كيف ينتج قانون الأرض للحكومات الرباعي المشؤوم؟
خلق لكم ما في الأرض جميعاً (2)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2019-11-27 07:34
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)(1) وقال جل اسمه: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)(2).
كيف ينتج قانون (الأرض للحكومات) البطالة والتضخم والفقر والمرض؟
ان الرباعي المشؤوم وهو الفقر والمرض والبطالة والتضخم ينشأ من سوء التوزيع وينجم، في مرتبة سابقة، من سوء منهجية التعامل مع عوامل الإنتاج، وعوامل الإنتاج حسب المعروف هي ثلاثة: الأرض، والعِمالة، ورأس المال، ولا شك في أنّ لكل منها سهماً في الإنتاج وأنّ الثروة العامة، للدولة والأمة، والخاصة، للأفراد، تتولد من هذه الثلاثة مجتمعة تارة ومتفرقة أخرى وفي بعض الحالات كما سيأتي، ولكن التدقيق والتحقيق يقودانِ إلى وجود عوامل أخرى للإنتاج ومصادر أخرى للثروة ونموها وان هناك أموراً أخرى تقابَل بالمال وتنتج المال والثروة في الوقت نفسه، وهي خمسة عوامل أخرى نشير إلى احداها في هذا اليوم فنقول:
من عوامل الإنتاج العمل الفكري
ان من عوامل الإنتاج: الفكر والعمل الفكري، ذلك ان المشهور لدى الماركسيين والكثير من الاقتصاديين ان العِمالة التي هي من عوامل الإنتاج يراد بها العمال الذين يقومون بنوع من أنواع العمل الجسدي وأنّ العمل الجسدي يقابَل بالمال كما انه ينتجه، وذلك واضح في مثل الحياكة والخياطة والتطريز والنحت والحفر والزراعة والسقي والبناء وغير ذلك، ولكن الصحيح ان العمل الفكري، يجب ان يُعدّ بدوره، كأحد من عوامل الإنتاج بل انه العامل الأهم لدى المفاضلة بينه وبين العمل الجسدي، وعلى ذلك العقلاء من كافة الملل والنحل وعليه جرت سيرتهم ولا شك في استقرار بنائهم على ذلك في الكثير من الأعمال الفكرية، ومن أهم الأمثلة على ذلك:
أجرة العمل الفكري للطبيب والمهندس والمحامي
الشاهد الأول: (الطبيب) و(المهندس) و(المحامي) فانه لا شك في ان كل واحد منهم يستحق الأجرة على علمه وخبرويته ونصيحته مع انه لا يمارس عملاً جسدياً (إلا في مثل الطبيب الجراح)(3) ولا شك انه يستحق في مقابل الساعة الواحدة مثلاً، أجرة أكبر من الأجرة التي يستحقها البنّاء أو المزارع أو الخبّاز في الساعة مع ان مشقة العمل الجسدي الذي يقومان به أكبر بكثير جداً من مشقة العمل الفكري الذي يقوم به الطبيب وشبهه ومع ان العامل قد يعمل تحت حرارة الشمس اللاهبة أو تحت الأمطار الغزيرة ويعاني من ذلك الأمرّين، عكس الطبيب أو المهندس او المحامي الذي يجلس في غرفة مكيفة مؤثثة رائعة الجمال مريحة المقاعد، إلا انه ومع ذلك فان العقلاء يدفعون، بطيبِ نفسٍ، للطبيب والمهندس والمحامي أكثر مما يدفعونه للعامل أو البنّاء أو المزارع، ومن الأسباب في ذلك ان عمل الطبيب، بإنقاذه العامل من مرض يقعده في الفراش لأيام أو أسابيع أو أشهراً، رغم انه استغرق منه خمس دقائق فقط، أكثر قيمة من يوم من عمل ذلك العامل، لذلك يبذل له حتى العامل المال برضى خاطر وطيب نفس.
وبشكل عام فانه يعود السرُّ في ذلك إلى أسباب ستة هي: الفوائد(4)، والتكاليف، والمضاعفات، واشتراطات الإنتاج، وضرورة المكافأة وضمان النزاهة(5)، ولعله يأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
العمل الفكري للمستشارين
الشاهد الثاني: (المستشار) فان المستشار يأخذ أجراً محترماً على عمله، على تعدد أنواع الاستشارات والمستشارين، فهناك المستشار الاقتصادي الذي قد تُبذل له إزاء مشورة ساعة واحدة الألوفُ المؤلّفة، وقد تدفع شركة عملاقة لشركة استشارية ملايين الدولارات مقابل خدمات استشارية مميزة، وهناك المستشار العائلي الذي يأخذ مبلغاً من المال لقاء كل استشارة أو مقابل كل ساعة مشورة وكثيراً ما تنجي تلك المشورة العائلية أسرةً كاملة من الانهيار أو تنقذ تلك الاستشارة الاقتصادية شركة مساهمة تقدر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات من ان تنهار أسهمها في سويعات فيخسر المساهمون مليارات الدولارات، وذلك كله مقابل عدة ملايين قد تدفع لأولئك المستشارين الخبراء.
قيمة الإبداع الفكري
الشاهد الثالث: (الإبداع الفكري)، فان العقلاء يبذلون إزاء الإبداع الفكري الأموال الطائلة، فانه يسهّل عليهم المعاش ويُكسبهم الراحة والأمن ويمهّد لهم سبل التطور والازدهار، ولذلك تجدهم يمنحون المخترع براءة الاختراع، ويستعدون لبذل مال كثير جداً ليبيعهم براءة اختراعه مع ان الجهاز الذي اخترعه قد لا تكون قيمته عشرة دنانير أو حتى ديناراً واحداً إلا ان براءة اختراعه قد تُثمّن بالملايين أو بعشرات الملايين.
الثروات التي ينتجها التخطيط السليم
الشاهد الرابع: ان التخطيط السليم لسلطة حاكمة، أو لإدارة شركة، أو لمدراء المنظمات، والتخطيط عمل فكري، يُثمر ما لا يقدّر بثمن من الاستقرار السياسي، والازدهار الاقتصادي، والتطور الاجتماعي والعلمي والثقافي و... كما ان ذلك التخطيط الاقتصادي السليم ينتج لطبقات العمال والفلاحين ما قد لا يمكن حتى لمليون عامل أو فلاح ان ينتجوه من دون ذلك الفكر الممنهج المخطّط الاستراتيجي بعيد المدى، عكس التخطيط السقيم، وهو عمل فكري بدوره، فانه على العكس من ذلك ينتج من الخسائر السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الحقوقية ما قد لا يمكن لألف عامل أو حتى لمليون عامل ان يتداركوه..
ومن هنا يمكننا ان نقوم بربط العامل الرابع (العمل الفكري) بعوامل الإنتاج الثلاثة الأولى المعروفة؛ فان الفكر الاقتصادي السليم هو الذي ينتج أفضل الاستثمار للأرض والعمال ورأس المال، وهو الذي بمقدوره ان يحقق للعمال أكبر الأرباح، وهو الطريق للقضاء، على الفقر والبطالة أو إيصالهما إلى الحدّ الأدنى، وهو الذي عبره تتم مكافحة الجهل والأمية والمرض والتضخم، وعلى العكس من ذلك تماماً الفكر الاقتصادي السقيم فانه هو الذي يجرّ خلفه بقوة وعنف قاطرة البطالة والفقر والمرض للملايين من الناس، وهو السبب الأساس للتضخم والغلاء الذي قد يلفّ كافة أنواع البضائع كما ان وراءه يكمن الجهل المستشري في شرائح واسعة جداً من المجتمع.
مقارنة موضوعية بين (الأرض للناس) و(الأرض للحكومات)
وحيث ان محور البحث الآن هو الأرض فلنركز على ربط العامل الرابع بها خاصة: فان الفكر الاقتصادي الإسلامي ـ الإنساني ـ الفطري ينادي، وكما سبق، وبأعلى الأصوات بـ(هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) و(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) و((إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا))(6) عكس الفكر الاقتصادي الشرقي أو الغربي الذي ينادي، بدوره، بأعلى الأصوات ان الارض ملك للحكومات أو هي حقّ لها أو انه لا يجوز لأي شخص، عاملاً كان أم فلاحاً، رجلاً أم امرأة، شاباً أم شيخاً، طبيباً أم مهندساً أم محامياً أم غير ذلك، ان يحوز أية أرضٍ موات أو ان يحييها أو يعمرها، إلا بروتين وبيروقراطية وإجازة ورسومٍ و.. و...
وكان من نتائج الفكر الثاني: زيادة نسبة الفقر والبطالة في المجتمع، وغلاء الأسعار، وانتشار الأمراض، كل ذلك على مستوى الملايين أو عشرات الملايين من الناس.
على العكس من نتائج الفكر الاقتصادي الأول (الأرض للناس) الذي يؤدي، لا محالة، إلى انخفاض كبير في نسبة البطالة والفقر والتضخم والمرض، بل وبشكل مذهل أيضاً.
ولكن كيف يؤدي قانون ((إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) إلى كل تلك النتائج الإيجابية الكبرى؟ وكيف يؤدي قانون (الأرض للحكومات أو هي حق لها أو هي تحت سلطنتها) إلى كل تلك النتائج السلبية؟
والجواب: ان ذلك أوضح من الشمس الضاحية في السماء الصافية ومن القمر المنير في الليلة الظلماء:
1ـ من النتائج: الرخص أو الغلاء والتخضم
أولاً: التضخم، فان الحكومة إذا منعت الناس من حيازة المباحات إلا برسومٍ وقيود وشروط وروتين ومراجعةٍ للدوائر وشبه ذلك، فانه يقلّ حينئذٍ عرض الأراضي بشكل كبير جداً فترتفع قيمتها، حسب قانون العرض والطلب، خاصة إذا لاحظنا زيادة الطلب باستمرار على الأرض نظراً لزيادة عدد السكان في غالب البلاد وفي كافة البلاد الإسلامية، عكس ما إذا عملت الحكومة بقانون الأرض لله ولمن عمرها فان كافة الأراضي الموات (من أطراف المدن، وشواطئ البحار والأنهار، ومن الغابات والصحاري و...) تكون متاحة حينئذٍ لعامة الناس وذلك مما يشكِّل زيادةَ عرضٍ مذهلة للأراضي، فتنخفض قيمة كافة الأراضي فوراً، ربما حتى إلى العُشر أو أقل، بل وأكثر من ذلك: فان ذلك يؤثر بالتدريج على سائر البضائع فتنخفض قيمتها بأجمعها في فترات زمنية متتالية!
والغريب من قوانين عالم الاقتصاد: ان الأرض، أو أية سلعة مهمة اقتصادية أخرى، إذا ارتفعت قيمتها ارتفعت قيمة سائر الأشياء فوراً تقريباً، فإذا قلّ عرض الاراضي، بتحكّم الحكومة بها وتقييدها لعرضها، ارتفعت قيمتها فوراً، وارتفعت قيمة السيارات والطائرات والبنزين وحتى الفواكه والحبوب وكل شيء تقريباً، واما في حالة العكس فان التكيّف مع انخفاض الأسعار يكون تدريجياً بمعنى انه إذا انخفضت قيمة الأرض أو البنزين مثلاً فان قيمة سائر الأشياء ستنخفض بالتدريج وربما على المدى المتوسط، أي بعد اطمئنان الأسواق إلى استقرار انخفاض قيمتها وعدم كون الانخفاض مؤقتاً.
2ـ ومن النتائج انحسار الفقر أو توسّعه
ثانياً: ومع انخفاض التضخم والغلاء، تقل نسبة الفقر بنفس الدرجة، فان من أكثر ما يثقل كاهل الفقراء قيمة شراء أرض أو دار للسكن أو أجرة استئجار المنزل إذا لم يمكنهم الشراء (وبما يستتبعه ذلك من غلاء سائر الأشياء كما سبق) ولكي يتضح ذلك جيداً نضرب لكم مثلاً من النجف الأشرف: فان سعر المتر الواحد داخل الولاية(7) حوالي 3 ملايين دينار وفي بعض الأحياء الرخيصة سعر المتر مليون دينار، وذلك يعني ان على الفقير، وأي شخص آخر إذا أراد شراء أرض من 100 متر أن يدفع 300 مليون أو 100 مليون دينار، وكم يثقل كاهله ذلك؟ وقد يوقعه في دوامة من الديون الكبيرة! وذلك على العكس مما لو رفعنا عن كاهله هذا المبلغ الضخم بتطبيق قانون (الارض لله ولمن عمرها)!
وكذلك الحال فيما لو لم يمكنه الشراء فاستأجر بيتاً فان إجارة البيوت في الولاية داخل النجف تتراوح شهرياً بين ربع مليون في حدها الأدنى المتواضع جداً إلى مليون في البيوت المتوسطة أو الجيدة وإلى الأكثر في البيوت الممتازة، وأيّ ضغط يشكّله ذلك على الفقراء؟ وكم يزيدهم فقراً على فقر أو مسكنة على مسكنة.
3ـ ومن النتائج: انخفاض البطالة أو ازديادها
ثالثاً: البطالة.. فان قانون الأرض لله ولمن عمرها، لو طبق، فان مئات الألوف من الناس (أو حتى الملايين) سيجدون فرص عمل هامة تمنحهم دوراً يسكنونها أو مزارع يشيدونها أو مراعي أو حتى أسواق ودكاكين وشركات ومعامل وشبهها، ويكفي ان نعلم ان (العراق) وحده يعاني من نقص حوالي ثلاثة ملايين بيت وشقة، حسب إحصاء تقريبي للحكومة، فلو فسح المجال لعامة الناس ببناء الدور والمزارع والمعامل والدكاكين، في أرض الله الواسعة بدون رسوم وروتينٍ وحواجز فان الملايين من الناس سيحوزون الملايين من قطع الأراضي وسينشغلون هم وأولادهم وأهليهم وأصدقائهم ببناء دور لهم أو دكاكين أو غير ذلك، أو سيستأجر القادر منهم عمّالاً.. وهكذا تنخفض فجأة وبشكل مذهل نسبة البطالة في الدولة، وهي التي عجزت حتى أقوى دول العالم اقتصادياً من القضاء عليها فاضطروا للتبجح بالتعايش مع نسبة منخفضة منها! (مثلاً 3% من اليد العاملة، وهو، مع ذلك، رقم رهيب إذ انه يعني الملايين في بعض الدول وأقل أو أكثر في دول أخرى).
(المضاعف) الاقتصادي لـ(الأرض للناس)
هذا إضافة إلى (المضاعف) المتولد من انشغال مئات الألوف ببناء الدور، إذ ان حركة البناء (للدور والمعامل و...) عندما تتنشط فان سلسلة أخرى طويلة من الأعمال الأخرى ستنشط وتزدهر كذلك، كاستخراج الحديد وتصنيعه، والآجر والطابوق، والكهرباء والأسلاك والأجهزة الكهربائية، والماء والمواسير والأجهزة المرتبطة بها، والصبغ والمصابغ، ومختلف الأدوات والأجهزة المنزلية التي تحتاجها المطابخ وغرف النوم من أخشاب وصحون وأواني وغير ذلك.
وهكذا تنبعث الروح في البلاد كلها دفعة واحدة وذلك كله عبر إتباع قانون فطري بسيط واحد لكنه غريب المفعول، ككافة قوانين الله تعالى البسيطة والفاعلة جداً!
4ـ وزيادة نسبة الأمراض أو قلتها
رابعاً: ومع انبعاث الحركة والنشاط في الملايين من الناس، تنخفض الأمراض بشكل كبير جداً إذ ان مبعث الكثير من الأمراض: الجمود والكسل والفراغ والسكون والكآبة وعدم الحركة، وانبعاث حركة بناء وزراعة واسعة في كافة أرجاء الوطن كفيل بالقضاء عليها جميعاً فان الحركة مبعث الصحة والسلامة(8) وطاردة للهموم والكآبة والكثير من الأمراض.
80% من أراضي العراق، للحكومة!
وأخيراً يكفي ان نعلم ان نسبة الأراضي التي تحتجزها الحكومة العراقية أي التي تعتبرها تابعة لها (مما تسمى بالأراضي الاميرية وشبهها) ومما لا يحق للناس أبداً حيازتها أو إحياؤها أو التي يحتاجون في ذلك إلى إجازة ورسوم و...، قد بلغت حوالي ثمانين بالمائة من أراضي العراق(9)! وهي نسبة مذهلة حقاً! ولنتصور ان هذه الأراضي (أو حتى نصفها) لو عملت فيها الحكومة بقانون الأرض لله ولمن عمرها، فكم من المساحات الشاسعة كانت تتوفر للناس، وكم كانت تنخفض قيمة الأراضي؟ وكم مليوناً من الناس كانوا ينشغلون حينئذٍ بالبناء والزراعة وتربية الماشية وشبه ذلك؟ وكم كانت تنخفض حينذاك نسبة البطالة والفقر والمرض؟
إن أوزار كل الفقر والمرض والبطالة والغلاء الناجمة عن ضرب قانون الله في الأراضي، عرضَ الجدار، يقع على عاتق الحكومات المتسلطة وعلى أعناق أشباه المثقفين الذين يبررون للحكومات مصادرتها لحق الناس المسلّم في إحياء الأراضي التي خلقها الله تعالى لهم بصريح قوله تعالى (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) و(خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً).
ومن الطريف الإشارة إلى ان بعض مناطق كربلاء قبل أكثر من خمسين سنة بنيت على مخفف طريقة ((إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) فرغم بعض القيود والرسوم إلا انها كانت بسيطة جداً مقارنة بما عليه الحال الآن، ومع ذلك فقد بنى الكثير من الناس الفقراء بيوتهم بأيديهم، وقد نقل السيد الوالد انه زار بعض العلماء الذين بنوا بيوتهم بأيديهم (وهو الشيخ إبراهيم الحائري وكان من العلماء المجاهدين الذين سجنهم البعث لاحقاً وعذب عذاباً شديداً لكنه ظل صابراً محتسباً) يقول الوالد فوجدتهم في راحة في بيتهم الجديد (بدل المستأجر القديم) رغم ان بناءه لم يكن احترافياً لأنهم بنوه ولم يكونوا محترفين فكان به بعض الاعوجاج ولكنه على أية حال كان يمشّي الحال! هذا.
من الأدلة التاريخية على نجاح قانون (الأرض للناس)
وقد سبق ان الأدلة على ان الأراضي هي لمن عمّرها هي الكتاب والسنة والعقل والفطرة وأيضاً (التجربة) ولنتكلم قليلاً حول التجربة عبر عقد مقارنة بين وضع بلادنا الآن حيث لا يطبق قانون الأرض لله ولمن عمرها وبلادنا سابقاً حيث كان القانون مطبقاً بشكل كامل أو شبه كامل.
كان للبصرة 120 ألف نهر تجري فيها الزوارق!
ولنأخذ (البصرة) مثالاً فان البصرة كانت قبل ألف وثلاثمائة عام أكثر ازدهاراً وثراء وسعة وزراعة وعمارة ونضارة و...، مما هي عليه الآن بما لا قياس، وذلك رغم التطور العلمي الحالي المذهل وتوفر آلات وتكنولوجيا متطورة في حقل الحفر والزراعة والسقي والريّ و... مما كان ينبغي ان تكون الزراعة في البصرة أفضل مما كانت عليه قبل ألف سنة ـ وأكثر وأقل ـ بمئات المرات، إلا اننا نجد ان العكس هو الحاصل، ويكفي ان نقرأ هذا المقطع من كلام المؤرخ والجغرافي المعروف الاصخطري، قال: ("البصرة مدينة عظيمة لم تكن في أيام العجم وإنما مصّرها العرب(10).. وليس فيها مياه إلا أنهاراً. وذكر بعض أهل الأخبار ان انهار البصرة عُدّت أيام بلال بن أبي بردة(11) فزادت على مائة ألف نهر وعشرين ألف نهر تجري فيها الزوارق!. وقد كنت أنكر ما ذكر من عدد هذه الأنهار في أيام بلال، حتى رأيت كثيراً من تلك البقاع، فربما رأيت في مقدار رمية سهم عدداً من الأنهار صغاراً تجري في كلها زوارق صغار، ولكل نهر اسم ينسب إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي يصب فيها. فجوزت ان يكون ذلك في طول هذه المسافة وعرضها"(12) وقال جرجي زيدان في (تاريخ التمدن الإسلامي) بعد نقله هذا الكلام: (فاعتبر المسافة التي تحفر فيها 120.000 نهر أو ترعة كم يمكن أن يكون سكانها؟ وهذا مستغرب عند أهل هذا الزمان لكنه يدل على كل حال على عمران تلك الأرض)(13).
سياسية التجهيل العالمية، بالقوانين الاقتصادية الفطرية الحيوية
وسيأتي في البحث القادم ما يوضح أكثر ما يدفع الاستغراب عن مثل هذه الأرقام التي قد تبدو للبعض مبالغاً فيها بشدة! خاصة وان سياسة قادة العالم جرت على (تجهيل الناس) مهما أمكن وعلى طمس مختلف الحقائق التي تكشف زيف قواعدهم الاقتصادية والسياسية ونظائرها، فإذا شاهدوا (تجربة تاريخية) تكشف مثلاً عن الآثار الكبرى والفوائد العظمى للعمل بقانون (الأرض للناس لا للحكومات)، حاولوا إهمال ذكر تلك التجربة كي لا يعلم بها أحد! وإذا لم يمكنهم إهمالها فانهم يحاولون تحجيمها والتهوين من شأنها وتقزيمها إلى أبعد الحدود! وإذا لم يمكنهم ذلك حاولوا اختلاق أسباب أخرى، مضلِّلة، وراء العمران الغريب في الأزمنة السابقة والخراب العجيب، نسبياً، في هذه الأزمنة!
وكيف يكون من تعترف الحكومات الشرقية والغربية بذلك وأشباهه، مع ان ذلك يعني ان يفقدوا (الشرعية) و(القفاز الحريري) الذي يحكمون به الشعوب البائسة منذ زمن بعيد!
بل لعله يمكننا القول ان الحكومات لو كان بمقدورها ان (تقنّن) الهواء وتبيعه للناس أو تمنعهم منه وتعطيه لمن تشاء متى تشاء وكيف تشاء، لَفَعَلَتْ!، كما فعلت ذلك كله بالأرض من قبل!
وما الفرق بين الهواء والاراضي؟ أليسا جميعاً من مخلوقات لله تعالى؟، والناس خلائف الله جل اسمه، فمن الذي نصب الحكومات لتمنع خلق الله من إعمار أرض الله؟
ولكن الحكومات، ووراءها جيش من أشباه المثقفين ممن يعيشون على فتات مائدة الحاكم، تناور ببراعة وتستخدم أساليب متطورة جداً لغسيل دماغ الشعوب: عامتهم بل وحتى خواصهم.. وستجدون أمامكم لو استنطقتموهم عشرات الحجج المنمّقة المبهرة التي تسوقك إلى الإذعان بان حقوق الناس ليست حقوق الناس! وبأن الأرض ليست للناس! وبان الناس بين جاهل وغافل وسارق ومتجاوز ومتهور وكسول و... فكيف يمكن ان نسمح لهم بحيازة المباحات؟ وألا تلزم الفوضى والهرج والمرج؟ وألف عذر وعذر(14).
ويا عجباً من ان يحتاج ذو الحق إلى إقامة الدليل على غاصب حقه ثم يقيمها فلا يصدقه أحد!
اللصوص: لسنا سرّاقاً بل اننا جباة زكاة للفقراء!
ومن الطريف ان نعرف ان بعض (اللصوص) في قديم الزمان استكشفوا هذا السر الكبير في إلباس الباطل ثوب الحق وفي ان يلبس الذئب ثوب الحمل، فابتكروا طرائق لتبرير سرقاتهم وتوجيهها ليتصورها أتباعهم (ومن أمكن خداعه من عامة الناس) انها فريضة شرعية إلهية واجبة(!) كما نجد حكوماتنا تفعل ذلك تماماً إذ تصوّر لنا ان ما تأخذه من الضرائب وما تمنعه من حقوق الناس في الأراضي والمعادن هو ما تفرضه المصلحة الوطنية العليا ولا غير! فلاحظ مثلاً ما يقوله التاريخ عن الشطار لتجد التاريخ يعيد نفسه في كل زمان!:
(الشطار هم طائفة أخرى من الرعاع كانوا يمتازون بملابس خاصة بهم ولهم مئزر يأتزرون به على صدورهم يعرف بأزرة الشطار(15) وكانوا أكثر انتشاراً في المملكة الإسلامية من العيارين وأطول بقاء منهم، وظهروا في الأندلس ولهم فيها نوادر وتنكيتات وتركيبات وأخبار مضحكة تملأ الصحف الكبار لكثرتها وتضحك الثكلى، على أن اسمهم كان يختلف باختلاف البلاد، فهم يعرفون في العراق بالشطار، وفي خراسان يسمونهم سربداران، وفي المغرب الصقورة، وسماهم ابن بطوطة "الفتاك" وذكر تفشيهم في أيامه (القرن الثامن للهجرة) وأشار إلى اجتماعهم على الفساد وقطع الطرق وتكاثرهم في نواحي سبزوار، حتى هجموا على مدينة بيهق وملكوها وملكوا غيرها وجندوا الجنود وركبوا الخيل وولوا أحدهم سلطاناً عليهم، وانحاز إليه العبيد يفرون من مواليهم فكل من جاء من هؤلاء أعطاه ذلك السلطان مالاً وفرساً، وإذا ظهرت منه شجاعة ما أمّره، إلى آخر ما ذكره(16).
ولم يكن الشطار وغيرهم من أهل الشرور يعدون اللصوصية جريمة، وإنما كانوا يعدونها صناعة ويحللونها باعتبار ان ما يستولون عليه من أموال التجار الأغنياء زكاة تلك الأموال التي أوصى بإعطائها للفقراء!!
وكان أولئك اللصوص إذا شاخ أحدهم ربما تاب فتستخدمه الحكومة في مساعدتها على كشف السرقات. وكان في خدمة الدولة العباسية جماعة من هؤلاء الشيوخ يقال لهم "التوابون"، على انهم كثيراً ما كانوا يقاسمون اللصوص ما يسرقونه ويكتمون أمرهم(17)!!)(18)
وهكذا تجدهم يعدون السرقة أخذاً للزكاة الواجبة! كما يعد حكامنا أخذ الضرائب فريضة واجبة لاغداقها، كضمان اجتماعي مثلاً، على الفقراء، ولإنفاقها على شقّ الطرق ومدّ الجسور والأنفاق و... وكأنّ عشرات المليارات من النفط لم تكفهم، ولا المليارات التي سرقوها وهرّبوها إلى الخارج واودعوها في البنوك الأجنبية أو في محافظ استثمارية، أو في صناديق سيادية، أو في ما اسموه بصندوق الأجيال أو غير ذلك! وإنّا لله وإنّا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين