التفسير العلمي للقرآن الكريم في الميزان
(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (20)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2023-05-13 05:55
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).
الآراء والمواقف من التفسير العلمي للقرآن الكريم
لقد إتّخذ العلماء والمثقفون، من مسلمين وغيرهم، من تفسير القرآن الكريم بمعطيات العلم الحديث، ومن الاستناد إلى الإعجاز العلمي للقرآن والاستشهاد به، مواقف متباينة:
الموافقون
أ- فهنالك الذين اعتمدوا هذا النوع من التفسير كمنهج عام بل وتوسعوا فيه توسعاً كبيراً، مثل الطبيب الفرنسي الشهير موريس بوكاي الذي استعرض في كتابه الشهير (التوارة، الأناجيل، والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث) الذي طبع بأكثر من سبع عشرة لغة، هذا المنهج بشكل موسع، وكذلك الدكتور زغلول النجار و...
المعارضون
ب- وهنالك المعارضون من القدماء والمعاصرين وعلى سبيل المثال: (أبو الريحان البيروني، الذي وضع القرآن في تصنيف خاص به وحده، وقال أنه «لا يتدخل في شأن العلم ولا يُخالطه»،(1) ومن الأسباب التي جعلت البيروني وغيره من علماء عصره، ومن تلاهم، يقولون بعدم وجود إعجاز علمي في القرآن، وجود عدّة تفسيرات علمية لظاهرة طبيعية وحيدة، فالعلم دائمًا ما يتغير والنظريات دائمًا ما تتبدل وتُدحض، فلا يمكن القول بصحة إحداها طيلة الزمن).(2)(3)و(4)
ومن المعاصرين شيخ الأزهر محمد شلتوت وغيره، بل ان بعض المعارضين وصل إلى درجة إدراج مباحث الإعجاز العلمي في القرآن، في قائمة ما أسماه بالعلوم الزائفة فقد (أعتبر العديد من الباحثين والعلماء أن الإعجاز العلمي ما هو الاّ إعجاز لغوي لا صلة له بالعلوم ويصنّف ضمن العلوم الزائفة. كما أدرج عدد من العلماء والمجلات العلمية المختصة الإعجاز العلمي في القرآن ضمن العلوم الزائفة)(5)(6) واعتبره بعضهم (منهجاً يخالف المنهجية العلمية.(7)(8) كما تعرضت حركة ربط الدين بالعلوم الحديثة التي يتبعها عدد من كتاب الإعجاز العلمي لإنتقادات واسعة من قبل علماء وباحثين غربيين معتبرين هذه المنهجية غير موضوعية وغير علمية)(9)(10)(11) وقال بعضهم: (المجتمع العلمي ينظر للمعجزات على أنها نوع من المغالطات والترويج الديني ولا تختلف كثيراً عن العلم الزائف. يقول فيتالي غينزبورغ في كتابه "About Science, Myself and Others":(12) «بالنسبة لي فإن الديانة (التي تعتقد بالمعجزات) والعلم الزائف (كالتنجيم) متشابهان.»).
ومن الواضح أن كثيراً من هؤلاء مأدلجون أو متحاملون أو مغرضون، ولكن قد يكون مما أسهم في تقوية موقع بعضهم، توسع بعض المفسرين والعلماء بدون رويّة ولا منهجية علمية ومن دون تثبت في إثبات هذه المفردة أو تلك كشاهد على إعجاز علمي، أحياناً حتى من دون التثبت من المسلّمات العلمية وأحياناً كثيرة مع تحميل آرائهم على نصوص الكتاب العزيز.
المفصّلون
ج- وفي مقابل ذلك هنالك آراء ذهبت إلى التفصيل، وهنالك خمسة مجموعات من الأقوال التفصيلية وهي: (1- التفصيل بين التطبيق وغيره، 2- التفصيل بين استخدام العلوم القطعيّة وغير القطعيّة، 3- التفصيل بين النسبة الاحتمالية والقطعيّة، 4- التفصيل بين تحميل النظريات على القرآن واستخدام العلوم في فهم القرآن، 5- التفصيل بين التفسير الإفراطي وغير الإفراطي)(13). انتهى باختصار.
والذي نراه هو التفصيل، ولكن بنحو أكثر تشدداً إذ اشترطنا فيما مضى شروطاً ثلاثة هي:
(الضابط الأول: أن تكون الآية الكريمة ظاهرة الدلالة عرفاً على تلك الحقيقة العلمية، ولو بالنحو التعليقي بمعنى ان تكون بحيث لو أُلفِتَ العرف إلى دلالتها لوجدها، بفطرته، ظاهرة الدلالة بالفعل)(14).
(الضابط الثاني: أن يكون التفسير العلمي قطعياً، بمعنى أن تكون الحقيقة العلمية قطعية، فانه حينئذٍ وإن لم يكن اللفظ القرآني ظاهر الدلالة عليه، يصح تفسير الآية به، بمعنى تطبيقها عليه، من باب التفسير بالمصداق)(15).
(الضابط الثالث: أن يجعل المفسِّر للقرآن الكريم بالتفسير العلمي، القرآن أمامه فيهتدي به لا العكس، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ)(16))(17)
ونضيف: انه لا بد من التفريق بين عناوين أربعة هي: الاحتمال، الاستظهار، الإعجاز، الاستغراب أو الاستصعاب، وبعبارة أخرى: يجب دراسة (النص) بدقة بالغة وانه هل يحتمل الدلالة على هذه الحقيقة العلمية؟ أو ان النص ظاهر فيها؟، أو دالّ عليها ولو باحدى الدلالات الخفية، شرط أن تكون من دائرة الدلالات الخفية المسلمة الحجية كدلالة الاقتضاء، دلالة الإيماء والتنبيه(18)، دلالة الإشارة(19) أو ما أشبه ذلك، أو مما يمكن الوصول إليه عبر دليل السبر والتقسيم أو ما إلى ذلك، أو لا هذا ولا ذاك بل هي مجرد أمر مستصعب ومستبعد أن يصدر من عالم أو مفكر أو داعية أو مدّع للنبوة، أو فوق ذلك كله: هي معجزة يعجز الغير عن الإتيان بمثلها.
تقييم الإعجاز العددي في القرآن الكريم
وسيظهر من الأمثلة الآتية المقصود من العناوين السابقة فقد ذهب قوم إلى الإعجاز العددي في القرآن ولا شك أن القرآن الكريم كله معجزة إلا أن الكلام في (وجه الإعجاز) و(الدليل عليه) وانه لا بد من الاستدلال بوجه تام، ثم بعد ذلك فإن الإعجاز أمر والتفسير أمر آخر فقد يكون شيء معجزاً لكنه لا يصح أن يفسر به شيء آخر وإن كان معجزاً بدوره أيضاً..
دلالة عدد البر والبحر في القرآن على أن نسبة البحر 71% والبر 29%
قال بعضهم: (وإذا أحصينا عدد لفظة "البر" 12+ 1 اليبس= 13 وأحصينا لفظة "البحر" 32 مرة فالمجموع 45؛ وتكون نسبة البر واليبس 29% ونسبة البحر 71% وهي مطابقة لنسبة اليابسة من سطح الأرض، ونسبة الغلاف المائي المحيط بها)(20).
أقول: لا ريب في ان كل كلمة في القرآن الكريم هي بميزان وحكمة بالغة ولا ريب أن ورود مفردة (اليبس) (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَريقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) (سورة طه: الآية 77) و(البر) اثنتي عشرة مرة، بحسابٍ، ولكن هل يصح أن نفسر القرآن بالتفسير السابق بأن نقول أن الله تعالى حيث جاء بالبر 12 مرة وباليبس مرة واحدة وبالبحر 32 مرة أراد، فيما أراد، الإشارة إلى نسبة اليابسة من الغلاف المائي المحيط بها؟
ان هذا النمط من التفسير والاستدلال لا بد أن يبتني في مرحلة سابقة على تفسير منهجي صحيح للقرآن الكريم ومفرداته وعلى كونها (أي تلك المفردات أو الجمل أو الآيات) ظاهرة الدلالة على ما ذكر لها من المعنى الذي بني عليه الوجه المستنبط الإعجازي.
المناقشة: يجب التحقيق عن معنى البحر أولاً و...
وعلى سبيل المثال فان الإعجاز المذكور مبني على تفسيرٍ خاص لمعنى (البحر) – الواردة 32 مرة وهو: أنّ البحر يعني الغلاف المائي كله بما يشمل الأنهار والجداول والأهوار والمستنقعات وذلك لأن الغلاف المائي كله هو الذي نسبته 71% من الأرض، وليس البحر بالمعنى العرفي المعهود لدى الناس وهو ما يقابل النهر والهور وما أشبه، أو ليس حتى البحر مع توسعته للأنهار الواسعة.
ويكفي أن نقرأ بعض ما ذكره اللغويون ونتوقف عند اختلافهم في تعريف البحر:
قال العاملي: (اختلفوا في سبب تسمية البحر والبحيرة، وجعله الجوهري "2/585" من السعة والعمق وجعل الخليل "3/219" اليَمَّ البحر الذي لا يدرك قعره ولا شطاه "8/431" وأخذ به الراغب... والعنصر المؤكد في أصل تسميته: الماء والسعة)(21)
وقال الراغب: (أصل البَحْر: كل مكان واسع جامع للماء الكثير، هذا هو الأصل، ثم اعتبر تارة سعته المعايَنة، فيقال: بَحَرْتُ كذا: أوسعته سعة البحر، تشبيهاً به، ومنه: بَحرْتُ البعير: شققت أذنه شقاً واسعاً... وسموا كلّ متوسّع في شيء بَحْراً، حتى قالوا: فرس بحر، باعتبار سعة جريه، وقال عليه الصلاة والسلام في فرس ركبه: (وجدته بحرا) وللمتوسع في علمه بحر، وقد تَبَحَّرَ أي: توسع في كذا، والتَبَحُّرُ في العلم: التوسع)(22).
ولكنّ التدبر والفحص الأكثر في اللغة يقودنا إلى إمكان أن يطلق البحر على النهر أيضاً إذ (ان العرب يسمون النهر بحراً) بل لقد أطلق الله تعالى البحر على النهر إذ يقول: ((وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) (سورة فاطر: الآية 12) (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) (سورة الرحمن: الآية 19) فعبر عن العذب بالبحر وهو قليل، وقال تعالى: (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (سورة الكهف: الآية 60) ومعناه حتى أبلغ ملتقى البحرين المالحين، أو العذبين، أو المالح والعذب)(23).
ولكن، من جهة أخرى: الاستعمال أعم من الحقيقة، بل ان استعمال البحر في النهر قليل إلا إذا كان واسعاً، وليست كل الأنهار بالواسعة.
نعم قد يقال ان تتبع موارد استعمال البحر في القرآن الكريم، يكشف لنا عن إرادة البحر بالمعنى الأعم الشامل للنهر، ولو بقرينة المقابلة في بعضها أو السياق أو مناسبات الحكم والموضوع، ولكن مع ذلك هل يراد به مطلق الغلاف المائي؟ وأيضاً: قد يؤكد الأعم ما ورد من: (البَحْرُ: الماءُ الكثيرُ، مِلْحاً كَانَ أَو عَذْباً، وَهُوَ خِلَافُ البَرِّ، سُمِّيَ بذلك لعُمقِهِ واتساعه، قد غَلَبَ عَلَى المِلْح حَتَّى قَلّ فِي العَذْبِ)(24) (وأَما غَيْرُهُ فَقَالَ: إِنما سُمِّيَ البَحْرُ بَحْراً لِسِعَتِهِ وَانْبِسَاطِهِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ إِن فُلَانًا لَبَحْرٌ أَي وَاسِعُ الْمَعْرُوفِ؛ قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ البحرُ للملْح والعَذْبِ؛ وشاهدُ الْعَذْبِ قولُ ابْنِ مُقْبِلٍ: [الطويل)(25) ولاحظ اختلاف الأقوال:
(بْنُ سِيدَهْ: وكلُّ نَهْرٍ عَظِيمٍ بَحْرٌ. الزَّجَّاجُ: وَكُلُّ نَهْرٍ لَا يَنْقَطِعُ ماؤُه، فَهُوَ بَحْرٌ. قَالَ الأَزهري: كُلُّ نَهْرٍ لَا يَنْقَطِعُ مَاؤُهُ مِثْلُ دِجْلَةَ والنِّيل وَمَا أَشبههما مِنَ الأَنهار الْعَذْبَةِ الْكِبَارِ، فَهُوَ بَحْرٌ. وأَما الْبَحْرُ الْكَبِيرُ الَّذِي هُوَ مَغِيضُ هَذِهِ الأَنهار فَلَا يَكُونُ ماؤُه إِلَّا مِلْحًا أُجاجاً، وَلَا يَكُونُ مَاؤُهُ إِلَّا رَاكِدًا؛ وأَما هَذِهِ الأَنهار الْعَذْبَةُ فماؤُها جَارٍ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الأَنهار بِحَارًا لأَنها مَشْقُوقَةٌ فِي الأَرض شَقًّا. وَيُسَمَّى الْفَرَسُ الْوَاسِعُ الجَرْي بَحْراً؛ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَنْدُوبٍ فَرَسِ أَبي طَلْحَةَ وَقَدْ رَكِبَهُ عُرْياً: إِني وَجَدْتُهُ بَحْراً أَي وَاسِعَ الجَرْي؛ قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِلْفَرَسِ الْجَوَادُ إِنه لَبَحْرٌ لَا يُنْكَش حُضْرُه. قَالَ الأَصمعي: يُقَالُ فَرَسٌ بَحْرٌ وفَيضٌ وسَكْبٌ وحَتٌّ إِذا كَانَ جَوَادًا كثيرَ العَدْوِ وَفِي الْحَدِيثِ: أَبَى ذَلِكَ البَحرُ ابنُ عَبَّاسٍ؛ سُمِّيَ بَحْرًا لِسِعَةِ عِلْمِهِ وَكَثْرَتِهِ. والتَّبَحُّرُ والاستِبْحَارُ: الِانْبِسَاطُ والسَّعة. وَسُمِّيَ البَحْرُ بَحْراً لاسْتبحاره، وَهُوَ انْبِسَاطُهُ وَسِعَتُهُ. وَيُقَالُ: إِنما سُمِّيَ البَحْر بَحْراً لأَنه شَقَّ فِي الأَرض شَقًّا وَجَعَلَ ذَلِكَ الشَّقَّ لِمَائِهِ قَرَارًا. والبَحْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الشَّقُّ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَحَفَرَ زَمْزَمَ ثُمَّ بَحَرَها بَحراً أَي شقَّها ووسَّعها حَتَّى لَا تُنْزَفَ؛ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّاقَةِ الَّتِي كَانُوا يَشُقُّونَ فِي أُذنها شَقًّا: بَحِيرَةٌ)(26).
وصفوة القول: انّ الاستدلال بالآية الكريمة متوقف على إثبات أن المراد من البحر في كل الآيات الـ32 هو الأعم من البحار بالمعنى المعهود والأنهار والأهوار ومستنقعات المياه، بل لو عمّها فانه لا يشمل الجداول والأنهار غير العريضة، وأما إذا كان المراد من البحر البحر المعهود أو كان بحسب اللغة محتملاً لها (أي للأعم والأخص) فانه لا تصح دعوى أن المقصود حتماً الغلاف المائي، ثم بيان نسبته إلى اليابسة..
بل نقول: إن ضمّ مفردة اليبس إلى البر لا من دراسة وَجهِهِ، فإن كان وجهه ان البر يابس وجب أن نضيف ألفاظ الأنهار الموجودة في القرآن الكريم وتعدادها إلى ألفاظ البحار المذكورة، فتختل النسبة المذكورة!
تنبيه: اننا لا ننكر أنه (يحتمل) أن يكون المراد كما قيل، إلا أن إثبات الإعجاز لا يمكن بمجرد محض الاحتمال بل لا بد من كون اللفظ نصاً أو ظاهراً على الأقل في تلك الحقيقة العلمية، ولو بدلالة الإيماء والتنبيه وشبهها، فنحن إذاً لا ننفي ولكن نقول: على المثبت إقامة الدليل الواضح، ورحم الله من أفادنا به.
أمثلة أخرى للمتطابقات القرآنية العددية
وهناك أمثلة أخرى أوضح في انها لو صحت باعتبارها معجزة فلا يصح الاستدلال بها على تفسير القرآن الكريم ببعضها، فعلى سبيل المثال ذكر بعضهم(27):
الكلمة |
العدد |
الكلمة |
العدد |
الـحَرّ |
4 |
البرد |
4 |
الملائكة |
88 |
الشياطين |
88 |
الجنة |
77 |
النار |
77 |
الشكر |
75 |
المصائب |
75 |
الزكاة |
32 |
البركة |
32 |
الحياة ومشتقاتها |
145 |
الموت ومشتقاته |
145 |
الضالون |
17 |
الموتى |
17 |
الدنيا |
115 |
الآخرة |
115 |
البعث |
45 |
الصراط |
45 |
اللسان |
25 |
الموعظة |
25 |
الرغبة |
8 |
الرهبة |
8 |
الصالحات |
180 |
السيئات |
180 |
النفع |
50 |
الفساد |
50 |
الذهب |
8 |
الترف |
8 |
الرجل |
24 |
المرأة (مفردة) |
24 |
الرسل |
368 |
الناس |
368 |
إبليس |
368 |
الناس |
368 |
الصبر |
102 |
الشدة |
102 |
الهدى |
79 |
الرحمة |
79 |
العقل ومشتقاته |
49 |
النور ومشتقاته |
49 |
المحبّة |
83 |
الطاعة |
83 |
المناقشة: نقول: فليكن عدد الملائكة 88 وعدد الشياطين 88 ولكن على ماذا يدل ذلك؟ هل يصح أن يستدل أحدهم بذلك على أن عدد الملائكة مساوٍ لعدد الشياطين؟ أو على أن قوة الطرفين متكافئة؟ إذا أريد ذلك فهو تفسير بالرأي دون ريب، أو هل يراد بتساوي عدد مفردات الجنة والنار هو كون سعتهما واحدة؟ أو كون سكانهما متساويين؟ لا ريب انه تفسير بالرأي... أو هل يعتبر ذلك (تساوي عدد مفردات الرجل والمرأة) تمهيداً للقول بان المراد من الآيات حيث ساوت في الأعداد هو: تساوي حقوق الرجل والمرأة؟ ذلك تفسير بالرأي... أو هل يقصد من تساوي أعداد مفردات المحبة والطاعة استنباط قاعدة كلية هي مثلاً: (كلما أحبَبته أطعتَه) وعكسها: (كلما اطعته أحببته)؟ ذلك تفسير بالرأي إذ ما أكثر من يحبّ من دون أن يطيع، وما أكثر من يطيع رَهَباً وخوفاً أو رَغَباً وطمعاً، لا حبّاً.
وقال أيضاً: (إضافة: وذكر "الطواف" ومشتقاته 7 مرات، وهو مطابق لعدد أشواط الطواف وكذلك السعي. كما ذكرت "القبلة" 7 مرات مطابقة لعدد الطواف حول الكعبة المشرفة)(28).
أقول: فليكن لفظ الطواف ومشتقاته مكرراً 7 مرات لكن هل هو دليل على أن الله تعالى أراد من تكراره سبع مرات الإشارة إلى أشواط الطواف؟ خاصة وان بعض هذه السبعة هي (الطوفان)؟ ولو كان كذلك لوجب أن تكون أشواط السعي أكثر لأن السعي بمشتقاته ورد مراراً أكثر من ذلك؟.
وقال بعضهم: ان كلمة الرحمن تكررت في القرآن 57 مرة بينما تكررت كلمة الرحيم 114 مرة، ونقول: ان ذلك مما لا ريب فيه، ولكن هل يصح تفسير معنى الرحمن والرحيم، على ضوء ما نتصوره نحن من السر الكامن وراء هذا التكرر بالقول مثلاً: أن الرحمن أخص وأضيق والرحيم أعم وأوسع: استناداً إلى معادلة كمية وتعداد تكرار الكلمة؟ أو أن الرحمن أقوى فاكتفى بتكراره 57 مرة؟ أو يُعكس فيقال: انه أضعف لذا لم يكرر كثيراً وكرر الأهم الأقوى وهو الرحيم؟.
كل ذلك من التخرص.. الصحيح هو أن نرجع إلى روايات الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) لكي نستكشف عبرهم المعنى المراد، فقد ورد في تفسير البرهان: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ: (اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ) قَالَ: «الشُّكْرُ لِلَّهِ».
وَفِي قَوْلِهِ: (رَبِّ الْعٰالَمِينَ) قَالَ: «خَالِقِ الْخَلْقِ. (اَلرَّحْمٰنِ) بِجَمِيعِ خَلْقِهِ (اَلرَّحِيمِ) بِالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً»(29))(30).
وبيت القصيد انه:
أولاً: لا بد من البحث عن الحجة على معنى الآية الكريمة وانها نص أو ظاهر فيه أو هل دلّت رواية معتبرة على ذلك المعنى المدعى، ولا يكفي مجرد الاحتمال.
ثانياً: إثبات أن التكرر بالعدد الخاص إنما هو إعجاز لا يمكن للغير أن يأتي به، مثلاً إثبات أن الغير لو كتب كتاباً فانه لا يمكنه أن يكرر الرجل والمرأة 24 مرة أو الملائكة والشياطين 88 مرة، نعم يكفي إثبات انه لا يمكنه أن يكرر المجاميع كلها بتلك الحكمة البالغة، حتى وإن أمكنه فرضاً أن يكرر بعضها.
وقد يقول قائل: انه لا دليل على أن كل شيء في القرآن الكريم بما هو هو مُعجِزٌ؛ ألا ترى أن القرآن تحدى الناس بالإتيان بمثله ثم تنزّل إلى تحدّيهم إلى الإتيان بعشر سور مفتريات ثم تحداهم إلى الإتيان بسورة واحدة لكنه، لم يتحدّهم بالإتيان بآية واحدة، أو بكلمة واحدة أو بتغيير موقعها؟ وعليه: لا يمكن الانتقال من الإذعان بكون الآيات الكريمات، كمجموع معجِزاً، على كون هذه الآية مما يعجز البشر عن الإتيان بمثلها أو على كون هذا التعداد الخاص مما يعجز البشر سرده والإتيان بمثله، سلّمنا لكن ننقل الكلام قدرتنا على إثبات وجه الإعجاز في كل ما ندعيه.
وبذلك يظهر أنه لا بد من أن نميّز بين:
أ- (المحتمل) فلا يمكن تفسير القرآن به أو إلزام الطرف الآخر أو اعتباره برهاناً.
ب- (المقصود) المدلول عليه بالنص أو الظاهر أو بدلالة التنبيه والإيماء أو الإشارة أو الاقتضاء.. إلخ فهذا هو الذي يصح التفسير به والاحتجاج.
ج- وبين كونه في منتهى الحكمة.
د- وبين كونه معجزاً إذ قد يكون اختيار هذه الكلمة في منتهى الحكمة من دون أن يكون معجزاً لكون الجامع بين الكلمتين على سبيل البدل هو المعجز... هكذا
تقييم دعوى وجه الإعجاز في (أَدْنَى الْأَرْضِ)
ولنستعرض الآن نموذجين من التفسير العلمي للقرآن الكريم والاستدلال به على إعجازه، أحدهما تام والآخر غير تام:
فقد استدل عدد من العلماء على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم بمفردة (أَدْنَى الْأَرْضِ) الواردة في سورة الروم (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * في أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (سورة الروم: الآيات 1-3).
وقد عرف العصر الحديث أن منطقة البحر الميت هي أكثر الأراضي انخفاضًا في العالم، وقد ورد ذلك في القرآن: (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ).
وقد جرت المعركة الثانية التي انتصر فيها الروم على الفرس في منطقة البحر الميت، وهي منخفض أرضي يعتبره علماء الجيولوجيا أخفض منطقة على اليابسة، وهي كما عبر القرآن بقوله: بأدنى الأرض، وحدث ما وعد الله بانتصار الروم)(31).
والحاصل: انه لا شك في أمور:
1- تاريخياً، أن المعركة بين الفرس والروم، التي غلب فيها الروم، كانت في منطقة البحر الميت.
2- جيولوجياً، أن هذه المنطقة هي أكثر مناطق الكرة الأرضية انخفاضاً.
3- وقد اكتشف العلم ذلك مع تطوره وبأحدث الأجهزة.
4- ولا يعقل أن يطّلع على هذه الحقيقة في عالم ما قبل العلم، أحدٌ إلا خالق الكون.
5- فإخبار القرآن الكريم بذلك دليل على انه من لدن عليم خبير وانه معجز دون ريب.
لكن قد يقال: لا شك في إعجاز القرآن الكريم، ولا شك في أن إعجازه بكافة وجوهه وكل مفرداته يعلمها (اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ): الرسول (صلى الله عليه وآله) واهل بيته (عليهم السلام) ولكن الكلام فينا نحن واننا هل نستطيع أن ننال كل مفردات إعجازه؟ الجواب طبعاً كلا، فهل نستطيع أن ننال بعض مفرداته؟ الجواب: لا يوجد ما يمنع من ذلك، ولكن اللازم البرهنة على كل مفردة مفردة ندّعيها؛ إذ لا يصح التمسك بالعام (وأن القرآن معجزة) لتنقيح حال الصغرى والخاص (وان هذه معجزة بهذا الوجه الذي أدركتُهُ أنا، إذ لعله معجزة بوجه آخر).
وفي المقام: الاستدلال بمفردة (أدنى) على الإعجاز بهذا الوجه، يتوقف أولاً وقبل كل شيء على تفسير مفردة (أدنى) فان أدنى قد يراد بها الأقرب فلا تدل على المقصود، وقد يراد بها (الأخفض) فتدل عليه، ولكن من أين أن المراد من الأدنى في الآية الأخفض لا الأقرب؟ أو المراد كلاهما معاً؟ ههنا بيت القصيد الذي غفل عنه المستدلون وكان اللازم تشييد هذا الأمر أولاً.
وقد بنى المفسرون على تفسير الأدنى بالأقرب فراجع تفسير البيان ومجمع البيان وغيرهما – قال الثاني: (وقوله: (في أدنى الأرض) أي: في أدنى الأرض من أرض العرب، عن الزجاج. وقيل: في أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس، يريد الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، عن مجاهد. وقيل: يريد أذرعات وكسكر، عن عكرمة)(32).
والحاصل: انه بعد أن أجمع المفسرون القدماء على أن معناها أقرب الأراضي اختلفوا في المراد بأقرب الأراضي إلى ماذا؟ فقيل أقرب الأراضي إلى الحجاز وقيل أقرب الأراضي بين الامبراطوريتين أي بين الروم والفرس وفي تفسير الأمثل: (يقول القرآن بعد الحروف المقطعة (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) وهم قريب منكم يا أهل مكّة، إذ أنّهم في شمال جزيرة العرب، في أراضي الشام في منطقة بين «بصرى» و«أذرعات».
ومن هنا يعلم بأنّ المراد من الروم هنا هم الروم الشرقيون، لا الروم الغربيون.
ويرى بعض المفسّرين كالشيخ الطوسي في تفسير «التبيان»- أن من المحتمل أن يكون المراد بأدنى الأرض المكان القريب من بلاد فارس، أي إن المعركة وقعت في أقرب نقطة بين الفرس والروم.(33) وصحيح أن التّفسير الأوّل معه الألف و اللام للعهد- في «الأرض» مناسب أكثر، و لكن و من جهات متعددة- كما سنذكرها- يبدوا أن التّفسير الثّاني أصحّ من الأول! و يوجد هنا تفسير ثالث، و لعلّه لا يختلف من حيث النتيجة مع التّفسير الثاني، هو أنّ المراد من هذه الأرض- هي أرض الروم، أي إنّهم غلبوا في أقرب حدودهم مع بلاد فارس، وهذا يشير إلى أهمية هذا الاندحار وعمقه)(34)
ولا شك أن كلام المفسرين لا يقيّد معاني القرآن الكريم، إنما الكلام في الظهور فعلى المستدل على أن (أدنى) يراد بها ههنا (الأخفض) الإثبات، نعم لا شك في احتماله لكن كيف يستدل بإعجاز القرآن على منكره بمجرد احتمال إرادة هذا المعنى المعجز؟ والله العالم.
ومن الجدير أن نشير إلى مطالب هامة في قضية غلبة الفرس للروم تعطينا رؤية أشمل عن المسألة:
الأول: ان الروم رومان روم غربية وروم شرقية، وقد استظهر بعض المفسرين أن المراد ههنا الروم الغربية. إذ: (الروم جيل من الناس على ساحل البحر الأبيض بالمغرب كانت لهم إمبراطورية وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم وبين الفرس حرب عوان في بعض نواحي الشام قريبا من الحجاز فغلبت الفرس وانهزمت الروم ، والظاهر أن المراد بالأرض أرض الحجاز واللام للعهد)(35) بينما ارتأى آخرون أن المراد الروم الشرقية.
الثاني: ورد في الكافي الشريف عن الإمام الباقر (عليه السلام) شرح لخلفيات نزول هذه الآيات ببيان نافع إلا أن الملفت ان تعبيره (عليه السلام) ليس صريحاً في معنى الأدنى وانه الأقرب أو الأخفض فهو محتمل للوجهين، فتأمل:
ابْنُ مَحْبُوبٍ عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ (سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) قَالَ: فَقَالَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إِنَّ لِهَذَا تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ كَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ كِتَاباً وَبَعَثَ بِهِ مَعَ رَسُولٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَتَبَ إِلَى مَلِكِ فَارِسَ كِتَاباً يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَعَثَهُ إِلَيْهِ مَعَ رَسُولِهِ، فَأَمَّا مَلِكُ الرُّومِ فَعَظَّمَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَأَكْرَمَ رَسُولَهُ، وَأَمَّا مَلِكُ فَارِسَ فَإِنَّهُ اسْتَخَفَّ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَمَزَّقَهُ وَاسْتَخَفَّ بِرَسُولِهِ، وَكَانَ مَلِكُ فَارِسَ يَوْمَئِذٍ يُقَاتِلُ مَلِكَ الرُّومِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَهْوَوْنَ أَنْ يَغْلِبَ مَلِكُ الرُّومِ مَلِكَ فَارِسَ وَكَانُوا لِنَاحِيَتِهِ أَرْجَى مِنْهُمْ لِمَلِكِ فَارِسَ، فَلَمَّا غَلَبَ مَلِكُ فَارِسَ مَلِكَ الرُّومِ كَرِهَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَاغْتَمُّوا بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ كِتَاباً قُرْآناً (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) يَعْنِي غَلَبَتْهَا فَارِسُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهِيَ الشَّامَاتُ وَمَا حَوْلَهَا...)(36).
الثالث: (روي: أن سبب ذلك هو أنّ الروم لمّا غلبتها فارس فرح المشركون بذلك و قالوا: أهل فارس لا كتاب لهم غلبوا أهل الروم و هم أهل كتاب، فنحن لا كتاب لنا نغلب محمّدا الّذي معه كتاب. فأنزل اللّه تعالى هذه الآيات تسلية للنبيّ والمؤمنين بأن الروم وان غلبتها فارس فانّها ستغلب فارس في ما بعد بضع سنين. قال أبو سعيد الخدري: كان النصر يوم بدر للفريقين: للنبيّ على قريش وللروم على فارس، ففرح المؤمنون بالنصرين. وقيل: كان يوم الحديبية)(37)
نموذج من الإعجاز العلمي: بينهما برزخ لا يبغيان
وفي مقابل ذلك كله، فان ما استجمع الشرائط والضوابط العامة للتفسير (الظهور القرآني، وكون الحقيقة العلمية حقيقة مسلّمة...) يمكن الاعتماد عليه في التفسير الإعجازي للقرآن الكريم وعلى سبيل المثال قوله تعالى:( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ * بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) سورة الرحمن: الآيتان: 19-20) فانّ مرج له معنيان: 1- خَلَطَ، 2- خلّاهما لا يلبس أحدهما بالآخر، كما في مجمع البحرين، وقال الراغب: (مرج أصل الـمَرْج: الخلط، والمرج الاختلاط، يقال: مَرِجَ أمرُهم: اختلط، ومَرِجَ الخاتَمُ في أصبعي، فهو مارجٌ، ويقال: أمرٌ مَرِيجٌ. أي: مختلط، ومنه غصنٌ مَرِيجٌ: مختلط، قال تعالى: (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (سورة ق: الآية 5) )(38).
فالآية صريحة في 1- خلط البحرين أو تركهما رغم خلطهما لا يتداخل أحدهما في الآخر، 2- انهما يلتقيان، 3- ان بينهما برزخاً، 4- أن أحدهما لا يبغي على الآخر ولا يغلبه ولا يستهلكه بل يلتقيان وهناك رغم خلطهما حاجز يمنع تداخل مياه البحرين.
وقد أثبت العلم الحديث ذلك تماماً في العديد من البحار والأنهار:
فمنها: ملتقى البحر الاطلنطي والبحر الأبيض المتوسط حيث يلتقيان عند جبل طارق من دون أن تتداخل مياه البحرين.
ومنها: في أمريكا الجنوبية إذ يصب الماء العذب الذي يأتي من الكهوف القريبة من الشاطئ إلى المحيط من دون أن يختلط مع الماء المالح للبحر ولمسافات طويلة.
ومنها: منطقة الازقة البحرية Fiordland في جنوب نيوزيلندا.
فأنت ترى أن الآيات ظاهرة الدلالة على ذلك، وأن العلم قطعي في الشهادة على ذلك.
ويؤكد الإعجاز في الآيات السابقة أن الآيات تحدثت بنحو الموجبة الجزئية لا الكلية، إذ ورد (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) واللام للعهد وليست للجنس، إذ لم يقل (مرج البحار) فيفيد بعضها فقط، وهذا يؤكد الجهة الإعجازية في الآية الكريمة وذلك لأن (هذه الظاهرة غير موجودة في البحار المحيطة بشبه الجزيرة العربية موقع نزول القرآن على النبي محمد، وكان عدد من القارات لم يزل غير مكتشف زمن نـزول القرآن، ومنها أمريكا الجنوبية ونيوزيلندا. إنَّ هناك قوة الشد السطحيّ surface tension التي تختلف حسب كثافة الماء، وهذا الاختلاف يمنع امتزاج الماءين)(39).
فإذا كانت البحار المحيطة بالجزيرة العربية ليست كذلك أي أن بحارها تلتقي وتمتزج، فكيف عرف الرسول (صلى الله عليه وآله) أن هنالك بحاراً تلتقي ولا تختلط؟ مع انه غريب لا يبدو معقولاً إذ أن مقتضي القاعدة أن السائِلَين إذا التقيا امتزجا وغلب أحدهما الآخر أو بغى عليه أو استهلكه فيه أو اندمجا تماماً لكن هذين البحرين لا هذا ولا ذاك فعلى الرغم من انهم (يَلْتَقِيانِ) إلا انه ( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) لا ريب أنه من علم الغيب الإعجازي دون ريب، نعم لو كانت البحار المحيطة بالجزيرة العربية تحمل معها هذه الظاهرة لأمكن أن نقول انهم لاحظوا ذلك وأن النبي (صلى الله عليه وآله) عرفه بالملاحظة أو بالنقل، لكن عندما تكون الظاهرة موجودة في بعض البحار البعيدة، دون البحار القريبة، ثم يأتي الوصف القرآني دقيقاً باستعراضها كظاهرة في بعض البحار دون الجميع، فانه مما يدل ولا شك على الإحاطة الغيبية الإعجازية.
وأخيراً: فان الإعجاز صريح في هذه الآيات ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ * بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) كما سبق، أما الآية الأخرى (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) (سورة النمل: الآية 61) فليست صريحة في المقصود ولذا فسرها بعض المفسرين بحاجز من اليابسة أي اللسان البري الذي يفصل بين البحرين، فهذه الآية محتملة للوجهين: الحاجز اللامرئي بين المائين، والحاجز البري، وقد يراد بها الأعم ولكن لا دليل ظاهراً على إرادة الأعم أو الحاجز اللامرئي، أما آيات ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ * بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) فهي صريحة في الالتقاء، ومع الحاجز البري أو أي حاجز مادي آخر لا التقاء. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين