مناهج التفسير.. الظاهري، الباطني، ومنهج المعطِّلة
(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (2)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-10-22 05:58
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: ((هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ))(1).
وفي الآية الكريمة العديد من المباحث والكثير من البصائر:
البحث الأول: بصائر قرآنية
من البصائر: انّ الآيات المحكمات تتميز بأمرين: الأول: الحجية، الثاني: المرجعية.
الآيات المحكمات حجج
أما الحجية، فلفرض كونها محكمات، والمحكم هو الذي لا يتسرب إليه الريب والشك والإبهام والالتباس والتشابه والإجمال، وإلا لما كان محكماً، هذا خلف، والحجية تعني الكاشفية عن المراد الجدي للمتكلم، كما تعني المنجزية والمعذرية، وتعني، بالتبع، لزوم الإتباع، وهي معاني ثلاثة للحجية فصّلنا الكلام عنها وعن سائر معانيها في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها).
المحكمات مرجعيات؛ للآيات والروايات وحكم العقل
وأما المرجعية، فبعد فرض كونها حجة تكون المرجع والـحَكَم والمفسِّر، وذلك لوجوه:
أولاً: لقوله تعالى: ((آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ)) والأم هي الأصل والأساس والمرجع، ويقال للأم أمّ لأنها الأصل والأساس الذي يرجع إليه الأبناء، ويقال لأم القرى أم القرى لأنها القرية المركزية الأكبر التي تحيط بها قرى صغيرة ترجع إليها في الشؤون الاجتماعية والمالية وشؤون السوق وغيرها، نظراً لأن الأعاظم والكِبار، من شيوخ العشائر والإقطاعيين وحتى العلماء والتجار، يتواجدون عادة في أم القرى ولذا قال في التبيان: (وقوله: ((هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ)) معناه أصل الكتاب الذي يستدل به على المتشابه، وغيره من أمور الدين)(2).
ثانياً: للروايات الشريفة ومنها: ما ورد في العيون عن الرضا ((عليه السلام)) قال: ((مَنْ رَدَّ مُتَشَابِهَ الْقُرْآنِ إِلَى مُحْكَمِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، ثُمَّ قَالَ ((عليه السلام)): إِنَّ فِي أَخْبَارِنَا مُتَشَابِهاً كَمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، وَمُحْكَماً كَمُحْكَمِ الْقُرْآنِ، فَرُدُّوا مُتَشَابِهَهَا إِلَى مُحْكَمِهَا، وَلَا تَتَّبِعُوا مُتَشَابِهَهَا دُونَ مُحْكَمِهَا فَتَضِلُّوا))(3).
ثالثاً: لحكم العقل بان المحكمات هي المرجع لتفسير المتشابهات أو قبول معنى منها ورد معنى آخر أو لتقوية معنى وإسناده دون الآخر، وذلك جارٍ في التكوينيات والعلوم والمعارف وفي الكتاب التدويني، ففي عالم التكوين نجد ان القوي من الأبطال في المعركة هو الذي يسند الضعيف من الجنود والضعيف هو الذي يتقوى بالقوي، وكذلك أساس البناء فانه كلما إزداد استحكاماً تقوّت به الأبنية الفوقاية.
أحكام العقل المستقل باعتبارها مرجعيات
وفي عالم المعارف والعلوم، نجد ان المتشابه من الأفكار والمعارف والعلوم يُرجَع إلى المحكم منها، فيكون المحكم تارة هو الشارح والمفسر وأخرى هو الـحَكَم والفيصل، وعلى سبيل المثال: ما لو ادعى امرءٌ إمكان الدور مستنداً إلى وقوع الدور المعيّ، نظير اعتماد كتابين أحدهما على الآخر في عدم السقوط على الأرض فيما إذا وضعا على شكل الرقم 8 أي اسند أحدهما إلى الآخر بهذه الهيئة فان وقوف كل منهما بالشكل المائل متوقف على وقوف الآخر بالشكل المائل كذلك. وكذلك ما لو تصور أحد إمكان الدور مستند إلى أمثال البيت المعروف:
مسألةُ الدَّوْرِ جَرَتْ-----بيني وبين من أُحِبّ
لولا مَشِيِبيَ ما جفا-----لولا جَفاه لم أشِبْ
فان علينا، ههنا، ان نرجع إلى المحكمات من أحكام العقل حيث يرى استحالة توقف الشيء على ما يتوقف عليه وهو الدور، ومن هنا نقول ان ما ذكر أعلاه شبهة في مقابل البديهة وإن لم نعرف وجه التخريج العلمي للجواب عن المثالين السابقين، كالقول بالخروج التخصصي للدور المعي عن الدور المحال، وانه في (لولا مَشِيِبيَ ما جفا) لم يتوقف الشيء على ما توقف عليه بنفسه بل اختلف المتوقف عليه عن المتوقف عليه باختلاف الدرجة فان مشيبه بقَدَر سبّب جفاء صاحبه بقدر. ثم ان جفاء صاحبه بِقَدَرٍ زاده شيباً على شيب، ولم يسبب نفس الشيب السابق.
وكذلك من يدعي استحالة الترتب الذي يعني الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم، فانه يمكن الجواب عنه بالضرورة بالوجدان، واننا نجد من أنفسنا صدور الأوامر المولوية منّا بالمهم مترتبة على عصيان بعض أبنائنا للأمر بالأهم، كقولك لابنك (اذهب إلى المدرسة فإن عصيت فأذهب إلى السوق) حيث نرى من أنفسنا ان الأمر بالذهاب للسوق مولوي وليس إرشادياً ولذا نراه مستحقاً للعقاب بمخالفته إضافة لاستحقاقه العقاب بمخالفته الأمر الأهم.
وكذلك من يدعي من الفيزيائيين إمكان التناقض لشواهد استدل بها، فانهم لو ملأوا ألوف الصفحات بالتجارب، لكان جوابنا جواباً واحداً متقناً وهو الرجوع إلى محكم من المحكمات العقلية وهو (استحالة التناقض) والذي ينتج انه لا بد ان يكون ثمَت خطأ في تجاربهم وإن لم نستطع تحديده بالضبط، فانه لو قبلنا بإمكان التناقض لوجب ان نقبل بان تجاربهم تنتج إمكان التناقض، وتنتج في الوقت نفسه من الجهة نفسها استحالته! وهو ما لا يقبلونه أبداً.
البحث الثاني: مناهج التفسير:
وهي متنوعة متكثرة ومنها:
المنهجان الظاهري والباطني
وقد سبق بعض الكلام عن المنهج الظاهري وسنعود إليه من جديد بإذن الله تعالى، كما سبق بعض الحديث عن المنهج الباطني، وسنتوقف ههنا قليلاً لنلقي نظرة فاحصة على عدد من المآخذ والإشكالات التي يعاني منها هذا المنهج فنقول:
من المؤاخذات على المنهج الباطني
يمكن ان نسجل على المنهج الباطني، الملاحظات التالية:
أ- ان المشكلة الكبرى في المنهج الباطني، بحسب ذلك النمط الذي يحمل رايته الكثير من الباطنيين هو انه يستبطن الفوضوية المعرفية، حيث لا يتقيدون بالظواهر والنصوص، ويرون أنفسهم أحراراً في استنباط أي معنى من أي لفظ بأدنى مناسبة تخطر في بالهم أو حتى من دون مناسبة، فلا يستقر حينئذٍ حجر على حجر، والواقع هو ان التفسير الباطني يعتمد (المباني) بدل (المعاني) في تفسير الكلمات والجمل، وهو ما يفتح الباب للفوضوية المعرفية وللتقولات المتناقضة على كل قائل ومتكلم.
ب- بل انه يعني ان كل شيء من عالم الألفاظ سيكون علة أو بمنزلة العلة لكل شيء من عالم المعاني.
ج- والحقيقة ان المنهج الباطني في واقعه منهج ذوقي، وقد يدّعي بعضهم ان ذلك نوع من الإلهام الإلهي، ولكن: من أين انه إلهام إلهي: 1- فلعله وحي شيطاني وقد قال تعالى: ((وَإِنَّ الشَّياطينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ))(4)؟ 2- ولعله من صناعة القوة المتوهمة؟ 3- ولعلها فكرة مستلّة من الأرشيف المتكدس في منطقة الوعي الباطن؟ خاصة مع تطابق تفسيرهم الباطني واستنباطاتهم مع مبانيهم الفكرية والعلمية مما يؤكد إمكانية انبعاث ما يرونه إلهاماً عنها! 4- كما لعلها إلقاءات الجن؟ 5- ولعلها من قبيل توارد الخواطر؟ 6- أو لعلها تموجات لقوى خفية كثيرة مما يمتلأ بها الكون من دون أن ندري؟ فذلك كله محتمل احتمالاً عقلائياً أو علمياً فمن أين انه إلهام إلهي؟
د- إضافة إلى ذلك فان التفسير الباطني مخالف لبناء العقلاء وسيرتهم، مما يشكّل خروجاً عن المنهج العقلائي، إذ العقلاء يعتمدون على الظواهر والنصوص كأهم أساس من أسس التفهيم والتفهم، وهم يرفضون بشكل باتٍّ حتى الاستعمالات المجازية إذا كانت بدون القرينة، فكيف باستعمال اللفظ في معاني أجنبية تماماً عن مفاداته اللغوية والعرفية؟ وكيف بإنطاق النص بغير ما ينطق به؟
هـ - كما ان المنهج الباطني مخالف لنص الكتاب؛ إذ يقول تعالى: ((وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ))(5) ولسان القوم، بل كل الأقوام في كل العالم على مرّ التاريخ، هو اعتماد النصوص والظواهر كمرجعية نهائية وحيدة في التفهيم والتفهم والتفسير والإسناد إلى الغير، ولو أرادوا غير الظاهر فان منهجهم كافة على نصب القرينة على الخلاف، كما يقول تعالى: ((بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ))(6) واللسان العربي يرى الألفاظ جسوراً إلى معانيها اللغوية والعرفية، دون المعاني المخترعة التي لا تربطها بالألفاظ أية رابطة وضعية.
و- كما يمكن ان نردّ على الباطني بانه يرفض رفضاً باتاً أن نفسر كلامه على حسب مبانينا، وبما يخطر في أذهاننا مدعين انه إلهام إلهي، فكيف يفسر هو كلام الله تعالى بمبانيه وبخطرات ذهنه ((قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ))(7)؟
نعم، إنما كان للرسول ((صلى الله عليه واله وسلم)) ان يفسر الظاهر والباطن جميعاً لأنه الذي كان يوحى إليه وكان جبرئيل ينزل إليه بالتفسير والتأويل، ولأن الله تعالى قال: ((وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ))(8) و((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...))(9)، لكنّ المفسر الباطني، كيف له ان يبرِّر تفسيره المتحرّر من قيود اللغة ومن الطريقة العقلائية العامة التامة، إلا بدعوى الإلهام الذي لا يُميّز عن غيره والذي لا توجد له ضابطة أبداً كما سبق؟.
نماذج من التفسيرات الباطنية المنفلتة
الباء براءة سر الموحدين!
1- فقد ورد في تفسير لطائف الإشارات: (سورة قريش، قوله جل ذكره: ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)).
((بِسْمِ)): الباء فى ((بِسْمِ)) تشير إلى براءة سرّ الموحّدين عن حسبان الحدثان، وعن كلّ شيء ممّا لم يكن فكان، وتشير إلى الانقطاع إلى الله في السّرّاء والضرّاء، والشّدّة والرخاء. والسين تشير إلى سكونهم في جميع أحوالهم تحت جريان ما يبدو من الغيب بشرط مراعاة الأدب. والميم تشير إلى منّة الله عليهم بالتوفيق لما تحقّقوا به من معرفته، وتخلّقوا به من طاعته)(10).
والاعتراضات السابقة كلها تتجلى بوضوح فهل تفسيره هذا عن وحي؟ أو انه من توارد الخواطر؟ أو انه إلهام رباني أو شيطاني؟ ومن أين؟ ثم لم لا يفسر الباء وغيرها بأنماط أخرى كأن يقول: الباء تعني بريق رداء الكبرياء! أو بحر الأبدية السرمدية؟ أو بداية النشأة الكبرى الكونية؟ أو غير ذلك.
2- وقد تولى أمثال أبو هريرة وضع الأحاديث، ثم تبنّاها أمثال النّويري على ضوء ما وصل إلى المسلمين من آراء المدرسة الأفلاطونية التي تؤمن بأرباب الأنواع(11)، وان لكل نوعٍ رباً واحداً من أرباب الأنواع، والحقيقة، كما يقول بعض المحققين، ان أرباب الأنواع هي الآلهة المتعددة عند قدامى اليونان، فخذ منه مثلاً خبره الذي يترجم رأي الافلاطونيين تماماً لكن بحديث مجعول: (وعن كعب: «إنّ لله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض، فإذا صاح صاحت الدِّيكة، يقول: سبحان القدّوس الـمَلِك الرحمن لا إله غيره»)(12).
الهدهد طائر الحقيقة!
3- والأغرب من ذلك تفسير البقلي الشيرازي (606هـ) الذي استعرض قصة سليمان ((عليه السلام)) والهدهد وذكر في قوله تعالى: ((ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ))(13) أنّه طائر الحقيقة، وهو طائر قلب سليمان الذي ابتعد عنه ساعة، فالقلب في هذه المدة كان غائباً عن حضرة الحق، ولـمّا بحث عنه ولم يجده تعجب من ذلك، فعلم أنّه كان غائباً عن الحق، وهذا هو شأن غيبة أهل الحضور من العارفين بحرم الله، فإنّهم ولكمال استغراقهم في ذات الحق يغفلون عن أنفسهم ولا يعرفون أين هم، ((لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَديداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبينٍ))(14) فسوق يعذّبه بالصبر على المراقبة، ورعاية حضرة الحق، وسوف يرميه في بحر المعرفة المجهول، لكي يصل إلى الفناء، وليفنى بعد ذلك الفناء ثانية، أو أنّه سيقتله بسيف المحبة أو العشق إلا أن يأتيه بعلم من الغيب المتنزّل من عالم الأبد)(15).
وقد أغرب البقلي في انفلاته عن الضوابط العرفية واللغوية والعقلائية حتى ناقض نفسه فمثلاً: ان علم سليمان، ككل إنسان، بنفسه وقواه وجوارحه ومنها قلبه، هو علم حضوري فكيف (ابتعد قلبه عنه ساعة)؟ وكيف (بحث عنه ولم يجده)؟ ثم كيف يعذبه بالصبر على المراقبة مع ان المراقبة ورعاية حضرة الحق هي أنس الموحدين وليست عذاباً للمؤمنين فكيف بالأنبياء والمرسلين، إلى ذلك: هل يُقتل القلب بسيف المحبة أم انه يحيى بها وقد قال تعالى: ((وَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ))(16)... إلى غير ذلك.
منهج المعطِّلة والمتحيرين
وهناك منهج آخر من مناهج التعاطي مع القرآن الكريم وهو ذلك الذي يرفض كلّاً من المنهج الظاهري والمنهج الباطني حيث لا يرى حجيةً لأي منهما ولا لغيرهما من المناهج؛ إذ يستند إلى ما نعبّر عنه أصولياً بإنسداد باب العلم والعلمي وحتى باب الظن المطلق بالمرادات الجدية للقرآن الكريم.
تعطيل أسماء الله تعالى وصفاته
وقد وُجِد من الحداثويين من يرفع راية هذا المنهج ويتبناه بشكل مطلق إلا ان ما ربما يمكن ان يعد بداية لهذا المنهج لكن بشكل محدود جداً جداً، هو ذلك الرأي الذي ذهب إليه القاضي سعيد القمي (م. 1692م) وجمع قليل من المتكلمين في صفات الله تعالى حيث ذهبوا إلى ما رأواه مقتضى تنزيهه جل اسمه حتى عن الصفات الجمال والصفات الإيجابية، فقالوا ان عالم لا تعني انه عالم بالفعل وانه يوصف بهذا الوصف حقاً بل صفة عالم تعني انه ليس بجاهل، وان وصفه بقادر يعني انه ليس بعاجز، وان حي يعني انه ليس بميت، وهكذا سائر صفاته تعالى، مما يعني تعطيل دلالة هذه الألفاظ على معانيها اللغوية والعرفية عندما تطلق على الله تعالى.
ولعلّ الذي دعاهم إلى ذلك، إضافة إلى ظواهر بعض الروايات التي أعرض عنها المشهور والتي نجدها عند عرضها على الكتاب نجدها مخالفة له، هو ان وصفه بالعلم كصفة إيجابية ممتنع على أي وجهٍ فُسِّر العلم، فان فُسِّر العلم بالحصولي امتنع وصفه به لاستلزام كونه تعالى محلاً للحوادث والصور المرتسمة في الذهن، وإن فُسِّر بالعلم الحضوري، امتنع وصفه به كذلك للزوم عدم علمه بالأشياء قبل وجودها لكونها معدومة حينئذٍ فكيف تكون حاضرة لديه بأنفسها ووجودها قبل وجودها؟
والجواب عن ذلك: هو ان كونه عالماً، معلومُ الإنّية مجهول الماهية أو الحقيقة أو الكنه، إذ اننا نعلم انه عالم لكن كيفية علمه أو نوع علمه مجهول لنا، بل هو علم من نوع آخر حتماً فلا هو حصولي ولا هو حضوري إذ ان علمه عين ذاته وحيث استحال ان نعلم ذاته بالكنه (ومجازاً: بالماهية) استحال ان نعلم علمه بالكنه، (ومجازاً بالماهية) ولكننا نعلم إنّيته أي تحقق ذاته ووجودها وتحقق علمه ووجوده دون ريب ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ...))(17).
والسرّ في عدم كونه حضورياً هو ان علمه عين ذاته فلو كان علمه بالأشياء حضورياً للزم كونها عين ذاته أو تقوّم ذاته في ذاته بغيره.
وعلى أي فهو من الخلط بين العلم بالثبوت وبين معرفة الحقيقة؛ ألا ترى اننا نعلم بوجود الكهرباء ولكن نجهل حقيقتها؟ واننا نعلم بوجود الأمواج الكهرومغناطيسية ونجهل حقيقتها، بل نعلم بوجود أرواحنا ونجهل حقيقتها ((وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي))(18).
الحداثويون: الكلام الإلهي يزيد الحيرة، والفهم دوماً متّهم
وأما الحداثيون فلهم في تبرير مسلكهم أدلة، لكننا سنُفاجأ عند دراستها بانها ليست في الواقع إلا أدلة خطابية أو شعرية وليس شيء منها ببرهان أبداً.
ولننقل هنا كلام بعضهم: (أنّ الكلام إذا كانت آفاقه محدودة ولم يكن باعثاً على الحيرة، فإنّ مضمونه – مهما كان نوعه: أمر أو نهي، وعد أو وعيد – لن يكون إلهياً؛ لأنّ الكلام الإلهي هو الذي يزيد من حيرة الإنسان؛ وعليه، ينبغي القول إنّه لا تفسير نهائي لكلام الله تعالى، وعلى الإنسان ان يتّهم دائماً فهمَه للخطاب الإلهي؛ لأنّه حينما يُريد المحدود أن يرتبط باللامحدود، فإنّ ذلك يُؤدّي إلى حصول مثل هذه المسائل (الحيرة وغيرها). إنّ حكاية الارتباط بالله تعالى تبدو كحكاية متناقضة، لا أنّها شفّافة وواضحة(19))(20).
مناقشات مع دعوى الحيرة وإتهام الفهم
والغريب ان هذا النص يتضمن مدّعيات غير بيِّنة في حد نفسها ولا مبيَّنة وانه يستدل عليها بمدعيات أخرى غير بيِّنة ولا مبيَّنة، وانه يستدل بأدلة غير صحيحة عقلاً في سوق العقلاء كما لا تصح عرفاً ولا شرعاً:
دعاوى بلا أدلة!
1- ان قوله: (أنّ الكلام إذا كانت آفاقه محدودة ولم يكن باعثاً على الحيرة، فإنّ مضمونه – مهما كان نوعه: أمر أو نهي، وعد أو وعيد – لن يكون إلهياً) هو مدّعى محض!! فمن أين ذلك؟ ومن أين أتت هذه الكبرى؟
2- وقد استدل عليه بـ(لأنّ الكلام الإلهي هو الذي يزيد من حيرة الإنسان) فهذا الدليل هو المدعى في نفسه، وقد زاد عليه مدعى آخر وهو (يزيد...) وما الدليل عليه؟ ومن أين عَلِم ان الكلام الإلهي هو كذلك كله؟.
كما تُخالف نص كلام الله تعالى
بل نقول: انّ الكلام الإلهي بنفسه يصرّح بانه على نوعين (محكم ومتشابه) كالآية الكريمة مورد البحث ((هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)) والمفروض ان المتكلم مسلم يذعن بالقرآن الكريم انه كلام الله، فان هذا هو مبنى كلامه إذ يقول انه كلام الله ولكنه يبعث على الحيرة ولا يوجب تفسير نهائي لكلامه... الخ فإذا أذعن بان هذا كلام الله فان أفضل من يعرّف كلامه ويبين لنا خصائصه وصفاته وانه باعث على الحيرة أو لا أو انه على أقسام، هو نفس كلام الله فيجب استنطاقه، وقد نطق في الآية السابقة بانه على نوعين.
كما نجد في آيات أخرى رداً واضحاً لهذه النظرية إذ يقول تعالى: ((وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)) كما صرح بانه ((بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ)) واللسان العربي لا يبعث على الحيرة في نصوصه وظواهره، بل عندما صرح بانه ((مُبينٍ)) دل على انه مبين وليس محيّراً فان المحيّر ليس بمبين.
مناقشة (لا تفسير نهائي لكلام الله)
3- قوله: (وعليه، ينبغي القول إنّه لا تفسير نهائي لكلام الله تعالى) يحتمل في مقصوده منه وجهان:
الأول: ان يريد انه يشتمل على معاني لا متناهية بنحو اللامتناهي اللايقفي وعلى بطون كثيرة جداً، وهذا صحيح لكنه لا ينفعه، أما انه صحيح فلروايات البطون الكثيرة ولقوله تعالى: ((قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً))(21)(22)وأما انه لا ينفعه فلأن وجود معاني متكثرة متدرجة في العمق أكثر فأكثر لا ينفي كون ظواهرها حجة، فان ((ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ))(23) وكذلك يجب ان يكون كلام كل متكلم حكيم يوجِّه خطابه إلى العلماء المختصين وإلى عامة الناس في وقت واحد فانه إن كان خبيراً متمكناً لأودع في ظواهر كلامه النافعة لعامة الناس، بواطن وأسراراً للخاصة ثم لخاصة الخاصة فمثلاً قوله تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))(24) تعني انه واحد وليس اثنين، ولو أنكر منكر ذلك لكان مخالفاً للطريقة العقلائية المتبعة في التفهيم والتفهم في كافة اللغات ولدى كافة الأقوام والملل والنحل، ولكن هذا لا ينفي وجود معاني أعمق لهذه الجملة يفهمها العلماء ومنها على سبيل المثال: ان (الأحد) يفيد انه ليست له أجزاء فهو يزيد على الواحد ان الواحد يفيد انه لا ثاني له ولكن قد يكون له جزء، فزيد واحد لكنه ليس بأحد إذ هو مركب من أجزاء كثيرة: كاللحم والعظم والعصب، والعين والأذن واليد والرجل، وأجزاء كلٍّ منها، لكنّ الله تعالى أحد أي ليس له جزء، وكل ما لم يكن له جزء امتنع ان يكون له ثاني كما قرر في محله.
(كما هو الواحد انه الأحد-----ليس لا الأجزاء لا أجزاء حد)
والحاصل: ان فهم العلماء للمعنى المعمق لا ينفي صحة المعنى الظاهر وإرادته وحجيته على الجميع.
الثاني: ان يريد من (لا تفسير نهائي لكلام الله) انه لا يوجد له تفسير ثابت ومرجعي ومحدد وصحيح دون ريب، والظاهر انه يقصده بدليل قوله بعد ذلك (وعلى الإنسان ان يتّهم دائماً فهمَه للخطاب الإلهي).
ولكن يرد عليه: ان فهم الخطاب الديني على نوعين:
فتارةً: يكون فهماً بحسب الطريقة العقلائية العامة التامة وبحسب منهج كافة العقلاء في التفهيم والتفهم، فهذا الفهم حجة دون ريب وهو ثابت ومرجعي ومحدد ولا مجال لأن يتهم الإنسان فهمه فيه مادام مطابقاً لفهم كافة العقلاء ومنبعثاً عن طرقهم التي تواضعوا عليها ومادام القرآن قد صرح بانه ((بِلِسانِ قَوْمِهِ)) و((بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ)) كما سبق.
وتارةً: يكون المفسر متفرداً في فهمه على خلاف الطرق العقلائية، فهذا هو المرفوض الذي يجب ان يتهم الإنسان نفسه في فهمه، وهو المسمى بالتفسير بالرأي، والغريب ان كلامه هنا كله هو من هذا القبيل!
وبوجه آخر: لا ريب ان ما نفهمه من قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ))(25) واضح لا مجال لإتهام أفهامنا فيه! وكذا قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ))(26) و((وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا))(27)... الخ.
ولكن لعلّ الذي أوقعه أو غيره في الخطأ هو خلطه بين المفهوم والمصداق، فان شخصاً قد يعترض على ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً)) باننا لا نفهم وجه العدالة في الزلزلة أو في خِلقةِ بعض الأجنّة مشوهين، ولذا نحن في ذلك من المتحيرين! فنقول: هذا من الخلط بين الأمرين إذ الكلام في معنى هذه الجملة، ومعناها واضح بديهي، وليس الكلام عن النقض على هذا الكلام الواضح معناه ببعض المصاديق بدعوى انها ظلم أو اننا نجهل كيف تكون عدلاً، فان ذلك كمن يقول لنيوتن مثلاً: انك تقول بان الجاذبية قوة في الأرض تجذب الأجسام إلى أسفل، لكن كلامك هذا محيّر وغير واضح ونحن نتهم فهمنا لكلامك لأننا نجد بعض الأجسام كالبالون مثلاً تطير إلى أعلى!
مناقشة دعوى (علاقة المحدود باللامحدود محيّرة دائماً)
4- قوله: (لأنّه حينما يُريد المحدود أن يرتبط باللامحدود، فإنّ ذلك يُؤدّي إلى حصول مثل هذه المسائل الحيرة وغيرها) والجواب واضح إذ:
أولاً: هذا كله مدعى بدون دليل، فمن أين انه (حينما يريد...)؟
ثانياً: اللامحدود لفرض انه عالم قادر فانه يمكن له ان يحدد آليات وطرقاً واضحة للتواصل بحيث لا توقع المحدود في الحيرة عند سماع كلامه، وقد حددها جل اسمه عبر (المحكمات) وهي: (نصوص كلماته) و(ظواهرها) كما حدد آليات أخرى موجبة للحيرة وأسماها المحكمات والمتشابهات ((مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)).
ويوضحه قوله تعالى: ((أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها))(28) فمهما كان ماء السماء كثيراً أو حتى لا محدوداً فرضاً إلا ان كل إناء يستوعب منه بقدر سعته الوجودية، فكلام الله تعالى مهما كانت له ظواهر وبطون لا محدودة إلا ان كل إنسان يستوعب منه بقدر ما يتحمله، فالبعض يفهم الظواهر والبعض البطن الأول والبعض البطن الثاني الأعمق.. وهكذا.
والحاصل: ان الحيرة في البطون تتعايش مع الوضوح في الظهورات والنصوص. فتدبر جيداً
ثالثاً: ان ذلك لو صح فانه يصح (حينما يُريد المحدود أن يرتبط باللامحدود) كما قال، لكنّ الأمر ههنا بالعكس؛ إذ القرآن الكريم هو (كلام اللامحدود الذي أراد ان يرتبط بالمحدود) فهو أعرف بكيفية إفهام كلامه لعباده بحيث يفهمون مراداته.
رابعاً: ان المقام ليس صغرى ارتباط اللامحدود بالمحدود إذ اننا لا نرتبط بالله تعالى مباشرة بل اننا نرتبط بكلامه جل اسمه، وكلامه مخلوق، وليس بقديم، ونحن مخلوقون فهي علاقة بيننا، ونحن كلمات الله التكوينية، وبين كتابه وهو كلماته التدوينية، وكما لكتابه ظاهر وبواطن وأسرار فكذلك للإنسان ظاهر وبواطن وأسرار، فأي إشكال في ان يفهم أحد مخلوقات الله (الإنسان) بحسب مراتب فهمه ورسوخه في العلم مخلوقاً آخر له (كلامه جل اسمه) بحسب درجات بطونه؟
مرجعيات لعلاقة المحدود باللامحدود
خامساً: هب اننا سلّمنا ان كل إنسان عليه ان يتهم كل فهم له للقرآن، وان كلام الله سبحانه يزيد الإنسان حيرة، ولكن الله تعالى حدد لنا مرجعيات وهم الراسخون في العلم وأوضح بانهم العالمون به وغير المتحيرين فيه قال: ((وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)) وقال: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...))(29).
سادساً: قوله: (إنّ حكاية الارتباط بالله تعالى تبدو كحكاية متناقضة، لا أنّها شفّافة وواضحة) ظهر جوابه مما سبق؛ إذ انه تعالى حدّد طرقاً وضوابط لارتباطنا به وهي (المحكمات) وليست هذه الطريقة في ارتباطنا به متناقضة أبداً، غاية الأمر ان يقول ان المتشابهات هي كذلك، وقد حدد تعالى مرجعية الراسخين في العلم كي نفهم واقعها ولا نقع في تناقض في الفهم، كما حدد المحكمات كمرجعيات لفهم المتشابهات ودفع وهْم وجود المتناقضات. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين