العرب من دولة المشروع إلى مشروع الدولة
محمد محفوظ
2015-12-28 12:58
يبدو أن المشهد السياسي والحضاري في المجالين العربي والإسلامي، أصبح أكثر إثارة للسؤال، ولعل سيرورته التاريخية وتنوع مكوناته وتوجهاته ورهاناته وإحباطاته كلها عناوين تزيد من عمق الحاجة إلى إثارة السؤال، ومعرفة إلى أين تتجه المجتمعات العربية والإسلامية في مسيرتها، وهل واقعنا المجتمعي يمتلك القدرة على اجتراح سبل الإنطلاق والخروج من مآزق التاريخ والراهن أم لا.
يبدو أن المشهد السياسي والحضاري في المجالين العربي والإسلامي، أصبح أكثر إثارة للسؤال، ولعل سيرورته التاريخية وتنوع مكوناته وتوجهاته ورهاناته وإحباطاته كلها عناوين تزيد من عمق الحاجة إلى إثارة السؤال، ومعرفة إلى أين تتجه المجتمعات العربية والإسلامية في مسيرتها، وهل واقعنا المجتمعي يمتلك القدرة على اجتراح سبل الإنطلاق والخروج من مآزق التاريخ والراهن أم لا.
والإخفاق التاريخي الذي نعانيه، ليس وليد الدولة الظالمة والمستبدة والبعيدة عن خيارات الشعب فحسب، بل هو أيضاً وليد المجتمع الضعيف، الجامد، الذي فقد المبادرة، وتوقفت مسيرة البناء والتأسيس لديه. فالدولة في المجالين العربي والإسلامي، تعاني من أزمة شرعيتها وبنيتها ودورها ووظيفتها الحضارية، كما أن المجتمع أيضاً يعاني من أزمة تتجسد في تفتته وتشرذمه وإستحكام نمط التبعية والإستهلاك الترفي في مساره السياسي والاقتصادي والحضاري.
لذلك فإن عملية الخروج من هذا المأزق التاريخي، ليس من خلال إصلاح جهاز الدولة فقط، وإنما هو بحاجة إلى عملية إنهاض شاملة، تستوعب جميع مناحي الحياة. فالدولة والمجتمع كلاهما يعيشان التسيب والضياع وانعدام الوزن، حتى بتنا في العديد من مناطق العالم العربي والإسلامي، نعيش الحرب الأهلية بكل عنفها وجشعها وتدميرها. والزمن ومتوالياته النفسية والمجتمعية يعمق التناقضات والأزمات، ويزيد من القلق واختلاط المسائل والقضايا، وغياب بوصلة الخروج من الأزمة.
الأزمة الشاملة
إن الوعي السائد اليوم في أجهزة الدولة الحديثة في المجالين العربي والإسلامي، يعاني من أزمة حادة، حيث انفصالها العميق عن الشعب وإرادته، وبعده عن خياراته وقناعاته الكبرى، مما يدخل الجميع في أتون الحروب الصريحة والمضمرة، مما يرهق الجميع ويجعلهم على هامش حركة التاريخ.
«إن أزمة الدولة أعمق إذن مما تبدو عليه عادة وكأنها أزمة نظام. إنها أزمة فكرتها ذاتها. وتلاشي روح الولاء للسلطة الوطنية والإنتساب للمشروع الذي كانت تقترحه على المجتمع نابع بالضبط من إنكشاف عجز السلطة هذه عن إنجازه، أي عن خيانتها له، وليس بسبب تحققه. وهذا يعني أيضاً أنه نابع من تنامي الإقتناع بأن هذا المشروع بالصورة التي تبلور فيها لايمكن أن يشكّل مدخلاً إلى التقدم الإنساني. وهكذا، في أقل من عقدين، أصبحت القيم التي كانت تغذي لدى الجمهور الواسع شعبية دولة التقدم وتثير حماسة للانخراط فيها والتماهي معها، هي نفسها القيم التي تدفع الجمهور إلى رفضها والتنكر لها. لقد كان يكفي أن تظهر لافاعلية البرنامج الوطني أو عيوبه، عروبياً كان هذا البرنامج أم قطرياً، حتى تفقد الدولة توازناتها المادية والمعنوية. وتضيع هي نفسها هويتها وتفقد مقدرتها على استقطاب الولاء وتحقيق الإندماج والإجماع. فالدولة التي تفتقر إلى المبدأ المعنوي الذي يشكل مقومها الأول، أي تفقد روحها وما يسمح لها ببلورة برنامج سياسي يتسم في نظر الناس بالحد الأدنى من الجدوى والمعقولية، تنحط لامحالة إلى مستوى الآلة الصماء، وتتحول إلى ميكانيك متوحش، لا إنساني وغير ممكن الاحتمال. ولن تستطيع بعدئذ أن تفرض نفسها وتستمر في الوجود إلا بالقوة: قوة القهر وقوة العطالة التاريخية أيضاً» (1).
ويغيب في هذا المشهد الإتزان، وتندثر قيم الحوار والتسامح والتكامل، والبحث الجاد عن طرق أو طرائق للخروج من الأزمة. فالدولة تعيش الاغتراب بكل صوره عن المجتمع وهذا الأخير يعاني التردي والضياع، وتستفحل في أحشائه كل التوترات والتناقضات.. دولة تستند على ثقافة القمع والإكراه والنفي وفعل الاستبداد والتهميش والإقصاء، ومجتمع لايعترف بحق الاختلاف والتسامح.. دولة تسلطية تلغي كل تنوع، وتمارس الاستبداد بكل صوره وأشكاله، ولاتنطوي ممارساتها على قيم العدل والتداول والحرية، ومجتمع يصادر حق أبنائه في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم السياسية والفكرية والمعرفية. «والمشكلة العويص هو أننا لسنا أمام مشروعين للدولة، يفصل في الإختلاف بينهما الحوار وصناديق الإقتراع، وذلك أن مجتمعات تكون فيها التنمية في درجة الصفر، هي بطبيعتها مولدة لعدم الاستقرار، ليس فقط للمجتمع وللدولة، بل لنجاح مسلسل ديمقراطي، وأية دولة تكون على رأس مثل هذا المجتمع يكون شاغلها الأول هو (الأمن). وينتهي الأمر إلى مبارزة بين جهاز الدولة والقوى التي يفرزها مجتمع مأزوم، فيغرق الجميع في دوامة من العنف والعنف المضاد» (2).
وغدت الأمة تعاني الأمرين من دولة تسلطية ـ قمعية لاهم لها إلا إستمرارها حتى لو كان هذا الإستمرار على حساب التاريخ والعصر والوطن. ومجتمع تسوده اللامبالاة والإذعان والجمود ويفتقد المبادرة ويحارب التجديد وتمور بداخله حالات التعصب الأعمى لعناوين ضيقة ويافطات تزيد من ضعف المجتمع واهترائه. وهكذا تطغى الشمولية في السياسة والفكر وكل دوائر المجتمع.
وعلى المستوى الثقافي تبرز ثقافة التسطيح وإبقاء ما كان على ما كان والطاعة والإستهلاك والتقليد والإتباع. وتضمر ثقاة الإبداع والحرية والإنتاج. وهكذا يتحول المشهد الثقافي إلى مشهد تكراري، ممل يشيع صوراً وهمية وزائفة عن الواقع. «فالقمع ينعكس على من يقع عليه، فيتمثله ليغدو بعض تكوينه، ويصدر منه كما لو كان بعض طبعه. وفي الوقت نفسه، يعيد المقموع إنتاج القمع ويسلطه على نفسه، ويطلقه على غيره، بالمعنى الذي يتحول بالمقموع إلى قامع، وبالمفعول إلى فاعل، في تراجيديا الإخوة من المقتولين القتلة» (3)..وهكذا يستمر ويتسع مسلسل القمع والقتل ودائرة العنف، بحيث تشمل الجميع ويصبح الكل يعيش في دوامة جهنمية من العنف والعنف المضاد.
«وحين يتعثر مولد الرأي، لايبقى إلا الاعتراض. والإعتراض بدوره محكوم عليه منذ البداية أن يكون صراعاً حدياً، ولاسبيل أمامه إلا أن يغتصب ذات أدوات الصراع المباشرة التي تمتلكها السلطة. وبذلك لاتكون سياسة في ظل الحراب، حراب الدولة وحراب المعترضين. فليس غريباً إذن أن تتعسكر السياسة العربية منذ نشأتها الأولى، عند كلا قطبيها: الحاكم والمحكوم، في معظم الأقطار المشرقية التي سبقت إلى دخول عصر الإستقلال الوطني، وواجهت مبكرة في آن واحد إستراتيجية التنمية السريعة في بناها الإقتصادية والاجتماعية، وإستراتيجية الإختراق من قبل الاستعمار الجديد. إن عسكرة الصراع بين المعارضة والسلطة، تفرض أداة وحيدة للممارسة لكليهما وهي الإنقلابية العنفية. بحيث تطورت السلطة إلى شكل الانقلاب العسكري المستغني عن أية شرعية ما عدا قوته الخاصة. وتطورت المعارضة إلى بنية مشروع لإنقلاب عسكري آخر، هو في طور الإعداد والتهيئة لقوة الاستبدال العنفي الذي سيفرض شرعيته الأخرى بهذه القوة وحدها» (4).
ويعزو المهاتما غاندي الخطايا والإضطرابات السياسية والاجتماعية إلى سبع: سياسة من دون مبادئ، وثروة من دون عمل، ومتعة من دون ضمير، وحكمة من دون شخصية، وتجارة من دون أخلاق، وعلم من دون إنسانية، وعبادة من دون تضحية..
وحين التفكير العميق نرى أن هذه الخطايا متوفرة في الجسم العربي والإسلامي، لذلك مازال هذا الجسم ينزف دماً وجهداً ومالاً دون أن يحقق تطلعاته وآماله. وقد قال الشاعر.
تروم ولاة الجور نصراًعلى العدا#وهيهات يلقى النصر غير مصيب
وكيف يروم النصر من كان خلفه# سهام دعاء من قِسى قلوب
وتعثر مشروعات التقدم، لايعني مجافاة العرب والمسلمين لطبائع ومتطلبات التقدم والعمران الحضاري، بل هو أمر يرجع إلى طبيعة الاختيارات المتداولة، وخصوصية المجالين العربي والإسلامي. فظروف التقدم والتطور لدى الغرب تختلف عن ظروف التقدم لدينا. فلكل واقع خصوصية تطوره وآليات تقدمه. فالدولة كان لها الدور الحاسم في تجربة البناء والتقدم في الغرب حيث أن مؤسساتها هي التي حملت مشعل التنوير والتقدم. أما الدولة في المجالين العربي والإسلامي فلها الدور الحاسم في الإتجاه المعاكس. حيث أنها تحول بإجراتها وقمعها واستبداديتها دون إنطلاق مشروع البناء والديمقراطية والعمران. فالعطب التاريخي في واقعنا، ليس وليد بنيتنا الثقافية والاجتماعية، وإنما هو وليد ظروف تاريخية وعوامل سياسية ـاجتماعية، تصيب المجتمعات بصرف النظر عن ايديولوجيتها وثقافتها التاريخية. ومكمن العطب أو بدايته هو حينما تخلى المجتمع عن دوره ووظيفته التاريخية، وغابت مبادراته الحضارية وتضخمت في أرجائه ثقافة التبرير والتقاعس والإستقالة من المسؤولية. وحينما تحولت أيضاًالدولة إلى مؤسسة استبدادية، وبعيدة عن مشروعات المجتمع وخياراته الحضارية.
ما المخرج؟
إن الحاجة اليوم ماسة لبلورة صيغة حضارية، تضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، بحيث تكون العلاقة علاقة تفاعل وتكامل، لا قطيعة وصدام. ومنهج التفاعل والتكامل، يقوم على سيادة مفهوم الديمقراطية والقانون. قد آن الأوان لنا في المجالين العربي والإسلامي للخروج من دولة المشروع التي حملت الشعارات واليافطات الكبيرة، وحاربتها أشد المحاربة على مستوى الفعل والواقع، والعمل مع كل القوى والطاقات لبلورة دولة الإنسان والقانون. إن الدول التقدمية والأيديولوجية، والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم إيديولوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن.
إن دول المشروع التقدمي لم تُزدنا إلا ضعفاً وتشاؤماً، وذلك لأن الإنسان هو أرخص شيء لديها. تصادر حرياته، تمتهن كرامته، تحاربه في رزقه وكسبه، يُقهر ويهان ويسجن ويعذب لأتفه الأسباب. دولة بسلوكها المتعجرف عمقت الهوة والفجوة بين مؤسسة الدولة والمجتمع. دولة اختزلت الجميع في دائرة ضيقة، لاتتعدى في بعض الأحيان مدرسة الأمين العام. ولانعدو الصواب حين القول: أن هذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والأحلام. لذلك فإن الحاجة اليوم ماسة للخروج من هذه الشرنقة الأيديولوجية، التي تحيل كل شيء إلى قانون إما مع أو ضد، وبناء دولة القانون والإنسان، التي تسعى لصياغة قانون لضبط العلاقة بين الطرفين، وإلى تأهيل الإنسان، وإطلاق حرياته وتطلعاته. وبكلمة إننا بحاجة إلى الانتقال من دولة المشروع إلى مشروع الدولة. فالدولة التي حملت لواء الوحدة مثلاً وجعلتها محور نشاطها، على المستوى العملي، هذه الدولة تكرس التجزئة وتنمي العصبيات، ولانصيب للوحدة في فكرها الاستراتيجي والتخطيطي إلا نصاب الشعار واليافطة فقط. فباسم الوحدة تنمو التجزئة وباسم الاتحاد والإئتلاف، تنمو العنصرية والطائفية والجهوية، وباسم التنمية والعدالة الاجتماعية، تنمو رأسمالية الدولة وتتضخم شريحة الانتهازيين والوصوليين وتبرز مستويات النمو المشوه والتابع، وتزداد سيطرة الدولة على حركة الاقتصاد والتجارة، تلك السيطرة التي تضعف الحركة، وتدفع بالرساميل والإمكانات إلى الهروب خارج الوطن.
وباسم الشفافية والحرية السياسية والنقابية، تتحول الدولة إلى مزرعة للزعيم، أو الحزب والمقربين. وباسم الحريات الثقافية والأدبية، تتحول الحياة الثقافية إلى تكرار مشين لمقولات الزعيم أو الحزب أو أي تكوين سياسي مسيطر، ويتشكل من جراء ذلك مسخ ثقافي. وهكذا يتم إختزال المجتمع والدولة في مؤسسة الحزب أو أي يافطة سياسية أخرى، ويقوم الزعيم بدوره بإختزال هذا التشكيل السياسي في شخصه ومن يلوذ به من أبنائه أو أصهاره أو أقربائه.
ولابد أن نلفت النظر إلى حقيقة أساسية في هذا المجال وهي: أن التطور التكنولوجي والتقني لم يصحبه تطور على مستوى الدولة في تعاطيها وتعاملها مع شعبها وحقائقه السياسية والثقافية، وإنما قامت الدولة من الإستفادة من هذا التطور لإخضاع هذه الحقائق لمنطقها الأمني، الذي يسعى إلى محو هذه الحقائق أو تشويه مسارها وتطلعاتها الكبرى. ولهذا نجد أن التكنولوجيا الحديثة والتقنية المعاصرة، دخلت إلى البلدان العربية والإسلامية من البوابة الأمنية. أي أن المؤسسات الأمنية، هي التي استفادت من هذه التقنية، لتنظيم عملها وتركيز نشاطها وتضييق الخناق على حقائق المجتمع السياسية والثقافية. فسياسة استبعاد المجتمع عن الشأن العام، تزيد من الإنقسام وتعمق حالة القطيعة وتكرس أيديولوجيا الحرب والصراع بين الطرفين.
وخبرة الإنسانية جمعاء، تبرز أن الدولة التي تنفصل عن مجتمعها وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، وتفرض عليه نظاماً قهرياً، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها. فجنوح السلطة إلى تقييد الحريات يؤدي في المحصلة النهائية إلى العنف والتطرف. فعنف المجتمع أو بعض قواه الاجتماعية والسياسية، هو وليد عنف الدولة وقهرها وغطرستها. وهكذا اختلطت المعايير، واشتبكت القضايا، وسقطت الكثير من الشعارات المرفوعة. فالقتال أصبح داخلياً، والحرب أضحت أهلية، والقمع والإرهاب أصبحا من نصيبنا جميعاً. فتعملقت الخلافات والتباينات الداخلية، وارتفعت وتيرة الهواجس والحساسيات الداخلية. وأصبح الوضع العربي برمته متفجراً، ويعيش الإحتقان على كل الصعد والمستويات، وإن العالم العربي والإسلامي بحاجة إلى إرساء أسس الحياة الديمقراطية والقانونية، والخروج من آسار الشعارات التمامية التي تحيل كل إمكانات الدولة والمجتمع إلى رهن إشارتها.
وإن خنق إمكانات الخروج من هذه المآزق، بالمزيد من الاستبداد وتغليب الخيارات الأمنية، لايؤدي إلى الاستقرار، وإنما يزيد الوضع سوءاً، ويهدد الوضع كله بالانفجار والتشظي. و«إن أية أهداف تطرحها الدولة في عالم اليوم لايجوز وضعها فوق حقوق الإنسان والمواطن، بل بالعكس يجب أن تكون جميع الأهداف نابعة من هذه الحقائق خادمة لها» (5).
التسوية التاريخية
إن التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، ليست مسألة سياسية فحسب، بل هي قضية مصيرية وتاريخية. إذ أن الخروج من مآزق التاريخ الراهن، لايمكن أن يتأتى إلى بمشروع حضاري تتكامل فيه الدولة مع المجتمع في الوظائف والأدوار والمهمات. وقضية مصيرية، باعتبار أن بقاء الاختلافات الأمنية والسياسية والحضارية، وهدر الإمكانات والطاقات، وهجرة الكفاءات والعقول، وانسداد آفاق المعالجة الاقتصادية والسياسية، ودخول الجميع في أتون الصراعات المفتوحة التي ترهق الدولة والمجتمع معاً.
لذلك كله فإن التسوية التاريخية والحضارية بين الدولة والمجتمع قضية مصيرية. إذ يتوقف مستقبل المجالين العربي والإسلامي، على قدرتهما على إنجاز هذه التسوية التاريخية. وإنه آن الأوان للدولة، أن تخرج من العقلية الضيقة، التي تستهدف إخضاع كل إمكانات المجتمع والأمة إلى مشروعها وبالآليات والأدوات التي تراها مناسبة. هذه العقلية التي تعاطت مع الدولة كمؤسسة أيديولوجية خاصة بالقائمين على شؤونها، هي المسؤولة إلى حد بعيد عن إستفحال ظاهرة القطيعة بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي. «وإن التعبير الديمقراطي الحر والإعتراف بالإختلاف والتغاير، إضافة إلى تداول السلطة، هي الشروط الضرورية التي تضمن ـ أو على الأقل تساعد على ـتصريف الحركة والصراع داخل عملية التحول تلك تصريفاً سلمياً، وبالتالي تفسح المجال لقيام مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ونقابات ومجالس منتخبة، وهي المؤسسات التي تؤطر الصراع والحركة والتحول داخل المجتمع في اتجاه التقدم التاريخي» (6).
وهناك عوامل عديدة، تدفع إلى القول بضرورة التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، وأهم هذه العوامل التالي:
1ـ مواجهة تحديات الراهن العديدة والكبرى، والتي تهدد الجميع من منطلقات ومستويات مختلفة. إذ أن التحديات الداخلية التي تواجه الأمة، تحديات لايمكن مواجهتها بفعالية إلا بتظافر الجهود وتكثيف الطاقات. ولاشك أن استمرار الصراع المفتوح بأشكاله السلبية والتدميرية والحربية بين الدولة والمجتمع في بعض مناطق العالم العربي والإسلامي، يشتت الطاقات ويبعثر الجهود، ويحول دون مواجهة فعالة لتحديات المرحلة.
2ـ وقف النزيف الهائل والشامل الذي يصيب المجالين العربي والإسلامي، من جراء استمرار الفجوة والهوة بين الدولة والمجتمع. ومن المؤكد أن هذا النزيف يساهم في إختراق المجالين العربي والإسلامي على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية والحضارية، ويفاقم من أزمات الواقع. فالحاجة الماسة اليوم تتجه إلى ضرورة التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع عن طريق إرساء نظام للعلاقات والتفاعل والتعاون بين الطرفين، مما يعمق مفاهيم التكامل والإحترام المتبادل ونبذ كل أشكال الإرهاب والقمع والنزعات المتطرفة والمتعصبة في الفكر والسلوك.
3ـ إن المشكلات التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي، بحاجة إلى أرضية اجتماعية ـسياسية صالحة، تهيئ جميع الظروف والإمكانات للمشاركة والمساهمة في إنهاء هذه المشكلات. ولعل من الطبيعي القول: أن التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع في العالم العربي والإسلامي، هي الفرصة التي توفر تلك الأرضية، وتؤسس لمعنوية جديدة وإرادة جديدة، تتجه صوب المشكلات لمعالجتها. فالتسوية التاريخية هي بوابة إشراك جميع القوى والإمكانات في عملية الإصلاح والتطوير.
4ـ إن المشروع الصهيوني في المنطقة، والذي مازال خطره متعاظماً، نوفر له فرصاً عديدة للامتداد والتوسع، إذا استمرت الجراح مفتوحة. ولاريب أن العدو الصهيوني يغذي بشكل أو بآخر تلك الخيارات التي تعقد المشاكل وتعمقها. لذلك من الضروري أن نلتفت إلى خطر المشروع الصهيوني على المنطقة العربية والإسلامية بأسرها. ولابد أن نخطو خطوات نوعية وعملية لسد ثغرات الداخل العربي والإسلامي، وتمتين الجبهة الداخلية.
ومن المؤكد القول، أن بداية تسوية تاريخية بين الأنظمة العربية والإسلامية مع شعوبها بقواهما السياسية وتعبيراتهما الثقافية والمجتمعية، ستساهم مساهمة كبيرة في تقوية الجبهة الداخلية، وتنهي صراعاًمفتوحاً مازال يكلف الجميع الكثير من الجهد والإمكانات، ويعرض الجميع أيضاً إلى مخاطر وآثار مدمرة. أبرزها أن استمرار هذا الصراع قد يسقطنا جميعاً (دولاً ومجتمعات) في النفق الصهيوني والاستتباع الحضاري.
فالتسوية التاريخية هي الخطوة الأولى في صوغ مشروع وطني جامع، يستهدف البناء وتعميق الحريات والتنمية الشاملة على مستوى الداخل العربي والإسلامي، وبناء علاقات دولية متوازنة، تعكس قيم الإستقلال والقوة الذاتية التي يتمتع بها العالم العربي والإسلامي. وينجز هذا المشروع الوطني الجامع وحدة القوى في مواجهة الأعداء، ويشحذ الهمم نحو البناء، ويبلور مقاصد الجميع على المستوى الحضاري.
كما إنه وسيلة العالم العربي والإسلامي، للخروج من المآزق التاريخية التي يعاني منها، وهو جسر الوصول إلى التطلعات والأهداف الكبرى.. و«إن جوهر الحكم والدعوة الإلهية هو الارتفاع فوق مبدأ التسوية وتأسيس مبدأ الإحسان الذي يقضي بأن تكون الحسنة بعشرة أمثالها، واليد العليا خير من اليد السفلى وأن تغفروا وتصفحوا، ذلك أن مبدأ المساواة وقاعدتها كافية لإقامة دولة أو حكمسياسي، ولكن الإحسان هو الذي يصنع المدنية والحضارة، يصنع الإنسان فيما وراء، وما هو أبعد من السياسة، أي كتعاطف وتفاعل وتبادل وتآلف وتضامن وإنسانية، أي كضمير حي. إن العدل القانوني يقيم الدولة لكن الجماعة الحية المبدعة ذاتها لاتقوم إلا بالكرم والعفو والتضحية والفداء ونكران الذات» (7).
الخيار الديمقراطي
إن التحول الديمقراطي الحقيقي، هو البوابة الفعلية للتسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع، كما هو جسر الخروج من نفق دولة المشروع التمامية التي تلتهم كل شيء وتحيله إلى ملك خاص إلى الزعيم ودائرته القرابية أو السياسية. فتجديد القواعد السياسية والاجتماعية وتوسيعها للدولة، هو الخطوة الأولى في مشروع التسوية التاريخية بين الدولة والمجتمع. والتحول الديمقراطي السلمي، هو الذي يوفر للمجالين العربي والإسلامي الفرصة التاريخية للخروج من الأزمة والمأزق بسلم وبعيداً عن العنف والقتل والتدمير.
لذلك فقد «حان الوقت كي ينتقل الفكر السياسي العربي من حالة رفع الشعار الديمقراطي وكيل المديح له، إلى صياغة خطط تلغيم الاستبداد وتدمير أسسه. أي آن للديمقراطية أن تتحول من شعار للدعاية أو التعبئة، إلى منطلق للتفكير الجديد وللعمل الإصلاحي. وتحولها إلى منطلق يعني تحولها إلى أساس لكل ممارسة سياسية، والأساس هو بالتعريف ما لايظهر من البناء ومالا يقوم البناء بدونه. ومادمنا نتحدث ليلاًـ نهاراً عن الديمقراطية فهذا يعني أننا نفتقدها كأسس سواء كان على صعيد الفكر أو الممارسة» (8). ومن الأهمية بمكان أن تتحول الديمقراطية في المجالين العربي والإسلامي، إلى نظام اجتماعي وسياسي، بحيث هي التي تحدد نمط العلاقة بين أطياف المجتمع وقواه المتعددة، وعبر آلياتها وأخلاقياتها يتم فض النزاعات والصراعات، وبقيمها وآفاقها، يتم التوجه إلى بلورة نخبة سياسية ـ اجتماعية جديدة، تتخذ من الديمقراطية منطلقاً وهدفاً. ويبقى سبيلنا جميعاً هو العمل على تنقية واقعنا في كل المجالات والمستويات من جراثيم الاستبداد والتفرد ونزعات الهيمنة والغطرسة والعدوانية، وبعث تراث الحرية والشورى والتسامح والعقلانية والعلمية من تاريخنا، والسعي للإستفادة من تراث الإنسانية في هذا المجال.
ينبغي أن نرفض الاستبداد مهما كانت أيديولوجيته، ونقف ضد التنابذ والإقصاء مهما كان الفكر الذي يقف وراءه، ولابد من تعميق مفاهيم الإختلاف والحوار والحرية والتسامح في ثقافتنا وواقعنا. ولكي نصل إلى هذه المستوى نحن بحاجة إلى «التحرر من الأنظمة الفكرية المغلقة التي تقسم في ضيق وتعسف الألوان إلى أبيض وأسود والقضايا إلى (أما وأما). فقضايا الإنسان شديدة التعقيد والتشابك ولاسبيل إلى علاجها إلا بإعتماد النسبية في معظم أحكامنا على الأشخاص والجماعات، فذلك هو منطق القرآن العام. فهو إذ يتحدث عن أهل الكتاب لايستعمل (كل) بل (من)، التبعيضية {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يرده إليك ومنهم، من إن تأمنه..}. وإذا تحدث عن علاقة المسلم بالكافر لايضع نقطة وإنما مجالاً، فهو ليسوا جميعاً أعداء بل منهم الصديق والعدو {لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}. وإذا كان الإسلام في ذاته حقاً مطلقاً فليس تمثلنا له في الغالب كذلك، بل هو تمثل مبني على صعيد التصور والتنزيل في الواقع. فرق إذن بين الإسلام والفكر الإسلامي، فمجال الأول الإطلاق، ومجال الثاني النسبية غالباً. إذن ليس في الإٍلام كنيسة تستطيع أن تكسي فهمها النص وتزيله أثواب الحقيقة المطلقة» (9).
إن النهج السياسي المعتدل، الذي يتعاطى مع الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على توسيع هوامش الحرية في المجتمع، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع. وفي المقابل فإن النهج الإستئصالي، هو الذي يفاقم الأزمات ويعقدها ويحول دون بلورة نهج سياسي معتدل، ويدخل الدولة والمجتع في دوامة العنف والتطرف. فالإقتتال الداخلي والتناحر الأهلي، لاينهي المشكلات العالقة، ولا يضمر الحقائق السياسية والاجتماعية المتوفرة، وإنما يزيد من غلوها وعنفها وتشددها ويضيف إلى الساحة الاجتماعية تعقيدات جديدة وأزمات متلاحقة.
والتضارب العميق في المصالح بين الدولة والمجتمع، ينذر بحدوث مشكلات وأزمات لاحصر لها، وذلك لأن هذا التضارب سيدفع بالدولة بما تمتلك من أجهزة ردع وسيطرة لاستخدام القوة والفرض لتأمين مصالحها، كما أن المجتمع ومن باب الدفاع عن ذاته ومصالحه، سيقاطع الدولة ولن يعتبرها تعبيراً سليماً وحضارياً لتطلعاته وآماله. مما يدخل الطرفين في نزاعات وصراعات مفتوحة. والخيار الديمقراطي ليس شعاراً يرفع، وإنما هو ممارسة اجتماعية متواصلة ومفتوحة على كل الإمكانات والقوى والآفاق من أجل ضمان مصالح الأمة والمجتمع. وهذا الضمان لايتأتى إلا بتنظيم المجتمع لنفسه على جميع المستويات، وزيادة فعاليته، وتعميق ثقته بنفسه وقدراته، وتكريس ثقافة التضامن والتكافل والتعاون، واجتراح صيغة مجتمعية ـحضارية لإدارة الاختلافات والتنوعات بما يخدم المصالح العليا للأمة وإن «الديمقراطية ليست وصفة سحرية تحل جميع المشكلات، وإنما هي إطار عام يسمح للمجتمع بأن يجد حلولاً جديدة وأصيلة للمشكلات الطارئة. ومن ثم تصبح معركة الديمقراطية مقدمة للنجاح في المعارك الأخرى.
وإنها معركة إصلاح السلطة التي هي عصب الحياة الاجتماعية ومن خلال إصلاح هذه السلطة ومن خلال النضال من أجل الديمقراطية، يصبح من الممكن أكثر فأكثر بلورة حلول إيجابية للمشكلات الاجتماعية المتعددة. وبهذا المعنى أيضاً، الديمقراطية ليست مؤسسة جاهزة، الديمقرايطة هي الكفاح المستمر من أجل تحويل السلطة القائمة في كل مجتمع إلى سلطة تعبّر عن مصالح الأغلبية الاجتماعية. وهذا الكفاح هو الذي يخلق الأشكال المشخصة لتحقيق هذه السلطة الشعبية، يخلق شروطاً جديدة، يدفع بقوى جديدة إلى الساحة السياسية، يعيد تغيير علاقة الناس بالسياسة ومفهومهم للسياسة، يرجع إلى الناس فكرة الشعور بالمسؤولية الوطنية والشعور بالمسؤولية بشكل عام، ويخلق إطاراً ومناخاً سياسيين جديدين لطرح المسائل الصعبة» (10).
إننا ومن أجل بناء دولة عادلة، ترعى حقوق الإنسان وتحترم إختياراته وقناعاته العامة، بحاجة أن لانكتفي في تقويم المشروعات بالشعارات الكبرى المرفوعة، وإنما نحن بحاجة أن نرى مدى مشاركة هذه المشروعات الفعلية في بناء دولة الإنسان. وذلك لأنه تبين لنا في الكثير من التجارب العربية والثالثية عموماً، أن بعض الأنظمة الفكرية والتي تحمل شعارات براقة، حين وصولها إلى السلطة، قامت بممارسات استبدادية، وزادت من تغوّل السلطة، واستخدمت كل أصناف القهر والإقصاء لإستمرار حكمها. فالشعارات ينبغي أن لاتخدعنا، والمراهنة الحقيقية ينبغي أن تكون على الممارسة الفعلية، ومدى حجم التحول النوعي المرتقب الذي تحدثه هذه الأنظمة الفكرية على مستوى مسار الدولة والمجتمع. فالمطلوب من هذه المشروعات، هو إضافات نوعية في مسار الدولة والمجتمع العربيين، بحيث تكون الدولة أقرب إلى العدالة والإنصاف، والمجتمع يعيش الحيوية والفعالية بكل أشكالها ومجالاتها. ومن الضروري أن نشبع أجواءنا ومحيطنا الإجتماعي بعبق الحرية «أو ليس أقرب السبل إلى الحرية جعلها واقعاً يعيش بيننا؟ أو ليست الحرية سلاحاً نستخدمه ضد من يصادرها، وهي قوة تهاب، وجمال يستهوي اللباب» (11).
إننا وبعيداً عن المضاربات الفكرية والسياسية، بحاجة إلى بناء دولة تستند على القانون وتحرص على تنفيذه، وتحترم الإنسان وتسعى لصون كرامته وحقوقه، وتجسد بالعدل والحرية عزتنا وقوتنا.
وهذا البناء بحاجة إلى جميع الجهود والطاقات. لذلك فقد آن الأوان لانتقال مجالنا العربي والإسلامي من دولة المشروع إلى مشروع الدولة الذي يحترم الجميع ويستوعب الجميع ويدافع عن الجميع بصرف النظر عن المنابت والأصول والإنتماءات والولاءات الفرعية. وهذا يتطلب بناء فلسفة جديدة للدولة، قائمة على الدستور وحماية حقوق الإنسان وفقاً لإطار قانوني مستمد من الخصوصية الإسلامية ومكاسب الإنسان المعاصر الحضارية.
وتفعيل الممارسة الديمقراطية، وتذليل معوقات التنمية السياسية، هو الكفيل بإرساء نظام فعال للعلاقة بين الدولة والمجتمع. وأن هذا التفعيل هو الذي يساهم في إنضاج الظروف العامة والمناخ السياسي المواتي لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفق نمط مؤسسي، يكفل للطرفين حقوقهما وأدوارهما ومتطلباتهما.
كما أن مواجهة التحديات الكبرى، بحاجة إلى تضافر كل الجهود والطاقات، وأن سبيل تجميع هذه الطاقات والإمكانات، هو وقف النزيف الدائم بين الدولة والمجتمع عبر تسوية تاريخية، تعيد الأمور إلى نصابها، وتنجز مفهوم السلام الوطني على قاعدة التفاعل الخلاق والتكامل المتواصل بين الدولة والمجتمع. ولإنجاز هذا التطلع من الأهمية بمكان أن يسعى المجتمع لتأمين شبكة واسعة من الحريات والحقوق الأساسية، وتسييره لنفسه، وقدرته على حل مشكلاته بنفسه، وإحتضانه لمؤسسات وأطر متعددة تقوم بدور البناء والتسيير والتطوير. والدولة التي تتكامل مع المجتمع هي «التي تضمن توزيع السلطة السياسية وشرعنة إستخدامها، ووضع الحكم في أيدي الشعب عن طريق نوابه وممثليه، وهي أيضاً الدولة التي تقبل طواعية تقييد سلطتها الإكراهية (أي تقييد سلطة الحكام) وتأمين أكبر مساحة ممكنة لأفراد الشعب في تقرير شؤونهم الحياتية والأخلاقية، وذلك بحماية حرياتهم من أية صورة من صور الإكراه، وهي ثالثاً الدولة التي تعمل على عدالة توزيع الموارد والفرص. وكما قيل بحق، فإن العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، وحريّ بالدولة أن تكون هي رائدة العدالة في المجتمع» (12).
إننا مع الدولة القوية التي تستند على القانون وتحترم حقوق الإنسان، وتدافع عن كرامة شعبها. حيث أن الدولة القوية المسيجة بسياج القانون والحرية والمسؤولية، هي القادرة على التفاعل والتكامل مع مجتمع مؤسسي ـ مدني، يمارس وظائفه الحضارية إعتماداً على إمكاناته وآفاقه. وإن قوة المجتمع هي التي تعطي لمفهوم الحرية والتعددية والتداول السلمي للسلطة معانيها الحقيقية والفعلية. بمعنى أن كل أشكال الديمقراطية، بحاجة إلى مجتمع مدني قوي، حتى تكون لهذه الأشكال جذور مجتمعية.
إن قوة الدولة ضرورة لإستقرار عملية الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة، كما أن قوة المجتمع ضرورة لضبط العملية الديمقراطية وخلق حالة من الإستقرار السياسي والإقتصادي. وبالتالي فنحن بحاجة إلى مجتمع قوي ودولة عادلة (لأن العدالة بالمعنى العام، هي مكون القوة الأساسي والمقصود)..«فالدولة والمجتمع المدني واقعان متلازمان. الدولة تستمد من المجتمع المدني قيمها، وقواها وسياساتها ومن ثم فلابد من وجود درجة من درجات السيطرة للدولة على مجتمعها المدني، وفي الوقت نفسه، تمثل الدولة الوعاء أو الإطار الذي يحتضن ويؤطر حركة المجتمع المدني ونشاطه» (13). فالحياد الإيجابي للدولة، بمعنى أن تتعامل مع قوى المجتمع المتعددة على قاعدة قانونية واحدة، هو المهاد الضروري والوعاء الأساسي لشيوع قيم التعددية والتسامح وسيادة القانون في المحيط الإجتماعي بأسره. فالتفاعل والتكامل بين الدولة والمجتمع سيرورة طويلة الأمد، وما ذكر أعلاه بمثابة الشروط الأولية لإنطلاق هذه السيرورة في الفعل الإجتماعي.
المجتمع الجديد
يبدو من جميع المعطيات المتوفرة، أن العالم العربي والإسلامي، لن يتمكن من بلورة مشروع للدولة وفق قواعد قانونية ودستورية، وتمارس وظائفها الحضارية على أكمل وجه، إلا بخلق مجتمع جديد، يتجاوز فيه كل الرواسب والموروثات السيئة التي علقت بالواقع العربي والإسلامي من جراء مشروعات الإستبداد والإقصاء والتهميش.
فلا دولة قانونية بدون مجتمع تسوده قيم التسامح والعقلانية وسيادة القانون وإحترام حقوق الإنسان بكل أشكالها وأنواعها. وذلك لأن بوابة الدولة القانونية والإنسانية، هي وجود مجتمع ذو بنية قوية، تتكامل فيه الأنشطة والقوى في سياق البناء والعمران، ويتعاطى مع أفكاره وفق عقلية حضارية تبحث في سبل التنفيذ والتجسيد والتطوير. وبهذا تكون الدولة تجسيداً للمجتمع وملتصقة بالأمة وخياراتها وليست منفصلة ومنعزلة في ممارساتها وخياراتها عن الأمة.
وبمقدار التحولات الإيجابية والنوعية في المجتمع، تتوفر إمكانية مساهمة المجتمع في بلورة مشروع دولة الإنسان والقانون. فحركية المجتمع وفعاليته المتواصلة تساهم مساهمة كبيرة في صياغة نظرية أكثر عدالة وإنسانية للدولة. أما ضعف المجتمع وجموده، فإنه يؤدي إلى تغوّل الدولة وإتساع نطاق هيمنتها وعسفها.
ومع التحديات الكبرى التي تواجه المجالين العربي والإسلامي، فإن الأمة والشعوب العربية والإسلامية، بحاجة إلى إحداث تحول نوعي وتاريخي في مسيرتها، حتى يتسنى لها الإستجابة الفعالة لهذه التحديات. «وحيثما نجحت الشعوب في إيجاد الرد الإيجابي على هذه المسألة، وقبلت بتقديم الثمن المطلوب لذلك والتعديل الممزق في بناها التقليدية السياسية والإقتصادية والأخلاقية، أمكن لها الاحتفاظ بوحدتها المادية والمعنوية، والتحول إلى مراكز نشطة للإنتاج الحضاري وبالعكس، حيثما أخفقت الشعوب في ذلك لأسباب ذاتية أو موضوعية، داخلية أو خارجية، فقدت السيطرة على مصيرها وتهدد مستقبلها، وحكمت على نفسها بالدخول، بالرغم منها، في مسار خطير يختلط فيه التفكك المتواصل مع الفوضى السياسية والتبعية الإقتصادية والإنقسام الوطني والسقوط المعنوي. وهذا هو جوهر الأزمة التاريخية التي تقف وراء أزمة الهوية وأزمة السياسة والدولة والإقتصاد معاً، والتي لابد أن تتفاقم وتتسع بإتساع عجز المجتمعات التي تعيشها عن التحكم بالتاريخ وفقدانها السيطرة على الوقائع الموضوعية» (14).
وفي هذا السياق فإنه لاخيار لواقعنا العربي والإسلامي اليوم، إلا الانخراط في مشروع التقدم، وتوفير متطلباته الذاتية والموضوعية، من مرجعية قيمية ـحضارية، وجهد إنساني متواصل، ووعي تاريخي عميق، وإدراك نافذ بمتطلبات اللحظة التاريخية. والتقدم هو دائماً وليد قوى اجتماعية ـتاريخية، تأخذ على عاتقها البناء وتذليل الصعاب وتجسيد الطموحات والتطلعات. فلا مانع فعلياً من تغوّل السلطة، إلا قوة المجتمع وقدرته على إدارة نفسه وحل مشاكله بنفسه. فالتحول النوعي في مسار المجتمع، بإتجاه القدرة والكفاءة والمبادرة هو الوسيلة الفعلية للحؤول دون تغوّل السلطة وإستبداديتها.
وافتقار المجتمع إلى بنية تحتية قوية، يوسع بشكل أو بآخر هيمنة الدولة، ويدخل نظام العلاقة بين الدولة والمجتمع إلى مستوى تبعي. دولة تسيطر وتهيمن على كل شيء، ومجتمع جامد، ساكن إستهلاكي، يعتمد على مؤسسة الدولة في كل شيء. ولاشك أن هذه الحالة مكلفة للطرفين على المستويات كافة. بينما السياق المأمول للعلاقة هو وجود مجتمع يستند على ذاته وكفاءاته في تسيير شؤونه المختلفة، ودولة قوية ترعى أمن المجتمع وتدافع عنه من الأخطار الداخلية والخارجية. ومن خلال هذه الدائرة المتكاملة من جهد المجتمع وجهد الدولة يبزغ فجر التقدم والتطور. وبقدر تكاملهما وتفاعلهما المشترك تتجسد القدرة الحضارية في الأمة.
ونحن هنا لاندعو إلى تحرر الدولة من التزاماتها الاجتماعية والوطنية، وإنما ندعو إلى توسيع دائرة الحريات، بحيث تتهيأ جميع الظروف لمشاركة قوى المجتمع في المشروعات الاجتماعية والوطنية. وبهذا لاتكون الدولة بديلاً عن المجتمع، وإنما شريكة معه في مشروع البناء والعمران. فالقوى السياسية والثقافية في الأمة، ليست نبتاً شيطانياً، حتى تتوجه كل الجهود لاستئصالها والقضاء عليها. وإنما هي تعبيرات مجتمعية متعددة عن واقع الحال، وهي جزء أساسي من حركة التاريخ والمجتمع. فالإنحراف في ممارسة السلطة، وتغوّل إجراءاتها الاستبدادية، واستمرار سياسة إقصاء المجتمع عن الشؤون العامة، هو قاعدة للكثير من الآثار السيئة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي في المجالات كافة.
وسيبقى هذا الإنحراف مستمراً، مادام المجتمع ضعيفاً، وبعيداً عن الحياة النوعية. وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى القول: إن الخطوة الأولى لتحجيم انحراف السلطة وتغولها، هي إنطلاق المجتمع في بناء نفسه وتقوية بنيته التحتية، وسد الثغرات في جسمه، حتى يتسنى له أن يتساوى مع السلطة في الوزن والقوة والمبادرة.