التفسير السيّال والمتعدد للقرآن الكريم
(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (9)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-12-17 07:01
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).
المفرِطون والمفرِّطون والمعتدلون
لقد انقسم الناس والمفكرون والطوائف والفرق تجاه المحكمات والمتشابهات إلى أقسام: مُفرِط ومُفرِّط ومعتدل:
1- أما المعتدلون فانهم يرون المحكمات محكمات والمتشابهات متشابهات، فقد تطابقت رؤيتهم الإثباتية مع الحقائق الثبوتية.
2- وأما المفرِطون فانهم الحقوا المتشابهات بالمحكمات، وارتأوا انهم كما يمكنهم أن يجوبوا رياض المحكمات عبر أسلحة التفكر والتدبر والتأمل، كذلك يمكن أن يبحروا في محيطات المتشابهات ومجاهيل التأويل عبر قوارب الاستلهام والتصفية والتخلية والتحلية والتجلية والتفكر، وانهم كما يمكنهم استكناه معاني المحكمات يمكنهم كذلك استبطان أعماق المتشابهات، فهؤلاء هم الباطنيون والصوفيون(1) وقد سبق بعض الكلام عنهم.
3- وأما المفرِّطون فقد الحقوا المحكمات بالمتشابهات وارتأوا انها بأجمعها متشابهات، وقد انقسموا بدورهم إلى فرق فقال قوم: انّ قصد المتكلم قائم به، ولا يمكننا الإحاطة بمقصوده إلا إذا أمكننا الإحاطة بكنه ذاته وشراشر وجوده وذلك غير ممكن في الإنسان العادي فكيف بإله الكائنات؟ وقال قوم: ان المحكمات متشابهات حيث ان الأفهام متعددة كما انها سيّالة، فكيف تكون المحكمات محكمة؟.
أما انها متعددة فلأن كل فريق ومسلك يفهم من القرآن غير ما يفهمه الآخرون، وقد تتكثر الأفهام إلى ثلاثة وأربعة وعشرة أو أكثر، فإما ان نقول بأنها بأجمعها حجة أو ان نقول بانه لا شيء منها بحجة، كما انها سيّالة لأن الأفهام متطورة، متغيرة، متحورة، متحولة، فليست لها حقيقة ثابتة.
وهذا المسلك الثاني هو الذي سلكه الكثير من الحداثويين على اختلاف مدارسهم. وحيث تنوعت كلمات الحداثويين، فلننتخب هنا أحدها ثم نخضعه لمجهر البحث والنقد والمناقشة.
تفسيرات النص الديني متنوعة متحولة سيّالة
قال أحدهم بعد أن تحدث عن أن فهم النصوص الدينية متعدد وسيّال: (السبب في ذلك هو أنّ النصّ الديني "القرآن والسنة" صامت، ونحن نستعين دائماً في فهم النصوص الدينية وتفسيرها –سواءً في الفقه أو الحديث أو تفسير القرآن– بمجموعة من التوقعات والتساؤلات والافتراضات المسبقة؛ وبما أنّه لا يُمكن تبلورُ أيّ تفسير من دون الاعتماد على أي توقع أو تساؤل أو خلفية مسبقة، وبما أنّ هذه التوقعات والتساؤلات والخلفيات تأتي من خارج الدين، وبما أنّ ما هو خارج عن الدين متغيّر وسيّال – حيث إنّ العلم والفلسفة والنتاجات الفكرية الإنسانية في حالة تزايد وتراكم مستمرّ – فإنّ التفسيرات التي تتبلور في ظلّ هذه التساؤلات والتوقعات والافتراضات ستكون متنوعة ومتحوّلة)(2).
وعلينا أن نصوغ أولاً كلامه في نقاط محددة ثم نعرّج إلى مناقشتها:
ملخص الرأي الهرمينوطيقي:
1- النص الديني صامت.
2- اننا نستعين دائماً في تفسير النصوص الدينية وفهمها بالتوقعات والافتراضات والتساؤلات أو المسبقات الفكرية والخلفيات النفسية.
3- انّ هذه الخلفيات والفرضيات تأتي من خارج الدين.
4- انّ ما هو خارج عن الدين متغير وسيّال لأن العلم والفلسفة.. إلخ في حالة تزايد مستمر.
5- فتفسيراتنا وأفهامنا للنصوص الدينية، لا مناص من أن تكون متنوعة ومتحولة.
المناقشات:
هل النص الديني صامت؟
أولاً: قوله: (ان النص الديني صامت) يناقش بالوجوه الآتية:
أ- النص الديني نوعان: محكم ومتشابه، والمتشابه هو الصامت، أما المحكم فانه ينطق بمداليله، وإلا لما سمي محكماً (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ولما اعتبره العقلاء، من كل الملل والنحل، دالاً على المقصود ناطقاً به ولما بنوا عليه حياتهم وجميع محاوراتهم.
والواقع هو ان هذا الكاتب خلط بين المتشابهات والمحكمات، فان المتشابهات هي الصامتة دون المحكمات.
ب- انّ الكاتب افترض ان النص المكتوب صامت وافترض ان الصامت يعني المبهم، مع ان المبهم لا هو مرادف للصامت معنىً، ولا هو مساوٍ له من حيث المصاديق، والنسب الأربع، فان المكتوب قد يكون مبهماً كالمشترك اللفظي وقد يكون صريحاً في مدلوله (مما يسمى بمصطلح علم الأصول بالنص) وقد يكون ظاهراً فيه، والظواهر أيضاً ناطقة بمداليلها بحسب الأفهام العرفية لشتى الأمم.
بعبارة أخرى: النص المكتوب هو نفس المنطوق والمتلفّظ به، إلا انه تارة يجري على اللسان وأخرى يكتب بالبنان، وهل يقول الكاتب بان النص المنطوق أيضاً صامت؟ أو يقول بانه مبهم؟
والحاصل: ان ما تنطق به من الكلمات قد تكتبه، فهو وإن كان صامتاً حينئذٍ إلا انه نفس الناطق، فهل إذا كان قولك (أكرم زيداً) ملفوضاً كان ناطقاً غير مبهم لكنك إذا كتبته في رسالة إلى ابنك مثلاً صار صامتاً مبهماً؟
ج- سلّمنا أن النص القرآني مثلاً صامت، لكن هنالك من ينطق به وبمدلولاته، كما هو صريح القرآن الكريم (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فلو فرض انه مبهم فإن إبهامه يرتفع ببيان الرسول (صلى الله عليه وآله) ألا ترى انك لو كتبت رسالة إلى شخصٍ فأُبهم على المرسَل إليه بعضُ ألفاظها، فشرحتها له، فانه سيكون حجة وناطقاً بالمراد حينئذٍ؟
د- النقض، بان النصوص المكتوبة كلها صامتة، وهل يلتزم الكاتب بان (الدستور) و(القوانين المكتوبة) و(اللوائح الوزارية) وغيرها كلها صامتة واننا نستعين في فهمها وتفسيرها بمجموعة من التوقعات والافتراضات والمسبقات والخلفيات، وانها مأخوذة من الخارج(3)، وحيث ان كل ما في الخارج متغير وسيّال لذا فان فهمنا للنصوص الدستورية والقانونية متنوع وسيّال مما يعني انه لا يمكن ان يحتج به المحامي على القاضي ولا القاضي على الطرفين ولا الحاكم على المحكوم وبالعكس ولا أي أحد على أي أحد، مما يلزم منه لغوية كافة كتب القانون ولغوية كتابة الدساتير واللوائح وأشباهما؟.
بل نقول: ان الكتب المدرسية كلها صامتة ونحن نستعين في فهمها بالخلفيات... إلى آخر كلامه بنقاطه الخمس، وهل يرتضي أحد من العقلاء ذلك؟ بل هل يرتضي هو ذلك لأولاده إذا قام المدرِّس بشرح المادة (الطب، الفيزياء، السياسة... إلخ) على خلاف ما تدل عليه ظواهر الألفاظ مستنداً إلى النقاط الخمسة الماضية لكن بتغيير أول نقطة إلى (1- النص المدرسي نص صامت، 2- ونحن نستعين... إلخ) وألا تجد العقلاء في كل أرجاء العالم يحكمون بطرد هذا المعلم لو تمادى في هذه الفلسفة واستند إلى أن الفهم متغير وسيّال، لذا فان لي أن أفسر هذه المواد والكتب بحسب مسبقاتي وافتراضاتي وإن خالفت فهم عامة الناس، بل وإن عارضت تصريح المؤلف نفسه لأن المؤلف أيضاً كان يحمل خلفيات ومسبقات وهي مستقاة من الخارج وما هو في الخارج متغير وسيّال... إلخ!!!
واننا نستعين في التفسير بالقواعد العقلائية الثابتة
ثانياً: قوله: (ونحن نستعين دائماً في فهم النصوص الدينية وتفسيرها – سواءً في الفقه أو الحديث أو تفسير القرآن – بمجموعة من التوقعات والتساؤلات والافتراضات المسبقة).
نقول: الغريب انه وغيره من الهرمنيوطيقيين ذكروا كل شيء ولكنهم أغفلوا أهم شيء:
أما ما ذكروه فهو (الاستعانة بمجموعة من أ- التوقعات، ب- التساؤلات، ج- الافتراضات، د- الخلفيات النفسية، هـ- المسبقات الفكرية).
وأما ما أغفلوه فهو أهم شيء تبتني عليه الحياة الاجتماعية كلها وتستند إليه كل محاورات العقلاء وتعتبر الأساس الذي منه ينطلقون وعليه يبنون وإليه يعودون، وهو القواعد الثابتة والمرجعيات المشتركة والأسس العقلائية والتي تتنوع بين قواعد لغوية – أدبية – ومرجعيات عقلية وأسس عقلائية، فبهذا الثلاثي الذهبي يستعين الناس من كافة الأديان والملل والنحل والمذاهب والمشارب وحتى من لا يتدين بدين أبداً، لفهم ما يكتبه بعضهم، من كتب أو رسائل أو أطاريح جامعية أو تقارير صحفية أو أوامر أو نواهي أو قرارات أو حتى قصص ومسرحيات وروايات.
ألا ترى ان الجمل التالية عندما تكتب بأية لغة وفي أي كتاب أو جريدة أو صحيفة أو مجلة وفي أي زمن من الأزمان، ان الناس، عامة الناس، يفهمون منها فهماً موحداً، وإنما يخرج عن ذلك طبعاً الوسواس غير المعتدل بالمرة، والجمل هي: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (سورة النساء: الآية 29) و(أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (سورة البقرة: الآية 275) (أَقِمِ الصَّلاةَ) (سورة الإسراء: الآية 78) و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (سورة الإخلاص: الآية 1) (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (سورة البقرة: الآية 279) وكذلك أمثال (العلماء جمع) (الأمر للوجوب)... إلخ.
نعم قد يكون النص الديني نصاً محكماً من جهة ومجملاً من جهة أخرى، فيكون لكلٍّ حكمه ولا يصح أن يُحكم على أي منهما بحكم الآخر، فمثلاً (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) يفهم منه جميع الناس ان البيع حلال جائز أحلّه تعالى، فهذا محكم دون ريب.. ولكن تبقى نقاط تخضع للبحث والتحليل، فإذا لم نحرز ظهوراً عقلائياً لها فتدخل حينئذٍ في المتشابه (المبدئي) (والمبدئي يعني انه قد ينتقل إلى دائرة المحكم ببركة تفسير الراسخين في العلم له أو بقرائن أخرى محكمة) فمثلاً (الْبَيْعَ) مطلق وليس بعام فدلالته على الشمول موقوفة على مقدمات الحكمة..
هل الموجود يعني الموجِد؟ والعالم يعني خالق العلم؟
ولنمثل ذلك بمثال طريف فقد مثّل له الغزالي بقوله: (ما رأيته في كلام بعض الباطنية: "أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها. وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، وإما أن يكون واحداً في نفسه وموجوداً وعالماً على معنى اتّصافه فلا". وهذا كفر صراح لأن حمل الوحدة على إيجاد الوحدة ليس من التأويل في شيء ولا تحتمله لغة العرب أصلاً، ولو كان خالق الوحدة يسمى واحداً لخلقه الوحدة لسمي ثلاثاً وأربعاً لأنه خلق الأعداد أيضاً. فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبّر عنها بالتأويلات)(4)..
والحاصل: إن الكل يفهم بانك عندما تقول زيد عالم أو الله عالم فان ذلك يعني انه هو عالم لا انه خالق للعلم، وموجود يعني انه هو موجود لا انه موجِد غير موجود، وهذا بديهي.
نعم له ان يفسر كلامه بخلاف ظاهره فيقول أقصد من (الله واحد) انه واحد لا بوحدة زائدة على ذاته بل هي عينه وانه عالم لا بعلم زائد على ذاته، بل علمه عين ذاته، ولو قال ذلك لفهمنا كلامه بوضوح وكان حجة له وعليه.
والخلفيات كثيراً ما تأتي من داخل الدين
ثالثاً: قوله: (وبما أنّ هذه التوقعات والتساؤلات والخلفيات تأتي من خارج الدين).
نقول: نقيض السالبة الكلية هي الموجبة الجزئية كما ان نقيض الموجبة الكلية السالبة الجزئية فالقول بان (لا شيء من الخلفيات والتوقعات و... إلا وقد أتت من خارج الدين) منقوض بان بعضها، بل الكثير منها، قد جاء من داخل الدين كما سيظهر، والقول بان (كل الخلفيات... قد جاءت من خارج الدين) منقوض بان بعض/ الكثير منها قد جاء من داخله، ويكفي أن نمثّل لذلك بمثال واحد، على ان نشفعه في الدرس القادم بأمثلة أخرى بإذن الله تعالى.
الله تعالى واحد لا بوحدة عددية، النص يشرح النص
فقد اعترض بعضهم بان الله تعالى يقول: (وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) (سورة النحل: الآية 51) فهو صريح في كونه تعالى واحداً، ولكن وردت رواية عن أمير المؤمنين تصرح بـانه تعالى (وَاحِدٌ لَا بِتَأْوِيلِ عَدَدٍ)(5) و(الْوَاحِدُ بِلَا تَأْوِيلِ عَدَدٍ)(6) فهو نفي لكون واحديته تعالى عددية، فكيف التوفيق وما المراد والمقصود؟ وماذا تعني الواحدية والوحدة العددية؟
والجواب: ان المثبَت غير المنفي، فان المثبت هو انه إله واحد والمنفي هي كون وحدته عددية، بل وحدته من سنخ آخر(7)، وقد أتى الإيضاح لمعنى الآية من داخل الدين وليس من خارجه، فانه تعالى (واحد) بنص الآية لكن الرواية تشرح المراد بالواحد وانه (وَاحِدٌ لَا بِتَأْوِيلِ عَدَدٍ) أي ليست وحدته عددية، فهذه إذاً هي الرواية الشارحة ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا المقدار من الشرح إذ اننا نصل في استقرائنا للروايات إلى رواية أخرى تزيد الشرح بسطاً وتسلط الأضواء على الفرق الإجمالي بين الوحدة في الخالق والوحدة في المخلوق وعلى وجه الاختلاف ووجه الاتفاق فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) انه سئل: (وَاللَّهُ وَاحِدٌ وَالْإِنْسَانُ وَاحِدٌ، أَلَيْسَ قَدْ تَشَابَهَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ؟ قَالَ (عليه السلام):... إِنَّمَا التَّشْبِيهُ فِي الْمَعَانِي فَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْمُسَمَّى)(8) فقد بَسَطَت الرواية الأمر أكثر وأوضحت ان هنالك فرقاً بين (الواحد) الذي يوصف به تعالى في القرآن الكريم والواحد الذي يوصف به زيد أو الشجرة مثلاً (إذا قلت: هنا شجرة واحدة، أو قلت زيد شخص واحد) وهو: ان (اسم الواحد) هو المشترك فقط أما (معنى الواحد) فهو مختلف فواحد في الله له معنى غير الواحد في الشجرة، والتشبيه والـمِثلية إنما هي في المعاني أي لو كان معنى الواحد والعالم في الله وفي زيد واحداً لكان زيد شبيهاً لله تعالى لكن المعنى، عند التدبر، مختلف.
إذاً أشارت هذه الرواية إشارة إجمالية إلى وجود فرق مضموني ومعنوي بين إطلاق الواحد على الله وعلى زيد وان المشترك هو الاسم فقط... ولكن عندما نتقدم خطوة أخرى في فحصنا عن الروايات الشارحة من داخل الدين للدين، نجد انها تتحدث بتفصيل أكثر عن وجه اختلاف (الواحد) عندما يطلق على الله تعالى عن (الواحد) عندما يطلق على غيره.. ونكتفي بروايتين:
الأولى: ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (فَلَا وَاحِدَ كَوَاحِدٍ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْوَاحِدِ مُتَجَزِّئٌ وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاحِدٌ لَا مُتَجَزِّئٌ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعَدُّ)(9) إذاً، كل واحد غير الله تعالى متجزئ ومركب فهو بظاهره واحد لكنه واقعاً مركب من أجزاء كزيد المركب من رأس وعنق وجسد ويدين ورجلين.. إلخ ومن روح ونفس وجسم وعقل وقلب أما الله تعالى فلا جزء له أبداً فهو واحد، لكن أين هذا الواحد من ذلك الواحد؟.
ويزيدنا الإمام علي (عليه السلام) ذلك تفصيلاً ووضوحاً بقوله: (لَا يَنْقَسِمُ فِي وُجُودٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا وَهْمٍ)(10) إذ الشيء قد ينقسم خارجاً ككل جسم مادي كالحجر والشجر والمدر، وقد ينقسم في الوهم وإن لم ينقسِم خارجاً كالجزء الذي لا يتجزأ على فرض القول به فانه يقبل القسمة في الوهم إلى جهة يمينه ويساره مثلاً، وقد لا ينقسم في الخارج ولا في الوهم بل ينقسم في العقل فقط لقوة العقل على التحليل كتقسيم الشيء إلى جنسه وفصله، لكنّ الله تعالى، في الشرح القادم من داخل الدين لوحدانيته: لا جزء له، لا في الوجود الخارجي ولا في الوهم ولا في العقل فليس له جزء وهمي أو حتى جزء في التحليل العقلي.
الثانية: ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) من قوله: (لِأَنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْأَعْدَادِ)(11) فهو بسط كلام لوجه نفي الوحدة العددية عن الله تعالى، وان الوحدة العددية تستلزم الـمِثلية، والله تعالى لا مِثل له (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (سورة الشورى: الآية 11) ولا ثاني له فانه واحد أحد فرد صمد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ) وهذا التفسير كما ترى كله من داخل الدين.
وتوضيحه: ان الوحدة العددية هي مبدأ الكثرة وان كل واحد عددي يمكن أن يضمّ إليه غيره فيكون اثنين وثلاثة وأربعة وهكذا.. أما الله تعالى فلا يمكن ولا يعقل أن يضمّ إليه غيره وإلا لكان له مِثل، فليست وحدته وحدة عددية، بل وحدته وحدة من سنخ آخر وهي (الوحدة الحقة الحقيقية).
وبعبارة ثانية: صِرف الشيء لا يتثنى ولا يتكرر، فحيث لم يتثنّ ولم يتكرر فليست وحدته عددية وإلا لأمكن أن يتكرر ويتثنى.
بعبارة ثالثة: الوحدة العددية تقابل الكثرة العددية وهما بحاجة للمحل القابل فما يقبل الوحدة يقبل الكثرة، والله لا يقبل الكثرة فليس محلاً قابلاً لها فلا يقبل الوحدة التي محلها القابل هو نفس محل الكثرة، ويوضحه ان العمى يحتاج إلى المحل القابل فإذا لم يكن شيء، كالجدار، قابلاً لأن يوصف بالعمى لم يكن قابلاً لأن يوصف بالبصر أيضاً إذ الملكات وأعدامها إما تصدق معاً (إمكاناً) أو لا تصدق جميعاً.
هل كل ما هو خارج عن الدين متغير سيّال؟
رابعاً: قوله (وبما أنّ ما هو خارج عن الدين متغيّر وسيّال).
نقول: أ- الكثير الكثير مما هو خارج عن الدين ليس بمتغيّر ولا سيّال:
- الأحكام العقلية القطعية: الكل أعظم من الجزء، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وكذا الضدان لا يجتمعان، إمتناع اجتماع المثلين، امتناع الدور، امتناع التسلسل.
- المستقلات العقلية: العدل حسن والظلم قبيح، فهما حكمان عقليان لا يتغيران أبداً وليسا بسيالين مترجرجين أبداً، وكذا ردّ الوديعة لصاحبها حسن، الإحسان حسن، الدفاع عن المظلوم حسن، نصرة الظالم أمر قبيح، شكر المنعم حسن وهكذا..
- القواعد الرياضية بأجمعها.
- القواعد الهندسية بأجمعها.
- الكثير من قواعد علم الاقتصاد، كقانون (تناقص المنفعة الحدية) وقانون (العلاقة العكسية بين السعر والوفرة بحسب مرونة الطلب) وغير ذلك(12)، وقد نفصّل الكلام عن بعض الأمثلة لاحقاً.
- الكثير من قواعد علم السياسة والاجتماع، كقانون (إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رآه اسْتَغْنَى) (سورة العلق: الآية 6-7) فان القدرة بطبعها توجب الطغيان والفساد والاستبداد إلا بكابح خارجي، كالأحزاب المنافسة والدول الأخرى الضاغطة، أو بعامل داخلي كـ(الإيمان العميق بالله تعالى) (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (سورة يوسف: الآية 24).
- الكثير من القواعد المنطقية: العكس المستوى، عكس النقيض، الأشكال الأربعة، الموجّهات.. إلخ
- الكثير من القواعد الفلسفية: لا يعقل وجود ممكن (أو معلول) بلا علّة، العلة الغائية علّة فاعلية الفاعل المختار، أول الفكر هو، اقتضاءً، آخر العمل.
- الكثير من قواعد الفيزياء والكيمياء...
وليلاحظ قولنا (الكثير) إذ اننا ننقض عليه في سلبه الكلي (لا شيء مما هو خارج الدين بثابت، وكله متغيّر وسيّال...) وللكلام عن هذا تتمة فانتظر.
وللمتغيرات قواعد ثابتة: المنطق الضبابي مثالاً
ب- ان كل ما هو متغيّر وسيّال، فان له قواعد ثابتة غير متغيرة ولا سيّالة تحكمها.
إذاً: كل الثوابت ثوابت وكل المتغيرات تحكمها ثوابت.. وسيأتي تفصيل ذلك وسنمثل له بمثال معاصر هام غفل عنه هؤلاء الحداثويين إذ بقوا سجناء فكرهم الفلسفي هذا ولم يطلعوا حتى على تطور العلوم الذي شهد بان المتغيرات تحكمها ثوابت، ومن ذلك العلم المبتكر في السبعينات المسمى بـ(منطق الغموض أو المنطق الضبابي) الذي وضع قواعد (أو اكتشف قواعد) حاكمة على المتغيرات، وهذا ما سنفصّله في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى.
سؤال تمريني: هل توجد منطقة وسطى بين المحكمات والمتشابهات؟ وهل يوجد ما هو محكم ومتشابه في الوقت نفسه؟
سؤال آخر: هل يوجد في القرآن الكريم متشابه ذاتي ومتشابه عرضي؟
سؤال ثالث: لماذا لا يسلب اكتشاف أخطاء في العلوم الإنسانية، وحتى علوم كعلم الفيزياء والكيمياء، الوثوقَ بهذه العلوم؟ وكيف لا يضر ذلك بمرجعية القواعد في العلوم؟.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين