المطلوب فهم القرآن بشكل جديد!
آية الله السيد محمد رضا الشيرازي
2024-03-28 07:36
هل استنفد القرآن أغراضه؟ هكذا يتساءل الكثير من الشباب، ويضيفون: لقد قام القرآن بدور كبير قبل أربعة عشر قرناً من الزمن، فهل يستطيع أن يقوم بدور تغييريّ في هذا العصر أيضاً؟ أم أنه قد تغيّر، وانتهى مفعوله؟
الحقيقة: إنّ القرآن لم يتغيّر، ولم يستنفد أغراضه، فالقرآن لا يزال الكتاب الإلهي الذي هبط لإنقاذ البشرية، وهو يستطيع أن يقوم بدور كبير في البناء الحضاري ـ في الوقت الراهن. ولكنّ الذي تغيّر هو المسلمون
إنّ طريقة تعامل الأُمّة مع القرآن، وكيفية تلقّيها لمفاهيمه ورؤاه، تختلف اليوم بشكل جذري عمّا كانت عليه بالأمس.
لقد كان المسلمون الأوّلون يفهمون القرآن كتاباً للحياة، ومنهجاً للتطبيق والتنفيذ. أمّا المسلمون اليوم فهم يتعاملون مع القرآن بشكل معاكس تماماً(1).
وهل يتحمّل القرآن ذنوب أتباعه؟.
والآن لنلاحظ كيف يفهم المسلمون اليوم: القرآن الكريم؟ وكيف يتعاملون معه؟
والجواب: لقد عانت أُمتّنا ـ منذ أمد بعيد ـ مشاكل كثيرة في تعاملها مع القرآن الكريم، ولا زالت رواسب تلك المشاكل موجودة حتى الآن، فلننظر ماذا كانت تلك المشاكل؟.
1- تحجيم التعامل
ويعني ذلك: أنَّ الأُمّة أخذت تحصر الاستفادة من القرآن في مجالات محدودة، فالبعض اتخذ القرآن طريقاً للكسب، وباباً للأرتزاق.
والبعض الآخر اعتبره وسيلة للعلاج فحسب، فإذا ضعف بصره، أو أوجعته أسنانه، أو آلمته أمعاؤه هرول إلى القرآن ليتلو آيات معينّة منه، حتى ترتفع بسببها هذه الأسقام. أمّا في غير هذه الحالة، فلا شأن له بالقرآن.
وهنالك مجموعات أُخرى لا تفتح القرآن إلاّ عند الاستخارة، أو حين السفر أو عندما يموت أحد الأقرباء، وليس أكثر من ذلك؟.
ومن الواضح: أنّنا لا ننتقد هنا الاستفادة من القرآن في هذه المجالات، وإنّما ننتقد تحديد الاستفادة منها ضمن هذه الإطارات.
إنّ القرآن كتاب حياة يقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
ولذلك فإنّه يجب الانتفاع من القرآن في كلّ مجالات الحياة وليس في مجال أو مجالين.
2- التلاوة السطحية للقرآن
إنّ أُمتّنا تقرأ القرآن وتستمع إلى تلاوته: ولكن كحروف بلا معنى، وكلمات بلا مفهوم. ومن هنا: فإنّها لا تعمل بالقرآن، كما هو المطلوب؛ لأنّها لا تفهم القرآن.. والفهم هو المقدّمة الطبيعية للعمل بالشيء.
بينما كان المسلمون الأوّلون لا يقرأون آية حتّى يتفكروا في أبعادها المختلفة، وحتّى يعوها بشكل كامل.
إنّ على من يقرأ القرآن أن يستثير عقله به، ويفقه ما وراءه من أبعاد كامنة، وإلاّ فسينطبق عليه حديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حين قال عن بعض الآيات: «ويل لمن لاكها بين لحييه ـ وهما عظمتا الفم ـ ثم لم يتدبّرها».
3- الاهتمامات الثانوية
ولأنّ أُمتّنا أهملت فهم (لباب) القرآن اندفعت في طريق البحث عن القشور.
فأخذوا يصرفون جهودهم على قضايا ثانوية كان الأحرى بهم أن يصرفوها في مجالات أكثر تأثيراً وفائدة.
فهذا أحدهم يقضي آماداً طويلة من عمره لكي يجيب على الأسئلة التالية:
كم هو عدد كلمات القرآن؟
وكم هي حروفه؟
وكم تكرّر حرف الألف فيه؟
وكم تكرّر حرف الباء؟
وكم تكرّر حرف التاء؟
وهكذا.. إلى آخر حروف الهجاء..
والله يعلم: كم من الجهود صُرفت في سبيل معرفة هذه القضية خصوصاً: وأنّها لم تتّم في العصر الحديث، حيث يسرّت العقول الالكترونية الأمر، بل تمّت في عصور ماضية.
ثم نجد أنّ كثيراً من الدراسات التي كتبت حول القرآن ـ لا تتناول إلاّ القضايا الهامشية.
فمثلاً في (123) كتاباً أُلّف حول القرآن الكريم، تجد أن (37) منها تتحدّث حول قضايا شكلية مثلاً:
ـ عدد آيات القرآن ـ الجمع والتثنية ـ طبقات القرّاء ـ نقط القرآن!. الرُّومي والمعرَّب في القرآن ـ الخ.(2).
وهذا يعني: أن حوالي ثلث الجهود والطاقات صرفت في قضايا جانبية.
ومثال آخر للاهتمامات الثانوية حين قراءة القرآن: الاهتمام بأشخاص القصص القرآنية، وبقضايا هامشية في حياتهم تنسي الفرد القضايا الهامّة والعبر التي هي الهدف من ذكر تلك القصص.
4- الفهم التجزيئي للقرآن
ويعني ذلك: فهم القرآن بشكل تفكيكي، ينفصل بعضه عن البعض الآخر. وبعبارة أُخرى: فهم كلّ آية قرآنية وكأنّها عالم مستقل قائم بذاته من دون ربطها بالآيات الأُخرى.
وقد يترتّب على ذلك نتائج خطيرة سوف نشرحها في الفصل الثاني ـ بإذن الله ـ.
5- الفهم المصلحي للقرآن
ويعني ذلك:
أ- فهم آيات القرآن بشكل يكرّس مصالح الفرد في الحياة، ويبرّر أهواءه وشهواته.
ب- الاقتصار على جانب معيّن من (قيم القرآن) وإهمال سائر الجوانب التي تتطلب من الإنسان العطاء والتضحية.
مثلاً: يفهم القرآن في جانبه الذي يتحدّث عن العبادة فحسب؛ لأنّ العبادة هي عادة درج عليها، ولا تكلفه كثيراً، ولكنّه لا يفهم القرآن في جوانبه السلوكية، والعملية، والجهادية؛ لأنّ ذلك يكلّفه مصالحه وأنانياته.
6- الفهم الميّت للقرآن
ويتم ذلك بفصل القرآن عن الواقع المعاش وربطه بقضايا ميتافيزيقية، أو قصص تاريخية لا تؤثّر في الواقع القائم شيئاً.
7- الفهم بديلاً عن العمل
إنّ القرآن الكريم (صراط) و(طريق)، وذلك يعني: أنّ على الفرد أن يعبر من خلال القرآن إلى العمل بالقرآن.
من هنا كانت الطلائع المسلمة في عصور الرسالة الأُولى تفهم القرآن طريقاً للعمل، ومنهاجاً للمسير.
ولكنّ أجيالنا الحاضرة تفهم القرآن هدفاً بذاته وليس وسيلة للعمل به.
وهكذا لم يبق من الإسلام إلاّ اسمه، ومن القرآن إلاّ رسمه ـ كما تنبأ بذلك الإمام علي (عليه السلام) من ذي قبل ـ.
هذه هي أهمّ المشاكل التي عانت منها الأُمّة في تعاملها مع القرآن، وهذه المشاكل هي التي سببّت سقوط أُمتّنا في الحضيض.
وعلينا الآن أن ننفض عن أنفسنا غبار الماضي، ونبدأ في تعامل جديد مع القرآن كما أراده الله سبحانه منّا؛ حتّى يغير الله ما بنا، ويأخذ بأيدينا إلى القمّة.
ونأمل أن يكون هذا الكتاب ـ الذي يتضمن تصورات أوليّة في كيفية فهم القرآن الكريم ـ خطوة إلى فهم القرآن بشكل آخر والتعامل معه بشكل جديد.