التبريرات المنطقية للانتهازية والمكيافيللية
ان الانسان لفي خسر (4)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-05-21 06:43
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(1).
وقال جل اسمه: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمينَ * ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(2).
المستبدون والظلمة لا تعوزهم الحجج والذرائع
إنّ البحث عن الظلم في علاقته بالإنسان المستخلَف في الأرض وفي دائرة قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(3) بعيد الغور مترامي الأطراف، لذلك سنقتصر في هذا اليوم على الحديث عن محور محدد وهو: (ان الظلمة وأشياعهم وأتباعهم لا تُعوِزهم التبريرات التي قد تبدو منطقية بحسب المعادلات الظاهرية) ذلك ان كل نوع من أنواع الظلم والعدوان يمارسه مستبد أو دكتاتور أو طاغوت فانك تجد إلى جواره حشداً من التبريرات والحجج والذرائع التي يتسلح بها أولئك المستبدون والظالمون في وجوه المصلحين والناقدين المعارضين، بل لا يعجز أولئك الظلمة عن العثور على حشد من وعاظ السلاطين ممن باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم لكي يفلسفوا أنواع الظلم والجرائم وشتى ألوان العدوان والمآثم حتى تبدو شرعية تماماً وحتى يبدو ان العقل والشرع قد تطابقا على ضرورة هذا التصرف العقلائي! الذي لم يكن يجوز للحاكم ان يحيد عنه لأنه بالضبط هو مقتضى قواعد الأهم والمهم وهو ما تدعو إليه المصلحة العامة!..
الحقائق المقلوبة
وبذلك تكون كل سرقة من بيت المال مبررةً وكل قتلٍ واغتيال موجهاً وكل انتهاك لحق أي إنسان حتى وإن كان من دائرة الحقوق التي أذعنت بها كافة الأديان، واجباً من أعظم الواجبات! وبذلك يتجلى مظهر آخر من مظاهر قوله صلى الله عليه وآله ((كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَتْ نِسَاؤُكُمْ، وَفَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَلَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقِيلَ لَهُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ؟ كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً وَ الْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً))(4).
ولكنّ قوانين الله تعالى وسننه في الكون لا تتغير مهما تسلح به المستبدون من حجج ومهما ساقوه من أعذار؛ فإن الظلم مرتعه وخيم، فمهما تسلح المستبدون بأسلحة التلبيس والتدليس، فإن الله تعالى للظالمين لبلمرصاد إذ جرت سنته على إهلاكهم بظلمهم (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) وعن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ((قالَ رَبُّكُم: وعِزَّتي وجَلالي، لَأَنتَقِمَنَّ مِنَ الظّالِمِ في عاجِلِهِ وآجِلِهِ، ولَأَنتَقِمَنَّ مِمَّن رَأى مَظلوما فَقَدَرَ أن يَنصُرَهُ فَلَم يَفعَل))(5).
الحجج المكيافيللية تمتد بامتداد تاريخ البشرية
والذي يبدو ان الحجج المكيافيللية التي يتذرع بها الظالمون وأتباعهم والتي يتشدق بها وعاظهم وتبثها أبواقهم، لم تنشأ مع كتاب (الأمير) وحده بل انها تمتد بامتداد التاريخ البشري ذلك ان الطغاة اعتبروا سلاح التبرير والتجهيل والتوجيه والتضليل واحداً من أهم الأسلحة التي تحفظ لهم عروشهم وتضمن لهم طاعة الرعية وبكل حب واندفاع، ويكفي ان نستحضر قوله تعالى عن فرعون (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُريكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْديكُمْ إِلاَّ سَبيلَ الرَّشادِ)(6) و(قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُريدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَريقَتِكُمُ الْمُثْلى)(7) وهكذا ينقلب الحق باطلاً والباطل حقاً والظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً في خِضمّ حشد من الخطب المنمقة والحجج المدروسة شديدة الجاذبية، عميقة الإغراء، شديدة التضليل والخداع.
وكما سبق فانه لا تقتصر نطاقات تبريرات جرائم الظلمة والمستبدين على حقل من الحقول دون آخر بل انها تمتد لتشمل كل جريمة يجتزحها الحاكم الجائر سواء أكانت اقتصادية أم سياسية أم حتى جنائية..
العثمانيون ومنطق قتل الاخوة والأبرياء
ولنبدأ رحلتنا هذه بجولة سريعة في جرائم العثمانيين، بأبشع صورها، والتي صوّرها وعاظ السلاطين بأروع الصور واعتبروها عين الحق وحاق الحقيقة والواجب الذي لا بد منه!
- فمؤسس الامبراطورية العثمانية عثمان غازي قام بإعدام عمه دوندار بيك عام 1298م.
- والسلطان محمد الفاتح (1481م) يصرح في دستوره (قانون نامه) بـ(وإن تيسرت السلطنة لأحد من أبنائي، فإنه ومن أجل المصلحة العامة يصح له قتل إخوته، إن هذا قانون آبائي وأجدادي، وهو كذلك قانوني، ولقد جوّز أكثر العلماء ذلك، فليعمل بموجبه حالًا) فقتل الاخوة الأبرياء هو إذاً مقتضى المصلحة العامة وإن كانوا أبرياء!!، وهو قانون آبائه وأجداده وهو قانونه أيضاً الذي يعلو عنده على قوانين الله تعالى والقرآن الكريم، وقد جوّزه وعاظ السلاطين أيضاً رغم قوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعاً)(8).
- ومراد الثالث، أمر بقتل خمسة من أخوته، فور توليه السلطنة!
- ومحمد الثالث، أمر بخنق كافة أخوته التسعة عشرة قبل ان يدفن أباه!
- وعندما أراد السلطان عثمان الثاني 1622 الذهاب إلى حملة «خوطين» العسكرية قرر، استباقياً، إعدام أخيه وذلك تحرزًا من قيامه بانقلاب عسكري، وضغط على شيخ الإسلام، أسعد أفندي ليصدر فتوى بذلك لكنه رفض ان يعطيه فتوى بجواز القتل، مما دفع السلطان لكي يأخذ الفتوى من قاضي عسكر الروم إيلي (قاضي الجند) طاش كوبرى زاده [كمال الدين محمد أفندي(ت1621)](9).
- والسلطان سليم قتل أخويه ثم أمر بقتل خمسة من أبنائهم!!
والقائمة طويلة.. مؤلمة.. وصادمة.
ليقتلونهم بالخنق كي لا تغضب الآلهة!
والغريب ان سلاطين بني عثمان الذين حملوا لقب الخلافة! كانوا يقتلون إخوتهم وأبناءهم خنقاً لا بالسيف وذلك لكونهم يؤمنون، تبعاً لموروث تركي – مغولي قديم، بانّ آلهة الكون تستاء من إراقة الدماء الملكية! لذلك كان لا بد من الإلتفاف على غضب الآلهة بخنق الأمراء بوَتَر القوس كي لا تغضب الآلهة – العمياء إلا عن رؤية جريمة إراقة الدماء!
فهذه إذاً هي الخلافة العثمانية التي يتصورها بعض المسلمين جنّة على وجه الأرض والتي يحلمون بإعادتها مرة أخرى!
وعاظ السلاطين: إعدام الأبرياء من فضائل السلالة العثمانية!
ولكنّ قتل الاخوة والأبناء من غير جرم أبداً وبنحو القصاص قبل الجناية وإن كان بشعاً إلى أبعد الحدود، إلا ان الذي يزيده بشاعة محاولات الحكام ووعاظ السلاطين تبرير ذلك بحجج شرعية وأخرى منطقية.
- فلقد (صرّح العالم الحنبلي السوري الكرمي (1624) بأن إعدام الأمراء تعدّ من فضائل السلالة العثمانية!. وقد اعتبر قتل الأبناء أمراً حسناً في سبيل القضاء على الثورة التي تؤذي المسلمين وتوقع البلاد في مشاكل مزمنة. وقال: إنه بالرغم من أن أي شخص سليم الحواس قد لا يحسّن هذا القرار، إلا أن فيه فائدة كبيرة(!)، وقد اعتبر من الضروري إعطاء الفتوى بإعدام ثلاثة أشخاص من أجل حماية 30 شخصاً!. بل انه ارتأى بان انهيار السلطنة المغربية؛ جاء نتيجة عدم التزامها بمبدأ قتل الأمراء وسلالتهم!).
من حجج المكيافيلليين المسلمين!
- كما برّر علماء السلاطين في الامبراطورية العثمانية، قتل الأمراء، استباقياً، حتى وإن لم تبدر منهم بادرة، بالتمسك بقوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(10) (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)(11)!.
- وقاموا بفلسفة ذلك أيضاً، بقوله تعالى في الجواب عن اعتراض النبي موسى (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً)(12): (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً)(13).
- وبان الأناجيل أيضاً تؤكد ذلك («من الخير لك أن يموت فرد واحد من أجل الجميع بدلًا من هلاك الأمة») إنجيل يوحنا (18:14).
- وبانّ السلطان هو ظل الله في الأرض، وانّ الدولة هو وهو الدولة!
- وبان المصلحة العامة تقتضي ذلك!!
تلبيس إبليس
ومن البديهي ان هذه الحجج ليست إلا من قبيل تلبيس إبليس (وَيُجادِلُ الَّذينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً)(14) (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثيرٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)(15) وإنما هي الشبهة وقد قال الإمام علي (عليه السلام): ((وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ))(16).
وذلك لأن قتل البريء محرّم مطلقاً، وقد قال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعاً)(17) والقصاص قبل الجناية مما أجمع العقلاء على قبحه وحرمته.
وقوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(18) لم تأت لتشريع قتل الأبرياء وإلا لتناقضت مع الآية السابقة وغيرها، إضافة إلى ان المقصود بالفتنة هو الكفر، وروي ان هذه الآية (نزلت في رجل من الصحابة قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام، فعابوا المؤمنين بذلك، فبيّن الله سبحانه أن الفتنة في الدين، وهو الشرك، أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام، وإن كان غير جائز)(19) إضافة إلى انه تعالى صرّح في الآية السابقة (الآية 190 من سورة البقرة) بـ(وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ) فكيف يجوّز قتل البريء في الآية اللاحقة (191) مباشرةً!.
وأما الآية الشريفة (أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً...) فهي حكم خاص في موضوع خاص بأمر إلهي خاص، ولا يجوز قياس غيره تعالى عليه بل تجب علينا إطاعته وعدم قياس أنفسنا به إذ حكم الله تعالى صريح واضح وهو: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)(20) والحق هو الاستثناء المذكور في الآية اللاحقة فقط وهي و(مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعاً)(21) وأما الله تعالى فانه (يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد) فانه الخالق الذي بيده الأمر كله، وكما لا يصح ان يقوم شخص ما، حاكماً كان أو محكوماً بقتل الناس متذرعاً بان الله تعالى يقبض الأرواح عبر عزرائيل، فكما يميت الناس أو يقتلهم فلي أن أقتلهم أيضاً! وكما ان الله تعالى هو الضار النافع ولا يصح لأحد ان يحتج بالقول: ان لي أيضاً أن أضرّ بالناس، أو يحتج بانه كما انه سبحانه يُمرِض الناس فلي أن أُمرِضهم أيضاً! وكما انه جل اسمه يُحدث الزلازل والعواصف والفيضانات فلي، إذا أمكنني عبر الأجهزة الحديثة، ان أقوم بذلك كله!
كلا.. فانّ المشرّع هو الله تعالى وقد حرم علينا كافة أنواع الإضرار بالناس، وقال تعالى: (غَيْرَ مُضَارٍّ)(22) و(وَلا تُضآرُّوهُنَّ)(23) وقال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ((لَا ضَرَرَ وَلَا إِضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ))(24).
المرجعية لـ(الحق) و(القانون) لا لـ(المصلحة) و(المنفعة)
وأما المنفعة الخاصة والمصلحة العامة، فلا تصلح تبريراً لذلك أبداً، وذلك لأن المرجعية هي لـ(الحق) و(القانون) وليست لـ(المنفعة) و(المصلحة) أبداً وذلك لبداهة حكم الشارع، والعقلاء، بان الحق متقدم على المصالح مهما كانت عظيمة.. ألا ترى انه لا يجوز لأحد ان يسرق من أموال الناس، متذرعاً بان ذلك ينفعني 100%؟ كما لا يجوز لأحد ان يسرق من أموال الأثرياء، ماداموا قد اكتسبوها من حلها وأدوا حقوقها(25)، متذرعاً بانه إنما يصادر منهم مليون دولار مثلاً، لا تشكل 1% من ثروتهم فرضاً، وهي مكدسة في المصارف لا ينتفعون بها ولا ينفعون بها أحداً، لكنني عندما أسرقها أؤسس بها مصنعاً للفقراء وأوفر فُرَص عمل للمآت منهم.. كلا.. ان المرجعية هي للحق وللقانون فقط ولا غير.. وإلا لما استقر حجر على حجر ولأنهدم أساس بنية المجتمع وأنهار السلم المجتمعي تماماً.. ولتحكمت شريعة الغاب مع شرعنة سفك الدماء وهتك الأعراض ومصادرة الأموال وسحق الحقوق ولتسلح الجميع حينئذٍ بسلاح الأهم والمهم والمصلحة العامة والمنفعة الشخصية الأعظم والضرورة القصوى وشبه ذلك، لتبرير أبشع أنواع الجرائم وفدائح المآثم.
وبكلمة جامعة: إنّ من يعتقد بالله تعالى عليه ان يلتزم بقوانينه التي سنّها وبأحكامها التي شرّعها، وان يلتزم بالحقوق التي أقرها جل اسمه، ومن يعتقد بحق الشعب في ان يحكم نفسه بنفسه فعليه ان يلتزم بالقوانين التي سنّها عبر ممثليه في البرلمان وبالحقوق التي أذعن لها ولا يحق لأحد مهما كان ان يتذرع بالمصلحة العامة لسحق القوانين التي سنها الله تعالى أو سنتها أكثرية الأمة عبر مجلسٍ منتخبٍ واقعيٍ.
ومن الطريف ان نعلم ان النظرية المكيافيللية والانتهازية وجدت تجسيدها الآخر، في كاريكاتور رُسِم أبّان الحرب العالمية يصوّر مشهداً تكدست فيه كتب القانون الضخمة بعضها فوق بعض وقد وقف عليها هتلر وهو يشير إلى نفسه ويقول (أنا القانون)!
أمريكا المكيافيللية في هيروشيما وناغازاكي
وعوداً على بدء، فإن النظرية المكيافيللية لا تقف عند حد أبداً بل انها من أخطر أحابيل الشيطان.. انها هي نفس النظرية التي وقفت خلف تبرير أمريكا لإلقائها القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي والتي أدت إلى قتل مائة وأربعين ألف إنسان في هيروشيما وثمانين ألف إنسان في ناغازاكي وإفناء كافة الحيوانات والنباتات فوراً.. والحجة المكيافيللية جاهزة: لو لم نقتل 300 ألف بريء فلربما انتصرت اليابان وقتلت منا أكثر! أو لربما طالت الحرب وكان المحصلة قتلى أكثر! ان النظرية المكيافيللية هي ما يرفضه الإسلام تماماً إذ (لا يطاع الله من حيث يعصى).
الصوفي السارق!
وقد وردت رواية طريفة تفصح عن جانب من النظرية المكيافيلية في التعاطي مع الأمور وعن موقف الإسلام الحازم منها، فقد ورد ان الإمام الصادق (عليه السلام) رأي صوفياً يسرق خبزاً ورمّاناً ثم يوزعها على الفقراء وعندما لحقه الصادق (عليه السلام) واعترض عليه أجاب لأن الله يقول (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(26) ويقول أيضاً: (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها) والسرقة سيئة واحدة والصدقة عشر حسنات فتتعادل الحسنة الواحدة مع السيئة الواحدة، وتبقى لي حسنات إضافية! فأجابه الإمام (عليه السلام): (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقينَ)(27) أي الذين يتقون معاصي الله ومخالفة قوانينه، فالمرجع هو (القانون الإلهي) لا الأهم والمهم بحسب الاجتهادات الشخصية والمصلحة الذاتية أخروية كانت أو دنيوية.
ونص رواية الإمام الصادق (عليه السلام) كما وردت في الاحتجاج هي: بِالْإِسْنَادِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيِّ عَنْ آبَائِهِ عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) ((أَنَّهُ قَالَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يَقُولُ أَرْشِدْنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أَرْشِدْنَا لِلُزُومِ الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَحَبَّتِكَ وَالْمُبَلِّغِ إِلَى جَنَّتِكَ مِنْ أَنْ نَتَّبِعَ أَهْوَاءَنَا فَنَعْطَبَ أَوْ نَأْخُذَ بِآرَائِنَا فَنَهْلِكَ فَإِنَّ مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ كَانَ كَرَجُلٍ سَمِعْتُ غُثَاءَ النَّاسِ تُعَظِّمُهُ وَتَصِفُهُ فَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْرِفُنِي لِأَنْظُرَ مِقْدَارَهُ وَمَحَلَّهُ فَرَأَيْتُهُ فِي مَوْضِعٍ قَدْ أَحْدَقَ بِهِ خَلْقٌ مِنْ غُثَاءِ الْعَامَّةِ فَوَقَفْتُ مُنْتَبِذاً عَنْهُمْ مَغْشِيّاً بِلِثَامٍ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ فَمَا زَالَ يُرَاوِغُهُمْ حَتَّى خَالَفَ طَرِيقَهُمْ وَفَارَقَهُمْ وَلَمْ يَقِرَّ فَتَفَرَّقَتِ الْعَوَامُ عَنْهُ لِحَوَائِجِهِمْ وَتَبِعْتُهُ أَقْتَفِي أَثَرَهُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَرَّ بِخَبَّازٍ فَتَغَفَّلَهُ فَأَخَذَ مِنْ دُكَّانِهِ رَغِيفَيْنِ مُسَارَقَةً فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ ثُمَّ قُلْتُ فِي نَفْسِي لَعَلَّهُ مُعَامَلَةٌ ثُمَّ مَرَّ مِنْ بَعْدِهِ بِصَاحِبِ رُمَّانٍ فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى تَغَفَّلَهُ فَأَخَذَ مِنْ عِنْدِهِ رُمَّانَتَيْنِ مُسَارَقَةً فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ ثُمَّ قُلْتُ فِي نَفْسِي لَعَلَّهُ مُعَامَلَةٌ ثُمَّ أَقُولُ وَمَا حَاجَتُهُ إِذاً إِلَى الْمُسَارَقَةِ ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَتْبَعُهُ حَتَّى مَرَّ بِمَرِيضٍ فَوَضَعَ الرَّغِيفَيْنِ وَالرُّمَّانَتَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَضَى وَتَبِعْتُهُ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي بُقْعَةٍ مِنْ صَحْرَاءَ فَقُلْتُ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ بِكَ وَأَحْبَبْتُ لِقَاءَكَ فَلَقِيتُكَ لَكِنِّي رَأَيْتُ مِنْكَ مَا شَغَلَ قَلْبِي وَإِنِّي سَائِلُكَ عَنْهُ لِيَزُولَ بِهِ شُغُلُ قَلْبِي،
قَالَ: مَا هُوَ؟
قُلْتُ: رَأَيْتُكَ مَرَرْتَ بِخَبَّازٍ وَسَرَقْتَ مِنْهُ رَغِيفَيْنِ ثُمَّ بِصَاحِبِ الرُّمَّانِ فَسَرَقْتَ مِنْهُ رُمَّانَتَيْنِ
فَقَالَ لِي قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ حَدِّثْنِي مَنْ أَنْتَ
قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ وُلْدِ آدَمَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)
قَالَ: حَدِّثْنِي مِمَّنْ أَنْتَ
قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)
قَالَ: أَيْنَ بَلَدُكَ
قُلْتُ: الْمَدِينَةُ
قَالَ: لَعَلَّكَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
قُلْتُ: بَلَى
قَالَ لِي فَمَا يَنْفَعُكَ شَرَفُ أَصْلِكَ مَعَ جَهْلِكَ بِمَا شُرِّفْتَ بِهِ وَتَرْكِكَ عِلْمَ جَدِّكَ وَأَبِيكَ لِأَنْ لَا تُنْكِرَ مَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَدَ وَيُمْدَحَ فَاعِلُهُ
قُلْتُ: وَمَا هُوَ؟
قَالَ: الْقُرْآنُ كِتَابُ اللَّهِ
قُلْتُ: وَمَا الَّذِي جَهِلْتُ
قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَإِنِّي لَمَّا سَرَقْتُ الرَّغِيفَيْنِ كَانَتْ سَيِّئَتَيْنِ وَلَمَّا سَرَقْتُ الرُّمَّانَتَيْنِ كَانَتْ سَيِّئَتَيْنِ فَهَذِهِ أَرْبَعُ سَيِّئَاتٍ فَلَمَّا تَصَدَّقْتُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ حَسَنَةً فَانْتَقَصَ مِنْ أَرْبَعِينَ حَسَنَةً أَرْبَعُ سَيِّئَاتٍ بَقِيَ لِي سِتٌّ وَثَلَاثُونَ
قُلْتُ: ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ أَنْتَ الْجَاهِلُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ إِنَّكَ لَمَّا سَرَقْتَ الرَّغِيفَيْنِ كَانَتْ سَيِّئَتَيْنِ وَلَمَّا سَرَقْتَ الرُّمَّانَتَيْنِ كَانَتْ سَيِّئَتَيْنِ وَلَمَّا دَفَعْتَهُمَا إِلَى غَيْرِ صَاحِبِهِمَا بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِمَا كُنْتَ إِنَّمَا أَضَفْتَ أَرْبَعَ سَيِّئَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ سَيِّئَاتٍ وَلَمْ تُضِفْ أَرْبَعِينَ حَسَنَةً إِلَى أَرْبَعِ سَيِّئَاتٍ فَجَعَلَ يُلَاحِينِي فَانْصَرَفْتُ وَتَرَكْتُه))(28) فهذه إذن طريقة ذلك الصوفي في (الغاية تبرر الوسيلة)! وفي تجاوز القانون وكسره انطلاقاً من الاجتهادات الشخصية والمصلحة الأكبر الأخروية!
وبكلمة فان حكومة الغاب ستكون هي الحاكمة على الكرة الأرضية، لو تخلينا عن أصلي (الحق) و(القانون) وتذرعنا بذريعة المصلحة العامة والمنفعة الشخصية وحينئذٍ لا يرحم أحد أحداً إذ يتحول الجميع إلى ذئاب متوحشة وأسود كاسرة، وإلى لصوص وقتلة ومصاصي دماء.
السرقة المقنّعة عبر خفض قيمة العملة
إضافة إلى ذلك كله فإننا نجد تجلياً آخر لمنطق الطغاة عبر تسلحهم بسلاح المنفعة والمصلحة في سحق (القانون) و(الحق) لتبرير سرقاتهم المقنعة والممنهجة لأموال الناس كافة، بطريقة مبتكرة تسمى خفض قيمة العملة والتي لا تتجاوز كونها سرقة للقوة الشرائية لأموال الملايين من الناس.
وتوضيح ذلك: ان الاقتصاديين تحدثوا في بحث (محدِّدات القيمة) عن العامل الذي يحدد قيمة هذا الكتاب أو تلك السيارة أو ذلك المنزل والذي يرفعه حيناً ويخفضه حيناً آخر، ووجد المشهور منهم ان عامل العرض والطلب أو الوفرة والندرة هو المحدِّد للقيمة(29) فكلما ازداد الطلب على بِضاعة ما وقلّ عرضها زادت قيمتها، وبالعكس: كلما زاد عرضها وقلّ الطلب عليها انخفضت قيمتها، وذلك بحسب رغبات الناس طبيعياً وتكلفة الإنتاج، ولذا فإن التحكم المصطنع في العرض والطلب عبر الاحتكار يعد جريمة يمنعها القانون.
وكما في كافة البضائع فكذلك في العملة فإنها تخضع لقانون العرض والطلب الطبيعي، لكن الحكومة قد تتدخل أ- فترفع قيمة العملة، فينتفع الناس إلا ان المصدّرين يتضررون إذ تنخفض مبيعاتهم للدول الأخرى نظراً لغلائها حينئذٍ، ب- وقد تقوم بخفض قيمة العملة (سواء الدينار في العراق أم التومان في إيران أم الدولار في أمريكا أم غيرها) وهو ما اعتادت الحكومات عليه في هذا الزمن لمنافع تتذرع بها وحجج تقرع أسماعنا بها، وهنا موطن الشاهد فان خفض قيمة العملة بنسبة 10% مثلاً يعني ان المليون دينار التي تملكها أنت ستنخفض قوتها الشرائية إلى تسعمائة ألف دينار فقط، مما يعني ان كافة الأموال التي يمتلكها ملايين الناس سواء أكانت في البيوت والجيوب أم في المصارف والخزائن، ستنخفض قيمتها بنسبة العُشر تماماً! فهي سرقة مقنعة لأموال الناس، فمن أجاز للحكومة هذه السرقة؟ القانون الشرعي والعقلي والعقلائي يقول السرقة محرمة؟ لكن الحكومة تتذرع بالأهم والمهم لتبرير هذه السرقة المفضوحة!.
إنّ الطريقة الوحيدة لتصحيح هذه السرقة هي ان يهب الناس بملأ رضاهم أموالهم أي القوة الشرائية أي هذه العشرة بالمائة للحكومة، وذلك عبر استفتاء عام مثلاً، ولكنّ الحكومات لا تقوم بذلك أبداً لأنها تعلم ان الناس سترفض ذلك حيث ان خفض قيمة العملة بـ10% أو 50% مثلاً يعني مباشرة سرقة 10% أو 50% من أموالهم والذي يلزمه غلاء (تضخم) كافة البضائع بنفس النسبة أو حتى أكثر من ذلك عبر الأثر السيكولوجي وغيره.
ولعمري ان هذه البدعة، خفض قيمة العملة بأكثر مما يسمح به قانون العرض والطلب، من أقوى مصاديق الظلم الفاحش للناس، ولكن وعاظ السلاطين ومنهم بعض كبار علماء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي وأشباههم من الذين يسبحون بحمد الحكومات كي ينالوا منها بعض الفتات، يحاولون ان يبرروا ذلك بألف حجة اقتصادية وربما حتى اجتماعية وسياسية..
وبكلمة نقول: إذا جاز للجار ان يسرق من جيرانه بحجة أو أخرى جاز للحكومة أيضاً ان تسرق من الشعب بألف حجة وحجة! ولكن.. سيرى الآخرون غِب ما صنع الأولون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وستجد هذه الحكومات أنفسها، عما قريب، وجهاً لوجه مع القانون الإلهي الأبدي: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمينَ * ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين