مواصفات المهاجر
رجاحة العقل، وفور العلم، قوة المنطق، السلوك القويم، حسن الادارة، قوة القلب
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2015-10-06 08:58
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
بين الإيمان والهجرة ومواصفات المهاجر النموذجي
يقول تعالى:
(وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[1]
لقد سبق بعض الحديث حول الهجرة، وبعض مايتعلق بالهجرة الجماعية التي بدأت في الفترة الاخيرة من عدد من بلداننا الاسلامية.
ووجهنا رسائل مهمة إلى كل من المهاجرين الذين يعيشون في المهجر، وللذين هم على وشك الهجرة، وللحكومات الاسلامية وللحكومات الغربية أيضاً، وأشرنا إلى بعض مسؤولياتهم الإنسانية والأخلاقية.
وسنتناول في هذه المحاضرة أبعاداً أخرى فيما يتعلق بهذا الموضوع الحيوي والمصيري لكثير من الشباب المسلم. مسترشدين ببصائر عديدة على ضوء الآية الكريمة:
1) البصيرة الأولى: الإيمان له الموضوعية والهجرة طريقية
يقول تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذه الصفات الثلاثة في هذه الآية الشريفة سيقت ـ ان صح التعبير ـ بعصى واحدة، أي ان ظاهرها انها على وِزان واحد إذ تقول الآية: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فالظاهر بدواً أن هذه الصفات لَهي على قدم المساواة، وانها بنحو واحد.
إلا أن التدبر في سائر الآيات الشريفة، وكذا ملاحظة موادّ المفردات الثلاثة بنفسها أي مادة (الايمان ) ومادة ( الهجرة ) ومادة (الجهاد) تكشف لنا ان هذه الصفات الثلاثة ليست متساوية ولا هي بنحو واحد، بل ان الايمان مطلوب لذاته، اما الهجرة فهي مطلوبة لغيرها؛ لأن الايمان له الموضوعية والقيمة الذاتية، اما الهجرة فلا قيمة ذاتية لها، بل ان قيمتها تتحدد بمؤداها ونتائجها والأهداف المتوخاة منها، فقد تكون شرا محضا، وقد تكون خيرا محضا، وقد تكون مزيج خير وشر فقد يغلب الخيرُ الشرَ او بالعكس حسب المقتضيات والظروف ومعادلة اختيارية الإنسان.
الاحتمالات والصور الخمس للهجرة:
فالصور خمسة:
1) الخير المحض (وهي الهجرة المدروسة الهادفة، الحيوية الفاعلة الملتزمة المنتجة).
2) الشر المحض (وهي الهجرة الانبطاحية العبثية المصلحية اللامنضبطة وغير الهادفة).
3) ما خيره غالب.
4) ما شرّه غالب.
5) المتساوي الشرِّية والخيرِّية.
والحاصل: ان الفرق المذكور فرق جوهري بين الصفة الأولى ( الإيمان ) حيث انه مقصود بنفسه، وبين الصفة الثانية (الهجرة) وينتج من ذلك انه اذا وقعت الهجرة في طريق الايمان وتكريسه وتثبيته والدفاع عنه وعن القيم العليا فهي ذات قيمة سامية وهي خير محض ان خلصت من الشوائب، وإذا ما وقعت في طريق الشر وكانت سبباً لنسيان القيم والوطن والمثل العليا فهي شر محض.
القِيمَ أو الهجرة؟
ولكن المشكلة حقاً هي ان الناس في كثير من الأمور والقضايا الهامة، ومنها الهجرة، يعكسون المعادلة ـ وهنا بيت القصيد ـ إذ تجد انهم عندما يدور الأمر بين الايمان من جهة وبين المال او السلطة او الهجرة او غير ذلك من جهة أخرى فانهم عملياً يبنون على الموضوعية لهذه الامور ويضحّون – بشكل أو بآخر وبنحو خفي أو جلي - بالإيمان والتقوى فيسحقون القيم ويتخلون عن المُثل والورع والتقوى لا لشيء إلا لأجل التشبث بالكرسي والرياسة او المال والمادة أو التحلل، وكذلك السعادة المتوهمة عبر الهجرة غير الحكيمة وغير ذلك.
وحيث ان كل واحد منا في معرض أشد الامتحانات في هذا الحقل فلا بد من أمرين:
أ- واعظ من نفسه ب - رقابة دائمة ومستمرة من قبل عائلته وأصدقائه وعشيرته ومؤسسات المجتمع المدني عليه.
الإيمان أو السلطة؟
وعلى الإنسان ان يدرك ان السلطة او المال ما هما الا طريق وجسر واداة، بينما الايمان هو المحور والاساس والجوهر فلا ينبغي ان تُفوِّت السلطة او المال ايماننا وكرامتنا وسر وجودنا وما لأجله خُلقنا.
قال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)[2] والمراد – إطلاقاً أو ملاكا -: إستغنى بالمال او بالسلطة او غير ذلك.
وفي أعاظم علمائنا العبرة الكبرى فمثلاً: كان من مميزات الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين انه لم ينبهر ببهرجة السلطة، فقد اقترح عليه أعيان العشائر العراقية ان يرشح ابنه لمنصب ملك العراق وكان ذلك أمراً متيسراً له جدا خصوصا وان بريطانيا قد اندحرت والشعب كله معه وهم الذين طالبوه بذلك الا انه رفض ذلك! وما ذلك إلا انطلاقاً من المعادلة التي أشرنا اليها.
النزاهة أو الجامعة؟
كذلك الجامعة فقد تفقد معها الشابة أو الشاب طهارته ونزاهته وإيمانه اذا لم يدرك معادلة موضوعية الايمان وطريقية الجامعة ومقدميتها، وقد التقيت بأحد الطلبة المتفوقين الذين تركوا الجامعة في منتصف الطريق بعد ان خشي ان يفقد ايمانه!!
ومن الواضح ان الجامعة طريق لتكريس القيم والمثل والنهوض بالأمة فلو صارت هي السبب في الانحلال الخلقي أو الاستئثار أو الظلم فيجب التحول عنها إلى غيرها.
والحاصل: انه ليس لها الموضوعية بحد ذاتها فلا ينبغي ان تضيع من اجلها حياة الانسان الاخروية بل وسعادته الدنيوية المتجسدة في معاني الإنسانية والمثل العليا.
ومن الواضح ان طريق التطور العلمي والعملي ليس الجامعة فقط فقد ترك العديد من كبار العلماء والخبراء والمنتجين الجامعة – أو لم يدخلوها أصلاً – ومع ذلك أصبحوا القمة بل قمة القمة.[3]
وكذلك الشهرة أيضاً فاذا تعارض الايمان ولو بكذبة واحدة مع الشهرة، فسيكون السقوط حليف من يرجِّح على الايمان حبَّه للشهرة والمدح وان علّل فقده لإيمانه بألف عذر وعذر.
الورع أو الانجاز؟
والانجاز ايضا كذلك فقد يؤسس المؤمن جمعية او مركزا خيريا مع مجموعة من المؤمنين ثم يبدأ النزاع والشجار وتنفتح أبواب الغيبة والتهمة والعياذ بالله وينسون الهدف الاساسي الذي من اجله تأسس هذا العمل الخيري.. فتصبح هذه المؤسسة او ذلك المركز الخيري محرقة للإيمان!!
فلماذا يتشبث الانسان، بعد ذلك، بهذه المؤسسة حتى وان كان بناها بعرق الجبين!! لماذا يتشبث بها وقد اصبحت محرقة لإيمانه وتقواه وأفقدته توازنه؟ فاذا به يدخل في دورة غير حميدة من الشتائم والسباب والاغتياب وغير ذلك، وقد يصل به الامر للتحاكم الى الطاغوت في سبيل النيل من اخيه المؤمن لمجرد حصول شجار جانبي معه.
ان الانسحاب من هذه المؤسسة إذا كانت الحال هذه، لهو اولى من كل ذلك.. بل على الإنسان ان ينتقل إلى نشاط اخر وثالث او رابع او خامس، ويترك ذلك العمل الذي يسبب له خسارة ايمانه وعدالته.
ان المشكلة هي ان الإنسان يتحول شيئا فشيئا الى الاهتمام أكثر فأكثر بالأمور التي ينبغي ان تقع في طريق الهدف الذي ينشده ثم سرعان ما تكون لها كل الموضوعية لديه!
والآية الشريفة تتضمن دقائق رائعة إذ تقول: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) حيث ابتدأت بالإيمان ثم الهجرة والجهاد فالإيمان هو الذي له الموضوعية أولاً وبالذات وهو قيمة القيم.
ضحَّى بكل مؤسساته ليقول كلمة الحق في وجه الحاكم الجائر!
وفي القصة التالية عبرة وأية عبرة: احد كبار العلماء اسس مؤسسات كثيرة وبذل جهودا هائلة في بعض البلاد، الا انه أحس ان الوظيفة الشرعية التي يجدر ان يقوم بها مثله هي ان ينهى الحكومة عن المنكر.. فما كان منه إلا ان وقف وقفة الأسد الهزبر في وجه الحكومة الظالمة التي تمتلك الجيش والمخابرات والقوات الخاصة... وعلى اثر ذلك صادرت الحكومة عدداً من مؤسساته التي بذل كل جهوده من اجلها، وكانت مؤسسات كبرى بين دينية وعلمية وانسانية، الا انه مع كل ذلك لم يتزحزح قيد شعرة.
ولقد كان البعض يلومه انه لماذا لا تترك الحكومة وشانها حتى لا يصادروا مؤسساتك الكبيرة والمهمة والتي بذلت جهودا جبارة من اجل بناءها وقيامها بالأعمال الخيرية الكبيرة.
لكنه كان يجيب بان هذه المؤسسات ليس لها الموضوعية بل المهم هو إحراز رضا الله تعالى واداء التكليف الواجب فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما ركنا الدين وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ((وَمَا أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِلَّا كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ وَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَلَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِر))[4].
وقد هددت الحكومة بعد ذلك بمصادرة كل المؤسسات التابعة له، وكان المقربون منه يضغطون عليه لان بعضهم كان يعتبر هذه المؤسسات تشكل كل وجودنا.
لكن هذا العالم الجليل لم يبالِ ولم يقلق... وقال لمن حوله: لو صادرت الدولة كل هذه المؤسسات في هذه الليلة فإنني لا انحني لهم ولا أتأثر ولا اقلق بالمرة؛ لأنني اصلا اسست هذه المؤسسات لخدمة الدين وامتثالا للواجب الالهي، فاذا اقتضى الواجب الالهي ان اضحي بكل هذه المؤسسات لأجل (كلمة حق عند سلطان جائر)[5] فليكن ما يكون، وكما قال إمامنا الحسين (صلوات الله عليه): ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ لَكَ، وَبِحَقِّ مَخْرَجِي عَنْ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَراً وَلَا بَطَراً وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَلَكِنْ خَرَجَتُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِكَ وَاجْتِنَابَ سَخَطِكَ، فَعَافِنِي بِعَافِيَتِكَ مِنَ النَّارِ))[6].
وعن لسانه: إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني[7]
وعوداً إلى (الهجرة) التي تسيطر حاليا على عقول الكثير من الشباب المتذمر من الاوضاع المكتنفة بالارباكات الداخلية والاجواء العالمية، نقول: ان على الانسان ان يذكّر نفسه ان الهجرة لا موضوعية لها بل ان الموضوعية للايمان فاذا كانت الهجرة بالاتجاه المعاكس للايمان فعلى الانسان ان يتوقف، فان التعرُّب بعد الهجرة حرام.
2) البصيرة الثانية: مقتضَيان متضادان للإيمان: الهجرة واللاهجرة!
إن الإيمان له مقتضَيان متضادان في بادئ النظر بالنسبة لمثل الهجرة فقد يكون مقتضى الإيمان ان تهاجر وقد يكون مقتضى الإيمان ان لا تهاجر:
فقد لا يستطيع الانسان ان يحافظ على إيمانه ودينه وقيمه وأخلاقياته في بلد المهجر أو لا يستطيع وقاية أسرته ومن يتعلق به من تلك الأخطار والاضرار فتحرم عليه الهجرة حينئذٍ.
بينما احيانا أخرى يجب عليه ان يهاجر وذلك اذا لم يستطع ان يحافظ على ايمانه وإيمان أسرته في بلده؛ لأنه قد ينجرف فيدخل في سلك الظلمة فيكون منهم او من اعوانهم لا سمح الله.
ان الكثير من الناس يسقطون في فخّ أحد هذين الامتحانين: فالكثير منهم ممن يحرم عليهم ان يهاجروا إلا انهم يهاجرون، والكثير منهم يجب ان يهاجروا الا انهم لا يهاجرون وطالما حث القران الكريم على الهجرة وحببها الى قلوب المؤمنين المضطهدين ومدح المهاجرين والمهاجرات وشد من ازرهم.
فالإيمان قد يدفع الإنسان الى الهجرة للحفاظ عليه، وقد يدفعه لعدم الهجرة للتمسك به.
الخطيب الذي سحق نفسه وأفسد خطبته!
في بعض البلدان هناك عادة حسينية رائعة يلتزم بها الكثيرون في شهر محرم الحرام وهي ان الكثير من البيوتات او الديوانيات والحسينيات تُعقد فيها خمس الى ست مجالس متتالية يوميا فيبدأ المجلس في الساعة السابعة مثلاً ويرتقي المنبر كل نصف ساعة أو خمسة وأربعين دقيقة خطيب ويستمر المجلس للساعة الثانية عشرة مثلاً، والناس يحضرون ويشاركون كلُّ حسب وقته واستعداه.
احد الخطباء المشاهير كان دوره يأتي ثانيا بعد خطيب مغمور نوعا ما، وفي احدى الأيام لما ارتقى المنبر اخذ بمجامع القلوب وابدع في مجلسه وكان الجمهور مشدوداً إليه ومنجذباً نحوه بشكل نادر، الا انه فجأة بدأ ينخفض أداؤه شيئا فشيئا وبدأ بالتلكؤ حتى وصل الى ادنى مستوياته واخذ يتمتم بكلمات غير مفهومه.
استغرب الجمهور الحاضر بشدة من ذلك وتخوفوا من انه تعرض لحادثة ما.. وسرعان ما ان انهى محاضرته في غير ميعادها ونزل من على المنبر..
فسألوه عن حاله وعن سبب تغيره فلم يفصح لهم عن السبب.
فالحوا عليه فقال لهم: في الواقع عندما كنت في ذروة الخطبة وشاهدت انشداد الناس اليّ، خطر في بالي فجأة خاطر شيطاني: وهو أني أفضل بكثير من الخطيب السابق: أين أنا وأين هو؟!
ولما خطر هذا الخاطر ببالي عرفت ان هذا المنبر لم يعد لوجه الله تعالى وانما تحوّل وتغيّر إلى دائرة العجب والانا وحب الذات والالتذاذ من التسلط على قلوب الناس ونيل اعجابهم!!
فقلت في نفسي: لابد من كسر هذه الانانية ولا بد من سحق هذه النفس الدنيئة، فحولت المجلس الى ما ترون وبدأت بالتمتمة وخفضت مستوى الأداء إلى الصفر كي لا تجمح نفسي بعد ذلك فتخسرني الأجر والثواب!.
ومن الواضح ان ذلك يشكل مستوى عالياً من التربية للنفس وكبحاً لجماحها وغرورها وطغيانها.
كذلك يُنقل عن أحد العلماء (ولعله الشيخ عباس القمي (رحمه الله)) انه دعي الى صلاة الجماعة ذات مرة ولما وصل الى مكان اقامة الصلاة رأى الشوارع ممتلئة وهي تعج بالمصلين، لكنه فجأة قرر العودة ورفض ان يكون اماما لهذا الجمع الغفير فالحوا عليه فلم يقبل ورفض ان يذكر السبب، ولما الح عليه بعضهم بعد ذلك قال: خطر في بالي اني وصلت إلى مقام رفيع ومكانة سامية فعرفت عند خطور هذا الخاطر ان هذه الصلاة سوف لا تكون لله تعالى.
اذن الايمان قد يقتضي ان يندفع الإنسان باتجاه تحصيل المال كي يستخدمه في طريق خدمة الدين والناس وهكذا الشهرة والسلطة وتأسيس المؤسسات وغير ذلك وقد يقتضي الهروب من الشهرة والسلطة والرياسة وأشباه ذلك.
فعلى الانسان ان يراجع نفسه باستمرار ويراقبها بدقة وعليه ان يستعين بالله تعالى وان يستشير الثقاة الناصحين ويطلب منهم النقد البنّاء ويضع على ضوء ذلك العلاج المناسب.
مواصفات المهاجرين
حيث ان الملايين من الناس في أطراف وأكناف العالم هاجروا إلى بلاد أخرى أو حتى إلى مناطق أخرى داخلية في بلادهم او تراهم في طريقهم الى الهجرة خصوصا بعد تردي الاوضاع السياسية في العالم العربي مؤخرا كما يحدث في سوريا والعراق وليبيا واليمن والبحرين وغيرها، لذلك كان لا بد من الحديث عن مواصفات المهاجر وكيف ينبغي ان يكون المهاجر كي يكون مثالياً يمكنه ان يخدم وطنه وامته ودينه عبر هجرته:
المواصفات السبعة:
ان مواصفات المهاجر التي عليه ان يتحلى بها إضافة إلى قوة الإيمان هي:
1) رجاحة العقل.
2) وفور العلم.
3) قوة المنطق.
4) رباطة الجنان.
5) حسن الادارة.
6) السلوك القويم.
هذه الصفات الست اذا اجتمعت في المهاجر كان مؤمنا حقا واستحق من الله الرزق الكريم الذي وعد به جل اسمه في الآية الكريمة وكان سعيدا في الدنيا ومفلحا في الاخرة.
(جعفر الطيار) الاسوة العليا للمهاجرين
وعلى المهاجرين كافة ان يتخذوا من جعفر بن ابي طالب رضوان الله تعالى عليه – وهو الأخ الأكبر للإمام علي (عليه السلام) - الأسوة والقدوة ومثلاً أعلى حيث كان قمة القمة من حيث الصفات المثالية للمهاجر بل كان اكثر من عظيم حيث ان الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) قال له: لقد اشبهت خلقي وخلقي!! واذا ضممنا الى ذلك قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فتكون النتيجة ان جعفرا كان ذا خلق عظيم حسب المقاييس الالهية والربانية السامية!.
كما انه كان يوصف بـ(أبو المساكين) وكان ممن هاجر الهجرتين وبايع البيعتين وصلى إلى القبلتين ولم يكفر بالله تعالى طرفة عين، وقد توج حياته بالشهادة في معركة مؤته عام (8هــ) وببدنه خمسون جراحه[8]، وكانت خمسة وعشرون منها في وجهه المبارك.
والباحث المتتبع لحياة جعفر بن أبي طالب سرعان ما يكتشف انه كان مثاليا وهو في الوطن كما كان مثاليا وهو مهاجر يعيش في خارج البلاد.
وفي رواية: ان الله تعالى شكر لجعفر أربع خصال: ((ومن مكارم أخلاقه التي شكرها الله له وأوحى ذلك إلى نبيه كما في رواية الصّدوق عن الباقر عليه السلام: ما شرب خمراً قط، وما كذب قط، وما زنى قط، وما عبد صنماً قط. جد ج22/272، وكمبا ج6/737))[9].
تصوّرا: انه لم يكذب قط أي حتى كذبة عادية وهذا مقام عظيم من انسان لم يكن نبيا او وصياً.
ولقد اتصف جعفر الطيار بوفور العلم وقوة المنطق والحجة وبرباطة الجأش أيضاً وهذا ما نبغي ان يتصف به المهاجر المسلم حتى اذا ما ذهب الى بلاد الغرب والتقى بمسيحي او يهودي او ببوذي او بملحد ـ وما اكثرهم ـ والقوا عليه الشبهات لم يتضعضع ولم يتزلزل بل كان قوي الحجة والبرهان وواجههم بما واجه به جعفر الطيار ملك الحبشة وغيره حتى فرض نفسه وايمانه على قادة تلك البلاد بل انه بذر بذرة الاسلام والتي نمت وازدهرت حتى تحولت الحبشة (اثيوبيا) الى الاسلام في فترة قياسية.
وقد كان جعفر الطيار مثالاً لكل ذلك وبلغ من مقامه بحيث انه كان الجناح الاخر الموازي ـ ان صح هذا التعبير ـ للحركة التي قادها المسلمون في الداخل (مكة والمدينة).
فقد أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) نيفا وثمانين مسلما كمهاجرين الى بلاد الحبشة بقيادة جعفر الطيار فصاروا بفضل جعفر الدرع الواقية للإسلام حتى ان الملك النجاشي دخل بنفسه في دين الاسلام الامر الذي القى بكل ظله على معادلة الإسلام – الكفر وشكّل حماية للمسلمين وكان فتحا عظيما أذهل المشركين حتى ان ملك الحبشة ارسل بالفعل الى الرسول (صلى الله عليه وآله) انه مستعد لنصرته (صلى الله عليه وآله) بجيش جرار ان أراد النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك، الا ان النبي (صلى الله عليه وآله) رفض لحكمة إلهية.
ولكم ان تتصوروا اقلية مضطهدة في بلد ما.. ثم تأتي دولة كبيرة تُعلن بكل قوة حمايتها لتلك الأقلية حتى عسكريا!!
لقد كان جعفر (عليه السلام) قائد هذه المسيرة بنجاح وظفر ندر نظيره في التاريخ وذلك يعود إلى تميزه برجاحة العقل والحكمة وقوة المنطق وثبات الجنان.
هذا كله اضافة الى انه عندما رجع الى المدينة استمر في الجهاد وكان قائدا محنكا فعيّنه الرسول (صلى الله عليه وآله) أحد القادة الثلاثة لجيش مؤتة وكان قائداً نموذجياً أدار المعركة بكل كفاءة الى ان قتل في معركة مؤته شهيدا محتسبا بعد ان قطعت يداه دفاعا عن راية الاسلام.
والرواية الآتية تكشف عن اهمية معركة مؤتة وأهمية جعفر لدى الرسول العظيم: ففي احدى الأيام ومعركة مؤتة دائرة على بُعد ألوف الكيلومترات ارتقى النبي (صلى الله عليه وآله) المنبر بعد صلاة الصبح واخذ يشرح تفاصيل المعركة ذلك اليوم ساعة بساعة ولحظة بلحظة، وكان مما قاله للصحابة:
قال جابر: فلمّا كان اليوم الذي وقع فيه حربهم، صلى النبي (صلى الله عليه وآله) بنا الفجر ثم صعد المنبر فقال: قد التقى اخوانكم مع المشركين للمحاربة، فأقبل يحدّثنا بكرّات بعضهم على بعض، إلى أن قال: قُتل زيد بن حارثة وسقطت الراية، ثم قال: قد أخذها جعفر بن أبي طالب وتقدّم للحرب بها، ثم قال: قد قطعت يده وقد أخذ الراية بيده الأخرى، ثم قال: قطعت يده الأخرى قد قطعت يده وقد أخذ الراية في صدره، ثم قال: قتل جعفر بن أبي طالب وسقطت الراية ثم أخذها عبد الله بن رواحة وقد قتل من المشركين كذا وقتل من المسلمين كذا فلان وفلان، إلى ان ذكر جميع من قتل من المسلمين بأسمائهم، ثم قال: قتل عبد الله بن رواحة)[10].
التخطيط للهجرة والمهاجرين
وعلينا ان نجعل من جعفر قدوة واسوة للشباب المهاجر في كل مكان، ولا يمكن ان يتم ذلك إلا بتخطيط شامل وعمل دؤوب ومن ذلك انه ينبغي ان تكتب عن حياته ومواقفه ومواصفاته المئات من الدراسات والألوف من المقالات، كما ان المنابر يجب ان تلهج بذكر جعفر وصفاته الرائعة وانموذجه القيادي في بلاد المهجر كي تتوضح للناس مواصفات المهاجر ومسؤولياته وأدواره وغير ذلك مما يختص بحقل الهجرة والمهاجرين.
والعامل الأكبر الذي يوحي بضرورة ذلك هو ان موجة الهجرة قوية جداً حالياً، والناس – غالباً - لا يعلمون ماذا يفعلون والى اين يتوجهون وماذا لهم وماذا عليهم، والمشكلة ان العاطفة وحالة الهيجان هي التي تتحكم في قرارات كثير من المهاجرين وتدفعهم الى اتخاذ قرارات قد تكون وبالا عليهم وعلى ايمانهم وإيمان أسرتهم.
ومن الواضح انه اذا لم تُصبّ هجرة المهاجرين في طريق البناء والتقدم والهداية للناس والحماية للمقدسات وللوطن وفي طريق تكريس دعائم الدين بشكل عام فسينعكس الامر وسوف تصبح الهجرة معولا لهدم الدين.
وحيث كان هذا الحدث بهذه الضخامة فعلينا ان نستجيب استجابةً تتناسب مع حجم القضية وان نقيم في أنحاء البلاد وفي بلاد المهجر عشرات الألوف من الدورات التثقيفية.
وفور العلم وقوة المنطق
ان كل شاب مسلم يطمح في الهجرة عليه ان يسأل نفسه انه هل يستطيع ان يواجه شبهات الملاحدة والعلمانيين؟ وهل يعرف وجوه الإشكال عليهم وعلى تخبطهم في بحور الضلالة فيكبتهم ويتغلب عليهم؟ وهل بمقدوره ان يقيم البراهين المتقنة على أصول الدين (من التوحيد إلى المعاد)؟ وعلى فروع الدين (من الصلاة إلى التبري) وعلى أهم الأحكام التي قد يُعترض عليها (من الطهارة إلى الديات)؟
وكل ذلك يمكن ان نوفره – ولو بشكل إجمالي – عبر عدة دورات لمدة شهر او شهرين أو ستة أشهر في مسائل العقيدة وقضايا الفكر والنظريات الاسلامية في السياسة والاقتصاد وغير ذلك.
فمثلاً: بماذا يجيب الشاب المسلم عندما يقال له ان القرد هو أصل الإنسان؟ خصوصا عندما يرفقونها ببعض التقارير الملفقة والصور المنمقة وبعض التحليلات النظرية التي تُصوّر للبسطاء على أنها علمية – موضوعية؟
إن على الجميع من حوزات علمية وجامعات أكاديمية ومراكز دراسات ومدارس ومعاهد ان يضطلعوا بمسؤولياتهم اتجاه هذا التحدي الكبير والخطير على مستقبل شبابنا الذي يتهددهم بضياع هويتهم الإسلامية الموالية لأهل البيت (عليهم السلام)، بل والذي يتهدد حتى هويتهم الإنسانية.
رجاحة العقل
ومن ذلك نعرف ان من الصفات التي ينبغي ان يتصف بها المهاجر هي رجاحة العقل والحكمة في كل تصرفاته وقراراته وعلاقاته مع الآخرين، وتتجلى رجاحة العقل في كل قراراته وأعماله: فمع من يعمل؟ ومع من يمشي ويصاحب؟ وفي أية جامعة يدرس؟ وينتخب أي عمل؟ وهكذا.
فمثلا اعرف شخصا فاضلا ومحترما في بلده، الا انه بعد ان هاجر توظف في فندق كعامل يغسل الصحون!! فهل هذا من الحكمة؟ كلا. واخر تحوّل إلى سائق تكسي وثالث إلى عمل اخر لا يليق بعلمه وسمعته.
ان رجاحة العقل تقتضي ان يبذل الانسان جهدا كافيا لمعرفة المداخل والمخارج والسبل والوسائل لينتخب له عملا لائقا يمكنه عبره من ان يقوم بخدمة للإنسانية ولبلده واهله ودينه وقيمه ومثله.
جعفر وحمزة هما الشاهدان للأنبياء يوم القيامة!
ولنختم باستعراض احدى أغرب الروايات التي تكشف عن عظمة مكانة جعفر الطيار وما سوف يحصل عليه من المقام النادر لدى رب الأرباب نتيجة مثاليته ونموذجيته في بلاد المهجر وفي الوطن أيضاً:
في الرواية (اذا كان يوم القيامة وجمع الله تبارك وتعالى الخلائق..)
من خلال هذه الرواية يظهر ان الله تعالى يبدأ بمحاكمة عامة تبدأ من الانبياء والظاهر منها – كما سيأتي - انها تبدأ من نوح النبي.. فيقول له تعالى: يا نوح هل بلغت؟
وهنا نسجل: على كل واحد منا ان يفكر مع نفسه دوماً – ونحن نستحضر إمكانية ان يحضرنا الله تعالى يوم القيامة ويسألنا نفس هذا السؤال - اني كرجل دين هل قمت بمسؤوليتي تماما؟ هل بلغت ما حُمِّلت؟ وهل استفرغت وسعي في هداية الناس وأوصلت إليهم علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه واصول وغير ذلك؟
فيقول نوح (عليه السلام): نعم يا رب... ومع ان نوح ع من أعظم الانبياء وهو من أولي العزم الا ان النداء يأتيه: من يشهد لك ؟ فيقول: يشهد لي محمد (صلى الله عليه وآله)!
ونص الرواية:
((محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن القاسم بن محمد، عن جميل بن صالح، عن يوسف بن أبي سعيد قال:
كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) ذات يوم فقال لي: إذا كان يوم القيامة وجمع الله تبارك وتعالى الخلائق كان نوح صلى الله عليه أول من يدعى به فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم فيقال له: من يشهد لك؟
فيقول: محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) قال: فيخرج نوح (عليه السلام) فيتخطى الناس حتى يجئ إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وهو على كثيب المسك [11] ومعه علي (عليه السلام) وهو قول الله عزوجل: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا)[12][13] فيقول نوح لمحمد (صلى الله عليه وآله): يا محمد إن الله تبارك وتعالى سألني هل بلغت؟ فقلت: نعم فقال: من يشهد لك؟ فقلت: محمد (صلى الله عليه وآله)
وهنا سوف نكتشف عظمة جعفر الطيار ومكانته السامية جداً وفي أي مقام هو رضوان الله تعالى عليه!
فيقول (صلى الله عليه وآله): يا جعفر ويا حمزة اذهبا واشهدا له أنه قد بلغ)). ويا له من مقام عظيم!
وانا احتمل في السبب لاختيار حمزة وجعفر إضافة الى مكانتهما السامية العالية: ان حمزة كان ليث الاسلام في الداخل وان جعفر كان ليث الاسلام في الخارج، فكان احدهما قائدا للمعركة التبليغية في الخارج وكان الثاني قائداً في خضم معركة الجهاد في الداخل.
واللافت ان نوح (عليه السلام) ايضا كانت له معركتان: داخلية وخارجية، قبل الطوفان وبعده.
((فقال أبوعبد الله (عليه السلام): فجعفر وحمزة هما الشاهدان للأنبياء بما بلغوا،
فقلت: جعلت فداك فعلي (عليه السلام) أين هو؟ فقال: هو أعظم منزلة من ذلك))[14]. وللحديث صلة
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين