جذور(علم الاصول) في منطلق الرحمة النبوية
الائمة (عليهم السلام) الامتداد الشامل للرحمة النبوية العامة
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2015-09-09 11:20
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تبارك وتعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[1]
هنالك وجهان من وجوه الرحمة وتجليان من تجلياتهما، أحد الوجهين يجسد العمق في الرسالة النبوية، والوجه الآخر يجسد بعض أسس الرسالة المحمدية.
وسنتحدث في هذا اليوم بإذن الله تعالى عن هذين الوجهين بإيجاز، وسيكون الخطاب في أحدهما موجهاً لمن يعرف معادلات علم الأصول وقوانينه فهو أشبه بالخطاب للخبير أو المتخصص، اما الثاني فان خطاب فيه يشمل الجميع وستكون فائدته أعم وأوسع وأشمل إن شاء الله تعالى.
اساسي ومنطلق (علم الاصول) هو (الرحمة)
أما الوجه الأول، وهو وجه في إحدى الأسس التي ابتنت عليها هذه الرسالة الإلهية، فهو ان (الرحمة) التي تجسد المنطلق لأسس ما ابتنيت عليه الرسالة النبوية والاسس هي الكلام والاصول والفقه، ثبوتاً أو إثباتاً[2].
وذلك لان من أهم الأسس التي ابتنيت عليها الرسالة النبوية هو ما اصطلح عليه بـ(علم الأصول) بل هو ثاني الأسس بعد (علم العقائد) والذي هو الأساس الأول، ثم يأتي علم الفقه والذي هو بمثابة الأساس الثالث.
وسنتحدث عن علم العقائد في وقت آخر.. فلنقدم البحث عن (علم الاصول) فنقول:
أن المنطلق الذي انطلق منه علم الأصول هو (الرحمة الإلهية) المتجسدة في رسول الله محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) وشريعته السمحاء.
ونشير هنا الى ان هذا المنطلق وهذه الزاوية لا تبحث عادة في علم الأصول ولذلك فانها تحتاج إلى ترشيد فان البحث ههنا عن ذلك انما هو بداية المسيرة ونأمل ان يأتي من يقوم بدراسة شاملة معمقة لذلك جرحاً او تعديلاً وتطويراً، ولعل هذه القضية التي نطرحها هنا تصبح محوراً لكتاب او تعرض كمادة درسية في المستقبل.
بل وان هذا البحث سيعين الفقيه في مرحلة الاستنباط أيضاً بمعنى ان الفقيه اذا لاحظ هذا المنطلق أذعن به او رفضه – بدرجة او درجات - فقد يؤدي به ذلك الى ان يغيّر في نظره الأصولي إلى حد ما تجاه الأدلة الأصولية المختلفة.
والفكرة – والمدعى – هي بكلمة واحدة: ان أسس ومنطلقات علم الأصول ابتنيت على منطلق الرحمة وهذه بعض الادلة و الأمثلة والشواهد:
إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي
عندنا في علم الاصول يطرح بحثان هامان، احدهما: إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الظاهري، هذا بحث أمره أهون، لكن الأصعب هو البحث الثاني وهو: إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي بمعنى أنه لو دلت أمارة أو أصل على أن كذا ليس جزءً للصلاة كجلسة الاستراحة أو القنوت او دل على انه ليس شرطاً فصليت بدون ذلك الجزء أو بدون ذلك الشرط،
ثم بعد ذلك انكشف لي[3] أن ذاك الدليل كان خاطئاً أو ان ذاك الأصل كان محكوماً بأصل أو بدليل سابق، فما هو الحكم؟ هل هو إعادة الصلاة إذ الفرض انه انكشف له فقدان الصلاة – او غيرها – لما هو شرط او جزء فلم يطابق المأتي به للمأمور به، ام لا؟
من المسلّم هنا في خصوص هذا المثال (الصلاة) تأتي قاعدة (لا تعاد) فقاعدة لا تعاد في شطريها: المستثنى والمستثنى منه حلت المشكلة[4]، لكن حتى لو لم تكن توجد عندنا قاعدة لا تعاد فان البحث فيها – الصلاة – وفي غيرها، أيضاً جارٍ فان الكلام لا يخص الصلاة التي قام لدينا فيها خصوص هذا الدليل، بل هو عام لمطلق الأعمال من حج وصلاة وزكاة وخمس وصوم وغير ذلك: لو أن الإنسان أتى بالمأمور به استناداً إلى أمر ظاهري أو إلى أصل[5] فهل يجزئه أم عليه الاعادة؟
السيد البروجردي يدعي انعقاد الاجماع على (الاجزاء) فيما سبق زمان الشيخ الأنصاري، وان الشيخ الأنصاري ـ حسب تحقيق السيد البروجردي ـ هو اول من بدأ الخلاف.
والحاصل: ان السيد البروجردي يدعي الإجماع على إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي كقاعدة يخرج منها ما خرج بالدليل، سواء أكان الدليل على الحكم الظاهري أمارة أم كان أصلاً، وذلك بمعنى: ان الإنسان اذا قام بعمل ثم اكتشف خطأه فانه مادام قد استند إلى حجة شرعية سابقة فهو مجزئ وهذا هو هذا بحث (الإجزاء) المعروف.
السيد البروجردي يستدل على ذلك (أصولياً) بأن الأمر بالعمل بالشيء الذي هو الدليل أو الأصل يلازم عرفاً إجزاءه، وهذا بحث أصولي وتخريج أصولي.
في مقابل ذلك نرى مثلاً ان الآخوند الخراساني قَبِل ذلك في (الاصل) ولم يقبله في (الأمارة) فارتأى في الأمارة: انه لو ظهر الخلاف فعليه الإعادة، لأن الأمارة مهمتها الكاشفية فعندما نكتشف الخلاف فاننا نعرف حينئذٍ بطلان العمل، إذ انه لم يكن مستوفياً للأجزاء والشرائط فتجب الإعادة، وذلك على العكس من (الأصل) لأنه دليل تعبدي، وهذا تخريج أصولي.
والبحث عن ذلك اصولياً واسع ومعمق وقد اشرنا اليه بإيجاز شديد جداً وليس الشاهد ذلك بل الشاهد هو انه يوجد منطلق أكبر وراء ذلك، وهو ان منطلق الإجزاء الجوهري هو: (الرحمة الإلهية).
وإذا أردنا ان نعبر بتعبير معهود لدينا أكثر فنقول ان منطلق الاجزاء الرئيسي والجوهري هو: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
والمسألة كما ترون سيّالة في كل الفقه، فلو مات المجتهد فقلد المكلف فقهياً آخر، كان بذهب الى آراء تعاكس رأي الفقيه السابق، فلازم ذلك ان عليه اعادة كل اعماله السابقة حيث يرى الفقيه الجديد أن تلك الأعمال الفاقدة لجزء او شرط باجتهاده، باطلة.
والحاصل ان (الاجزاء) وهو من اهم مسائل علم الأصول المستقاة من الكتاب والسنة مبني في اسسه الاولى على منطلق الرحمة الالهية، فهذا شاهد ومؤيد او دليل، واما الشاهد الآخر:
الأصول الأربعة
إذا استقرئنا الأصول الاربعة فسنجد انها عموماً من هذا القبيل تبتني على منطلق (الرحمة الواسعة) فمثلا:
اصل البراءة
أ- اصل البراءة فأن الواضح ان هذا الاصل مبني على الرحمة، فلو شككت في التكليف بعد الفحص فان المجرى هو البرائة الشرعية حتى لو قلنا بالإشتغال العقلي ستناداً إلى مسلك (حق الطاعة)أو غيره، فهذا اذاً هو منطلق من منطلقات الرحمة الإلهية، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وهذه رحمة، لبداهة انه اذا كلفنا الله في كل (شك في التكليف حتى بعد الفحص) بالاحتياط، فسنقع في عسر وحرج شديدين، إلا أن رحمة المولى ـ مع أن له الحق طبيعياً ــ اقتضت إجراء أصالة البراءة.
اصل الاشتغال
ب - (اصل الاحتياط و الاشتغال) فان قاعدة الاشتغال مبنية في الكثير من فروعها على الرحمة الإلهية، فمثلاً في الشبهة المحصورة لو كان أحد الطرفين خارج مورد الابتلاء، فان العلم الإجمالي عندئذ ليس منجزاً، مع انه كان يمكن للمولى سبحانه وتعالى أن يقول: لو كان أحد طرفي العلم الإجمالي خارج دائرة الابتلاء فمادام قد قام علم إجمالي بحرمة أو نجاسة أحدهما أو ما أشبه، فيجب الاجتناب عن هذا الطرف ايضاً ومن الواضح انه كان يمكنه أن يشرّع ذلك لكنه لم يفعل رحمة بنا.
ونؤكد مرة اخرى انه كما يمكن ان ندرس المسالة أصولياً – وقد قام بذلك العلماء الاعلام ولله الحمد - فلندرسها كلامياً لأن هذا البحث كلامي في جوهره وفي اسسه الاولى.
وكذلك فان العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة، ليس منجزاً، من غير فرق في لذلك بين نوع الضابط والمقياس الذي ارتأيناه اصولياً للشبهة غير المحصورة، (اذ ذكرت لتحديدها أربع ضوابط على الخلاف).
والحاصل: انه كان يمكن للشارع أن يجعل العلم الإجمالي منجزاً حتى في أطراف الشبهة غير المحصورة، لكنه لم يجعلها منجزة، وما ذلك الا لان المنطلق الأساسي هو: (وما ارسلناك الا رحمة للعالمين).
كما ان الروايات التي تصرح بوجود العديد من التشديدات على الأمم السابقة التي تقابلها التسهيلات على هذه الامة تؤكد هذا المنطلق العام في الشريعة الاسلامية السمحاء.
وكذلك الحال ـ على رأي ـ في عدم منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات، وهكذا وهلم جراً.
إذن نقول: بأن (البراءة) والتي هي أصل من اهم الأصول، مبتنية على الرحمة الإلهية، كذلك (الاشتغال) فمع أنه أشد الأصول الا انه توجد ايضاً استثناءات هامة من صور الحكم بمنجزيته.
ونضيف: ان التشديد في بعض جوانب الاحكام (كمنجزية العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة بشروطها) هو من باب التزاحم لوجود مصلحة او مفسدة غالبة، فتشريع الاحتياط في هذه الصورة ايضاً هو من الرحمة الالهية. فتدبر.
اصل الاستصحاب
ج – (اصل الاستصحاب)، فانه اصل مبني على الرحمة، وهو في حد ذاته تسهيل – واي تسهيل - على العباد!
فمن كانت له زوجة ثم شك أنه طلقها أو لا؟ فانه يستصحب الحالة السابقة(الزوجية)، وكذا من كان مالكاً لشيء او ذا يد عليه فلوكانت هذه الدار ملكاً له ثم شككنا أنه باعها أم لا؟ فان لورثته الحق فيها اذا لم يوجد دليل على الخلاف عند موته، وهكذا وهلم جراً فالاستصحاب مبني على قاعدة الرحمة وتسهيل الامر للعباد
اصل التخيير
د - (التخيير) الأصلي أي ماعدّ أصلاً من الأصول الأربعة، بل والتخيير الأماري (ولنا حوله بحث نتركه للمستقبل مع بعض الأمثلة الأخرى بإذن الله).
ولقد استقرأت مباحث الأصول فوجدت الكثير من الشواهد على ابتنائها على قاعدة الرحمة وقد ذكرت لكم الان عينات، ولعلنا في المستقبل نكمل بعض ذلك.
وهنا اوجّه من جديد دعوة الافاضل الكرام لكي يتخذوا من هذه الآية الشريفة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[6]) منطلقاً لبحث كلامي لتأطير علم الأصول والفقه والكلام ايضاً فان علم الكلام أيضاً بني على الرحمة الإلهية، وقد نوفق للحديث حول ذلك لاحقا ان شاء الله تعالى.
دور العلة المبقية للائمة الاطهار في خاتمية الرسالة المحمدية
واما الوجه الاخر: فهو التجلي الآخر للرحمة الالهية التي ارسل الله رسوله المصطفى بها ولها اذ يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[7] وهذا الوجه يرتبط بعمق الرسالة المحمدية في امتداد الزمن أي العلة المبقية لها:
وتوضيح ذلك: ان الله تعالى يقول (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)[8]
لماذا خص الله تعالى النبي (صلى الله عليه وآله) بكونه خاتم النبيين وماهي المقومات التي امتلكها(صلى الله عليه وآله) والتي اهلته لذلك دون سائر الانبياء؟ هناك وجوه عديدة في ذاته وصفاته وامتداده فلنركز الان على السبب الذي يرتبط بامتداده فنقول:
ان عيسى (عليه السلام) لم يكن يصلح لان يكون خاتم النبيين لجهات عديدة، منها افتقاده العمق في امتداد الزمن وكذلك موسى (عليه السلام) ومن قبل نوح (عليه السلام) وغيرهم من الانبياء بما فيهم ابراهيم (عليه السلام) على عظمته اذ لم يكن لأي منهم ما يفي بالعلة المبقية الى آخر الزمن ليتأهل ليكون خاتم الأنبياء ويكون دينه خاتم الاديان بحيث يصلح ان يغلق المولى سبحانه وتعالى هذا الملف إن صح هذا التعبير وذلك – اضافة الى جهات ذاتية في نفس الرسالة ونفس المرسل لأن عيسى (عليه السلام) لم يكن له من بعده من يكون بمستوى علي بن أبي طالب ولا الحسن المجتبى ولا الحسين الشهيد ولاسائر الأئمة الأطهار وصولاً إلى المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وينتج من ذلك امر هام جداً وهو انه اذا اراد شخص ان يقطع الرسالة النبوية عن هذا الامتداد بانكاره له فكأنه انكر – من حيث يشعر او لا يشعر - خاتمية النبي محمد (صلى الله عليه وآله)رخاتم النبين عندئذٍ!! بل يكون قد انكر – من حيث يشعر او لا يشعر – حكمة الله وكماله المطلق وذلك لوضوح ان خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) قد ختم الله به الأنبياء والرسالات، فقد أتى بالشيء الكامل الذي يفي بحاجات البشرية على مر التاريخ، ولكن قطع النبي (صلى الله عليه وآله) عن هذا الامتداد وانكاره يستلزم ان لا يفي هذا الدين بحاجات البشرية المتواصلة على مر التاريخ، فلا يكون ما اتى به كاملاً تعالى سبحانه عن ذلك.
ولذا جاءت الآية الشريفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[9]) والاكمال هو بالامتداد أي بنصب الوصي والولي الذي يخلفه من بعده على كافة شؤون الدين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[10]) وهذا البحث له وجوه وجوانب وثمرات كثيرة، عقدية كلامية، ولكننا سوف نقتصر على وجه وجانب من تلك الوجوه والجوانب:
الوان المواقف من الحكومات
اننا نحن في هذه الحياة نبتلى بمواقف مختلفة تجاه قضايا شائكة ومنوعة ومصيرية فمثلاً: الحكومات ذوات الوان واشكال واصناف ويكفي ان تشاهدوا هذا الفسيفساء من الدول المتلون المنوع: الحكومة في العراق لون، وفي بلاد الحجاز ـ المسماة غصباً وزوراً بالسعودية ـ لون، وفي البحرين لون آخر، في مصر وفي ليبيا وفي تونس وفي الجزائر ثم اليمن ثم اذهبوا إلى سائر البلاد الشرقية والغربية البعيدة، كل منها له لون وشكل وحالة.
والسؤال هو: ما هو الموقف من كل حكومة؟
ان عيسى على نبينا وآله وعليه السلام لم يترك للبشرية رؤية في هذا الموضوع المصيري، لأنه لم تكن مهمته ذلك، بل كانت مهمته مهمة زمنية محدودة، وكذلك آدم ونوح وابراهيم وموسى ويوسف واليسع وذو الكفل...والخ.
أما الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فقد أعطانا بنفسه او بامتداداته الرؤية المتكاملة حول كل ذلك ونظائرها واشباهه.
اشارة لتنوع ادوار المعصومين (عليهم السلام)
وقد أشرنا إلى تنوع أدوار المعصومين (عليهم السلام) الاستراتيجية في مختلف الحقول، والآن نفتح نافذة من النوافذ على ذلك:
الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) اضطلع بأدوار خطيرة جداً في مرحلة تأسيس الاسلام،بينما اضطلع الامام أمير المؤمين (عليه السلام) بجملة أدوار أخرى مكملة لتلك، فان الرسول(صلى الله عليه وآله) مثلاً إضطلع بمسؤوليات التنزيل وكان ساعده الاول في ذلك هو الامام علي (عليه السلام)، بينما الأمير (عليه السلام) إضطلع بمسؤوليات ومهام وأدوار التأويل، وكان ناصره الاول في ذلك هو الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله).
والسبب العام لذلك هو ان ظرف التأويل انما هو بعد التنزيل، ولذا قاتل علي (عليه السلام) على التأويل كما قاتل الرسول على التنزيل.
اما الإمام الحسن المجتبى فقد إضطلع بجملة أدوار أخرى[11] منها الصلح الغريب في معالمه كما بدت لبعض اصحابه ولكنه كان خير موقف يمكن اتخاذه في تلك الظروف.
والإمام الحسين (عليه السلام) الشهيد بكربلاء إضطلع بأدوار توّجها بذاك الاستشهاد الرباني في معركة الطف التي لم يجد وسوف لا يجد التاريخ لها نظيراً ابداً.
والإمام السجاد (عليه السلام) إضطلع بأدوار منها دور التربية والتزكية النموذجية لأجيال من الناس بل وللامة كافة والذي لعله لا نظير له في التاريخ كله، ومنها ذاك التجلي الأعظم للارتباط بالله عبر الأدعية التي لا نظير لها على مر التاريخ ايضاً.
كذلك الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) فقد إضطلعا بأدوار منها ارساء دعائم الحضارة الإسلامية العلمية الفكرية والثقافية والكلامية والاخلاقية وغيرها وفي مختلف الأبعاد.
اما الإمام الكاظم (عليه السلام) فقد إضطلع بنوع آخر من الأدوار إتّسم في بعض مفرداته الكبرى بالمعارضة الصامدة الابيّة الشامخة.
ثم الإمام الرضا ثم الإمام الجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام) وقد أشرنا في بحث سابق إلى أنهم إضطلعوا بدور قيادة التغيير من الداخل.
ثم الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) والذي اوكل الله تعالى اليه ادواراً أخرى من نمط آخر تماماً.
هذه المجموعة بأجمعها بتنوعها وبتكامليتها تصلح أن تكون هي الرائد للبشرية على مر التاريخ.
ولو الغي دور إمام واحد من الائمة (عليهم السلام) من صفحات التاريخ فستكون الرسالة ناقصة عندئذٍ.
وبذلك يظهر ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان خاتم النبيين بامتداداته أيضاً.
وهذا البحث قلما يبحث مع الأسف رغم انه من اهم ابحاث ديننا الحنيف تماما كما هو الحال في علم الأصول مثلا فلو ان الفقهاء لم يبحثوا مسائل علم الأصول بعمق واسهاب مثلا فأي نقص وخلل كان سيحدث عندئذٍ؟
وذلك لاننا دائماً مبتلون بتسلط الحكومات بشتى الوانها فان، كل إنسان في مختلف فترات حياته سواء أكان رجل دين أم طبيباً أم غير ذلك، مبتلى بحكومة من الحكومات فما هو الموقف الشرعي منها؟
ان القدوة والأسوة في ذلك كله هو الرسول الاعظم وأهل البيت الاطيبين (عليهم السلام)، فلابد – والحال هذه - من أن ندرس ظروف المعصومين (عليهم السلام) كيف كانت؟ ومواقفهم كيف كانت؟ أي ان نستقرأ وندرس رؤى ومواقف حجج الله على الخلق وانها كيف كانت كي نستلهم منها ونستضيء ونسترشد، فمن يا ترى منا يفعل ذلك؟
ان المستظهر ان مثل هذا التحقيق الشامل هذا يحتاج إلى موسوعة مثل الجواهر على أقل التقدير، لكننا لانجد – فيما نعلم - حتى مجلداً واحداً درس هذه القضية من زاوية فقهية وتأريخية او اصولية كلامية بشكل معمق مستوعب.
ومن الواضح ان المشرِّع لم يقصر في الإيصال كيف وقد ترك لنا جواهر العلوم والحِكَم في نهج البلاغة و تحف العقول والصحيفة السجادية والاحتجاج وغيرها وايضاً في مختلف صفحات التاريخ وقد قالوا (علينا القاء الاصول وعليكم التفريع[12]) بل نحن الذين قصرنا في التبليغ وفي الفهم والاجتهاد أيضاً.
ثم ان من الضروري لتكاملية الرؤية ان نوسّع من اطار البحث عن الامتداد في عمق الزمن اكثر فاكثر، فنقول:
الاعمدة الستة في حياة الامم ومحورية الائمة الاطهار (عليهم السلام)
وفي كل الأبعاد توجد هناك:
(أفكار) أولاً،
و(مواقف) ثانياً،
و(منهج)ومناهج وطرق وسبل ووسائل ثالثا،
وهناك (حجة) رابعاً،
وهناك (أسوة) خامساً،
وهناك (أصل واستثناء) سادساً.
هذه العناوين الستة يستحيل أن تجدونها على مر التاريخ متجسدة في نبي من الأنبياء بحيث تكون رسالته تغطي شتى مناحي الحياة في هذه الحقول الستة جميعاً، ويستحيل أن تجدونها إلا متجسدة في المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) فان الباحث المحقق في كل فكرة وفي كل حقل من الحقول وفي كل موقف وفي كل منهج وفي كل حجة وفي بُعد الأُسوة والأصل والاستثناء، يجد ان الأئمة (عليهم السلام) متواجدون في الساحة كقادة ومرشدين وهداة وادلاء، وقد أظهروا وأبرزوا لنا في كل هذه الحقول ما نستلهم منه أفضل الحِكم والبصائر.
ولتوضيح الفرق بين تلك المفاهيم الستة نمثل لكم بمثال واضح ودقيق في الوقت نفسه:
أ - الفكرة
هل الله تعالى هو خالق الكون او ان الطبيعة او الأصنام هي من خلقت الكون؟ هذه فكرة، (وقد استعملنا الفكرة بالمعنى الاعم من المعتقد) ثم هل خلق الله تعالى الاشياء ام ترشحت منه وفاضت؟
لاشك ان الله تعالى هو خالق الكون وليس الكون مترشحاً منه كما يقوله بعض العرفاء والفلاسفة.
إذن هناك أولاً الفكرة ثم هناك الموقف، أي سلمنا أن الله هو خالق الكون، فما هو موقفنا منه؟
ان موقفنا منه هو: العبادة، (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[13]
ب - الموقف
إذن الفكرة هي أن الله خالق الكون، وليس غير الله تعالى، وليست يده مغلولة، ولا أنه فوض ذلك الى غيره، وهنا العشرات من الأفكار محيطة بهذه الكلمة الواحدة كلازم او ملزوم او ملازم او مقارن، وفي كلها نجد ان للأئمة (عليهم السلام) كلام قيّم بصددها.
بينما ليس لعيسى كلام حول كل هذه الافكار وكذلك موسى (عليه السلام) ليس له كلام في كل ذلك، ولا سائر الأنبياء العظام حتى مع اوصيائهم.
أما الرسول والأئمة (صلوات الله عليهم) فقد كانت عندهم اضافة الى سمو مقامهم الذي لايعدله مقام سائر الانبياء والاوصياء، فرصة متكاملة للوفاء بذلك كله طوال مئتين وخمس وخمسين أو ستين سنة ولا يزال الفيض مستمراً،
لقد كانت لهم الفرصة الكاملة لكي يعطونا الفكرة والموقف ثم المنهج المتكامل في كل شيء.
ج - المنهج
والمقصود بالمنهج – في مثالنا السابق – هو كيف نعبد الله تعالى؟ هل نعبده بصوم الوصال؟ او بالمكاء والتصديه او بحلقات الذكر الصوفية؟ او بان يقول مثلاً: انني أريد ان أعبد الله فأصلي بدل أربع ركعات (صلاة الظهر) أربعين ركعة!!
كلا، لايمكنه ذلك اذ في كل شيء هناك منهج وطريق لاينبغي الحياد عنه.
د - الحجة
واما (الحجة) فاننا نجد ان أهل العامة حيث أعرضوا عن الثقل الثاني، فابتلوا بالاستحسان والقياس وبالمصالح المرسلة، لانهم شعروا ان الدين الذي أسقطوا منه ولاية الائمة المعصومين (عليهم السلام) ناقص فارادوا اكماله بزعمهم بالاستحسان والقياس وسدّ الذرائع وغير ذلك
وذلك مع ان الاستحسان ليس له وجه بالمرة، اذ كيف يمكن ان يقال بان كل فقيه يستحسن امراً فله ان يصدر حكماً؟ لأنه يقول بأن النبي لم يأت لنا بحكم في هذه المسألة، فتتضارب الاستحسانات الصادرة من الفقهاء الى الحد الذي تكون فيه مهمة العلماء فوضوية عبثية ولذا اغلقوا باب الاجتهاد – لا بدليل شرعي - واقتصروا على المذاهب الاربعة – لا بدليل شرعي ايضاً -!
والاستحسان أسوء من القياس من جهة، لان القياس على الأقل له نوع من الإيهام العقلي بوجود أصل هناك وفرع هنا، فنكتشف ملاكاً هنا فنقيس هذا الفرع على ذاك الأصل ذاتاً فنستنبط منه حكماً.. وكل هذا واضح البطلان طبعاً نظراً لمجهولية ملاكات احكام الشارع الاقدس.
لكن الاستحسان لايوجد فيه أصل وفرع بل كل فقيه له ان يستحسن شيئاً برأيه وقد يستحسن فقيه آخر رأيا مخالفا، خصوصا اذا علمنا ان الخلفيات المعرفية مختلفة جداً وكذلك الأذواق والميول والنفسيات فانها مختلفة بشدة.
فحيث أن أهل العامة أعرضوا عن الثقل الثاني، بل حتى عن الثقل الأول، لأن الثقل الأول أمر بالثقل الثاني، (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[14] افتقدوا الحجج واضطروا لاختلافها.
وكذلك الآخرون فانهم لا حجة قائمة لهم، فمثلا المسيحية، ماهي حجج المسيحية؟ انها الانجيل والتوراة فقط، ولكن هذا الانجيل الفعلي محرف، وكذلك التوراة الفعلية بل ان الانجيل والتوراة – كما انزلهما الله - وإن استوعبا مساحات لكن من دون ان يغطّيا كل المساحات.
وكذلك الزبور، وصحف داوود وإدريس وما أشبه ذلك.
فهذه اربعة اذاً وهي:الفكرة، الموقف، المنهج، الحجة
ثم ان للحجة تفسيراً آخر ايضاً وهو (من يحتج به) اضافة للتفسير الاول وهو(مايحتج به) المراد بها الطرق والامارات. وهنا نجد ايضاً ان لنا في كل البحوث (الحجة) (الالهية) وهو الامام المعصوم (عليه السلام).
هـ - الاسوة
ثم ناتي الى الامر الخامس وهو: الأسوة والقدوة، ففي عبادتنا لله تعالى كيف نكون؟
ان لدينا قدوات لا نظير لها على مر التاريخ.. ولاحظوا الامام السجاد (عليه السلام) ولاحظوا الإمام الكاظم (عليه السلام) ولاحظوا سائر المعصومين (عليهم السلام).
واهمية الاسوة تنبع من ان الانسان لا ينبعث او ينزجر او يتحرك بالكلام فقط وبالقرارات وبالحكم وبالوصايا وبالأوامر والنواهي، بل لابد من التجسيد العملي الظاهر البيّن الماثل امام الاعين.
ان عيسى المسيح على نبينا وآله وعليه السلام كان قمة سامقة بلا شك، لكنه كان في ظروف خاصة ولزمن خاص لذلك فانه يصلح أسوة في بُعد معين، أما المنظومة المتكاملة في الاسلام، والمتالفة من أربعة عشر معصوماً فاننا نجد انها حاضرة في كافة الأبعاد بتجلياتها النموذجية في شتى المجالات:
فاذا كان الانسان مجاهدا فان له اسوة عظمى منهم (عليهم السلام)، وإذا كان في دولة تدعي الديمقراطية فان له أسوة عظمى منهم ايضاً.
فمثلا في عهد الامام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) توفرت هناك، في فترات معينة مساحة من الحرية ففتح المجال لها صلوات الله وسلامه عليهما وللشيعة بظروف خاصة، بأن ينطلقوا ويتحركوا علمياً وثقافياً وفكرياً بل في مجمل معادلة بناء الامة والحضارة مما لا مجال ههنا لتفصيله، فاذا كان الانسان في مثل تلك الظروف كانت له بهما (عليهما السلام) الاسوة الحسنة.
وإذا كان الانسان في السجن فله أسوة بالإمام الكاظم (عليه السلام)، وإذا كان في بطن الحكم، وزيراً او رئيساً أو في أي موقع آخر، فان الاسوة هو الإمام الرضا (عليه السلام)، الذي كان محاصراً وهو في داخل الحكومة! ذلك انه أحيانا يُنفى الانسان الى خارج بلاده: الى جزيرة او صحراء بعيدة او شبه ذلك واحيانا ينفونه الى قلب الحكومة!!
وقد ارتأت الحكومة العباسية الجائرة في ذاك الوقت أن الطريق الوحيد للسيطرة على الائمة (عليهم السلام) - بزعمهم – وعلى جمهورهم العريض هو النفي إلى الداخل ولذلك ايضاً قاموا بنفي الإمام الجواد والهادي والعسكري إلى داخل والبلاط الملكي، وهذا أسلوب متطور حتى ان بعض الحكومات المتطورة جداً تستخدم هذا الأسلوب مع المعارضة فالواجب ان ندرس كيفية تعامل الائمة(عليهم السلام) مع هذا الموقف ومواجهتهم له.
و- الاصل والاستثناء
واما الامر السادس فهو: الأصل الاستثناء، فما هو الاصل في العبادة وما هو الاستثناء لِمزاحِم او معارض او شبه ذلك؟ وما هو الاصل في التعامل مع الحكومات وما هو الاستثناء؟ فمثلاً في التعامل مع (العدو) الآن في العراق فانه توجد سلسلة من ألاعداء على أنماط مختلفة، من داعش إلى أمريكا إلى بريطانيا، هؤلاء كلهم موجودون في الساحة فكيف تتعامل معهم؟
الاسترشاد بهم (عليهم السلام) في علوم الحياة: السياسة، الاقتصاد، الاجتماع و...
ألا يجب أن نسترشد بهدي المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم وتعاليمهم وهديهم فانهم في كل هذه الحقول رحمة وأية رحمة!، فكما أن علم الأصول رحمة، فان علم الاجتماع أيضاً رحمة وعلم السياسة أيضاً رحمة وعلم الحوادث الواقعة ايضاً رحمة، واصل كل تلك العلوم وغيرها موجود في هذه المنظومة المتكاملة، لكن التقصير منّا، فقد كتبنا في علم الأصول المئات من الكتب - وهو واجب ولا يزال ايضاً المجال متسعاً للمزيد -
لكن في علم سياسة المعصومين عليهم السلام وفي علم اجتماعهم واقتصادهم لم نكتب الا القليل، فانهم (عليهم السلام) رحمة مهداة لكن القابل لم يستثمر ولم ينتفع، فمثلنا كشخص ترك له أبوه ثروة هائلة في البنك لكنه يبيت طاوياً جائعاً عارياً مشرداً في الشوارع، فاذا قلت له لماذا لا تستفيد من هذه الثروة الموجودة في المصرف تجده يتعلل بعلل شتى ويبقى يلتحف السماء ويفترش الأرض...
وهكذا نحن في دروس الحياة ودروبها، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق وغيرها فان مثلنا مثل ذاك الشخص الذي يملك ثروة هائلة لكنه يلتحف السماء ويفترش الأرض.
ولأن المناسبة هي مناسبة شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام) سوف نستشهد بمثالين من حياته صلوات الله وسلامه عليه ثم نركز على مثال ثالث:
كيف استهزأ ابو حنيفة بالامام الكاظم (عليه السلام) وكيف اجابه؟
التقى أبو حنيفة بالإمام الكاظم (عليه السلام)، وابو حنيفة – كما يعلم الكل - هو تلميذ والده، وهو القائل لولا السنتان[15] لهلك النعمان، - ومن هذه القضية يمكنكم ان تتصوروا كيف ان بعض النفوس بعيدة عن جادة الاستقامة والنزاهة النفسية -
فقال للإمام الكاظم (عليه السلام) أخبرني هل كان أبوك يحب العود أم الطنبور؟
ولاحظوا خبث هذا الكلام، وما يحمله ويستبطنه من سخرية واستهزاء بل وتعريض مع ان هؤلاء أبناء الرسول (صلى الله عليه وآله) ثم انه أستاذك، اضافة الى ما لهم من مقام العلم والامامة.
وهنا لنلاحظ جواب الإمام الكاظم (عليه السلام) ولنلاحظ معنى الأسوة والقدوة ونستذكر ان في كل قضية وامر وحادثة وواقعة تُوجد فكرة وموقف ومنهج وحجة أيضاً وأسوة.
الإمام الكاظم بكل هدوء وموضوعية أجابه: (كلا، بل كان يحب العود) ولقد كان الامام يقصد من العود عود البخور، وهذا نظير او من (الاستخدام) كما هو معروف في علم البلاغة.
فأفحم أبو حنيفة، حيث اجابه الامام (عليه السلام) بكل هدوء وبكل موضوعية ولم يجب الاستهزاء باستهزاء مضاد، ولا بثورة غضب.
فلنتخذ من الامام اسوة وقدوة في مختلف المواقف والمجالات والحقول.
موقف الامام الكاظم (عليه السلام) من استهزاء بعض الاكابر!
في موقف ثانٍ ينقله السيد الوالد في كتاب (من حياة الإمام الكاظم (عليه السلام)) عن شخص من الأكابر – بالمنطق الدنيوي - كان راكباً على جواده، فرأى الإمام الكاظم (عليه السلام) فقال لنضحك عليه ونستهزأ به، وهنا نعلق: ان الأئمة ووجهوا بأنواع من الحروب، واننا عادة نعرف الحروب السياسية والمواجهة العسكرية، لكن هناك أنواع أخرى من الحرب متعددة متنوعة منها سياسة التسقيط عبر الاستهزاء، ولَكُم ان تصوروا شخصية كبيرة تمر في الشارع، وشخص يستهزء به، ان سياسة بني أمية وبني العباس كانت تبتني في جزء كبير منها على السخرية والاستهزاء كنوع من التسقيط او الحطّ ــ في تصورهم ــ من شأن الأئمة (عليهم السلام)، ولنقرأ نص الرواية:
(خرج عبد الصمد بن علي ومعه جماعة فبصر بأبي الحسن عليه السلام مقبلاً راكباً بغلاً، فقال لمن معه مكانكم حتى أضحككم من موسى بن جعفر).
وهنا تعليق آخر: وهو انني بعد البحث وجدت أن امثال هذه لاتنحصر بقصة أو قصتين، بل تكررت امثالها كثيراً كثيراً وكان ذلك كما سبق منهجاً للطغاة في كل صغيرة وكبيرة اذ كانوا يستهزئون بالأئمة (عليهم السلام) والقصص كثيرة جداً، بحيث لو جمعها باحث لاصبحت كتاباً ضخماً والمهم معرفة أن الأئمة كيف واجهوا هذا المنهج وماذا كانت سياستهم تجاهه، والحكومات الان هي بدورها بشكل أو آخر تمشي على هذا المنهج، وكذلك العلمانيون بالمعنى الآخر، لأن العلمانيين قسمان، قسم يقول أنا لست مع الدين كما لست ضده، والآخر يقول أنا ضد الدين، وفرنسا علمانية من القسم الثاني أي ضد الدين وكذلك تركيا اتاتورك، عكس بعض الدول الغربية التي تقول انني لا مع ولا ضد.
والحاصل: ان العلمانيين والملاحدة يستخدمون هذا المنهج كطريق أساسي وكذلك بعض الهرمنيوطيقيين في التسقيط، عبر السخرية والاستهزاء وإثارة الشبهات على هذه الطريقة في مختلف الأبعاد، وهذا طريق ومنهج وموقف يستدعي موقفاً وطريقة ومنهجاً، ولنا عليه الحجة ولنا فيهم (عليهم السلام) الأسوة.
وقد لاحظت بأن بعض المفكرين أو العلماء لعله يكون احياناً مربكاً أمام هذه الهجمة المختلفة: (المنهج التسقيطي) التي تشن على الدين بدأ من الله سبحانه وتعالى ووصولاً إلى الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) اذ لايعتمد اصحاب هذا المنهج على فكر موضوعي بل سلاحهم هو تحريك عواطف الجهلة والتشكيك الاستهزائي وقد لاحظت أحدهم في الانترنت، ولا أنقل كلامه لكونه ساقطاً، يستهزأ بسورة الكوثر بطريقة لا تناسب إلا حقراء مثله، المخططون الابالسة من وراء امثال هذا الجاهل يعرفون بأن القضايا ليست كلها بالمنطق بل كثيراً يمكن خداع الناس، بالتهريج وموطن الشاهد ان هذا يحتاج إلى نوع من الموقف وإلى كيفية صياغة او تخريج ذلك الموقف ثم لابد أن تَكون لك أسوة وقدوة، وهذه كلها متوفرة في تاريخ المعصومين (عليهم السلام) بل هي غنية بها وحافلة لكن بعضنا مع الأسف بعداء عن البحث المنهجي المستوعب في هذا الحقل).
فلنعد الان الى الرواية: (خرج عبد الصمد... فقال لمن معه مكانكم حتى أضحككم من موسى بن جعفر فلما دنى منه قال له: ما هذه الدابة التي لا تدرك عليها الثأر ولا تصلح عند النزال؟)
يعني ان البغل لا يفيد في المعركة، اما النافع فهو الجواد والحصان، كما انك لا يمكنك ان تطارد شخصاً بالبغل لأنه ليس مسرعاً كالجواد.
(فقال له أبو الحسن له: تطأطأت عن سمو الخيل، وتجاوزت قموء العير) وما اجمله من جواب علمي موضوعي هادئ!
والعير لها معنيان احدهما البعير، وتطلق العير على قافلة البعران والجمال وقيل أنه الأصل فيها، وثانيهما تطلق على قافلة الحمير، والمراد هنا المعنى الثاني لأن الحمار كأنه مكفوخ على رأسه ومقموع او هكذا يراه عرف الناس، أما البغل فهو شيء وسط، وخير الأمور أوسطها، (فأفحم عبد الصمد فما أحار جواباً).
نماذج من مواقف علمائنا الابرار
وهذا يذكرنا أيضاً بما فعله العديد من الأعاظم من أعلامنا، فالشيخ الطوسي مثلاً في القصة المعروفة كتب له شخص: يا كلب بن كلب... فأجابه الشيخ نصير الطوسي بجواب في غاية الهدوء والموضوعية ومضمونه: أما ما قلت كلب بن كلب فهذا ليس بصحيح لأن الكلب مشعر وأنا لست بمشعر والكلب يمشي على القوائم الأربع، وأنا منتصب أمشي على رجلين وهكذا.
والشيخ الأنصاري أيضاً في قصة معروفة كتب له شخص: انك صرت عالماً ولكنك ما صرت آدمياً، وأن تصبح عالماً أمر سهل لكن أن تصبح آدمياً فهذا محال!!
الا ان الشيخ الأنصاري بكل موضوعية وبكل هدوء أجابه وقال بأن ما ذكرته من القاعدة الكلية ليس بصحيح إنما الصحيح أن تقول هكذا: أن تصبح عالماً أمر صعب وليس امرا سهلاً، ولكن أن تصبح انساناً فهو أمر أصعب وليس محال.
هكذا وكان مراجعنا العظام على مر التاريخ ولي الآن في الذهن من السيد الوالد رحمه الله ومن السيد العم حفظه الله ومن عدد من المراجع الأعلام في قم والنجف ومشهد وكربلاء الكثير من القصص من هذا القبيل.
ختاماً: فان الأئمة (عليهم السلام) كانوا يجسدون منظومة متكاملة تمثل الرحمة النبوية للعالمين باسمى واجلى وابهى صورها وتجلياتها في كل الابعاد.
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[16])
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.