المكر على مستوى الحكومات
ومن أخطر أنواع المكر، المكرُ على مستوى الحكومات، إذ تمتدُّ تأثيراتُه على نطاقٍ واسع جدًّا، وقد تُصيبُ الملايين من المواطنين بأضرارٍ كبيرةٍ جدّاً.
1- لماذا رفض الإمام علي الوعد بالعمل بسيرة الشيخين؟
ويستوقفُنا في هذا الحقل الموقف الربّانيُّ المـُشرِق، الذي يتلألأ على مرِّ التاريخ، كوسامٍ مجد لكلِّ مسلم يعتز بقياداته الربانية، حيث أنَّ الإمامَ عليًّا (عليه السلام)، إذ جعله عمر أحد الستة في الشورى، كان من السهل عليه جدًّا عندما عرض عبد الرحمن بن عوف عليه شرط (وسيرة الشيخين) أن يَعِدَ بذلك، ثم يُخلِف لكنه ما فعل ذلك:
قال ابن كثير في (البداية والنهاية):
ثم استهلت سنة أربع وعشرين... فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ سَأَلْتُكُمْ سِرًّا وَجَهْرًا، مَثْنَى وَفُرَادَى، فَلَمْ أَجِدْكُمْ تَعْدِلُونَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ؛ إِمَّا عَلِيٌّ وَإِمَّا عُثْمَانُ، فَقُمْ إِلَيَّ يَا عَلِيُّ، فَقَامَ إِلَيْهِ فَوَقَفَ تَحْتَ الْمِنْبَرِ، فَأَخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله)، وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَا!!، وَلَكِنْ عَلَى جُهْدِي مِنْ ذَلِكَ وَطَاقَتِي. قَالَ: فَأَرْسَلَ يَدَهُ وَقَالَ: قُمْ يَا عُثْمَانُ. فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، ﷺ، وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ)[8].
وقال اليعقوبي في (تاريخ اليعقوبي):.... لما توفي عمر، واجتمعوا للشورى، سألهم أن يخرج نفسه منها على أن يختار منهم رجلا، ففعلوا ذلك، فأقام ثلاثة أيام، وخلا بعلي بن أبي طالب، فقال لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، فقال: أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت، فخلا بعثمان، فقال له: لنا الله عليك، إن وليت هذا الأمر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، فقال: لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، ثم خلا بعلي، فقال له مثل مقالته الأولى، فأجابه مثل الجواب الأول، ثم خلا بعثمان، فقال له مثل المقالة الأولى، فأجابه مثل ما كان أجابه، ثم خلا بعلي، فقال له مثل المقالة الأولى، فقال: إن كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معهما إلى أجيري أحد، أنت مجتهِدٌ أن تزوي هذا الأمر عني، فخلا بعثمان فأعاد عليه القول، فأجابه بذلك الجواب، وصفق على يده)[9].
ولماذا لم يعمل (عليه السلام) بما نفهمه من قاعدة الأهم والمهم؟
وغير خفي أن المبرِّراتُ التي يمكن سوقها لكي يقبل الإمام (عليه السلام) ثم يخلف كثيرة، ومنها: أنَّ التورية لدى المشهور جائزة، ومنها أنَّ خلف الوعد جائز[10]، ومنها، وهو الأهم، أنَّه يندرج في دائرة الأهمِّ والمهمِّ؛ إذ من الواضح أنَّ حكومة البلاد الإسلامية، عندما انتقلت إلى الثالث بعد أن كذب في وعده بالعمل بتلك السيرة، نجم عنها انتهاك الكثير جدًّا من الحرمات، والاعتداء على الأبرار، كأبي ذرٍّ وغيره، وأكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك، فالتوقِّي من ذلك كلِّه كان مبرَّرًا، كما يبدو للعقلاء، للتورية، أو للكذب من باب المصلحة العامة.
لكنَّ الإمام (عليه السلام)، مع علمه بذلك كلِّه ـ وبالبداهة ـ، إلا أنَّه رفض أن يَعدَ وعدًا انتخابيًّا كاذبًا، وذلك لأنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله) نقل عن جبرئيل قوله: (إِنَّ الْمَكْرَ وَالْخَدِيعَةَ فِي النَّارِ)[11].
ومن وجوه ذلك: أنَّ الشفافيةَ مسيرةٌ تبدأ بمثلِ ذلك، ويُبنى عليها مستقبل الحكومة كلِّها، كما أنَّ المكرَ مسيرةٌ تبدأ بمثل ذلك، لتمتدَّ إلى كافة مراحل الحكومة اللاحقة وإلى شتى مفاصلِ الدولة.. ولذلك نجد أنَّ الحاكمَ الأعلى، عندما يبدأُ بالارتشاء، وبالمحاباة، وانتهاج منهجِ الولاءات بدل الكفاءات، فإنَّ ذلك يَسري إلى كافة مفاصل ومستويات الحكومة.
وبكلمة: فإن الإمام علي (عليه السلام) مسيرة متماسكة الحلقات ومنهجٌ متكاملٌ عنوانُه: النزاهة، والشفافية، والصدق.
وفي مقابله يقع معاوية، حيث يبدأ مَكرُه بمفتاح، ليتمدد كالأخطبوط إلى كل شيء... ليكوّن سيرة حياة.
أول المكر: أن يستقيلها في حياته..!
ولنقرأ معًا مقطعًا من خطبة الشقشقية، إذ يقول (عليه السلام): (فَيَا عَجَباً! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ، إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ! لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا، وَالِاعْتِذَارُ مِنْهَا.
فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ: إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ)[12].
فذلك أوّلُ المكر وتلك عاقبة الأمر!: فما دام يرى نفسه غير أهلٍ، ويصرّح بـ: (أَقِيلُونِي، فَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، وَعَلِيٌّ فِيكُمْ)[13]، فلماذا لا يستقيل بالفعل حتمًا وجزمًا؟!
ثم لماذا يتحمّل وِزرَها بعدَ وفاته (فَيَا عَجَباً! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ، إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ!).
ثم يقول (عليه السلام): (حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ!
فَيَا لِلَّهِ وَلِلشُّورَى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ؟!
لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ، إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجًا حِضْنَيْهِ، بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ، يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنْ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بَطْنَتُهُ).
فهذه عاقبة المكر، حيث احتال في وعده بالعملِ بسنة الله وسيرة نبيِّه والشيخين، ثم هو لم يعمل حتى بسيرتهما، حسبَما زَعَموا من سيرِهما!
وأما الأمثلة المعاصرة على مكر الحكومات والمسؤولين، فلو كُتِبت، لملأت مجلدات ضخمة.
ومنها: المحاباة في المناقصات، ومنها: المحاباة في المحاصصات، ومنها: التضليل الإعلامي المتعمَّد، وإخفاء الحقائق على عامة الشعب في السياسة والاقتصاد.. وألف شيء وشيء.
لماذا أخفت الحكومة تلوث مياه النجف وكربلاء؟
ومن أعجبِ الأمثلة، وأكثرها إيلامًا، ما ابتُلي به في الأيام الأخيرة الملايين من الناس في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والديوانية وغيرها من تلوث مياه الإسالة والشرب بشكل غريب...
حيث كانت الموارد المائية تَضُخُّ إلى البيوت في كل هذه المدن مياهًا ملوثةً غير صالحةٍ للشرب أبدًا، إذ كانت ملوثةً بدرجةٍ بشعة، وكانت السلطات على علمٍ بذلك، لكنها أخفت المعلومات عمدًا، وتسترت على النبأ أيامًا طويلة، بدل أن تُحذِّر الناس من شرب هذه المياه، حيث شربها الملايين طوال أيام... حتى تعالت أصوات الناس، إذ وجدوا رائحة المياه كريهة، وطعمها غريبًا... وهنا اعترف أحد المسؤولين بالجريمة... لكنه بدل أن يعتذر المسؤولون، واجَهوه باللوم والتقريع: لِمَ فضحتنا؟!
والغريب أنَّ مثل هذه الحادثة، بل الأقلِّ منها بكثير، عندما تحدثُ في البلاد الديمقراطية، فإنَّ بعض المسؤولين الكبار يقدِّمون استقالاتهم، اعترافًا بعدم كفاءتهم، وكنوع من الاعتذار العلني للناس. وقد يستقيل رئيسُ الوزراء نفسه، أو المحافظ، أو الوزير...
لكن الغريب أنك لا تجد في بلدنا أحدًا قدَّم استقالته، من أكبر مسؤولٍ إلى أصغر مسؤول، بل ولا اعتذروا للناس عن جريمة الإضرار العمدي بالملايين!
بل، وكما سبق، أنَّبوا بشدَّة مسؤول الموارد المائية عندما حذَّر الناس (ولو صدر تحذيره بوقتٍ متأخِّر)!
فهذا هو الفارق بين حكومة رمز العدالة والإنسانية والحق الإمام علي (عليه السلام)، ومن يمشي على دَربِه... وحكومة رمز المكر والظلم معاوية، ومن يمشي على دَربِه.
2- ابتلاع أموال الدولة بذريعة مجهول المالك!
ومن نماذج المكر على مستوىِ الحكومات: المكر في ابتلاع أموال بيت المال بحجة أنها مجهول المالك!..
يقول أحد العلماء: جَاءني أحدهم ممن له موقعٌ ونفوذٌ في الحكومة، وقال: عرضت عليَّ إحدى الشركات العالمية الكبرى مبلغ مائة مليون دولار مقابل توسطّه لكي ترسوا المناقصة عليها، من بين الشركات الأخرى!
وحيث إنه يرى نفسه متشرعًا(!!)، جاء للعالم وقال له: حيث إن هذا المال مجهول المالِك، لذا سأدفع لك خمسه (20 مليون) فأسمح لي بالباقي!
يقول العالم: قلت له، بعيدًا عن المناقشات الفقهية كبرىً[14] وصغرىً، لكن أقول لك: هل أنت على استعداد لكي تعلن ذلك على صفحات الجرائد (أي تكتب أن شركة عرضت عليك مائة مليون.. وأنك جئتني لتدفع لي 20 مليون فتحل لك 80 مليون)!
فقال: لا.. بل إنها فضيحة..
فقال له العالم: فقد حكمت على نفسك بنفسك!!.. إذ اللص يعلم أنه لص.. ولو كان ضميرك ووجدانك يرى أنه عمل سائغ صالح لما تخوفت من إعلان ذلك على صفحات الجرائد! ثم قام العالم بطرد ذلك المحتال!
أقول: من عجائب صنع الله تعالى أنَّه غرس في ضمير الإنسان معرفة الخير من الشر (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[15]، فأول من يكشف له أنَّ عمله مكرٌ واحتيالٌ وباطلٌ هو ضميرُه ووجدانُه.
بل إنّ من جمال صنع الله تعالى أن جعل جمال الخصالِ الحميدة في عالم الثبوت يسري إلى عالم الإثبات، وبالعكس: قُبْحُ الخصالِ السيئةِ يسري إلى عالم الإثبات.
ولذلك نجد أنَّ الإنسان، عندما يسمع كلمات مثل: الصدق، الوفاء، الصفاء، حسن الخلق، إصلاح ذات البين، العدل، والإحسان، يشعر فورًا نحوها بالانجذاب، ويستشعر حُسنها وروعتها من مجرد سماع ألفاظها، بدون إقامة دليل أو برهان!.
وذلك على العكس من ألفاظ: الظلم، الكذب، المكر، الخديعة، النميمة... تماماً.
وبذلك يكون الله تعالى قد أتمَّ الحجةَ على عباده عبر طُرقٍ عديدة، منها: طريق الضمير والوجدان، الذي يكشف له حتى في عالم الألفاظ عن الحَسَن منها والقبيح.
أموال الدولة ومجهول المالك في المنظار الفقهي
وهنا لا بُدَّ أن نُسلِّط الأضواء على معادلة ثروات الدولة، وهل إنّها من مجهول المالك؟ وهل حُكمها هو ما يذكره بعضُهم من أنَّ لكلِّ شخصٍ (ذي نُفوذ) أن يستحوذ على ما شاء منها، ثم يستأذن الفقيه، ويدفع له الخُمس، فيَحِلُّ له الباقي؟
والجواب على ذلك: كَلَّا، ثم كَلَّا... فإنّه من الناحية الفقهيّة:
أوّلًا وثانيًا: إمّا أن نقول بأنّ الدولة، أي الحكومة، مالكة للثروات التي تقع بيدها أو تحوزها، كآبار النفط قبل الاستخراج منها أو بعده، أو لا؟
فإن قلنا بأنّ الدولة مالكة، سواء أكانت حكومة مدنية أم إسلامية، فأموالها معلومة المالك، وليست مجهولة المالك، فكيف يستحوذ أحدهم عليها خفيةً، وبمكرٍ، وتلاعبٍ؟
وإن قلنا بأنّ الدولة ليست بمالكة مطلقاً، أو لكونها حكومة غير شرعية، فليست تلك الثروات — آبار نفط وغيرها من الثروات الطبيعية كالغابات مثلًا — مملوكةً لأحد، فالأمر من باب السالبة بانتفاء الموضوع، أي ليست مملوكةً أصلًا كي يُقال: إنها معلومة المالك أو مجهولة المالك، نعم، الأنفال لها حُكمٌ خاص، وهو (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)[16]، واُختُلِفَ في أنّ الأمر فيها هل يعود إلى الفقيه في زمن الغيبة أم لا؟ لكنّها — على أيّة حال — ليست مملوكة لا للدولة، ولا للفقيه.
فذلك إذا لم تَحُز الحكومة شيئًا منها، فهي باقيةٌ على الإباحة الأصليّة.
وأمّا إذا حازَت، فإنّ حيازتها كالعَدَم، إذِ الفرض أنّ الحكومة ليست بمالكة، فحيازتها لا تُوجِد لها، ولا لغيرها، مِلكيّة؛ إذ غيرها لم يَحُز، وحيازتها كالعَدَم.
ثالثًا: سلَّمنا أنّ أموال الدولة غير مملوكة لها، ولا لها حقّ الاختصاص، لكنها ليست من دائرة عنوان مجهول المالك الوارد في الروايات، وذلك لأنّ جميع روايات مجهول المالك وهي حوالي ست روايات إنّما تتحدّث عن الأملاك الشخصيّة، ولا تتحدّث أبدًا عن (المال العام) والثروات العامة، (لاحظ بعض الروايات في آخر هذا البحث).
فتعدية العنوان (مجهول المالك)، ثم حكمه من فقه الأحوال الشخصية إلى فقه الدولة أو فقه المجتمع، يُعدّ من أردأ أنواع القياس.
رابعًا: سلَّمنا أنّها مجهول المالك، لكنّ مجهول المالك المرجع فيه هو الفقيه الذي تُقَلِّدُه أَكثريّةُ الشعب، بل هو الذي ترتضيه مرجعًا للشؤون العامّة، وليس مرجعًا للتقليد فقط في الأحوال الشخصيّة، فالمرجع والحَكَم فيها هو هذا الفقيه وليس كلّ مُجتهد، وإلّا للزم الهَرْج والمَرْج، واختلال النظام، بل أدلة الولاية لا تشمل كلّ مجتهد حتى في مرحلة المقتضي، وقد فصّلنا الكلام في ذلك في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية).
خامسًا: سَلَّمْنَا أنّ كلَّ فقيهٍ جامعٍ للشروط، له الحقّ في التصرّف أو الإذن في التصرّف في أموال الدولة، ولكن نقول: لا يَحِقُّ للفقيه التصرّف، أو الإذن في التصرّف، إلّا فيما هو في الصالح العام.
فلا يجوز لمن استحوذ على شيءٍ منها، حتى وإن دفع خُمُسه، أو تَصَدَّق ببعضه، أن يتّخذه مِلْكًا شخصيًّا، ويَبني به القصور، والفنادق، والأسواق، وغيرها من أنواع الاستثمارات، ويفعل بها كما يَحلُو له؛ بل عليه أن يصرِفَها في بناء الجُسور، والشوارع، والأنفاق، وشقّ الأنهار ونحوها، وبناء دورٍ للفقراء، والأيتام، ونحوها، وبشفافيةٍ تامّة.
سادسًا: وبناءً على مرجعية المجتهد فلا بُدَّ أن يُحرِز كونه أهل خبرة اقتصادية وإدارية واجتماعية و...، كي يحق له أن يتصرّف في هذه الأموال أو يأذن في التصرّف فيها وإنفاقها في هذا الجانب أو ذاك الحقل.
بل ولا بُدَّ أن تحيط به لجنة من الخبراء المعروفين بالنزاهة والحيادية، فلا يتخذ القرار، قرار كيفية الصرف موارده، إلا بعد موافقة أكثريتهم.
وقد فصّلنا الكلام عن ذلك وأدلته في كتاب (قولوا للناس حسناً ولا تسبوا) وكتاب (دروس فقهية في المبادئ القرآنية) وغيرهما.
سابعًا: وإذا كان المرجع هو روايات مجهول المالك، فإنّها حدّدت بوضوح أن حكمها هو التصدّق بها جميعًا على الفقراء والأيتام وما أشبه ذلك، وليس أن يدفع خُمسه أو نصفه ثم يتملّك الباقي!!.
ثامناً: بل إن أموال الدولة، حتى لو فرض كونها مجهول المالك، وتجاوزنا الإشكاليات السابقة كلها، فإنها تعدّ (أمانة) بيد المسؤول ونحوه، ولا يجوز التصرّف في الأمانة إلا برضا أصحابها، وهم الأمة وعامة الناس.
تاسعاً: ويبقى أننا لو تجاوزنا ذلك كله فرضًا، فنقول: لا شكّ في أن تصرّف ذوي النفوذ في أموال بيت المال بدعوى كونها من مجهول المالك، وأن استحصلوا بزعمهم على إذن مجتهد ما، لا شكّ أنّه من (منافيات المروّة)، والشاهد على ذلك أنّه يخشى من تسرب الخبر إلى الإعلام!!
ومنافيات المروّة تعدّ رذائل الأخلاق أولًا، ثم إنّ العديد من الفقهاء اعتبر من يرتكبها ساقطًا عن العدالة.
وتفصيل النقاط التسعة والأخذ والرد فيها موكول إلى البحوث التخصصية ولعلنا نوفق له لاحقاً بإذن الله تعالى.
من روايات مجهول المالك
وهذا نموذج من الروايات:
عن حفص بن غياث، قال: (سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنَ اللُّصُوصِ دَرَاهِمَ أَوْ مَتَاعًا، وَاللِّصُّ مُسْلِمٌ، هَلْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ؟
فَقَالَ: لَا يَرُدُّهُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَعَلَ، وَإِلَّا كَانَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ يُصِيبُهَا، فَيُعَرِّفُهَا حَوْلًا، فَإِنْ أَصَابَ صَاحِبَهَا رَدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، خَيَّرَهُ بَيْنَ الأَجْرِ وَالْغُرْمِ، فَإِنِ اخْتَارَ الأَجْرَ فَلَهُ الأَجْرُ، وَإِنِ اخْتَارَ الْغُرْمَ غَرِمَ لَهُ، وَكَانَ الأَجْرُ لَهُ)[17].
يونس، عن نصر بن حبيب صاحب الخان، قال: (كَتَبْتُ إِلَى عَبْدٍ صَالِحٍ (عليه السلام): قَدْ وَقَعَتْ عِنْدِي مِائَتَا دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَأَنَا صَاحِبُ فُنْدُقٍ، وَمَاتَ صَاحِبُهَا وَلَمْ أَعْرِفْ لَهُ وَرَثَةً، فَرَأْيُكَ فِي إِعْلَامِي حَالَهَا، وَمَا أَصْنَعُ بِهَا، فَقَدْ ضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا.
فَكَتَبَ: اعْمَلْ فِيهَا وَأَخْرِجْهَا صَدَقَةً، قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى تَخْرُجَ)[18].
وجاء في رواية: (سُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام)، وَأَنَا حَاضِرٌ، فَقَالَ:
جُعِلْتُ فِدَاكَ، تَأْذَنُ لِي فِي السُّؤَالِ، فَإِنَّ لِيَ مَسَائِلَ؟
قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ.
قَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، رَفِيقٌ كَانَ لَنَا بِمَكَّةَ، فَرَحَلَ عَنْهَا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَرَحَلْنَا إِلَى مَنَازِلِنَا، فَلَمَّا أَنْ صِرْنَا فِي الطَّرِيقِ أَصَبْنَا بَعْضَ مَتَاعِهِ مَعَنَا، فَأَيَّ شَيْءٍ نَصْنَعُ بِهِ؟
قَالَ: تَحْمِلُونَهُ حَتَّى تَحْمِلُوهُ إِلَى الْكُوفَةِ؟
قَالَ: لَسْنَا نَعْرِفُهُ، وَلَا نَعْرِفُ بَلَدَهُ، وَلَا نَعْرِفُ كَيْفَ نَصْنَعُ؟
قَالَ: إِذَا كَانَ كَذَا، فَبِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ.
قَالَ لَهُ: عَلَى مَنْ، جُعِلْتُ فِدَاكَ؟
قَالَ: عَلَى أَهْلِ الْوِلَايَةِ)[19].
وموردها المالك المعلوم إذا تعذّر الوصول إليه.
وعن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام): (فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، فَفَقَدَهُ، وَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَطْلُبُهُ، وَلَا يَدْرِي أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ، وَلَا يَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا، وَلَا نَسَبًا، وَلَا بَلَدًا؟
قَالَ: اطْلُبْ.
قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ قَدْ طَالَ، فَأَتَصَدَّقُ بِهِ؟
قَالَ: اطْلُبْهُ)[20].
وعن علي الصائغ، قال: (سَأَلْتُهُ عَنْ تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ، وَأَنَّا نَبِيعُهُ؟
قَالَ: أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْتَحِلَّهُ مِنْ صَاحِبِهِ؟
قَالَ: قُلْتُ: لَا، إِذَا أَخْبَرْتُهُ اتَّهَمَنِي.
قَالَ: بِعْهُ.
قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ نَبِيعُهُ؟
قَالَ: بِطَعَامٍ.
قُلْتُ: فَأَيَّ شَيْءٍ أَصْنَعُ بِهِ؟
قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ، إِمَّا لَكَ، وَإِمَّا لِأَهْلِهِ.
قُلْتُ: إِنْ كَانَ ذَا قَرَابَةٍ مُحْتَاجًا فَأَصِلُهُ؟
قَالَ: نَعَمْ)[21]، وتفصيل فقه هذه الروايات موكول إلى المفصلات.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين