زيارة الأربعين بين شاكلة الجماهير وشاكلة المنتقدين
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (3)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2018-11-18 04:40
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا * وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً)(1).
البحث في الآية الشريفة يدور حول محورين:
المحول الأول: المحور العلمي – الفقهي، والمحور الثاني: المحور الاجتماعي – التربوي.
المحور الأول: ان هناك ثلاث مدارس كلامية – وفقهية مطروحة في ساحة البحث والنقاش:
استنباط تعدد القراءات والاجتهادات وقاعدة الإمضاء من الآية الكريمة.
الأولى: مدرسة تعدد القراءات.
الثانية: مدرسة فتح باب الاجتهاد وتعدد الاجتهادات.
الثالثة: قاعدة الإمضاء والإلزام.
والفرق بين الثلاثة أن تعدد القراءات أعم من تعدد الاجتهادات، وتعدد الاجتهادات إنما هو داخل الإطار اما تعدد القراءات فقد يكون خارج الإطار بل قد لا يحكمه إطار، وقد فصلنا البحث عن ذلك في كتاب (نقد الهرمينوطيقا) واما قاعدتا الإمضاء والإلزام فهما قاعدتان فقهيتان وقد يلتزم بهما من يقول بغلق باب الاجتهاد أو بعدم صحته رأساً ومن يقول بفتحه وتعدد الاجتهادات.
الاستدلال بـ(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) ومعانيها
وهذه الآية الشريفة قد يدعى دلالتها على بعض أو كل تلك النظريات أو المدارس الثلاث، وذلك بوجوه خمس:
أ- (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) تشريعاً
الوجه الأول: ان يقال بان المراد من (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً)، أي ان له ان يعمل على شاكلته تشريعاً، أي شرّعنا لكل منكم ان يعمل على شاكلته، فإذا كان ذلك هو المراد فذلك تصحيح، ولو ظاهري، لكل القراءات والاجتهادات أو لما لم ينصرف عنها.
ولكنّ هذا المعنى بعيداً جداً عن ظاهر الآية إذ ظاهرها الإخبار لا الإنشاء، وظاهرها الإخبار عن ان كلّاً يعمل على شاكلته تكويناً اقتضاءً، لا تكويناً قسراً وجبراً، أي ان من طبيعة كل إنسان ان تجري جوارحه على ما انطوت عليه جوانحه أي انه يعمل بجوارحه على حسب ما تقتضيه شاكلته النفسية والفكرية: فالحسود يعمل على طبق مقتضى حسده، والغضوب والحقود والشهواني والصّبور والشجاع والجبان والكريم والبخيل.. الخ كل تكون أفعاله على حسب شاكلته النفسية، كما ان الرأسمالي أو الاشتراكي أو الشيوعي، وكذا المسلم واليهودي والمسيحي والبوذي والملحد، كل منهم يعمل على حسب شاكلته الفكرية والاعتقادية فينبعث في أفعاله عما انطوى عليه مكنون ضميره وعن شاكلة معتقداته وأفكاره.
وذلك كله على نحو الاقتضاء لا العِلّيّة لوضوح ان الحسود أو الحقود أو الغضوب ليس مجبَراً على ان ينتقم أو أن يدمر أو ان يضرب أو يخرب، بل انه قد يتحكم في أعصابه ويسيطر على غضبه ومقتضيات حقده وحسده فلا يتصرف بما يشين ولا يزين، بل قد يتصرّف على العكس تماماً من مقتضى حسده أو حقده أو غضبه، وكذلك الشجاع والجبان والكريم والبخيل والعنيف والمسالم فاننا نرى من أنفسنا ان هذه الصفات والشواكل وإن ولّدت في أنفسنا الميل نحو مقتضياتها لكنها لا تبلغ درجة الجبر والقسر والإلجاء، بل تبقى إرادتنا هي الحاكمة أولاً وأخيراً.
ب- تخلقوا بأخلاق الله في صُنعِهِ للشواكل
الوجه الثاني: ان يقال: بانه مادام الله تعالى قد صنع الشواكل النفسية ولو في الجملة، فعلينا ان نقتدي به إذ ورد في الحديث ((تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ))(2) ومن أخلاق الله تعالى أنْ خلق الناس على شواكل مختلفة، إذ من الوجداني ان بعض الأطفال بل الرضّع(3) شجاع أو كريم أو ذكي أو عميق النظرة، وبعضهم جبان أو بخيل أو غبي أو سطحي النظرة أو منعزل أو اجتماعي أو خجول او جربزي.
ولكنّ هذا الوجه غير تام:
اما أولاً: فلأن ((تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ)) لم يرد في أحاديثنا، حسب التتبع، ولا في أحاديث العامة، بل قيل انه من كلمات بعض الصوفية، وقد ورد في البحار ولكن لا بعنوان رواية بل كجزء من كلام أحد العلماء.
واما ثانياً: فلأن أخلاق الله تعالى على قسمين:
الأول: ما ثبت حسنه للخالق والمخلوق وذلك كـ: الغفور، الشكور، الصبور، البَرّ، السلام، النافع، المؤمن.. وهكذا.
الثاني: ما اختص بمقام الالوهية وما لا يليق إلا بشأنه جل اسمه، وذلك كـ(المتكبر، المهيمن) ونظائرها قال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(4) ولا شك في حسن اتصافه تعالى بالتكبر فانه رداؤه، وبالهيمنة وشبه ذلك ولكن لا يحسن بالعبد التكبر ولا السعي للهيمنة على الآخرين، كما لا يمكن الاستدلال بكونه ملكاً على حسن ان نسعى لنكون ملوكاً مثلاً.
ويؤكد ذلك انه تعالى زيّن للناس حب الشهوات (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنينَ وَالْقَناطيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآب)(5) فهل يحسن بنا ان نزين لهم الشهوات؟ بل وانه تعالى شأنُهُ فتنةُ البشر (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ)(6) و(الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(7) وقال موسى عليه السلام: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))(8) ولا شك في انه لا يجوز لنا ان نفتن الناس عن دينهم بان نبني لهم مخامر ومباغي – لا سمح الله – إلى جوار المساجد والحسينيات، متذرعين بـ((تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ))!
كما ان من أفعاله تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)(9) كما انه (الضارّ النافع) و(المحيي المميت) ولا يجوز لنا ولا يحسن بنا ان نضرّ أحداً أو نقتل شخصاً، كما ان من أفعاله (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً)(10) و(فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)(11) ولا يجوز لنا ذلك.
والحاصل: انه (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(12) و(أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)(13).
ثم انه لو فرض صدور الرواية فلا بد من حملها على الصفات التي ثبت حسنها للعبد وللربّ ولا إطلاق لها لكل خُلُقٍ الهي.
وعلى أي فلا شك انه تعالى خلق الناس على شواكل، ولا يدل ذلك على حسن ان نجاريه جل اسمه في ذلك فنعطي كل ذي شاكلة ما يقوّي شاكلته بان نعمل على زيادة القوة الغضبية أو الشهوية في الفرد الشهواني أو الغضوب وبان نزيد الحسود حسداً والحقود حقداً أو نوّفر لهم الوسائل والآليات التي تزيدهم قدرة على الإيذاء والإفساد مثلاً.
ج- (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) فامضوه على عمله!
الوجه الثالث: ان يقال بان لازم قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) هو: فامضوه على عمله الذي كان على شاكلته.
لكن هذا الاستنباط مما لا يفهمه العرف، بل هو بعيد جداً عن مساق الآية إذ رتبت على ذلك (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً)(14) لا غير، على ان الأقرب من هذا المعنى هو الوجه الآتي وهو:
د- (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) فلا تقسروه!
الوجه الرابع: ان يقال بان لازم قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) هو: فاتركوه ولا تقسروه على خلاف شاكلته، وقد يُعضد بان لحوق (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) يؤكد هذا المعنى.
وبعبارة أخرى: ان مفاد الآية: كل شخص يعمل على شاكلته والله أعلم بالأهدى سبيلاً من مختلف الناس الذين يعملون على شاكلتهم، فلِمَ تقسرونهم على خلاف شاكلتهم؟ أي ان قصارى الجزاء والموقف منهم هو (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) وتحويل أمرهم إلى الله تعالى فيكون نظير الجزاء في قضية مسجد ضراراً (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(15) والجزاء هو (لاَ تَقُمْ فِيهِ) فقط إذ قال تعالى بعد ذلك مباشرة: (لا تَقُمْ فيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيهِ فيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرينَ)(16)، لكن هذا المعنى وإن احتمل لكنه لا يبلغ درجة الظهور النوعي.
ثم انه لو استظهرنا هذا المعنى لأفادت الآية قاعدة عامة وكان وِزانها وجَرْيُها ومضمونها مطابقاً لآيات أخرى مثل (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(17) و(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)(18) و(فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)(19) و(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(20) فيكون هذا هو الأصل العام ولا يخرج عنه إلا بدليل، فإذا شك مثلاً في ان واجب الدولة الإسلامية إجبار النساء على الحجاب أو الرجال على إطلاق اللحية أو شبه ذلك كان الأصل العدم بل كانت القاعدة استناداً لهذه الآية والآيات الأخرى، عدم الإجبار. فتأمل وتدبر
هـ - (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) فلا تحزن!
الوجه الخامس: ان المراد: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) فلا تحزن على ما يفعلون ولا تذهب نفسك عليهم حسرات – لكنها على هذا الوجه لا تدل على احدى المدارس الثلاث.
المحور الثاني: زيارة الأربعين في شاكلة الناس وشاكلة المنتقدِين
لقد كشفت زيارة الأربعين، وبشكل مذهل، عن شاكلة الجماهير الحسينية، كما كشفت عن شاكلة الكثير من النخبة ذات النظرة السلبية تجاه هذه الظاهرة النادرة الفريدة.
فقد كشفت عن أروع ملاحم كرم الحسينيين وشهامتهم وبطولتهم، بما لا نجد له نظيراً في الكرة الأرضية كلها على امتداد التاريخ الإنساني.. إذ وجدنا ووجد العالم كله عامة الناس خاصة من الطبقة المستضعفة والمحرومة يتنافسون على تقديم أفضل ما يمكنهم من خدمة وإطعام وإيواء للملايين من الناس على مدار أيام وأسابيع، وقد يظل الكثير منهم – رجلاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً – يجمع أمواله درهماً درهماً وفلساً فلساً طوال العام كي يقدم أفضل ما يمكن لزوار أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وتراهم يقدمون كل ذلك بكل حبّ وتقدير واعتزاز وفخر مزيجاً كل ذلك بروح إيمانية خاشعة.. والغريب ان ذلك كله يقترن بروح أخوية وأنفس كبيرة تتسع، كما لم نشاهده من قبل، لتحتضن بكل حب وإخلاص الغريب والقريب: العراقي والإيراني والهندي والباكستاني والخليجي والأوروبي.. كلهم على نحو سواء وكأنهم جميعاً الاخوة من أب وأم.. حتى لقد حيّر ذلك العالم كله إذ لا نجد نظيراً لزيارة الأربعين في مجمل خصائصها ومن حيث المجموع، أبداً حيث تهبّ الجماهير بأكملها سنةً بعد سنةٍ للخدمة والرعاية والإيواء والضيافة دون كلل أو ملل أو فتور أو تراجع.
الزيارة المليونية منظَّمة من غير منظِّم!
والأغرب انها زيارة تتميز بكونها منظَّمة من غير منظِّم.. إذ يشاهد العالم كله الملايين من الناس يتوافدون عبر مسارات وطرق متعددة وفي أجواء مختلفة: مطيرة أو مغبرّة، شاتية أو صائفة حارة أو باردة، عاصفة أو هادئة.. ويسيرون لمدة أيام طويلة، ويبيتون في الحسينيات والخيم، ويلتقون ويجتمعون ويفترقون.. ومع ذلك كله لا ترى إلا الهدوء والسكينة والأخلاق الفاضلة وسعة الصدر والتسامح والوئام.. فلا شجار ولا نزاع ولا صراخ ولا مجالس بطالين ولا.. ولا.. ولا.. ولعمرك ان ذلك لمن العجائب! حتى قال بعضهم: كأنّ مسيرة زيارة الأربعين هي الأنموذج المصغّر لحكومة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف: الجميع شَهْم كريم، خدوم ودود خلوق، مِعطاء مضحي ومنظم.. من غير ان توجد لجان وفِرق وجماعات في أية نقطة على طول الطريق، تتكفل بإدارة ذلك كله! بل تجد الناس كلهم وبأنفسهم، رغم كونهم بالملايين ومن عشرات الدول والعديد من القوميات، وبوازع داخلي سماوي، يفعلون كل تلك الأعاجيب! فهذه هي شاكلة زوار الأربعين والحسينيين!
شاكلة الإعلام العالمي المعادي: الزيارة إضرار وخسائر!
ولكن في مقابل ذلك كله: نجد بعض وسائل الإعلام العالمية(21) وبعض المضلَّلين أو الجاهلين لم يجدوا في هذه الملايين الزاحفة وفي هذه المعجزة التاريخية إلا ما توهموه نقصاً وخطأً فقالوا: ان زيارة الأربعين تعيق النهوض بالاقتصاد الوطني!!، وبانها تعني ضيافات مجانية لملايين الناس وانه كان الأجدر ان يأخذ المضيفون أموالاً من ضيوفهم كي يصبوها في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني! أو ان يعطوها للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام! وانه من الخطأ ان يعطّل الناس أعمالهم ويترك العمال والموظفون والمزارعون وظائفهم ليقضوها في المشي أياماً إلى كربلاء! ومن الخطأ ان يترك الطلاب مقاعد الدراسة لينشغلوا في ماراثون يستمر أياماً من غير فائدة!
الأجوبة:
وفي الجواب نقول: ان زيارة الأربعين هي عبادة أولاً، وهي سياحة ثقافية ثانياً، وهي نزهة روحية ومتنفس متميز ثالثاً، وهي رياضة جسمية رابعاً، وهي دورة تربوية عالمية خامساً، وهي المظهر التجسيدي الأسمى للأمة الواحدة والأخلاق الفاضلة سادساً.
زيارة الأربعين عبادة وقربة وأجر وثواب
أ- فهي عبادة: إذ تدل على ذلك الروايات المتواترة الدالة على الأجر العظيم على زيارة الإمام الحسين عليه السلام والذي لا تعدلها في ذلك أية عبادة أخرى، وزيارة الأربعين من مصاديقها، بل قد دلّت عليها بالخصوص روايات عديدة.
منها: ما رُوي عن الشيخ المفيد في المزار والشيخ الطوسي في التهذيب قال: ((رُوِيَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ عَلَامَاتُ الْمُؤْمِنِ خَمْسٌ صَلَاةُ الْخَمْسِينَ وَزِيَارَةُ الْأَرْبَعِينَ وَالتَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ وَتَعْفِيرُ الْجَبِينِ وَالْجَهْرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))(22).
وقد روى الشيخ الطوسي بإسناده عن صفوان الجمال قال: ((قَالَ لِي مَوْلَايَ الصَّادِقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي زِيَارَةِ الْأَرْبَعِينَ تَزُورُ عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ وَتَقُولُ السَّلَامُ عَلَى وَلِيِّ اللَّهِ وَحَبِيبِهِ... وَتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَتَدْعُو بِمَا أَحْبَبْتَ وَتَنْصَرِفُ))(23)
وفي فضل الزيارة وثوابها روى محمد بن سنان، عن حذيفة بن منصور، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ((مَن زارَ قَبرَ الحُسَينِ عليه السلام للَّهِ وفِي اللَّهِ، أعتَقَهُ اللَّهُ مِنَ النّارِ وآمَنَهُ يَومَ الفَزَعِ الأَكبَرِ، ولَم يَسأَلِ اللَّهَ تَعالى حاجَةً مِن حَوائِجِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ إلّا أعطاهُ))(24).
وعن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال: ((مَن زارَ الحُسَينَ عليه السلام عارِفاً بِحَقِّهِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَوابَ ألفِ حَجَّةٍ مَقبولَةٍ، وألفِ عُمرَةٍ مَقبولَةٍ، وغَفَرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وما تَأَخَّر))(25).
وروى الحسين بن علي بن ثوير بن أبي فاخته قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام ((يَا حُسَيْنُ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهما السلام) إِنْ كَانَ مَاشِياً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً وَحَطَّ بِهَا عَنْهُ سَيِّئَةً حَتَّى إِذَا صَارَ بَالْحَائِرِ كَتَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَإِذَا قَضَى مَنَاسِكَهُ كَتَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْفَائِزِينَ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ الِانْصِرَافَ أَتَاهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: اسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى))(26)
زيارة الأربعين سياحة ثقافية -روحية
ب- ج- وهي سياحة ثقافية وروحية أيضاً: إذ يتعرّف الناس المتوافدون من عشرات من دول العالم، على ثقافة الشعب العراقي وأخلاقه وعاداته وتقاليده، بل يتعرف أهل العالم على ثقافة الحسينيين وأخلاقهم وآدابهم، وعاداتهم وتقاليدهم، كما يستحضرون ملامح الحركة الإصلاحية الكبرى لسيد الأحرار عليه السلام، عبر ما يسمعونه طوال الطريق من المواكب أو الخطباء أو عبر ما يشاهدونه في كربلاء المقدسة من المشاهد المشرفة والآثار الخالدة.
وقد درج المثقفون في العالم على السياحة الثقافية، حيث تنطلق الألوف من القوافل من الغرب والشرق إلى مصر مثلاً لزيارة الاهرامات وغيرها، أو إلى سامراء لرؤية المرقدين الطاهرين والملويّة وغيرها أو إلى أصفهان أو غيرها، لمجرّد ان يطلعوا على آثار قديمة أو معالم ثقافة أو حضارة أخرى.. والغريب ان المنتقدين لزيارة الأربعين لا تراهم ينتقدون المليارات التي تصرف في السياحات الثقافية والترفيهية، مع ان الكلام بعينه يجري هنالك إذ يقال: ألم يكن الواجب ان تصرف هذه الأموال في تنشيط الاقتصاد الوطني؟ وفي بناء المعامل والمصانع؟ وفي تشييد الجسور والأنفاق؟ وفي بناء المساكن للفقراء والمياتم للأيتام؟ وألم يكن من الأفضل ان يخصص أولئك السواح هذه الأوقات للدراسة والمطالعة أو للزراعة أو للتجارة والصناعة أو لشبه ذلك بدل ان يقضوها في التطلّع على أنهر جافة أو جبال شاهقة أو حمامات قديمة؟
وفي زيارة الاربعين يلتقي الزائرون بزوار كثيرين من شتى البلاد والثقافات: في الطرق وفي الحسينيات والخيم وفي النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وفي مختلف المدن التي تقع على الطريق كالناصرية والحلة وغيرها، بل ويرى الزوار في مشاهد تجسيدية مباشرة الكثير الكثير من الشعوب الأخرى.. وعلى مدار أيام عديدة.
كما انها سياحة روحية أيضاً إذ ان هذه الأيام التي يقضيها الزائرون في الطريق إلى كربلاء.. وهم في مواجهة مباشرة مع الأرض والسماء والشمس والقمر والشروق والغروب والنجوم والسحب والرياح والأمطار وغيرها، هي أفضل فرصة بل هي أفضل دورة تدريبية للاستجابة الشاملة للآيات الربانية الكريمة التالية:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)(27)
زيارة الأربعين سياحة ترفيهية ورياضة بدنية
د- هـ- وهي سياحة ترفيهية كما انها رياضة بدنية مميزة أيضاً.. فإنها نزهة وترفيه عن النفس، والترفيه ضروري للإنسان لأنه يشكل نوعاً من التنفيس عن الكبت النفسي ويحرّرُ الأعصاب المتوترة طوال العام من ضغطٍ مدمر.. ومن الواضح ان السير ليالي وأياماً في هذا الطريق.. وفي الهواء الطلق.. وفي مواجهة مع الطبيعة مباشرة.. ينقل الناس إلى أجواء أخرى روحانية اولاً ومشبعة بالهدوء والسكينة ثانياً ومتزاوجة مع الطبيعة – الأم ثالثاً.
ولذلك كانت النزهة شرعاً مستحبة لأن مشاكل الحياة تضغط على الإنسان أشدّ الضغط، وحينئذٍ: فاما ان ينفجر في وجه الآخرين: الزوجة والأولاد، والشركاء أو الموظفين أو الجيران أو غيرهم، واما ان يكبت انفعالاته فيصاب بجلطة في المخ أو بأزمة في القلب!
ومما لا ينبغي ان يخفى: ان الهدف الأسمى من زيارة الأربعين هو التقرب إلى الله تعالى وإحراز رضاه جل اسمه عبر زيارة سيد شباب أهل الجنة عليه السلام والمشاطرة الوجدانية مع شهداء الإنسانية، وهي تمثل نوعاً من الاستحضار الواعي واللاواعي لتلك المعاني السامية طوال أيام من هذه المسيرة الربانية.. فهذا أولاً وبالذات.. إلا انها تستبطن أيضاً فوائد أخرى كثيرة رياضية وسياحية ونفسية وغيرها مما ذكرناه فهي كالحج حيث ان هدفه الأكبر ذكر الله لكنه وكما قال تعالى (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)(28).
زيارة الأربعين دورة تدريبية عالمية عملاقة
و- كما انها دورة تربوية عالمية عملاقة لا نظير لها في العالم كله.. إذ يعاد تأهيل الناس وتدريبهم العفوي – الارتكازي طوال أيام على الصبر على تقلّبات الطبيعة، وعلى تحمّل الآخرين وعلى التسامح وعلى ضبط النفس عن الشهوات.. وأيضاً: على استحضار القيم العليا التي جسّدها سيد الشهداء والأحرار عليه السلام.. استحضارها في أعماق اللاوعي دائماً وعلى مستوى الشعور الظاهر في كثير من الأحيان؛ إذ تملأ صفحةَ وجود كل زائر مواقفُهُ البطوليةُ الخالدة وثورته السرمدية ضد الظلم والطغيان ومعاني الفداء والإيثار والبطولة والغيرة والحمية ومسيرة الإصلاح الخالدة إذ يقول: ((وَأَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلَا بَطِراً وَلَا مُفْسِداً وَلَا ظَالِماً وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام ))(29)
زيارة الأربعين مظهر تجسيدي مذهل للأمة الواحدة
ز- وزيارة الأربعين مظهر تجسيدي نادر بل عديم المثال للأمة الواحدة والأخلاق الفاضلة حيث يتلاحم الملايين من الناس من عشرات الدول وينصهرون في بوتقة إنسانية – سماوية واحدة.. فترى العراقي يسير جنباً إلى جنب مع الإيراني والهندي والباكستاني والأوروبي والخليجي واللبناني والسوري.. وتراهم ينزلون في حسينية واحدة أو خيمة واحدة.. ويأكلون من طعام واحد ويعيشون أجواء روحانية – معنوية – إنسانية واحدة!.. وفي مقابل ذلك كله نجد شاكلة المنتقدين!!
شاكلة الناقد السلبي المتشائم!
والغريب ان شاكلة هؤلاء المنتقدين النفسية والفكرية، لا ترى كل ذلك بل تتغلب عليهم روح السلبية والتشائم وإنكار كل اللقطات الرائعة في كل اللوحات الفنية النادرة!.. وذلك تماماً كمن أراد ابنه ان يصبح طبيباً وصديقه ان يصبح مهندساً وابن عمه ان يصبح أستاذاً في الجامعة، فلم يبصِر في ذلك إلا القبائح وإلا الاضرار والمخاطر!
ولا تعجز السلبيين والمتشائمين الحجج والشواهد! إذ قد تجده يقول لابنه: كيف تريد ان تكون طبيباً والطب حِرفة خطرة فقد تعمي عين المريض إن غفلت لثانية أثناء إجراء العملية الجراحية! وقد تعطيه دواء – خطأ – يؤدي إلى إصابته بجلطة قلبية!.. وألف قد وقد! كما قد تجده يقول لصديقه الذي يهدف إلى ان يكون مهندساً: ألا تعلم بان المهندس قد يخطئ في بعض حساباته ولربما انهارت إحدى البنايات التي هندستَ لها على رؤوس العشرات فقتلتهم فيزجّون بك في السجن ثم يرحلونك إلى المقصلة!
كما قد تسمعه يقول لمن يريد ان يكون استاذاً جامعياً: الا تفكر انك قد تفشل ولا تحصل على فرصة العمل فيضيع عمرك الذي صرفته في التعلّم! ثم الا تفكر انه قد يتخرج من طلابك أمثال هتلر وصدام؟ والا تفكر انهم قد يقيلونك عن عملك لوشاية واشٍ أو ان تتعرض لمضايقات من أساتذة آخرين يحسدونك على موقعك!
إن مشكلة بعض النخبة ان شاكلتهم النفسية – سلبية متشائمة.. فلا يرى في حديقة الورود إلا الأشواك وفي شهد العسل إلا الغصّة المحتملة عقلياً واحداً بالمليون!
وعوداً إلى استدلالاتهم وإشكالاتهم على البعد العلمي والاقتصادي السلبي – فيما يرون – لزيارة الأربعين نقول:
ومجموعة أجوبة نقضية
انه بناء على هذا المنطق فيجب:
أولاً: إلغاء كل الضيافات في العالم! لأن الضيافة إطعام مجاني وإضاعة للوقت معاً! فبدل ان تصرف وقتك في إعداد الطعام للضيوف ثم في الجلوس معهم، أصرفه في الدراسة والمطالعة أو في الزراعة والصناعة أو في النهوض بالاقتصاد الوطني! وبدل ان تعطيهم العطاء مجاناً بِعه لهم كي تضخ هذه الأموال في تنشيط دورة الاقتصاد الوطني بدل ان تضيع جهودك عبثاً في ضيافات تحرق الأموال وتتلف الأوقات!!
كما يجب ثانياً: إلغاء المساجد ودور العبادة كلها.. إذ لا تشكل إلا بإضاعة للوقت وهدراً للجهود؟ فبدلاً من ان تذهب إلى المسجد وتصلي جماعة ويستهلك أسبوعياً الملايين الناس في أنحاء العالم المليارات من الساعات من وقتهم الثمين في الذهاب والإياب إلى المساجد وفي استهلاك الوقود ووسائل النقل وفي عرقلة حركة السير في الطرق بمضاعفة الازدحامات المرورية، بدلاً من ذلك يجب ان يجلس هؤلاء ويطالعوا! أو ان يحرثوا أو يزرعوا! أو ان يشيدوا المصانع والمعامل! أو ألف أو و أو!
كما يجب حسب منطق هؤلاء: إلغاء الحج والعمرة المستحبين، بل حتى الحج الواجب يصبح ذا مفسدة لأنه يستهلك مليارات الدولارات من الحجاج في سفرة لا فائدة منها لاقتصاد بلادهم، كما انها تضيّع أعمار الملايين من الناس حيث كان من المفترض ان ينشغلوا بدل ذلك ببناء الوطن وإعماره!
إن مشكلة هؤلاء هي انهم لا يفهمون، ولا يريدون ان يفهموا، ان الإنسان روح وجسد، وعقل وقلب، وفكر وعاطفة، فلا يحسبون إلا الحسابات المادية الضيقة المتأطرة بإطار الجسد المادي فحسب ويغفلون عن الروح والأخلاقيات والمعنويات والعاطفة الإنسانية وغير ذلك.
مجموعة من الغرائب(30)!
والغريب: اننا لا نجد في أكثر هؤلاء المنتقدين من يبادر ليبني معملاً أو مصنعاً للفقراء! أو يبني ميتماً لهم! أو مأوى للأرامل والمساكين! رغم انه يتمتع بإمكانات مادية جيدة، ثم تجده يعاتب مئات الألوف من الناس بالقول: لماذا لا تطعمون الفقراء بهذه الأموال التي تطعمون بها الزوار!.. وقد غفل عن ان أكثر الزوار الذين تستضيفهم هذه المواكب هم من الطبقة المحرومة، كما غفل عن ان أكثر المتبرعين هم الفقراء بأنفسهم وكيف يصح ان يعاتب الفقراء على تضحيتهم وعلى انكم لماذا لا تطعمون الفقراء!
والأغرب: ان هؤلاء النخبة يتصورون انهم بكتاباتهم النقدية من وراء الأبراج العاجية ينهضون باقتصاد البلد كله مع اننا لم نجد من أكثرهم إلا الاهتمام بالذات وباللذات فقط! كما لم نجد لأكثرهم أية مبادرة اقتصادية واقعية على الأرض!
ثم الأغرب من ذلك كله: انه كان الاحرى بهؤلاء المنتقدين ان ينتقدوا الحكومات بدل ان ينتقدوا الشعوب! فبدل ان ينتقدوا الناس أو الطلاب على ترك المدارس أو الأعمال في هذه الأيام كان اللازم ان ينتقدوا الحكومة على انها لا تعير بالاً لإرادة الشعب ولا لحاجات الناس الروحية – الدينية – الثقافية ولرغباتهم وتطلعاتهم فلقد كان من الواجب على الحكومة ان تمنح الموظفين إجازة في هذه الأيام فكما تعطيهم إجازة عن العمل في الصيف وفي مناسبات أخرى فلتعطهم إجازة لمدة خمسة أيام أو عشرة أيام في أيام الأربعين مادامت هذه إرادة الشعب! وكما تعطي لطلاب المدارس عطلة صيفية وإجازة نصف سنوية وشبه ذلك.. فلتكن أيام الأربعين مشمولة بقرار الإجازات مادامت قد اتفقت على زيارة الأربعين إرادة أكثرية الأمة!
وكيف تكون إجازة الموظفين والطلاب أيام الأربعين مضرة بالاقتصاد الوطني ولا تكون إجازات الموظفين والطلاب ثلاث أشهر في الصيف وأسبوعين في وسط السنة.. وأكثر من ذلك.. غير مضرة بالاقتصاد الوطني!
والغريب أيضاً: ان هؤلاء المنتقدين لا نجدهم يرفعون راية النقد (البناء) في مقابل ظواهر كظاهرة (الفيفا) و(مصارعة الثيران) وغيرها بينما تعلو أصواتهم بنقد زيارة الأربعين!.
تكاليف الفيفا الاتحاد الدولي لكرة القدم!
وتكفي إلقاء نظرة على (الفيفا) لنعرف عمق المفارقة.. فقد شهدت الإحصاءات الدولية بان تكاليف الاتحاد الدولي لكرة القدم في المونديال وصل في بعض السنين إلى حوالي ملياري دولار وثمانية وعشرين مليون دولار! وان أرباحهم التي اعادوا توظيفها في تطوير كرة القدم أو شبه ذلك – تجاوزت الاربعة مليارات و220 مليون دولار!
فلنقرأ التقرير التالي:
(بلغت تكلفة كأس العالم 2014 في البرازيل 2.22 ملياري دولار، بينما تبلغ التوقعات لمونديال روسيا 1.94 مليار دولار، بحسب التقرير المالي للفيفا.
القسم الأول من النفقات هو ميزانية عمل اللجنة المنظمة المحلية وهي (453 مليون دولار في 2014)، مدفوعة بالكامل من قبل الفيفا في العام المذكور.
أما بالنسبة إلى مونديال 2018، ارتفعت مساهمة الفيفا في اللجنة التنظيمية بشكل ملحوظ إلى 627 مليون دولار.
الأقسام الأخرى لنفقات الفيفا هي: الإنتاج التلفزيوني (370 مليون دولار في البرازيل، 241 مليون دولار متوقعة في روسيا).
تكاليف إقامة المنتخبات (40 مليون دولار).
تكاليف إعداد المنتخبات والاتحادات الوطنية (48 مليون دولار).
التأمين (32 مليون دولار).
والتعويضات المدفوعة للأندية التي تحرر لاعبيها خلال إقامة المسابقة 209 مليون دولار في روسيا مقابل 70 مليون دولار في 2014، أي بزيادة قدرها 199%).
هذا كله من جهة ومن جهة أخرى:
(حققت نهائيات كأس العالم 2014 في البرازيل للفيفا دخلا إجماليا قدره 4.82 مليارات دولار شملت حقوق البث التلفزيوني (2.42 مليار)، وحقوق التسويق (1.58 مليار دولار)، والتذاكر (527 مليون دولار)، ورسوم الضيافة (185 مليون دولار) والترخيص (107 مليون دولار.)
ولا تختلف الأرقام بالنسبة إلى الميزانية المتوقعة في روسيا 2018، علما بأن الفيفا لم يكشف الأرقام بالتفصيل. في التقرير المالي لعام 2017).
والخلاصة: انه (تشكل بطولة كأس العالم التي تنظم مرة كل أربعة أعوام، "الغالبية العظمى من إيرادات" الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، حيث يوفر المونديال عائدات بأكثر من أربعة مليارات دولار، مما يجعل البطولة "منجم ذهب" بالنسبة للفيفا.
هذه العائدات معظمها من حقوق البث التلفزيوني وحقوق التسويق والتذاكر، لأغنى اتحاد رياضي في العالم، في المقابل، تبلغ تكاليف إقامة المونديال نحو ملياري دولار.
ويعيد الاتحاد الدولي توزيع أرباحه على المنتخبات المشاركة في كأس العالم، والأندية التي تحرر لاعبيها لخوض غماره، ويعيد استثمار جزء كبير في تطوير كرة القدم من خلال المنح إلى الاتحادات الوطنية). انتهى.
الاتجاه الخاطئ لنقد النخبة!
وهنا نقول: بدلاً من ان يوجه الناقدون لزيارة الأربعين سهام النقد إلى ظواهر مثل الفيفا(31) تجدهم يوجهون سهام النقد إلى زيارة الأربعين الحافلة بكل معاني النبل والشهامة والمحبة والإيمان والفضيلة والاخوة الإسلامية والأمة الواحدة.
وبدلاً من ان يعترضوا على الملايين من الناس الذين يضيّعون أوقاتهم في مشاهدة كرة القدم، مع انها لا تزيدهم علماً ولا ثقافة ولا إيماناً ولا تواضعاً ولا صبراً ولا حلماً ومع انها لا تبني مصانع للبلاد ولا معامل، ولا تنهض بالزراعة ولا بالصناعة ولا بالعلم ولا بالعمل، بدل ذلك تراهم يحتجون على زوار الأربعين!.
وبدلاً من ان ينتقدوا الفيفا ومن ورائها دول العالم على صرف 453 مليون دولار على اللجنة المنظمة للمباريات فقط، بدل ان يصرفوها على الفقراء والمساكين، تراهم ينتقدون زوار الأربعين!
وبدل ان يقودوا حملة عالمية للضغط على الفيفا وغيرها لكي تخصص الأربعة مليارات دولار لبناء الجسور والأنفاق والمعامل والمصانع والمساكن والمياتم، تراهم ينفقونها على تطوير كرة القدم! وعلى الأندية التي تحرر لاعبيها خلال إقامة المسابقة وشبه ذلك!! قال تعالى: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)(32) و(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)(33).
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين