استنهاض الأمة والأواني المستطرقة

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ (3)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2019-07-06 06:21

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ وَسَعى‏ في‏ خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ)(1)

البحث، في هذا اليوم، يقع في محورين: الأول بعض البصائر القرآنية. الثاني: استنهاض المسلمين لمواجهة الوهابية والصهيونية واستنقاذ البقيع الغرقد والمسجد الأقصى، عبر منهج النهضة الشاملة والإصلاح المتكامل.

استنباط نظرية مبتكرة في (المقدمة) من (وَسَعى‏ في‏ خَرابِها)

المحور الأول: بعض البصائر القرآنية: ان قوله تعالى: (وَسَعى‏ في‏ خَرابِها) يمكن ان يستنبط منه رأي مبتكر جديد هام في بحث مقدمة الواجب، وتوضيحه: إنّ أعلام الأصول اختلفوا في مقدمة الواجب على قولين:

القول الأول: ان المقدمة الموصلة للواجب هي الواجبة فقط، وهذا هو رأي صاحب الفصول.

القول الثاني: ان المقدمة الممكِّنة هي الواجبة موصلةً كانت أم لا، وقد أضفنا في بحث (المكاسب) احتمالاً ثالثاً وهو:

الاحتمال الثالث: ان المقدمة غالبية الإيصال هي الواجبة، وهي أمر متوسط بين (الموصلة) الضيقة جداً و(الممكِّنة) الواسعة جداً.

ولكننا بالتدبر في هذه الآية الكريمة نكتشف احتمالاً رابعاً بل هو ظاهر الآية الشريفة بل نصها وهو:

الاحتمال الرابع: ان المقدمة المطوية أو المسلوكة هي الواجبة.

وكما يقع البحث في مقدمة الواجب يقع البحث في مقدمة الحرام، بأدنى تغيير، وهو ان المقدمة المحرّمة هل هي خصوص (الموصلة للحرام) أو عموم (الممكِّنة منه) او ما بينهما من (غالبية الإيصال) أو ان المحرّمة هي المقدمة التي سلكها وطوى الطريق فيها. والنسبة بين الاحتمال الثالث والرابع هي العموم من وجه.

مسائل وأمثلة تطبيقية من دائرة مقدمات الحرام

ولكي يتضح البحث للمثقفين ولا تنحصر فائدته في المتخصصين من علماء الدين، سنضرب لذلك أمثلة تطبيقية، تعد في حد ذاتها مهمة جداً، وعلى ضوئها ستتضح النظريات الأربع:

المثال الأول: الذهاب إلى المناطق الموبوءة بالأمراض والجراثيم المعدية هل هو محرم أو ممنوع أو لا؟

المثال الثاني: الذهاب إلى المناطق الموبوءة أخلاقياً، كالسينما أو بعض المتنزهات التي يكثر فيها الفساد الأخلاقي والإفساد، هل هي محرمة أو لا؟ وبعبارة أخرى: ما هي مسؤولية الأب والأم؟ فهل يسمحان لابنهما أو بنتهما بالذهاب إلى السينما أو الأماكن المختلطة مع وجود احتمال الفساد؟ وما هي مسؤولية الحكومة أو الجهات المسؤولة بالنسبة إلى المناطق الموبوءة؟ وما هي مبررات المنع؟ وفي أي حدّ؟

المثال الثالث: بيع أو شراء كتب السحر والشعوذة، فهل هو جائز؟ وكذلك بيع أو شراء الكتب والأشرطة التي تتكفل بتعليم الشباب أو عامة الناس على صنع السموم والمواد الكيماوية الضارة أو التي تعلّم أنواع التعذيب (هنالك بالفعل كتب متخصصة في تعليم الناس فنون التعذيب وأنواعه!) أو الكتب التي تفلسف للإرهاب وتنظّر له وتشجع الناس له، أو بيع الكتب الإلحادية أو شرائها؟ فهل يجوز للشخص ان يبيع أو يشتري أو ان يطالع كتب السحر؟ أو كتب الإلحاد؟ أو الكتب التي تتحدث عن طرق إغواء الجنس الآخر؟ أو الكتب التي تحفّز على الانتماء للأحزاب الإرهابية؟ أو التي تحفّز على الإلحاد أو تشكك في الدين وشبه ذلك؟

فهذا كله عن الشخص نفسه، وكذلك يقع السؤال بالنسبة للأولياء، كالآباء والأمهات والمعلّمين والمربّين والفقهاء واساتذة الجامعة والحكام الصالحين، فهل يجب عليهم منع طباعة تلك الكتب أو منع بيعها أو استيرادها أو تصديرها، مطلقاً أو في بعض الصور؟

الاحتمالات الأربع في مقدمة الحرام

الجواب: إنّ الأقوال والمحتملات هي الأربعة السابقة وهي:

المقدمة الموصلة محرَّمة

القول الأول: ان المقدمة الموصلة للحرام، هي المحرمة فقط، فالذهاب إلى المنتزه إذا أدى بالفعل إلى ارتكابه، أو ارتكابها، المحرّمات، محرّم غيري، دون مطلق الذهاب، وعلى هذا الرأي فانه أ- إذا ذهب ولم يفعل محرّماً أصلاً فلا نظر نظرة محرمة ولا فعل فعلاً محرماً، فان ذهابه ليس بمحرم لأنه لم يحصل محرم كي تترشح منه الحرمة على مقدمته، ب- وكذلك لو ذهب إلى المنتزه ولم يدخل فيه ورجع فكانت المقدمة غير موصلة حينئذٍ.

وكذلك لو اشترى كتب السحر أو الضلال أو الإرهاب أو طرق التعذيب أو الفساد والإفساد، وقرأ بعضها ثم قام بعمل إرهابي أو مارس محرماً أخلاقياً أو سحر هذا أو ذاك أو ضلّ عقائدياً، فان ذلك الشراء الذي كان مقدمة لتلك المحرمات هو – خاصة – محرم غيري، ولكنه لو لم ينحرف ولم يضل ولا قام بعمل إرهابي أو طالع الكتاب ولكنه لم يفهمه فلم يتعلم السحر، فليس ذلك الفعل(2) على هذا المبنى بحرام.

المقدمة الممكِّنة محرَّمة

القول الثاني: ان المقدمة الممكَّنة حرام، أي مطلق العمل والمقدمة التي يمكن ان تؤدي به إلى الحرام محرمة وإن لم تؤدّ به بالفعل إلى الحرام، وعلى هذا فنفس بيع أو شراء كتب السحر والضلال والإلحاد محرم وإن لم يطالعها أو إذا لم ينحرف رغم مطالعته لها، فان نفس توفير المقدمة – على هذا الرأي(3)، حرام؛ انطلاقاً من ان ملاك حرمة المقدمة توقف ذيها عليها وان هذا الملاك متحقق، وبعبارة أوضح: سبب حرمة المقدمة انها توفر للشخص إمكانية المعصية (أو تجعله في معرض المعصية(4)) وإن لم يقع فيها فيكون ذلك مثل منع الوقوف على جدار يريد ان ينقضّ أو على منطقة مستنقعات يمكن ان يغرق فيها الشخص أو ان يذهب إلى غرفة شخص مصاب بمرض يمكن ان يعديه.

ومستند هذا الرأي هو ان الحاكم في باب الإطاعة والمعصية هو العقل وهو يحكم في مثل هذه الموارد بحرمة مطلق المقدمة وإن لم تكن موصلة ولذا تمنع الحكومات السفر للمناطق الموبوءة بالكوليرا أو تمنع مجيء المسافرين منها أو تمنع التجوال في منطقة يحتمل ان يحدث فيها خسف أو زلزال – عند قرب موعده خاصة.

المقدمة غالبية الإيصال محرَّمة

القول الثالث: ان المقدمة غالبية الإيصال هي المحرمة.. ولا بأس بان نقتطف هنا بعض ما ذكرناه في كتاب المكاسب:

(حرمة المقدمة غالبية الإيصال، لا الممكِّنة ولا الموصِلة(5)

سبق ان صاحب الفصول ذهب إلى حرمة (المقدمة الموصِلة) فقط، وان صاحب الكفاية ذهب إلى حرمة (المقدمة الممكِّنة) وهي مطلق المقدمة، ونضيف: انه يمكن الذهاب إلى قول ثالث وهو حرمة المقدمة غالبية الإيصال، وهذا التفصيل وسط بينهما فانه قد تكون المقدمات الممكِّنة هي مائة مقدمة على سبيل البدل، والموصلة منها بالفعل خمسة، ويكون غالبيِّ الإيصال منها عشرون مثلاً، وحيث ان العقل هو الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة والمعصية فانه يرى وجوب غالبيِّ الإيصال من المقدمات دون مطلق الممكِّن (لعدم إمكان الوجوب إن كان من باب الترشح) وفوق خصوص الموصل بالفعل، ويتضح ذلك بملاحظة حال الحُجج أولاً ثم ملاحظة حال بعض المقدمات ثانياً...)(6) و(وأما المقدمات: فيكفي المثال التالي إيضاحاً للمرام: فلو فرض ان الطائرة كانت موصِلة للمقصد دائماً (كالبيت الحرام للحاجّ) وكانت السيارة موصلةً عادةً تسعين بالمائة مثلاً بحيث عُدّت طريقاً عقلائياً، وكان الحصان موصلاً عشرة بالمائة، فان من غير العقلائي تجويز ركوب الحصان، ومن العقلائي تجويز ركوب السيارة رغم انفتاح باب ركوب الطائرة(7)، فالطائرة هي الموصلة، والسيارة غالبية الإيصال، والحصان نظير الممكِّنة بل هو منها إذ كل فرد له إمكانية ان يوصل وإن لم يوصل غالباً.

وجه تحريم مثل السينما حيناً وتحليلها حيناً

وفي المقام: إذا شاهد الفقيه أو مطلق من له الولاية واقعاً أو بنظر الشخص أو العرف أو المتشرع: كالأب، أو المعلم، أو الحكومة أو عدول المؤمنين، ان السينما أو بعض أجهزة التواصل الاجتماعي(8) غالبية الإفساد حرّمها، وإذا رآها أقلية الإفساد – بدرجةٍ من الدرجات – لم يحرِّمها وأبقاها على الحلّية الأصلية، واما إذا كانت دائمية الإفساد فحرمتها واضحة إذ المقدمة حينئذٍ موصلة، وعلى التفصيل الثالث فان المقدمة غالبية الإيصال هي المحرَّمة لا صِرف الممكِّنة وإن لم يترتب عليها الإفساد وذلك أظهر فيما لو كان احتمال إفسادها واحداً بالمائة أو بالألف مثلاً، ولا خصوص الموصلة.

وعليه: فإذا كانت السينما أو نظائرها غالبية الإفساد فترةً حرّمها، ثم إذا صارت أقلية الإفساد (لامتناع القائمين عليها عن عرض المفاسد فيها، بسبب ضغطٍ أو لأجل اقتناعٍ أو شبههما) حلّلها، والعكس بالعكس.

وعلى ذلك كله يترتب البحث وهو ان بيع هذه السينما أو الكتب أو شبهها أو شراءَها أو حتى تشييدها أو ما أشبه، محرّم أولاً لكونه أكلاً للمال بالباطل أو لا...؟)(9)

المقدمة المسلوكة محرَّمة

الاحتمال الرابع: هو ما نستلهمه من الآية الشريفة وهي ان المقدمة المسلوكة، أي التي سلكها(10) هي المحرمة، وهذا هو ظاهر الآية الكريمة في مسألة السعي لتخريب المساجد إذ يقول تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ وَسَعى‏ في‏ خَرابِها) حيث رتّب الله تعالى على ذلك (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ) وظاهر الآية الشريفة ان مطلق السعي في خراب المساجد محرّم، فيشمل صورة أدائه إلى الخراب وعدمها، ويوضّح ذلك أنّ سعي الإرهابي لتفجير المسجد أو المشهد المقدس أو مكان تجمع الناس، هو بنفسه جريمة عرفاً وممنوع قانوناً ومحرّم لدى العقلاء، ولذلك يعاقب هذا الإرهابي حتى لو لم ينجح في عملية التفجير فلم تكن مقدمته موصلة وليس عقابه حينئذٍ إلا على نفس ذلك السعي والتمهيد، وتعميم الحرمة لغير المذكور في الآية الكريمة، من المقدمات المسلوكة، لحكم العقل وبناء العقلاء، لا لتنقيح المناط ولا حتى لإلغاء الخصوصية. وتفصيله في محله.

حكم شراء كتب السحر أو الضلال والإلحاد

وتوضيح فارق الآراء الأربعة في ضمن مثال شراء كتاب السحر أو الإلحاد أو كتب الضلال: ان الرأي الأول (الموصِلة) يقول: ان شراء كتاب السحر أو الإلحاد ووضعه بالمكتبة، محرّم إذا طالعته وانحرفت دون ما إذا لم تطالعه أبداً أو طالعته ولم تنحرف.

والرأي الثاني: (الممكِّنة) يقول: إن شراء كتب السحر والإلحاد، بنفسه حرام، حتى إذا لم تطالعه أصلاً أو لو طالعته ولم يؤثر فيك أصلاً، وان الحرمة هي لنفس التمكين أي ان نفس توفير ما يمكّنك من فعل الحرام محرّم وإن لم تفعله؛ وذلك لأنك إذا لم تشترِ الكتاب لا يمكنك تعلّم السحر، فإذا اشتريته أمكنك تعلّم السحر، فنفس هذا (التمكين من المحرم) محرم.

والرأي الثالث يقول: ان المحرّم ان تضعه – مثلاً – على طاولتك للمطالعة، باعتبار انه في هذه الحالة يكون غالبي الإيصال للمحذور (أي للانحراف) وذلك فيما لو فرض ضعف مناعتك بحيث كان الغالب في مثل حالتك التأثر والضلال.

والرأي الرابع يقول: انه لو سعى في التعلم وطالع الكتاب وحاول ان يفهم فقد فعل حينئذٍ محرماً دون مجرد شرائه(11) أو وضعه في أرفف المكتبة أو حتى وضعه على الطاولة، فإذا سعى في ان يفهم السحر حرم هذا السعي وإن لم يودِّ للمقصود.

لا يقال: ان الجزاء وهو (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ) مترتب على مجموع (مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ) و(السعي في خرابها) فلا يدل على حرمة السعي وحده؟.

إذ يقال: يمكن الجواب أولاً: بان الظاهر ان كلّاً منهما (منع ذكر اسم الله في المساجد) و(السعي في خرابها) علة تامة مستقلة لاستحقاق العقاب، دليلنا على ذلك الفهم العرفي بل كونه من المستقلات العقلية؛ ألا ترى: انه لو قيل: (من منع مساجد الله ان يذكر فيها اسمه كان له خزي في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة) وقيل بان (من سعى في خراب مساجد الله كان له خزي في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة) كان صحيحاً عقلاً؟ وكان عقلائياً؟ على انه يكفي ظهور اللفظ في عِلّيّةِ كلٍّ منهما على سبيل البدل.

ثانياً: انه يمكن الاستدلال بـ(منع) أيضاً فانه إن أريد به المنع التشريعي كان مقدمةً – وهي مورد البحث – فانّ منْع الحكومة الناسَ عن ذكر الله تعالى في المساجد ليس علّة تامة لعدم ذكرهم، وإن أريد المنع التكويني كان اقتضائياً وهو أيضاً مقدمة والفاعل المختار متوسط، فتكون دليلاً على حرمة المقدمة. فتدبر وتأمل.

المحور الثاني: استنهاض المسلمين

إنقاذ الأقصى والبقيع عبر النهضة الشاملة

ان البقيع الغرقد والمدينة المنوّرة ومكة المشرّفة لا يمكن استنقاذهما من أيدي الوهابيين، كما لا يمكن إنقاذ المسجد الأقصى والقدس الشريف من أيدي الصهاينة، إلا عبر النهضة الشاملة؛ لأن النهضة منظومة متكاملة والإنقاذ لا يمكن – عادة – إلا عبر الإصلاح الشامل.

والغرب اننا في (الأصول) نعرف مبحث الحقائق الارتباطية والأقل والأكثر الارتباطيين، ولكننا لا نعرف تجلِّيات ذلك – حتى على الصعيد النظري – في (فقه المجتمع) و(فقه السياسة) و(فقه النهضة) و(فقه الإنقاذ)!

كما ان الغريب اننا في (العلوم) نعرف معادلة (الأواني المستطرقة) ولكن لا يقول لنا أحد بتمظهرات ذلك في مواجهتنا مع الأعداء والغزاة والمحتلين، وتجليات ذلك في المجتمع والحكم والسياسة والاقتصاد وغير ذلك!

والجسر الواصل بين ذينك العلمين وبين (الاستنهاض الشامل) يتضح أكثر عندما نلقي إضاءة سريعة على كلا المفهومين:

الحقائق الارتباطية، في علم الفقه والأصول

أولاً: الحقائق الارتباطية، فان من المعروف في علم الأصول ان الصلاة حقيقة ارتباطية، وكذلك الصيام، عكس أداء الدين، ولذلك لو صمت طوال النهار (17 ساعة مثلاً) إلا دقيقتين أكلت أو شربت فيهما عامداً، بطُل صومك؛ لأن الصوم حقيقة واحدة مترابطة ولا يصح القول ان كل صومي صحيح له ثواب إلا هاتان الدقيقتان! كلا.. بل كل الصوم باطل! وكذلك الصلاة لمن ترك ركناً كالركوع ولو سهواً أو ترك جزءاً كالقراءة عمداً.

ومثاله من التكوينيات (الطائرة) التي لا تقلع إلا إذا اكتملت كافة الأجهزة الدخيلة في التحليق والطيران فلو كانت كل أجزائها مكتملة إلا المحرك مثلاً لما طارت! وكذا لو كانت كل أجزاء المحرك مكتملة باستثناء سلك رئيسي أو الوقود، لما طارت أيضاً!.

وفي الفلسفة مثال آخر، لو استفدنا منه لتعديته إلى الواقع المجتمعي الـمُعاش بدل ان يبقى في عالم التجريد الفلسفي، وهو ان (العدم) لو كان إليه الف باب فانه لا يرتفع إلا إذا سدّت الأبواب كلها جميعاً!

وبعبارة أخرى: لو كان للضرر أو الحظر أو الفايروس ألف طريق فأغلقت 999 طريقاً لما أجدى ذلك مادام الطريق الأخير سالكاً! وتوضيحه بالمثال: ان المدينة لو كان لها مائة باب، وكان العدوّ يحاول بكل طريقة التسلل إلى المدينة فاننا لو أغلقنا 99 باباً فانه لا يجدي شيئاً مادام آخر الأبواب مفتوحاً غير موصد!

عِزّة الأمة أو ذِلّتها حقيقة ارتباطية

و(الأمة) من هذا القبيل فان (العزة) حقيقة ارتباطية كما ان (الذلة) حقيقة ارتباطية، ذلك ان الأمة القوية علمياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعسكرياً، هي الأمة التي تستطيع ان تنتزع حقوقها من الآخرين.

ولو كانت أمتنا كذلك لأمكننا بسهولة انتزاع مكة والمدينة من أيدي الوهابيين واسترجاع القدس من أيدي الصهاينة! ولكن الأمة المتخلفة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً و... كيف يمكنها ان تكون عزيزة في مواجهة الأعداء؟ وكيف يمكنها انتزاع حقوقها من أيدي الآخرين؟

والمؤلم اننا (أي الكثير منا) أصبحنا كما قال الله تعالى في شأن الكفار: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْديهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنينَ)(12) فان الكفار كانوا يعينون المؤمنين على تخريب بيوتهم.. والغريب ان تنعكس الآية لنكون نحن (أي الكثير منا) الذين نُعين الكفار على تخريب بيوتنا فصرنا – ويا للعجب – (نخرب بيوتنا بأيدينا وأيدي الكافرين)!

سرّ الذلة والتخلّف الإعراض عن الآيات الحيوية القرآنية

ألا ترى قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني‏ أَعْمى‏ وَقَدْ كُنْتُ بَصيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى‏)(13) وألا ترى اننا اعرضنا عن ذكر الله والذكر القرآن الكريم، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(14)

فهل عملنا بالقرآن الكريم حتى في نصوص آياته الباعثة على العزة والقوة والمنعة والتقدم؟ ألا ترى قوله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)(15) فلما لم ننصر الله تعالى سيطر علينا الأعداء؟

ألم يقل تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ)(16) وهل أمرنا شورى بيننا؟ فكيف نتوقع ان نسترجع القدس ومكة والمدينة؟ وألم يقل أمير المؤمنين عليه السلام ((مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ))(17)؟ وألم يقل الله تعالى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى‏ وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(18) وهل تجدنا نتعاون على البرِّ والتقوى؟ هل تجد مثلاً تعاوناً بين علماء الحوزة وأساتذة الجامعة(19) في وضع المناهج النهضوية؟ وفي التخطيط لإنقاذ القدس والبقيع ومكة والمدينة وسائر مقدساتنا؟ وفي التخطيط لمكافحة الفقر والبطالة والتضخم؟! وفي التخطيط لمواجهة الفساد الأخلاقي؟ وانهيار العوائل والأسر؟ وتفشي المخدرات؟ ومواجهة نزق الحكومات وطيشها؟ والتصدي للفساد المالي في الوزارات وغيرها!

وهل تجد مثلاً تعاوناً بين الأحزاب الإسلامية المختلفة المتناثرة في شتى البلاد، لوضع خطة مشتركة لإنقاذ المسجد الأقصى والبقيع والمسجد النبوي والمسجد الحرام؟ أو هل تجد تعاوناً بين الوجهاء والعلماء والأساتذة والعشائر والتجار لأجل ذلك كله؟

وكيف تتوقع من أمة أعرضت عملياً عن الآيات الحيوية في القرآن الكريم، ان تكون عزيزةً وان تسترجع حقوقها المهدورة؟

إن الإصلاح كلٌّ متكامل:

وقد انقضت ستة وتسعون سنة على هدم مشاهد الأئمة عليم السلام في البقيع، ولم نحرك ساكناً! لماذا؟ لأننا توهّمنا اننا بالصراخ والهتافات نستطيع استرجاع الحقوق ولم نعرف ان (العزة للأمة) حقيقة ارتباطية تكاملية وان الإصلاح الشامل هو الطريق للانتصار على الأعداء و(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(20).

وكذلك نجد انه قد انقضت على احتلال القدس أكثر من سبعين سنة ولا تزال بأيدي الصهاينة! لماذا!

وصدقوا اننا لو كنا عملنا بآيات الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ) والحريات (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)(21) و(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي‏ كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(22) والتعددية الإيجابية (وَفي‏ ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)(23) والأمة الواحدة (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(24) والأخوة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(25) والتعاون (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى‏ وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) والعدل والإحسان (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)(26) صدّقوا لو اننا كنّا قد التزمنا بذلك لكانت قضية استرجاع بلادنا المقدسة وحقوقنا المهدورة أهنأ من شرب الماء القراح في حمارّة القيض! قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(27).

الأواني المستطرَقة، والذِلّة المستغرِقة!

ثانياً: الأواني المستطرقة، وهي شاهد آخر، إذ اكتشف باسكال الحقيقة التالية وهي ان معادلة توازن الضغط والجاذبية تدفع السوائل لكي تتساوى سطوحها في الأواني المتصلة مهما كانت أحجامها وأشكالها، فلو كان هناك ألف أبريق مثلاً متصل بعضها ببعض بأنبوب ثم سكبتَ الماء المنهمر في احدها فانه يتسرب عبر الأنبوب إلى سائر الأواني حتى تتساوى أسطحه كلها؛ وذلك لأن الضغط الجوي يَرِد بشكلٍ متوازنٍ وقاهر على هذا الماء فيدفعه لينتشر في كل الجهات الممكنة.

وقد ثبت علمياً ان الضغط الجوي على المتر المربع الواحد يعادل عشرة آلاف كيلو غرام! وهذا الضغط الهائل هو الذي يدفع السوائل للانتشار في كل مكان حتى تتساوى أسطحها تماماً.

وكما في (الأواني المستطرقة) فان العِزّة والذِلة في الأمة هي كذلك تماماً (شاملة مستغرقة)!، فان عزتها في جانب لا تكون بمعزل عن ذلتها في جوانب أخر، والكسر والانكسار حاصل بينهما دائماً وأبداً حتى تتساوى الأسطح منسوبة إلى مجمل حالة الأمة!.

وكيف تكون أمة تنتهج منهج الاستبداد ومصادرة حقوق شعبها الأعزل، قادرةً على انتزاع المسجد الأقصى من يد الصهاينة؟ وكيف تستطيع أمة لا تتعاون في الخطير من الشؤون والحقير منها (إلا القليل أو النادر) ان تسترجع البقيع الغرقد من يد الوهابيين!

وكيف تستطيع أمة تعيش التخلف الحضاري والعلمي والتعليمي والاقتصادي والسياسي و...، ان تكون عزيزةً في مقدساتها، متغلبة على مغتصبي حقوقها، شامخةً في مواجهة أعدائها؟ نعم يمكن للأمة ان تنطلق من بُعد من الأبعاد لتتوسع، بحركة منهجية، نحو سائر الأبعاد حتى يكتمل الإصلاح وتتكامل أركان العزة ويعود سالف المجد إلى هذه الأمة المرحومة.

الترابط بين الفساد والاقتصادي والاجتماعي والسياسي و...

ويمكن ان نلخص الترابطية وبين مستويات الإصلاح ومستويات الفساد والإفساد والتخلف وتساوي الأسطح في المعادلتين التاليتين:

(المعادلة الأولى): ان الفساد الحكومي وعلى مستوى المسؤولين يقود إلى الفساد الاقتصادي ويتسرّب منه إليه حتى يتساوى السطحان!، والفساد الاقتصادي يقود إلى الفساد الاجتماعي، ويتسرّب إليه حتى يتساوى السطحان! والفساد الاجتماعي يقود إلى ضعف الأمة وانكسارها أمام الأعداء وذلتها من بين الأمم والملل والنحل، حتى يكون مستواها بين الأمم كمستواها في دافعها الداخلي!.

المعادلة الثانية: ان تخلّف نظام التعليم وانهيار المنظومة الأخلاقية يقودان بالتدريج إلى التخلف الزراعي والصناعي، حتى تساوى الأسطح، وهذان بدورهما يقودان إلى مزيد من انهيار نظام التعليم ودمار المنظومة الأخلاقية في المجتمع على نفس حجم ومستوى ذلك التخلف! وذلك كله تنعكس مخرجاتُه في الهزيمة المنكرة أمام الأعداء وفي التخلف عن مصافّ الأمم وفي فقد العزة والكرامة الدولية والأممية!

العراق يفتقر إلى عشرين ألف مدرسة!

ويكفي ان نشير أخيراً إلى نموذج حيّ معاصر من العراق، فحسب الإحصاءات فان العراق يعاني من نقص حادّ في عدد المدارس (إضافة إلى انخفاض جودة التعليم) ولذلك كثرت المدارس المزدوجة الدوام، وحسب بعض الإحصاءات فان الناقص من المدارس هو خمسة آلاف مدرسة! وحسب إحصاء آخر فالناقص هو عشرة آلاف مدرسة! ولعل الأختلاف بسبب اختلاف سعة المدرسة وعدد صفوفها، فمن خمّن الحاجة إلى خمسة آلاف لاحظ مثلاً ان المدارس تضم خمسمائة طالب ومن لاحظ عشرة آلاف طالب اعتبر كل مدرسة تحتضن 250 طالباً مثلاً.

لكن وزارة التربية أعلنت ان النقص في عدد المدارس سيبلغ عام 2022م (أي بعد 3 سنوات) أكثر من عشرين الف مدرسة! وإذا افترضنا ان كل مدرسة تضم ثلاثمائة طالب كان معنى ذلك ان ستة ملايين طالب سيكونون محرومين من (المدرسة) أو (من المدرسة ذات الدوام الواحد)!

والسؤال الملح هو: كيف يستطيع مَن يعاني من هذا التخلف في نظامه التعليمي، وفي نظامه الحكومي، وفي الكهرباء والماء والخدمات، وفي الزراعة والصناعة وغير ذلك، ان يستنقذ البقيع أو المسجد الأقصى من أيدي الصهاينة والوهابيين؟ وقس على حال هذا البلد سائر البلاد العربية والإسلامية!

ان ذلك يعني ان الواجب علينا ان ننطلق بقوة نحو (النهضة الشاملة) و(الإصلاح المتكامل) وان يتعاضد العلماء والخبراء والمفكرون والوجهاء والعشائر والأحزاب، للقضاء على الفساد المالي والأخلاقي ولوضح مخطط شامل للنهضة العلمية والتعليمية والاقتصادية والسياسية والزراعية والصناعية وغيرها.. وحينئذٍ، ستكون الطريق بإذن الله تعالى شارعةً معبّدة لإحقاق الحقوق واستعادة الكرامة المهدورة وتحرير المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي والبقيع الغرقد من الهيمنة الاستكبارية الطاغية.. وما ذلك على الله بعزيز.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

...........................................
(1) سورة البقرة: آية 114.
(2) الشراء والمطالعة.
(3) بتطوير منّا لكلام المحقق الخراساني إذ ان كلامه عن مقدمة الواجب، نعم عمَّمه بعد ذلك لمقدمة الحرام التي كانت السبب والعلة التامة دون المعدّ فقط.
(4) هذا رأي آخر أو قيد، لدى التدبر.
(5) أي لا مطلق الممكِّنة ولا خصوص الموصِلة.
(6) كتاب المكاسب / البيع: الدرس 402.
(7) تيسيراً على نوع المكلفين، أو لغير ذلك.
(8) كالفيس بوك مثلاً.
(9) المصدر نفسه.
(10) أو فقل المقدمة المنسلكة (توسعاً في صيغة باب الانفعال لما لم يرد في التصريف عن العرب)
(11) إلا لو عدّ بنفسه سعياً فتدبر.
(12) سورة الحشر: آية 2.
(13) سورة طه: آية 124-126
(14) سورة الأنبياء: آية 105.
(15) سورة محمد: آية 7.
(16) سورة الشورى: آية 38.
(17) نهج البلاغة: قصار الحكم: 161.
(18) سورة المائدة: آية 2.
(19) إلا بعض العلماء والأساتذة، كما هو واضح.
(20) سورة الرعد: آية 11.
(21) سورة البقرة: آية 256.
(22) سورة الأعراف: آية 157.
(23) سورة المطففين: آية 26.
(24) سورة الأنبياء: آية 92.
(25) سورة الحجرات: آية 10.
(26) سورة النحل: آية 90.
(27) سورة الأعراف: آية 96.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي