الأمة الواحدة
من كتاب خواطري عن القرآن
الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي
2020-05-12 03:32
((إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم، فاعبدون)).الأنبياء: 92
الفلسفة الإسلامية – التي تعبر عن الواقع – ترفع قواعدها على ركيزتين:
الأولى: وحدة مصدر الكون. فالله – وحده - رب الكون، كل الكون. لا تعدد في الإله، ولا تخصص في الألوهية.
الثانية: وحدة نظام الكون. فالكون كله – من الذرة حتى السديم – خاضع لنظام واحد، وهو نظام (الثابت والمتحرك)، ودوران المتحرك حول الثابت؛ أو نظام (السالب والموجب)، كما يقول القرآن الكريم: ((... كل في فلك يسبحون))(1).
من هاتين الركيزتين، تنطلق الفلسفة الإسلامية في اتجاه الإنسان – في القسم الاختياري من تصرفاته – لتنسيقه مع بقية الكون في ذلك النظام الواحد.
وركزنا على (القسم الاختياري من تصرفات الإنسان)، لأنه – في القسم الآخر – خاضع لذلك النظام: فابتداء من الخلية الواحدة إلى الأجهزة المعقدة في الدماغ، متناسق لا ينحرف. وإذا فرض انحراف على أي جزء من أجزائه؛ يرفضه الكون، فيطرده إلى المشافي أو المقابر.
وكما هو خاضع للنظام الكوني العام في القسم غير الاختياري من تصرفاته الذي ينعكس على جسمه، هكذا – وبذات الدقة – يلزم أن يخضع للنظام الكوني العام في القسم الاختياري من تصرفاته الذي ينعكس على روحه، حتى يكون فرداً سليماً في مجتمعه.
وكما لا ينحرف عن النظام – في الجزء التكويني منه – إلا ويكون مريضاً إن كان انحرافه في عضو فرعي، ويكون ميتاً إن كان انحرافه في عضو رئيس؛ كذلك: لا ينحرف عن النظام – في الجزء التكليفي منه – إلا ويكون فاسقاً إن كان انحرافه في حكم فرعي، ويكون كافراً إن كان انحرافه في حكم رئيس.
فالخارجون عن النظام في حكم رئيس، كفار؛ شأنهم شأن الأموات، في أنهم يشكلون العناصر المرشحة للتفسخ، التي يلزم مواراتها عن الأحياء.
وأما الملتزمون بالأحكام الرئيسية، فهم مؤمنون؛ يشكلون المجتمع الذي يعبر عن الحياة: فإذا كانوا ملتزمين بكل الأحكام الرئيسية والفرعية، فهم الأصحاب الذين يمثلون قوام المجتمع. وإن لم يكونوا ملتزمين بكل الأحكام الرئيسية والفرعية، وإنما التزموا بالرئيسية وأهملوا الفرعية؛ فهم المرضى الذين يمثلون عثرات المجتمع.
فإلى هذا المجتمع – بما فيه السليم والسقيم – تتوجه الفلسفة الإسلامية؛ بأنكم جزء من هذا الكون الموحد، ولا يمكنكم الانسجام معه إلا إذا توحدتم في أمة واحدة: ((إن هذه أمتكم أمة واحدة)).
خاصة: وأنكم صدرتم من مصدر واحد، وستعودون إلى ذلك المصدر الواحد، وقد صحَّ إيمانكم به. فأنتم موحدون في أصل الأصول، وهو الإيمان بالله الواحد الأحد، فتملكون أهم عناصر التوحد، فلا مبرر لتفرقكم بعد اتفاقكم على الإيمان به؛ ((وأنا ربكم فاعبدون)).
* * *
وإذا تجاوزنا هذه الحقيقة الإيمانية، تواجهنا حقيقتان علميتان، نشهدهما في كثير من التغيرات الكونية:
الأولى:
أن كل شيء يبتعد عن مجمعه، يساوره حنين العودة، حتى يعيده إلى مجمعه: فالماء، إن هربته الحرارة وارتفعت به؛ فسرعان ما يهوي به الحنين مطراً يبحث عن مساربه إلى البحر. والتراب، إن ارتفع شجراً أو بناءً؛ فإن الحنين ينخر فيه ويقلقه، فلا يطمئن إلا حينما يعود إلى الأرض.
الثانية:
أن كل شيء – ما دام في مجمعه – يبقى أصيلاً يعبر عن واقعه، ولا ينفصل عن مجمعه إلا ويرشح للانحلال، ويعرض واقعه وأصالته للضياع:
- فالماء – ما دام في البحر – يبقى ماءً صالحاً، يحافظ على كل مقوماته ومواصفاته، ويتغلب على كل ما يقتحمه لتغييره أو التأثير عليه. ولا يغادر البحر – إلى أي مناخ – إلا ويتغلب عليه المناخ الجديد، فيفسده أو يستهلكه.
- والذهب – ما دام في منجمه – يزداد صفاء ويستهلك ما حوله لينمو أو ليكثر. وإذا انتقل إلى أي مجال – حتى إلى صدور الحسان – يتعرض للصدأ والتآكل.
- وحتى التراب – الذي هو أقوى ما في هذه الكرة على التغيير والتأثير – لو خطفت قبضة منه إلى أي مناخ، بعيدة عن أمها الأرض؛ فإنها تستحيل إلى ما يلائم مناخها الجديد، وتنسى أنها عاشت مليارات السنين ثاوية في أحضان الأرض.
س: أليس التراب أكثر نفاقاً وتلوناً من بقية موجودات هذه الكرة؟! أولا يجد حبة تسقط فيه إلا ويتذرع بها للخروج على وضعه ومجتمعه؟! إن التراب سريع التلون بكل ما يوجد فيه أو عليه من: معدن، ونبات، وحيوان، وإنسان...؛ فكيف هو أقوى ما في هذه الكرة على التغيير والتأثير؟!
ج: إن عمر التراب طويل، ولذلك يعمل بالنفس الطويل. ولو درسنا أعمال التراب بالنفس الطويل؛ لوجدنا أنه ينافق كل شيء، ولا يخلص لشيء إلا لأمه الأرض: فالتراب يحتال على: المعادن، والنبات، والحيوان، والإنسان...؛ ليمتص – من خلالها – الجزئيات الحيوية من الهواء والنور، ثم يعود بها إلى الأرض. لأن مقدرة التراب – في صيغته الترابية – على الاستفادة من الهواء والنور، محدودة. فيرتفع شجرة، ويتحرك حيواناً؛ ليأخذ أكبر قدر ممكن من: الهواء، والنور، والذرات الكونية...؛ فيسمد بها الأرض. وبالنتيجة: لا يوفر شيئاً، حتى البذرة الضائعة التي تسقط فيه. وهذا... من جملة الأسباب التي تناصر لتكبير حجم الأرض.
* * *
وكما يكون الماء والذهب والتراب، يكون كل شيء – في مجمعه – منسجماً مع واقعه، ويكون ـ خارج ـ مجمعه عرضة لفقدان واقعه.
وقد وردت – في الفقه الإسلامي – أحكام تشير إلى استبطان هذه الحقيقة، ثم جاء العلم ليكشف للرأي العام واقعية هذه الأحكام:
- مثلاً: (إذا كان الماء قدر كرٍّ، لم ينجسه شيء)(2). فالماء القليل يتنجس بملاقاة العين النجسة، بينما لا يتنجس الماء الكثير (الكر) إلا إذا غلبت العين النجسة على: لونه، أو طعمه، أو ريحه.
- مثلاً: المتنجس بالبول لا يطهر إلا إذا غسل بالماء القليل مرتين، ولكنه يطهر إذا غسل بماء المطر أو بالماء الجاري مرة واحدة.
- مثلاً: إذا تنجست الأرض – أو الأجسام الثابتة عليها، كالمباني والأشجار – بسائل نجس؛ فإنها تطهر إذا جففتها الشمس، بينما لا تطهر الأشياء المنقولة وإن جففتها الشمس.
- مثلاً: إذا سقط الكلب في المملحة، مع الرطوبة في أحدهما تنجست به. وإذا استحالته، طهر هو والملح على الأصح، بينما ينجس الملح – وإن كان كثيراً – بولوغ الكلب فيه للرطوبة المسرية.
- مثلاً: ماء البحر طاهر مطهر، فيما المضاف ليس مطهراً. مع العلم: بأن تلك النسبة من الأملاح لو أضيفت إلى الماء، اعتبر مضافاً غير مطهر، خاصة: لو أخذنا بنظر الاعتبار نسبة الأملاح في (البحر الميت).
هذه الأحكام – والعشرات من أمثالها – تنطوي على دلالة واضحة على أن كل شيء في مجمعه، يمتاز بعاصمية لا يجدها عندما ينقطع عن مجتمعه.
* * *
وكما يكون الماء والأرض والأعيان الطاهرة والنجسة، يكون سائر الأشياء: فالشمس كانت وستبقى مشتعلة، وأي جزء منها يبقى مشتعلاً ما دام متصلاً بها، ولكنه لو انفصل عنها لا يلبث أن ينطفئ ويبرد. والأرض باردة مطفية، ولو انفصل أي جزء منها والتحق بالشمس؛ لا يلبث أن يشتعل. والماء ضد النار، ولو أضيف شيء منه إلى المحروقات السائلة؛ زاد في اشتعالها.
* * *
وهاتان الحقيقتان، تضمان الإنسان إلى غيره من مظاهر الوجود: فأما الحقيقة الأولى، فنجدها في الإنسان بشكل صارخ، حتى قيل إنها أبرز مميزات الإنسان، حتى قالوا: (الإنسان، حيوان مدني بالطبع). فلا يبتعد الإنسان عن نظيره الإنسان، إلا ويستوحش من كل شيء حوله مهما كان مغرياً، وتهيج به الهواجس حتى يتصور أن كل الأرواح الشريرة قد اجتمعت على افتراسه، ويندفع للاستئناس بالإنسان حتى لو كان عدواً، فيفضله على وحشة الوحدة.
وأنت إذا خرجت وحدك إلى أجمل متاحف الدنيا ومنتزهاتها، لا تلبث أن تشعر بقبضة حديدية تعتصر حشاشة صدرك، حتى لا تتنفس إلا بجهد، ولكنك لو تنزهت مع صديق في شارع ضيق مزدحم، تشعر بالانفراج. ولو رأيت: تحفة أثرية، أو وردة نادرة، أو منظراً بديعاً، أو أي شيء ملفت...؛ فلا تتملاه مهما تأملته، إلا إذا ألفت إليه زميلك، وتبادلت معه الحديث حوله، حتى كأن الإنسان لا يتنزه إلا بالإنسان، أما سائر الأشياء: فلا تصلح إلا مادة لتغيير الحديث والحركة.
وأما الحقيقة الثانية، فتطبع جميع مظاهر حياة الإنسان:
فالفرد يبقى مسترسلاً مع فطرته، وادعاً مطمئناً؛ ما دام مجتمعه يعامله بشكل مرض. فإذا جرحه مجتمعه أو نبذه، يضطر إلى الابتعاد عن من يطمئن إليهم. فإذا اعتزلهم، تهيج به العزلة وتستبد به الوحشة بشكل لا يطاق، فيبحث عن أي مخرج ولو إلى الهاوية. وفي هيجة محاولته الاستعلاء على عزلته، يطلق عنانه لخلفياته، التي قد تقوده إلى الانتحار، وربما تدفعه إلى الجريمة.
وإذا كان مفكراً يملك قدرة التأثير، فإن خلفياته تسول له إيجاد مجتمع جديد حوله، يحتمي به، ويطاول مجتمعه السابق الذي رفضه؛ باختلاق: مبدأ، أو دين، أو فكرة، أو نظرية، أو أي شذوذ يجمع حوله الناس...
ولذلك: نجد أن كل الذين ابتدعوا: المذاهب، والمبادئ، والأفكار الهدامة، أو عملوا عصابات إجرامية، أو التحقوا بأحد هؤلاء...؛ نجد أنهم – جميعاً – كانوا منبوذين في طليعة شبابهم من قبل مجتمعاتهم الطبيعية، فاستعاضوا عنها بمجتمعات مصطنعة.
بينما نجد أصحاب الرسالات والدعوات الإصلاحية، محترمين في باكورة حياتهم من قبل مجتمعاتهم الطبيعية.
ولعل هذا الفارق يميز أصحاب الدعوات الصالحة الذين يشقون لإسعاد البشرية، عن أصحاب الدعوات الفاسدة الذين يحاولون أن يسعدوا بإشقاء البشرية.
والسبب الوحيد الذي يؤدي إلى الانحراف المصيري هو: تصاعد توقعات الأفراد من مجتمعاتهم، وتصاعد توقعات المجتمعات من أفرادها؛ في خطين متوازيين، وعدم تقدير كل طرف موقف الطرف الآخر:
فالفرد – إذا لم يكن معصوماً – معرض للخطأ وللخطيئة، بحجم الشذوذ في ذاته وفي تربيته. وكل من يخطىء يشعر بأنه أخطأ، و– في ذات الوقت – يجد الذرائع لتبرير خطئه، فينتظر لوماً من مجتمعه، ولكنه – مهما كان حجم خطئه – لا ينتظر الرفض من مجتمعه. بينما مجتمعه – في هيجة الاستنكار – قد يجد الرفض أقل عقاب يرد به الخطأ، وخاصة: إذا كان كبيراً لا تهضمه عقلية مجتمعه بسهولة. ومن ثم يتولد رفض المجتمع للفرد، وعقوق الفرد للمجتمع، ثم بحثه عن مخرج... أي مخرج.
ولا ينقذ من هذه الأزمة، إلا أحد أمرين:
1- تعقل المجتمع في احتواء الخطأ، عن طريق الرد عليه بأي عقاب دون الرفض. فأي عقاب – حتى القتل – أهون على المخطئ وعلى مجتمعه من الرفض: لأن المرفوض قد يعيش طويلاً، وهو يقتل كل يوم ألف قتلة. ولأن المجتمع الذي يرفض أحد أبنائه، يقطع عليه خط الرجعة إليه، ويفتح أمامه باب التوغل في الخطأ، والثأر من المجتمع. وقد يؤثر على مجموعة كبيرة، تمكنه من قلب مقاييس المجتمع كله: فيصبح الرافض مرفوضاً، والمرفوض رافضاً.
2- تعقل الفرد في التكفير عن خطئه: فتحمل أي عقاب، وحتى التشرد، من مجتمع إلى مجتمع، أسهل من التوغل في الخطأ والرد على المجتمع.
* * *
من هذا المنطلق، نجد أن القرآن يؤكد على الالتزام بالمجتمع، ويركز الرسول الأعظم (ص) على هذا الحكم في مناسبات عديدة، فيقول – في المراسيل المرويات –: (لا تجتمع أمتي على ضلال)(3)، (يد الله مع الجماعة)(4) ... ويوجه إلى حقيقة أن المرفوض – إذا قبل الرفض، وحاول الرد عليه – يصبح عنصراً هداماً بقوله: (من شذَّ، شذَّ في النار)(5)، (الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب)(6) ...
* * *
وهذا... لا يعني أن الفرد – دائماً – هو المخطئ، وهو المسرف في اتخاذ التدابير ضد مجتمعه، فقد يكون الفرد مخطئاً، وربما يكون المجتمع مخطئاً. وفي كلتا الحالتين، على الفرد أن يبقى ملتزماً بمجتمعه، فإذا كان الفرد مخطئاً، فمن مصلحته التزامه بمجتمعه. وإذا كان مجتمعه مخطئاً، فمن حقه على الفرد أن لا يتركه لخطئه.
ولا فرق في ذلك: بين المجتمع الصغير الذي يعني الأسرة أو الأرحام، وبين المجتمع الكبير الذي يعني الشعب أو الأمة.