من المشقّة إلى التهميش: التأثير الجيوسياسي للإخفاقات الاقتصادية الهيكلية في مصر وتونس ولبنان
مركز كارنيغي
2024-01-22 06:06
بقلم: حمزة المؤدّب، نور عرفة
ملخّص: فاقمت أزمات الغذاء والطاقة والديون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مكامن الضعف الاقتصادية الهيكلية للبلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل، ولا سيما مصر وتونس ولبنان، ما أسفر عن ضغوط متزايدة على الأنظمة السياسية المحلية، وعمّق التهميش الجيوسياسي الذي تعاني منه هذه البلدان.
مقدّمة
شهدت البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خلال السنوات الأخيرة، سلسلةً من الأزمات المترابطة على صعيد الغذاء والطاقة والديون. وقد جاءت الحرب في أوكرانيا لتسلّط الضوء على أوجه التفاوت في المنطقة، وتُبيّن أن الوضع يختلف من دولة عربية إلى أخرى. فبينما حقّقت البلدان المُصدّرة للنفط أرباحًا وفيرةً من النفط والغاز نتيجة ارتفاع أسعار موارد الطاقة جرّاء الصراع، عانت البلدان المستوردة لهذه الموارد، مثل مصر وتونس ولبنان، من ارتفاع تكاليف الطاقة، وقيود الميزانية، والضغوط الاجتماعية. هذا وتزامَن ارتفاع أسعار الطاقة مع أزمة غذاءٍ في المنطقة، أعادتها حرب أوكرانيا إلى الواجهة بعدما تسبّبت بصعودٍ في أسعار السلع الأساسية والمواد الغذائية حول العالم. فقد سرّع ذلك وتيرة التضخّم، وأفضى إلى نقصٍ في المواد الغذائية، الأمر الذي أجّج كلًّا من التوتّرات الاجتماعية وحالة انعدام الاستقرار السياسي في عددٍ من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في غضون ذلك، تسبّب ارتفاع مستويات الديون المتراكمة في البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في المنطقة، إضافةً إلى ازدياد معدّلات التضخّم فيها وتراجع قيمة عملاتها، بتقييدٍ شديدٍ لقدرتها على معالجة هذا الوضع.
تبرز في هذا المجال على وجه الخصوص ثلاثةٌ من البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هي مصر وتونس ولبنان. تعاني هذه الدول جميعها من نقاط ضعف اقتصادية هيكلية، وترزح تحت وطأة ديون ثقيلة، وتعتمد اعتمادًا كبيرًا على واردات الغذاء والطاقة، ناهيك عن أنها إما فاوضت على اتفاقاتٍ مع صندوق النقد الدولي، وإما تحتاج إليها. وفي حين أن الوضع السياسي قد يختلف بين البلدان الثلاثة، تبقى السياسة مشكلة مركزية في كلٍّ منها، إذ إن مصر تشهد استقرارًا وهميًا، وتونس تعاني من جرّاء القرارات غير المتّسقة لنظامها الشعبوي، ولبنان ما زال أسير حالة من الجمود المدمّر الذي تفرضه نخبةٌ سياسيةٌ تُعِدّ الإصلاح تهديدًا لسلطتها. هذا واعتمد القادة في الدول الثلاث نهجًا ضارًّا يتوخّى تحقيق النتائج القصيرة المدى فقط في استجابتهم لضرورات الإصلاح، مركّزين على إدامة بقائهم السياسي. في مقابل ذلك، اتّبعت بلدان أخرى في المنطقة ذات دخل منخفض ومتوسّط، مثل المغرب والأردن، نهجًا أكثر طوعيةً حيال الإصلاح، وإن كانت تواجه الكثير من المشاكل نفسها التي تجابهها مصر وتونس ولبنان، مُظهِرةً بذلك قدرًا أكبر من المرونة إزاء الصدمات الإقليمية على صعيدَي الغذاء والطاقة.
الواقع أن أزمات الغذاء والديون في البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى جانب الصدمات في قطاع الطاقة، برزت إلى الواجهة نتيجة أحداث كبرى تسبّبت بمفاقمتها، خصوصًا جائحة كوفيد-19 والصراع في أوكرانيا. لكن هذه الأزمات كلّها هيكليةٌ بطبيعتها في المقام الأول، وترتبط بمكامن الضعف المتأصّلة في اقتصادات البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل. والدليل على ذلك أن أزمة الغذاء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإن ارتبطت عمومًا بانخفاض إمدادات مواد غذائية محدّدة بسبب الحرب الأوكرانية، تنشأ فعليًا عن المأزق المطوّل والمستمرّ الذي تواجهه النُظم الغذائية في المنطقة. وعلى النحو نفسه، تعود جذور أزمة الديون التي تعاني منها بلدان مثل مصر وتونس ولبنان إلى الاقتصاد السياسي ونموذج التنمية الاقتصادية اللذين اتّبعتهما هذه البلدان.
ولأن أزمات الغذاء والطاقة والديون هي أزمات هيكلية، فقد لعبت دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل كلٍّ من النظم المحلية وميزان القوى السياسي والاقتصادي الإقليمي. فقد فاقمت هذه الأزمات في مصر وتونس ولبنان، وغيرها من البلدان المستوردة للطاقة، المشاكل المالية التي تضع المسؤولين أمام معضلة اختيار السياسات المناسبة. والواقع أن الأنظمة تُبدي تردّدًا في تطبيق الإصلاحات، نظرًا إلى التكاليف الاجتماعية والسياسية المترتّبة عنها التي قد تُفقِدها ناخبيها. في الوقت عينه، لن يؤدّي الإحجام عن تنفيذ الإصلاحات والتعديلات الهيكلية سوى إلى مفاقمة الظروف المالية العصيبة التي تعيشها هذه البلدان، وإرساء أوضاعٍ غير مستدامة. لكن على الرغم من هذه البدائل، يميل القادة في الكثير من البلدان إلى تفضيل الحفاظ على الوضع القائم، ساعين إلى تمييع الإصلاحات.
وعند النظر إلى هذه الأزمات من منظور جيوسياسي إقليمي، يتّضح أنها فرضت عملية إعادة ترتيبٍ للأوضاع الاقتصادية والجيوسياسية، بما يقوّي الدول المُصدّرة للنفط والغاز، وفي الوقت نفسه يزيد تهميش الدول الفقيرة بموارد الطاقة أكثر فأكثر. فاعتماد البلدان المستوردة للطاقة ذات الدخل المنخفض والمتوسّط على البلدان المُصدّرة للنفط والغاز لمساعدتها، قوَّضَ استقلاليّتها في مجال السياسة الخارجية، بسبب اضطرارها إلى الانصياع لمموّليها، أو على الأقلّ تلبية مطالبهم.
أوجه الضعف الهيكلية للبلدان العربية منخفضة ومتوسّطة الدخل
تعتري اقتصادات البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولا سيما اقتصادات مصر وتونس ولبنان، مجموعةٌ من العيوب الهيكلية، ولهذا السبب لا يمكن أن تُعزى أزمات الغذاء والطاقة والديون التي تواجهها هذه البلدان ببساطة إلى تداعيات الصراع في أوكرانيا أو جائحة كوفيد-19. وما لم يعالج كلٌّ من هذه البلدان أوجه القصور هذه، فلن يتمكّن من تخطّي صعوباته. لكن الخيارات الصعبة التي فُرِضَت على القادة في أرجاء المنطقة كافّة أنتجت حالة من الجمود لن تفضي سوى إلى تفاقم الظروف المالية والاقتصادية في هذه البلدان خلال المرحلة المقبلة.
أربعة أسباب مترابطة لأزمة الغذاء في البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل
كان ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونقصها، والطوابير الطويلة للحصول على الخبز في بعض الحالات، المشهدَ السائدَ في بلدان عدّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال العام المنصرم، ولا سيما بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا التي تسبّبت بتعطّل سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتقييد قدرة المواطنين على الحصول على الغذاء. لكن هذا الصراع لم يكن سوى جزءٍ من المشكلة، وتأثيره على الغذاء جاء متفاوتًا من بلدٍ إلى آخر في المنطقة. فالبلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل تضرّرت أكثر من دول الخليج، التي وسّعت قدرتها التخزينية واستثمارها في سلاسل الإمداد العالمية عقب أزمة الغذاء في العامَين 2007-2008.1 والواقع أن أزمة الغذاء الحالية في البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل تُعزى إلى أربع مشاكل مترابطة يعاني منها النظام الغذائي في المنطقة: انعدام الأمن الغذائي؛ والتحوّل إلى الاعتماد على الاستيراد، وما يرتبط به من انخفاض في إنتاج المواد الغذائية للاستهلاك المحلّي؛ واللامساواة التي تعاني منها المناطق الريفية والعمّال الزراعيون؛ والأزمة المائية والبيئية.
مشكلة انعدام الأمن الغذائي
إن أولى المشاكل الكبرى التي تعاني منها النُظم الغذائية في البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي انعدام الأمن الغذائي، أي الافتقار المادّي والاقتصادي إلى ما يكفي من المواد الغذائية الآمنة والمغذّية الضرورية لنمو طبيعي وصحّي. وقد تعاظمت هذه المشكلة في العقد الماضي، وطال تأثيرُها في العام 2021 ما يقرب من 154.3 مليون شخص في المنطقة، بزيادةٍ قدرها 11.6 مليون شخص عن العام السابق.2 يُذكَر أن أكثر من ثلث سكان المنطقة عانى من انعدام أمن غذائي متوسّط أو حادّ، وعدم القدرة على الحصول على الغذاء بشكل منتظم.3
في أوائل العام 2020، جاء تفشّي جائحة كوفيد-19، وما تلاه من تعطّلٍ لسلاسل الإمداد، ليزيد انعدام الأمن الغذائي، ثم تفاقَمَ الوضعُ أكثر إثر اندلاع الصراع في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022، تزامنًا مع الأزمات الاقتصادية والمالية التي ألمّت بعددٍ من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تُعَدّ أوكرانيا وروسيا المُصدّرَين الرئيسَين للحبوب والمنتجات الزراعية، وكانتا قبل الصراع من البلدان الأساسية المورّدة للقمح والذرة، إذ ساهمتا بـ20 و30 في المئة من الصادرات العالمية على التوالي.4 هذا وكانتا تنتجان حوالى 80 في المئة من الصادرات العالمية من منتجات بذور دوّار الشمس.5
تَسبَّب الصراع في أوكرانيا إذًا باضطرابات كبيرة في تجارة الأغذية العالمية، وترك أثرًا بارزًا على الأمن الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نظرًا إلى ارتفاع مستويات الاعتماد على الواردات الغذائية في بلدان المنطقة. فهذه الأخيرة هي أكبر مستورد للحبوب في العالم، ونصف وارداتها من القمح، الذي يُعَدّ مكوّنًا أساسيًا في السلال الغذائية للبلدان العربية، كان يأتي من روسيا وأوكرانيا قبل الحرب.6 وترتفع مستويات الاعتماد على واردات القمح بوجه خاص في مصر ولبنان، إذ وصلت نسبة استيراد القمح من أوكرانيا وروسيا في العام 2020 إلى 84 في المئة و68 في المئة في البلدَين على التوالي (انظر الشكل 1 أدناه).7 نتيجةً لذلك، أصبحت البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في المنطقة معرّضةً بشدّة لعواقب الحرب التي عطّلت الإمدادات الغذائية، ورفعت أسعار المواد الغذائية والأسمدة وموارد الطاقة، ما أدّى بدوره إلى زيادة فواتير الواردات، وأثّر سلبًا على الموازين التجارية لهذه البلدان وعلى صرف العملات الأجنبية فيها. فما كان من ذلك إلا أن أجهد اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي كانت أصلًا متعثّرة اقتصاديًّا وماليًّا.
{img_1}
في المقابل، أسفر تضخّم أسعار المواد الغذائية، إضافةً إلى انخفاض قيمة العملات المحلية، عن تراجع القدرة الشرائية للمستهلكين، ولا سيما في مصر وتونس ولبنان، الأمر الذي قيّد إمكانية الحصول على الغذاء، تاركًا الفئات السكانية الفقيرة والضعيفة، بمَن فيها اللاجئون، في أسوأ الظروف. فوفقًا لاستطلاعٍ للرأي أُجري بين العامَين 2021 و2022 في تسعةٍ من البلدان العشرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عبّر ما يزيد عن 50 في المئة من السكان عن مخاوفهم بشأن استنفاد إمداداتهم الغذائية قبل أن تُتاح لهم فرصة التزوّد بها مجددًّا.8
فعلى سبيل المثال، ازدادت أسعار المواد الغذائية في مصر ثلاثة أضعاف بين العامَين 2016 و2019، في أعقاب الإصلاحات الاقتصادية التي أجرتها الحكومة، والتي خسر فيها الجنيه المصري 50 في المئة من قيمته.9 ناهيك عن ذلك، أدّى ارتفاع الأسعار العالمية للسلع الأساسية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، إلى جانب خفض قيمة الجنيه في آذار/مارس وتشرين الأول/أكتوبر 2022، إلى زيادة إضافية في أسعار المواد الغذائية.10 وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2022، قُدّر معدّل تضخّم أسعار المواد الغذائية في مصر بـ30.9 في المئة، وهو أعلى مستوى يُسجَّل منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2017.11
ومعدّل التضخّم آخذٌ في الارتفاع في تونس أيضًا، حيث ازدادت أسعار المواد الغذائية في كانون الأول/ديسمبر 2022 بنسبة 14.6 في المئة عمّا كانت عليه في الشهر نفسه من العام 2021.12 وقد خلّف هذا الارتفاع نقصًا في المواد الغذائية الأساسية مثل الحليب، والقهوة، والسكر، والزيت النباتي المدعوم. ولا يزال نقص المواد الغذائية في تونس أمرًا واقعًا بسبب الوضع الحرج للماليّة العامة وأزمة الديون في البلاد، اللذَين حدّا من قدرتها على استيراد المنتجات الغذائية الأساسية.13
لكن تضخّم أسعار المواد الغذائية يبقى الأعلى في لبنان، حيث أُضيف ارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية إلى الأزمة الاقتصادية والمالية الحادّة التي تواجهها البلاد منذ أواخر العام 2019. وقد أسفر ذلك عن تراجع قيمة العملة، إذ خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 98 في المئة من قيمتها، وعن تضخّم مفرط، بحيث ازدادت الأسعار بنسبة 500 في المئة بين كانون الأول/ديسمبر 2018 وتشرين الأول/أكتوبر 2021.14 ويُصنَّف لبنان من بين الدول العشر الأولى الأشدّ تضرّرًا من تضخّم أسعار المواد الغذائية في العالم، إذ أصبح معدّل هذا التضخّم، بين كانون الثاني/يناير ونيسان/أبريل 2023، الأعلى في العالم بالقيمتَين الاسمية والحقيقية على حدٍّ سواء.15
الاعتماد على الاستيراد وتراجع إنتاج المواد الغذائية المخصّصة للاستهلاك المحلّي
تسهم مشكلة هيكلية أساسية أخرى في شرح الأزمة الغذائية الراهنة، وتتمثّل في تحوّل النُظم الغذائية إلى الاعتماد على الاستيراد وتأثير ذلك على الإنتاج الزراعي المحلّي، وتحديدًا تراجع الإنتاج القادر على تلبية الطلب المحلّي. لقد بدأ ذلك إلى حدٍّ كبير خلال ثمانينيات القرن الماضي، حين تم على نحو متزايد تدويل إنتاج الغذاء والحصول عليه.16 تحديدًا، حثّ نظام الرأسمالية التجارية، إضافةً إلى سياسات التحرير الاقتصادي التي تبنّتها دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ السبعينيات، وإدماج النُظم الزراعية المحلية في الاقتصاد العالمي، الدولَ على تشجيع المنتجات الزراعية الموجَّهة نحو التصدير والتي تحتاج إلى رأسمال كثيف ويمكن أن تدرّ العملة الصعبة.17 وهكذا، فضّلت الكثير من الدول الزراعة التصديرية على حساب الزراعة لإنتاج المواد الغذائية المخصّصة للاستهلاك المحلّي، إذ ركّزت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على تعزيز مزاياها التنافسية. إذًا، سمحت هذه الدول للسوق العالمية بتحديد سياساتها الزراعية المحلية، وركّزت القطاعات الزراعية في المقام الأول على زراعة المحاصيل ذات العائد المالي العالي على نطاق واسع بدلًا من زراعة الكفاف أو تلك المخصّصة للاستهلاك المحلّي.
أثّر التوجّه نحو إنتاج المحاصيل ذات العائد المالي العالي سلبًا على إمدادات المواد الغذائية وإنتاجها، ما قوّض قدرة الدول التي أصبحت مصدّرة للمنتجات الزراعية، مثل مصر، على إطعام شعبها.18 وأدّى ذلك أيضًا إلى حوافز مشوّهة واختلالات في الإنتاج الزراعي في بعض الدول، ترافقت مع تبدّل مستمر في أنواع المحاصيل ذات العائد المالي العالي المزروعة بحسب طلب السوق.19 فعلى سبيل المثال، غالبًا ما تُقلَع الأشجار في لبنان وتُستبدَل بأخرى استجابةً للطلب المتبدّل في السوق. وخلال الأزمة الراهنة مثلًا، عَمَد المزارعون إلى اقتلاع أشجار التفاح، التي تحتاج إلى أسمدة باهظة الثمن تُباع بالدولار الشحيح، ليزرعوا مكانها أشجار المشمش التي تتطلّب تكاليف أقل.20
تزامن الترويج للزراعة التصديرية مع ارتفاع مستويات الاعتماد على الواردات الغذائية، إذ تُصنَّف الدول العربية من بين الدول الأكثر استيرادًا للمواد الغذائية على مستوى العالم. وفي المتوسّط، يتأتّى أكثر من 50 في المئة من السعرات الحرارية المُستهلَكة في المنطقة من المواد الغذائية المستورَدة، ويُتوقَّع أن ترتفع هذه النسبة لتصل إلى 64 في المئة بحلول العام 2030.21 في الواقع، يتم استيراد أكثر من 80 في المئة من المواد الغذائية المُستهلَكة في الأردن، والكويت، ولبنان،22 والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة،23 واليمن. ويُقدّر أن الاعتماد على واردات الحبوب يفوق 90 في المئة في الأردن، والكويت، ولبنان، وليبيا، وعُمان، والسعودية، والإمارات.24 وعلى الرغم من أن سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يشكّلون عمومًا 5 في المئة فقط من سكان العالم، تستورد هذه المنطقة أكثر من ربع كميات الحليب والقمح المتوافرة في الأسواق العالمية، وتنفق ما نسبته 4 في المئة من إجمالي ناتجها المحلّي على الواردات الغذائية سنويًا.25
كان الاعتماد الشديد على الواردات الغذائية عاملًا مباشرًا في انعدام الأمن الغذائي وأزمة الغذاء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فباتت الدولة أكثر عرضةً للتأثّر بالصدمات الداخلية (مثل تدهور قيمة العملة المحلية أو الانهيار الاقتصادي)، وأيضًا بالصدمات الخارجية مثل الحرب في أوكرانيا، وتعطّل سلاسل الإمداد، وتقلّبات الأسعار. هذا الاعتماد على الواردات الغذائية كبّد الدول أيضًا "ثمنًا جيوسياسيًا"، وقد يقوّض استقلاليتها على الصعيد السياسي.26 ففي الكثير من الأحيان، استغلّت مختلف القوى تجارة الأغذية العالمية من أجل تحقيق أهداف مرتبطة بالسياسة الخارجية، كما حصل خلال الحربَين العالميّتَين،27 أو حين فكّرت الولايات المتحدة في إمكانية فرض حظر على تصدير الحبوب إلى العالم العربي ردًّا على حظر تصدير النفط العربي إلى واشنطن والدول الداعمة لإسرائيل خلال الحرب العربية الإسرائيلية التي اندلعت في تشرين الأول/أكتوبر 1973.28
أوجه اللامساواة التي تعاني منها المناطق الريفية وصغار المزارعين
يرتبط النقص في الإنتاج الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى حدٍّ كبير بمشكلة أساسية أخرى تؤثّر في النظام الغذائي، وتتمثّل في السياسات الحكومية حيال المناطق الريفية والعمّال الزراعيين. وقد أثّر التحيّز الحضري لمعظم صنّاع السياسات،29 وإهمالهم القطاع الزراعي والمناطق الريفية، على الإنتاج الزراعي المحلّي في جميع أنحاء المنطقة، وشكّل عاملًا مساهمًا في انعدام الأمن الغذائي.30 وأدّى الاستثمار المحدود في القطاع الزراعي، والتمدّد الحضري المتزايد، إلى تقليص مساحات الأراضي الزراعية، ما تسبّب بتقويضٍ إضافي للإنتاج الزراعي.31 يُضاف إلى ذلك أيضًا أن الوصول إلى الأراضي بات صعبًا للغاية نتيجة النزاعات التي تشهدها بعض الدول مثل العراق وسورية واليمن.
وقد ترافق التحيّز ضدّ المناطق الريفية مع نزوح اليد العاملة الزراعية وتدهور قيمة العمل الزراعي، وهذا بُعدٌ هيكلي مهم آخر يساعد على شرح الأزمة الغذائية في المنطقة. فعلى سبيل المثال، بدأت الحكومة التونسية منذ سبعينيات القرن المنصرم بإهمال المناطق الريفية لصالح زيادة دعمها للمدن الساحلية ولقطاعَي الخدمات والصناعات الخفيفة.32 دفعت هذه السياسات مئات آلاف التونسيين إلى النزوح من المناطق الريفية إلى المدن، ما أدّى إلى تضاؤل أعداد العمّال الزراعيين، ولا سيما الشباب منهم، وهجر أراضٍ زراعية واسعة.33 نتيجةً لذلك، كانت أعمار ما يزيد عن 45 في المئة من العمّال الزراعيين تفوق الستين في العام 2022، في حين أن الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والثلاثين فلم يشكّلوا أكثر من 10 في المئة من اليد العاملة الزراعية.34 الواقع أن إحدى العقبات الرئيسة التي واجهها العمّال الزراعيون التونسيون منذ الثمانينات تمثّلت في قدرتهم المحدودة على الحصول على الأراضي والائتمانات،35 نتيجة ضعف آليات التمويل العمومية والخاصة على السواء.36 علاوةً على ذلك، تقوم الحكومة بإعفاء كبار المزارعين من ضرائب المياه والريّ، فيما تفرضها على صغار المزارعين،37 ما يسهم في تسريع وتيرة إفقارهم.38 في هذا الإطار، اضطرّ عددٌ متزايد من صغار المزارعين إلى التخلّي عن العمل في القطاع الزراعي بسبب افتقارهم إلى الدعم الكافي.39
وفي لبنان أيضًا، خلال الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد بين العامَين 1975 و1990، أدّت سياسات الدولة وأنماط ملكية الأراضي وتوزيعها إلى نزوح عدد هائل من سكان المناطق الريفية إلى المدن،40 ما تسبّب بحدوث نقص في اليد العاملة في القطاع الزراعي، وتراجع الإلمام المحلّي بممارسات الإنتاج الغذائي المستدامة. وإذ تم التعويض عن تضاؤل اليد العاملة الزراعية المحلية من خلال توظيف مهاجرين ولاجئين، فاقم هذا الاعتماد على العمّال المهاجرين تدهور قيمة العمل الزراعي، وزاد من استغلال العمّال، ومن ضمنهم الأطفال، نظرًا إلى أن معظم اليد العاملة في الزراعة تتألّف من عمّال موسميين يعملون بصورة غير نظامية. وبما أن العمّال الذين يندرجون ضمن فئة "المزارعين" لطالما افتقروا إلى الاعتراف القانوني بوضعهم في لبنان، فلا يتمتّع العمّال الزراعيون بظروف عمل لائقة أو حماية اجتماعية، ناهيك عن أنهم عرضةٌ لممارسات تمييزية على مستويَي التعويضات والمعاملة.42 وأدّت هذه الظروف، مقرونةً بإهمال المناطق الريفية، إلى غياب الاستثمار في الابتكارات التكنولوجية في مجال الإنتاج الغذائي، ما تسبّب بتدنّي الإنتاجية وبأزمة بيئية.
تتمثّل مشكلة رئيسة أخرى في أن العمّال الزراعيين يعانون من التهميش والإقصاء واللامساواة بسبب الأنظمة الاقتصادية في هذه الدول الثلاث. فقد عنى الترويج للزراعات الموجّهة نحو التصدير التي تحتاج إلى رأسمال كثيف أن الأنشطة تمحورت حول أنماط تراكم رأس المال التي تعود بالفائدة على المستثمرين الوطنيين والأجانب المنخرطين في الزراعة الواسعة النطاق، على حساب المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة الذين تدهورت أوضاعهم وتمّ استبعادهم.43 فعلى سبيل المثال، أدّى التركيز على تشجيع الزراعة الواسعة النطاق المخصّصة للتصدير في مصر خلال عهدَي الرئيسَين حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي، إلى تفضيل كبار المستثمرين المصريين والأجانب، ولا سيما المستثمرين الخليجيين، عن طريق تمكينهم من الحصول على الموارد بسهولة ويسر.44 وتجلّى ذلك بشكل أساسي من خلال التوسُّع المستمر للاستثمارات الخليجية في القطاع الزراعي المصري (وهذا التوجّه بدأ في عهد مبارك) وتخصيص مساحات شاسعة من الأراضي لمستثمرين خليجيين، في ظل إهمال احتياجات صغار المزارعين إلى حدٍّ بعيد.45
يبدو الإهمال الذي يتعرّض له المزارعون أصحاب الحيازات الصغيرة واضحًا أيضًا من خلال استثنائهم من عملية صياغة المشاريع والسياسات الزراعية. على سبيل المثال، منذ عهد الرئيس أنور السادات، لم تُدرَج المناطق الريفية المصرية ضمن الاستراتيجيات الحكومية الرامية إلى التشجيع على إنتاج المواد الغذائية.46 وعلى الرغم من المشاريع الزراعية الكثيرة التي أُطلقَت في عهد السيسي، لا يزال صغار المزارعين والعمّال الزراعيون مهمّشين وغائبين عنها. بل يهيمن عليها الرئيس والشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية وكبار المستثمرين المحليين والأجانب، ما قلّص بشكل أكبر مشاركة صغار المزارعين في القرارات المهمة التي تؤثّر على القطاع الزراعي.47
في كلٍّ من لبنان،48 وتونس،49 ومصر،50 يسيطر عددٌ ضئيل من كبار المستثمرين ومالكي الأراضي على مساحات شاسعة، في حين أن صغار المزارعين، الذين يشكّلون الغالبية، لا يحصلون سوى على أراضٍ صغيرة ومجزأة. وأدّى هذا الواقع إلى ترسيخ أوجه اللامساواة وتهميش صغار المزارعين لصالح تعزيز نفوذ كبار مالكي الأراضي والتجار،51 ومواصلة تركُّز الثروة والسلطة في أيدي حفنة قليلة من الأشخاص.52
على سبيل المثال، أعقبت التغييرات في حيازة الأراضي في مصر تطبيق القانون 96 للعام 1992، الذي أبطل تشريعًا أقرّه الرئيس السابق جمال عبد الناصر ومنح بموجبه صغار المزارعين حقوق استئجار الأراضي لفترة زمنية طويلة.53 وأدّى ذلك إلى نزوح أكثر من مليون مستأجر وارتفاع إيجارات الأراضي الزراعية بنسبة تزيد عن 400 في المئة، ما تسبّب بحدوث اختلالات كبيرة في الإنتاجية.54 وقد فاقمت هذه التغييرات القانونية التي طرأت على ملكية الأراضي، مقرونةً بسياسات التحرير الاقتصادي، تركُّزَ ملكية أراضٍ شاسعة في أيدي حفنة قليلة من الأشخاص. فعلى سبيل المثال، ارتفعت نسبة الأراضي الزراعية التي لا تتجاوز مساحتها الفدّان الواحد (4,200 متر مربع) بين العامَين 1990 و2000 من 36.7 في المئة إلى 48.5 في المئة من مجموع الأراضي في البلاد. وفيما يعمل غالبية المزارعين المصريين، أي حوالى 93 في المئة منهم، في أراضٍ تقلّ مساحتها عن 5 أفدنة (21,000 متر مربع)، يمتلك 3 في المئة فقط من مالكي الأراضي 35 في المئة تقريبًا من مجموع الأراضي الزراعية، بمتوسط 10 أفدنة (42,000 متر مربع) للمالك الواحد.55 وقد فاقم هذا التفاوت في توزيع الأراضي أوجه اللامساواة بين صغار المزارعين وكبار الرأسماليين، إذ ساهم في الإفقار الشامل للمزارعين الذين باتوا غير قادرين على ضمان أمنهم الغذائي. علاوةً على ذلك، أثّر هذا التفاوت أيضًا على أنماط الإنتاج المحلي، إذ يركّز كبار الرأسماليين على التصدير، بينما يركّز صغار المزارعين إلى حدٍّ بعيد على تلبية حاجات السوق المحلية.
إن ظاهرة التفاوت في ملكية الأراضي منتشرة أيضًا في تونس، حيث تراجعت قدرة صغار المزارعين على الوصول إلى الأراضي منذ أن نالت البلاد استقلالها عن فرنسا في العام 1956.56 وفي السبعينيات، ولا سيما بعد اعتماد سياسات التكيّف الهيكلي، عزفت الدولة عن منح أراضٍ إلى تعاونيات المزارعين كما كانت تفعل في السابق، ومنحتها بدلًا من ذلك إلى الشركات الاستثمارية الخاصة وكبار المزارعين.57 وتزامن ذلك في الثمانينيات مع تحوّلٍ نحو المحاصيل التي تعتمد على الريّ الآلي على نطاق واسع، ما يتطلّب عددًا أقل من العمّال الزراعيين.58 لكن في عهد الرئيس زين العابدين بن علي (من 1987 إلى 2011)، تفشّت المحسوبية والفساد، إذ حصل المقرّبون من النظام على الأراضي الأكثر خصوبة، ومُنحوا احتكار تصدير المنتجات الزراعية، ما فاقم أوجه اللامساواة في البلاد.59 فعلى سبيل المثال، بين العامَين 2004 و2005 (وهي الفترة التي تتوافر عنها آخر الأرقام)، كان 88 في المئة من المزارعين التونسيين يزرعون 39 في المئة من الأراضي الزراعية، في حين أن 1 في المئة منهم كانوا يزرعون حوالى ربع هذه الأراضي.60 وقد أفرز تهميش صغار المزارعين ومُنتجي المواد الغذائية عواقب فادحة، أدّت إلى انحسار ممارسات الزراعة المستدامة التقليدية، ما فاقم بالتالي الأزمة البيئية التي تعصف راهنًا بالمنطقة.
أزمة بيئية ومائية
أدّى الترويج للزراعة الموجَّهة نحو التصدير وطبيعة الإنتاج الذي يحتاج إلى رأسمال كثيف في مختلف أنحاء المنطقة إلى حدوث أزمة بيئية ناجمة عن ممارسات الإنتاج الغذائي غير المستدامة. فالاستخدام الكثيف للمواد الكيميائية الزراعية،61 على غرار المبيدات والأسمدة الصناعية، بهدف إنتاج أقصى قدر من المحاصيل والمكاسب، قوّض إنتاجية الأراضي وتسبّب بتملّح التربة وألحق أضرارًا بالبيئة، إذ إن هذه المواد الكيميائية تغلغلت في التربة ولوّثتها، ما قلّص الإنتاجية الزراعية.62
نشأت المشاكل البيئية أيضًا بسبب الاعتماد المتزايد على الزراعة الأحادية المحصول،63 وهي مقاربة تجارية واسعة النطاق تشمل زراعة محصول واحد في مساحة كبيرة من الأرض. ويسفر ذلك عن فقدان التربة مواد مغذّية أساسية وخسارة التنوّع البيولوجي، ما يزيد من احتمال فشل المحاصيل، ويقلّص الإنتاجية الزراعية، ويؤدّي إلى تدهور أحوال الأراضي، ويفاقم نقص المواد الغذائية.64 يُعزى تدهور أحوال الأراضي أيضًا إلى الإنشاءات الهيدرولوجية الهائلة الرامية إلى تلبية متطلّبات الزراعة الواسعة النطاق التي تحتاج إلى رأسمال كثيف.65 نتيجةً لذلك، تراجع نصيب الفرد من المساحات الصالحة للزراعة في العالم العربي بين العامَين 1961 و2013 بنسبة 70 في المئة.66
تتجلّى مشكلة الاستدامة البيئية بأوضح صورها في نقص الموارد المائية في المنطقة وتلوّثها المتزايدَين. في لبنان مثلًا، أدّى استخدام المواد الكيميائية الزراعية، والضخّ المفرط للمياه الجوفية، وتفريغ مياه الصرف الصحي غير المُعالجة والمخلّفات الصناعية ومياه الصرف الزراعي في الأنهر، إلى تلوّث المياه.67 ويشير أحد التقديرات إلى أن أكثر من نصف الموارد المائية في البلاد ملوّثة.68 لكن تلوّث المياه لا يؤثّر على جودة مياه الشرب فحسب،69 بل أيضًا على الإنتاج الزراعي وسلامة المواد الغذائية، لأن المياه الملوّثة غير المُعالجة تُستخدم في الريّ فيُصيب التلوّث الجرثومي النباتات المرويّة.70
تفاقمت مشكلة تلوّث المياه بسبب نقص المياه في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نتيجة أنظمة الريّ غير الفعّالة، والممارسات غير الكفؤة لإدارة الموارد المائية، والاستغلال المفرط لموارد المياه الجوفية، وهذه العوامل أدّت جميعها إلى نضوب خزانات المياه الجوفية.71 تُعدّ موارد المياه العذبة المتاحة للفرد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأدنى عالميًا. ففي الوقت الراهن، يبلغ متوسط توافر المياه في المنطقة 1100 متر مكعب للشخص الواحد سنويًا، مقارنةً مع المتوسط السنوي العالمي البالغ 8900 متر مكعب.72 وتشير التقديرات إلى إمكانية تراجع هذا الرقم إلى 550 مترًا مكعبًا بحلول العام 2050.73
على سبيل المثال، شهدت العقود الأربعة الماضية تراجع مصادر المياه السطحية في لبنان بأكثر من 55 في المئة، وتدنّي تصريف المياه من نهرَي الليطاني والدامور والنهر الكبير بنسبة 40 في المئة.74 وعلى نحو مماثل في مصر، تتسبّب المشاريع الموجهة نحو زيادة المنتجات الزراعية المخصّصة للتصدير، على غرار مشروع الريّ في محافظة الوادي الجديد أو مشروع توشكي، أو مشروع استصلاح الأراضي في شرق العوينات، باستنزاف الموارد المائية وتقويض استمراريتها على المدى الطويل، ولا سيما نظرًا إلى الانخفاض الكبير في منسوب مياه نهر النيل وكذلك في منسوب المياه الجوفية غير المتجدّدة في مناطق مختلفة.75
يفاقم تغيُّر المناخ حدّة أزمة الاستدامة البيئية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ باتت القحولة وموجات الجفاف الدورية من الظواهر المتأصّلة في المنطقة. وتشير التوقّعات إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستتكبّد أقسى التداعيات الناجمة عن تغيّر المناخ نتيجة تراجع معدّلات هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة فيها، ما سيخلّف عواقب فادحة على النُظم الزراعية القائمة ويتسبّب بمزيدٍ من الضغط على الموارد المحدودة أصلًا. فعلى سبيل المثال، أسفر الجفاف خلال شتاء 2021-2022 عن انخفاض غلّة محاصيل القمح إلى ما دون المتوسط في وسط تونس والمغرب وسورية والعراق.76 وفي تونس، حيث لم تتجاوز معدّلات هطول الأمطار نصف المتوسط المعتاد بعد أيلول/سبتمبر 2022، بلغت نسبة امتلاء السدود 30.3 في المئة فقط في العام 2023، مقارنةً مع متوسط 53.1 في المئة خلال السنوات الثلاث الماضية.77 وأثّر ذلك بشكل حادّ على إنتاج الحبوب، الذي من المتوقّع أن ينخفض من 7.5 ملايين قنطار في العام 2022 إلى 2.5 مليون فقط في العام 2023.78
ستتضرّر الدول التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الاقتصادات الريفية وزراعة الأراضي الجافة على نحو خاص بتغيّر المناخ، إذ إنها شديدة التأثّر بالتغييرات في أنماط الطقس الموسمية. ويعني ذلك أن فقراء الأرياف، الذين يعتمدون بشدّة على الزراعة ولا يملكون قدرة كبيرة على التكيّف، سيتأثّرون على نحوٍ غير متكافئ بتغيّرات الطقس. وتشير التوقّعات إلى أن الإنتاج الزراعي للمنطقة العربية ككل قد ينخفض بنسبة 21 في المئة بحلول العام 2080، وقد تصل الخسائر المحتملة إلى 40 في المئة في المغرب والجزائر.79
مكامن الضعف الهيكلية والصدمات في قطاع الطاقة في البلدان العربية ذات الدخل المنخفض والمتوسّط
أظهرت الأزمة التي أصابت قطاع الطاقة جرّاء الحرب في أوكرانيا مكامنَ الضعف الهيكلية الكبيرة القائمة أصلًا في البلدان المستوردة للنفط والغاز ذات الدخل المنخفض والمتوسّط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد تمحورت مكامن الضعف هذه أساسًا حول تحدّيَين رئيسَين: أولًا، سلّطت الضوء على الضغوط التي فرضها ارتفاع أسعار النفط والغاز على أنظمة دعم الطاقة المكلفة في المنطقة. وثانيًا، أظهرت التقدّم المحدود الذي أحرزته بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجدّدة، وتنويع مزيج الطاقة لديها، الأمر الذي أسفر عن استمرار ارتفاع مستوى الاعتماد على النفط والغاز.80
في الأشهر الستّة التي أعقبت اندلاع الحرب في أوكرانيا، سجّلت أسعار النفط والغاز ارتفاعًا ملحوظًا، بحيث تراوح سعر برميل النفط الواحد بين 80 و122 دولارًا، أي أعلى بكثير مما كان عليه في الفترة الممتدّة بين العامَين 2014 و2021، بعد أن كان تراجع في العقد السابق.81 في المقابل، ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي ثلاثة أضعاف خلال الأشهر الستّة التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، قبل أن تعود في العام 2023 إلى مستوياتها ما قبل الحرب.82 لكن الصدمة التي طالت قطاع الطاقة لم تؤثّر على الأسعار فحسب، بل فاقمت أيضًا مخاطر أمن الطاقة، متسبّبةً بحالة من انعدام اليقين في كلٍّ من أسواق الطاقة العالمية والمشهد الاستثماري إثر العقوبات المفروضة على روسيا، وهي من الدول الرئيسة المنتجة للطاقة.83 وهذا الأمر يعني أن التأثيرات الطويلة المدى لأزمة قطاع الطاقة على الاقتصادات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستستمرّ على الأرجح.
وكان لهذه الصدمة أثر إقليمي كبير آخر في توسيع الفجوة الاقتصادية بين الدول المُصدّرة للطاقة الصافية وتلك المستوردة لها، إذ إنها قوّت الدول الكبرى المُصدّرة للنفط والغاز، من بينها دول مجلس التعاون الخليجي، وساهمت في استقرار البلدان الغنيّة بالنفط، مثل الجزائر والعراق وليبيا. في موازاة ذلك، فاقمت الأزمة مواطنَ الضعف الهيكلية القائمة في البلدان المستوردة للطاقة، ولا سيما مصر وتونس ولبنان. فبينما استفادت الدول الكبرى المُصدّرة للطاقة من هذا المكسب المفاجئ على الصعيدَين الاقتصادي والسياسي، اضطرّت البلدان المستوردة للطاقة إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي طلبًا للمساعدة بسبب أوضاعها المالية المتدهورة. كذلك، استفادت الدول المُصدّرة للنفط والغاز من مساعي البلدان الأوروبية لاستبدال النفط والغاز الروسيَّين اللذَين كانت تستهلكهما، بالنفط والغاز من البلدان المُصدّرة لهما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعلى وجه الخصوص الجزائر،84 وليبيا،85 وقطر،86 والإمارات العربية المتحدة.87 ما كان من ذلك إلّا أن أفضى إلى اتفاقات واستثمارات جديدة في مجال الطاقة لزيادة إمدادات النفط والغاز من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أوروبا.
وفقًا لصندوق النقد الدولي، ستستمرّ بلدان الشرق الأوسط، ولا سيما دول الخليج، في الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط والغاز، ومن الفرص المتاحة لزيادة حصصها في السوق، بحيث يُتوقَّع أن تصل عائدات النفط إلى 1.3 تريليون دولار في السنوات الأربع المقبلة.88 ففي الجزائر الزاخرة بالموارد واليد العاملة، أتاح ارتفاع عائدات التصدير للبلاد في العام 2022 تحقيق أوّل فائض في حسابها الجاري منذ العام 2013.89 نتيجةً لذلك، صادق البرلمان الجزائري في العام 2023 على أكبر ميزانية في تاريخ البلاد، تضمّنت زيادةً بنسبة 25 في المئة من مستويات العام 2022، وتدابير لتعزيز الاستقرار الاجتماعي على المدى القصير، عن طريق زيادة الرواتب، وتعويضات البطالة، وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي.90
أما في العراق، وبعد أشهر عدّة من التوتّرات المحلية في العام 2022، أتاحت المكاسب غير المتوقّعة في قطاع النفط للبلاد التمتّع بمستوى من الاستقرار لم تشهده في العقدَين السابقَين.91 ويمكن أن يُعزى ذلك إلى الرغبة الجماعية لدى مختلف القوى السياسية، خصوصًا ضمن الطائفة الشيعية، في استعادة السلم الأهلي والحفاظ عليه. وفي حزيران/يونيو 2023، أقرّت حكومة محمد شياع السوداني عبر البرلمان الموازنة الأضخم في تاريخ العراق، من أجل تمويل عملية توسيع الخدمات الأساسية، بما في ذلك توفير الكهرباء والمياه، والتوظيف على نطاق واسع في القطاع العام، وإنشاء بنية تحتية جديدة، ومشاريع سكنية في المدن الكبرى. لكن وإن كانت هذه الميزانية الطموحة ستسهم على المدى القصير في تعزيز تسويةٍ سياسيةٍ هشّةٍ من خلال توزيع الريع، قد يؤدّي مستوى الإنفاق العالي إلى زعزعة الاستقرار في المستقبل.92
وفي تباينٍ حادّ، تواجه الدول المُستوردة لمصادر الطاقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مصاعب كبيرة منذ العام 2022 من جرّاء ارتفاع أسعار الطاقة.93 ومن بين هذه الدول، كانت مصر وتونس الأشدّ تضرّرًا، إذ كانتا لا تزالان تعانيان من تبعات جائحة كوفيد-19، وعقدٍ من النمو الاقتصادي الضعيف. فقد سجّلت كلفة استيراد الطاقة في مصر زيادة هائلة، من 8.5 مليارات دولار في العام 2021، إلى 13.5 مليار في العام 2022، ويُقدَّر أن تستقرّ عند 14 مليار دولار في العام 2023.94 هذا وارتفعت ميزانية دعم الطاقة من 0.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2021، إلى 0.8 في المئة في العام 2022، وإلى 1 في المئة في العام 2023. على النحو نفسه، أدّى ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية في تونس إلى تدهور حادّ في الحسابات الخارجية ووضع الماليّة العامة للبلاد. وقد ازداد العجز في الحساب الجاري بسبب ارتفاع تكلفة الاستيراد، من 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2021، إلى 8.5 في المئة في العام 2022. 95
فضلًا عن ذلك، حدّ الحيّز المالي الضيّق في كلٍّ من مصر وتونس من قدرة حكومتَيهما على الانخراط في التوظيف في القطاع العام، الذي كان له دورٌ رئيس تاريخيًا في تثبيت استقرار عقدَيهما الاجتماعيَّين. لهذا السبب، بقيت معدّلات البطالة في مصر وتونس مرتفعة، ولا سيما أن دول الخليج، بتفضيلها توظيف مواطنيها في أسواق العمل الخاصة بها في العقد الماضي، كانت قدرتها محدودة على استيعاب اليد العاملة الفائضة من البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل. وقد أدّى ذلك، إلى جانب تراجع استثمارات دول الخليج في البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل، خصوصًا بعد انخفاض أسعار النفط في النصف الثاني من العام 2014، إلى امتحان العقد الاجتماعي في البلدَين بشكل أكبر.96
وكانت للحرب في أوكرانيا عواقب وخيمة في لبنان أيضًا، الذي كان يعاني أصلًا من تضخّم مفرط منذ تخلّفه عن سداد ديونه الخارجية في آذار/مارس-حزيران/يونيو 2020، وتدهورت قدرة السكان الشرائية بشكل حادّ نتيجة ذلك. في العام 2021، شهدت البلاد نقصًا حادًّا في الوقود والسلع بسبب حجز الموزّعين المخزون بانتظار ارتفاع الأسعار رسميًا مع رفع الدعم تدريجيًا. ثم إن تهريب الوقود إلى سورية، حيث الأسعار أعلى، فاقم أزمة الوقود في لبنان، ما أثّر سلبًا على قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية للسكان، مثل الرعاية الصحية. وقد أرغم نقص الوقود وسوء التغذية بالتيار الكهربائي أيضًا أكبر مستشفيات البلاد على تقليص نشاطها، واضطّر السكان إلى الوقوف في طوابير لساعاتٍ طويلة من أجل ملء سياراتهم بالبنزين خشية ارتفاع الأسعار عقب رفع الدعم في صيف العام 2021. 97 هذا وقوّضت الأزمة إلى حدٍّ كبير قدرة الحكومة على توفير الكهرباء، فازداد اعتماد السكان على المولّدات الخاصة في الأحياء. ولم يكن مستغربًا أن آلاف المؤسسات اضطّرت إلى إغلاق أبوابها بسبب أزمة الطاقة.98
كشفت الصدمة في قطاع الطاقة النقابَ عن مواطن ضعفٍ كبيرةٍ في البلدان المستوردة للطاقة. أولًا، اتّضح أن إصلاح نظام دعم الطاقة ليس بالمهمّة اليسيرة للكثير من هذه البلدان. فالارتفاع الحادّ في أسعار الطاقة ألقى الضوء على التعقيدات والمقاومة المرتبطتَين بخفض دعم الطاقة أو إلغائه. غالبًا ما يتسبّب هذا الدعم بإجهاد ميزانيات الحكومات، وتثبيط الاستخدام الفعّال للطاقة، ناهيك عمّا ينطوي عليه من حساسيةٍ سياسيةٍ بسبب المخاوف من أن يؤدّي إلغاؤه إلى إشعال الاضطرابات الاجتماعية وزعزعة الاستقرار الداخلي. ثانيًا، أسفر التقدّم البطيء لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الانتقال إلى مصادر الطاقة المستدامة، عن اعتماد دولها بشكلٍ كبير على النفط والغاز. وعلى الرغم من الوعي العالمي المتزايد حول الحاجة إلى حلولٍ أكثر رفقًا بالبيئة في مجال الطاقة، أعاق اعتماد المنطقة على الوقود الأحفوري قدرتَها على تنويع مصادر الطاقة لديها، وربما تعديل جانب العرض لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة. لا يؤثّر هذا الاعتماد على النفط والغاز على أمن الطاقة فحسب، بل يجعل المنطقة أيضًا عرضةً للتقلّبات في أسعار النفط والغاز العالمية.
الواقع أن دعم الطاقة في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كان ممارسةً سائدةً طوال عقود،99 انتهجتها الدول المُستوردة للطاقة لتوفير الكهرباء والغاز الطبيعي والبنزين للمنازل والمؤسسات، بأسعار أقلّ بكثير من متوسّط السوق العالمية. وقد أصبح دعم الطاقة ركيزةً للاستقرار السياسي، وجانبًا من الجوانب المُحدِّدة للعقد الاجتماعي في الكثير من البلدان المستوردة للطاقة ذات الدخل المنخفض والمتوسّط. وإن كانت النوايا وراء هذا الدعم، مثل تعزيز النمو الصناعي، والحدّ من أوجه التفاوت الاجتماعية، نوايا مشروعة، تبقى لها أيضًا عواقب سلبية. فالدعم يؤدّي إلى الإفراط في استهلاك النفط والغاز، ويشجّع المؤسسات على التركيز على الأنشطة الريعية ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة،100 ناهيك عن أنه يجهد ماليّة الحكومات، ويحوّل الأموال بعيدًا عن المنافع العامة الضرورية، مثل توسيع البنية التحتية، والرعاية الصحية، والتعليم.101
ومع ذلك، كان إصلاح نظام دعم الطاقة أمرًا صعبًا، إذ إن التعديلات الجزئية لأنظمة الدعم، التي شهدتها تونس ومصر منذ العام 2011، أُجريَت تحت ضغط ماليّ كبير جدًّا. فعلى الرغم من أن السلطات في مصر نفّذت سلسلةً من الإصلاحات بين العامَين 2014 و2019، عجزت عن رفع الدعم على الطاقة تدريجيًا. وفي تموز/يوليو 2014، تسبّب إصلاح دعم الوقود بزيادةٍ كبيرةٍ في أسعار البنزين بنسبة 78 في المئة مقارنةً مع العام 2012، وبارتفاع أسعار الديزل بنسبة 64 في المئة، ما أثّر على معظم المستهلكين، ولا سيما الأُسَر ذات الدخل المنخفض.102 إضافةً إلى ذلك، خفّضت إدارة الرئيس السيسي الدعم على عددٍ من الصناعات ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة، مثل صناعات الإسمنت، والأسمدة، والزجاج، والسيراميك، وجاء هذا القرار مدفوعًا بحقيقة أن دعم الوقود شكّل وحده أكثر من خُمس ميزانية العام 2013. ولذا، رمَت الإصلاحات إلى معالجة عجز الموازنة، وإتاحة حيّزٍ ماليّ من أجل التصدّي لارتفاع معدّلات البطالة والنمو الاقتصادي البطيء.
في أواخر العام 2016، وتلبيةً لشروط صندوق النقد الدولي، أجرت الحكومة المصرية جولةً أخرى من الزيادات في أسعار الكهرباء والوقود، ما أفضى إلى اتفاق حول برنامج صندوق النقد الدولي في البلاد. وخلال تلك الفترة، طبّقت الحكومة نظام دعم للطاقة مُحدَّد الأهداف، بدلًا من النظام الشامل السابق، ورفعت أسعار قوارير الغاز وإمدادات الكهرباء بنسبة تتراوح من 30 إلى 50 في المئة، مع زيادات أقلّ نسبيًا لقطاع الأعمال.103 لكن هذا التحوّل في نظام الدعم لم يسهم في تحسين الظروف المعيشية للفقراء، الذين يُفترَض أن يكونوا المستفيدين الأساسيين من ذلك. وبالفعل، مع أن خفض دعم الطاقة أنتج وفوراتٍ تعادل 5.4 في المئة تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي، سُجِّلت زيادةٌ طفيفةٌ في المعاشات التقاعدية الاجتماعية للفقراء، بما في ذلك برامج التحويلات النقدية. في الواقع، ارتفعت المعاشات التقاعدية الاجتماعية بنسبة 0.07 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2021، ولم ترتفع سوى إلى 0.3 منه بحلول العام 2023.104 وهذه النسبة أقلّ بكثير من المتوسّط البالغ 0.9 في المئة في البلدان الواقعة ضمن فئة الدخل المتوسّط الأدنى (التي تنتمي إليها مصر)، ولا ترقى حتى إلى المتوسّط المتدنّي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، البالغ 0.42 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.105
وقد تواصلت الجهود الرامية إلى رفع الدعم تدريجيًا، على الرغم من الانخفاض الكبير في ميزانية دعم الطاقة في مصر، من 5.72 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2013، إلى 0.3 في المئة منه في العام 2021.106 مع ذلك، دفع تأثير الحرب في أوكرانيا على أسعار النفط والغاز الطبيعي الحكومةَ المصرية إلى تمديد فترة دعم الكهرباء، على الرغم من أنها سبق أن خطّطت للتوقّف عن ذلك بحلول أواخر العام 2022.107
أما في تونس، فلطالما كانت مسألة إصلاح نظام دعم الطاقة سياسيةً بدرجة كبيرة. على مدى العقد الماضي من التحوّل الديمقراطي، أحبطت الاحتجاجات والضغط الشعبي باستمرار محاولات الحكومات المتعاقبة لتطبيق الإصلاحات، فما كان إلا أن ازدادت ميزانية دعم الطاقة سنويًا بحوالى 15 في المئة بين العامَين 2010 و2020، بعد أن تخلّت الحكومات قصيرة الأجل عن جهود الإصلاح في مواجهة السخط الاجتماعي.108 وفي العام 2014، أدرك صندوق النقد الدولي التداعيات الكبيرة المترتّبة عن رفع الدعم على الطاقة، بما فيها الارتفاع المحتمل في مستويات الأسعار، والتأثير على القدرة التنافسية للصناعات المحلية المستهلكة للطاقة، والتعرّض لتقلّبات أسعار السوق العالمية.109 وبالتالي، أوصى الصندوق باعتماد آليةٍ لتعديل الأسعار تلقائيًا بغية المواءمة بين الأسعار المحلية والأسعار الدولية، إلا أن تنفيذها لم يكن متّسقًا، إذ اختارت الحكومات التطبيق الاستنسابي خشية التسبّب بالمزيد من الاستياء الشعبي.
تجدر الإِشارة إلى أن صدمة أسعار الطاقة الناجمة عن الحرب الأوكرانية أسفرت عن ارتفاع بنسبة 129 في المئة في ميزانية دعم الطاقة في تونس بين العامَين 2021 و2022، ما اضطّر الحكومة إلى اتّخاذ إجراءات. فعمدت إلى رفع أسعار الوقود في العام 2022 خمس مرّات، الأمر الذي أفضى إلى ارتفاعٍ تراكمي بنسبة 20.4 في المئة خلال تلك السنة،110 علمًا أن أسعار الكهرباء ارتفعت بنسبة 12 في المئة، وأسعار الغاز الطبيعي بنسبة 16.6 في المئة.111 لكن الحكومة أحجمت عن إجراء المزيد من التعديلات التلقائية للأسعار بسبب المخاوف بشأن الاستفتاء على دستور جديد، عقب استيلاء الرئيس قيس سعيّد على السلطة في تموز/يوليو 2021، والانتخابات التشريعية في كانون الأول/ديسمبر 2022. فقد أدّى افتقار النظام إلى الشعبية والشرعية إلى قرارٍ بتجميد تعديلات الأسعار. وبالفعل، منذ بداية العام 2023، لم تطرأ أيّ زيادات أخرى على أسعار الوقود، إذ خشيت السلطات من أن يتسبّب هذا الإجراء بزعزعة الاستقرار الاجتماعي. فعلى الرغم من انخفاض أسعار النفط العالمية، بقي متوسّط سعر الليتر الواحد من البنزين في محطّات الوقود في تونس قريبًا من 55 في المئة من السعر العالمي في أيار/مايو 2023. وهكذا، ارتفعت تكلفة الدعم في الميزانية بشكل ملحوظ في السنتَين الماضيتَين، وبلغت ما يقرب من 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.112 لقد أعاق إذًا تعقّد المشهد السياسي التونسي وتقلّبه الإصلاح الفعّال لنظام دعم الطاقة في البلاد.
في المقابل، واصل الاقتصاد في لبنان سقوطه منذ الانهيار المالي الذي ألمّ بالبلاد في العام 2019. فمصرف لبنان المركزي كان قد دعم الوقود والقمح والأدوية عن طريق إبقاء هذه المنتجات بسعر الصرف المربوط بالدولار، الذي كان 1507 ليرة لبنانية مقابل الدولار حتى كانون الثاني/يناير 2023، وخُفّضَت قيمته إلى 15,000 ليرة مقابل الدولار في شباط/فبراير 2023.113 لكن نظرًا إلى تضاؤل المعروض من العملات الأجنبية، أعلن مصرف لبنان في صيف العام 2021 أنه سيرفع الدعم على الوقود تدريجيًا، ثم عمَدَ إلى رفع كل الدعم المتبقّي على الوقود في أيلول/سبتمبر 2022. أدّى هذا القرار إلى ارتفاع أسعار الوقود، وزاد الضغط على العملة الوطنية، التي واصلت فقدان قيمتها مع تجذّر الأزمة الاقتصادية. فكانت النتيجة أن بدأ أصحاب محطّات الوقود بتسعير البنزين ومنتجات الوقود الأخرى بـ"سعر السوق الموازي"، الأمر الذي أسفر عن المزيد من التدهور في مستوى معيشة السكان.114
بحلول أواخر العام 2022، كانت الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة في لبنان قد دفعت 60 في المئة من السكان إلى هوّة الفقر،115 ومع تردّي الأوضاع المالية في البلاد، انهار نظام الدعم فيها. واليوم، تحصل أكثر من 145,000 أُسرة لبنانية تعيش في حالة فقر مدقع على مساعدات نقدية شهرية عبر دفعات إلكترونية مباشرة.116 مع ذلك، لا يزال ثمّة فجوة كبيرة في تلبية احتياجات 220,000 أُسرة تعاني فقرًا مدقعًا.117 ولسدّ هذه الفجوة، لا يكفي توسيع نطاق شبكة الأمان الاجتماعي، بل لا بدّ أيضًا من زيادة الإنفاق العام على المساعدات الاجتماعية، على غرار التحويلات النقدية وخدمات الرعاية الاجتماعية.118
وخلافًا للسردية الرسمية في مصر وتونس، كما في لبنان، لا يعود التردّد في إصلاح نظام دعم الطاقة فقط إلى المخاوف بشأن الاضطرابات الاجتماعية، بل أيضًا إلى المصالح الخاصة الكبيرة في هذا المجال، إذ إن بعض فئات المجتمع تستفيد من دعم الطاقة، خصوصًا رجال الأعمال ذوي الارتباطات السياسية في تونس، والمؤسسة العسكرية في مصر. فقد مثّلت هذه الفئات مجموعات ضغط نافذة تُعارِض الإصلاحات الجوهرية، نظرًا إلى تمتّعها بنفوذ كبير في قطاعاتٍ تستفيد مباشرةً من دعم الطاقة.119 ثم إن أنظمة دعم الطاقة القائمة تؤثّر بشدّة على خيارات هذه الفئات الاستثمارية. فحقيقة أن الرفع التدريجي للدعم على الطاقة لقي معارضةً على مدى عقدٍ من الزمن تؤكّد قوة النقض الهائلة التي تتمتّع بها الأطراف الفاعلة ذات الارتباطات السياسية. هذه المصالح الخاصة أدّت دورًا محوريًا في تحديد نتائج السياسات المرتبطة بالدعم، مُسلّطةً الضوء على تحدّيات إجراء إصلاحات جوهرية في قطاع الطاقة.120
والحال أن شركات عدّة، ولا سيما تلك المستهلكة للطاقة بكثافة، تعجز عن التكيّف بسهولة مع الإجراءات الإصلاحية، ما يضعها أمام خيارات محدودة، كأن تقبل هوامش ربح أقلّ، وتستبدل منتجات الطاقة، وتستخدم الموارد بطريقة فعّالة أكثر، وهي كلّها أمورٌ صعبة، وتحقيقها باهظ التكلفة. ومن الخيارات الأخرى التي يمكن أن تتّخذها الشركات زيادة الأسعار، الأمر الذي قد يعزّز المنحى التضخّمي. أما الانتقال إلى عقدٍ اجتماعي أكثر إنصافًا يستبدل أنظمة الدعم التقليدية بآليات دعم الدخل، فينطوي بدوره على تحدّيات كبرى. لا تقاوم مجموعات المصالح ذات الارتباطات السياسية هذه التغييرات فحسب، بل إن ضعف قدرة الدولة على إنشاء بنيةٍ تحتيةٍ فعّالةٍ من شبكات الأمان الاجتماعي وآليات التحويلات النقدية، يعيق التقدّم أيضًا، كما هي الحال عادةً في تونس.
غالبًا ما تدفع التحدّيات التي ينطوي عليها إصلاح أنظمة دعم الطاقة الحكومات إلى تفضيل الحلول القصيرة الأجل، ولا سيما أن القطاعات الاقتصادية الرئيسة تعتمد بشكل كبير على النفط والغاز، في ظلّ التقدّم المحدود في التحوّل في مجال الطاقة. وخير مثالٍ على ذلك قطاع النقل، الذي يُعَدّ في مصر المُستهلك الأكبر للمنتجات النفطية، إذ استحوذ على 57 في المئة من إجمالي الاستهلاك، يتبعه قطاع البناء بنسبة 14 في المئة، والصناعة بنسبة 13 في المئة، وقطاع الطاقة بنسبة 11 في المئة.121 كذلك الأمر في تونس، حيث شكّل قطاع النقل 51 في المئة من استهلاك الطاقة في العام 2021، يليه القطاع الصناعي بنسبة 23 في المئة، والأُسَر بنسبة 21 في المئة.122
وبما أن قطاعات النقل في جميع هذه البلدان تسجّل أعلى نسبة استهلاكٍ للطاقة، يُعدّ إصلاح أنظمة الدعم فيما أكثر صعوبة. ويعود السبب في ذلك إلى أن لكلفة النقل أثرًا مباشرًا على التضخّم، ونفقات الصناعة، وتكاليف المعيشة الإجمالية. أَضِف إلى ذلك أن إصلاح نظام دعم الطاقة يتطلّب إصلاحًا كاملًا للسياسات العامة المرتبطة بالنقل، التي يمكن أن تكون معقّدة، وتستدعي نهجًا استراتيجيًا وشاملًا في آن. من الضروري معالجة الاستهلاك المرتفع للطاقة في قطاعات النقل من أجل تعزيز الاستخدام المستدام والفعّال للطاقة. وهذا الأمر لا يتطلّب إصلاح نظام الدعم فحسب، بل أيضًا الاستثمار في الربط بين شبكات النقل، والتنقّل الحضري، ومصادر الطاقة البديلة، لتحسين النقل العام وتوسيعه بهدف تقليل الاعتماد على وسائل النقل ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة.
أما الضعف الهيكلي الثاني الذي أبرزته الصدمة في قطاع الطاقة، فيتمثّل في النجاح المحدود الذي حقّقته البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في تنويع مصادر الطاقة لديها إلى حدٍّ كبير. ومن بين هذه البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وحدهما الأردن والمغرب أحرزا تقدّمًا ملموسًا في هذا المجال، وتخطَّيا مصر وتونس ولبنان (انظر الشكل 2). ففي الأردن، حدّد قانون الطاقة المتجدّدة للعام 2012 هدفًا يتمثّل في تأمين 10 في المئة من مزيج الطاقة في البلاد من مصادر الطاقة المتجدّدة بحلول العام 2020، خصوصًا طاقة الرياح والطاقة الشمسية.123 واللافت أن هذا الهدف جرى تحقيقه وتجاوزه، إذ شكّلت الطاقة الشمسية وطاقة الرياح 20 في المئة من مزيج الطاقة في الأردن. هذا الأمر عزّز قدرة البلاد على الصمود أمام التحديات التي عصفت بقطاع الطاقة. ويسعى الأردن إلى زيادة حصّة مصادر الطاقة المتجدّدة بنسبة 30 في المئة بحلول العام 2030، مُبديًا التزامه بتطوير الطاقة المتجدّدة. وعلى النحو نفسه، قطع المغرب أشواطًا كبيرة نحو تنويع إنتاجه من الطاقة، إذ ارتفعت حصّة مصادره المتجدّدة في توليد الطاقة من 10 في المئة في العام 2012، إلى حوالى 20 في المئة في العام 2021، قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا.124
{img_2}
في المقابل، تخلّفت مصر وتونس ولبنان عن الركب في التحوّل إلى مصادر الطاقة البديلة. ففي العقد الماضي، ارتفعت حصّة مصر من مصادر الطاقة المتجدّدة في توليد الكهرباء من 9.36 في المئة في العام 2011، إلى 12 في المئة فقط في العام 2022.125 وتونس بدورها واجهت تحدّيات جمّة، حيث لم تشكّل مصادر الطاقة المتجدّدة سوى 4 في المئة من إنتاج الكهرباء في العام 2021.126 أما لبنان، فانتقل من إنتاج 5 في المئة من كهربائه بواسطة الطاقة المتجدّدة في العام 2011، إلى إنتاج 9.38 في المئة منها في العام 2021.127 كان هذا التطوّر الإيجابي ذا أهمية، لأن الأزمتَين الاقتصادية والمالية أرغمتا الكثير من الناس على الاستثمار في الطاقة الشمسية نظرًا إلى التكلفة الباهظة للوقود الأحفوري. مع ذلك، كان الانتقال إلى الطاقة الشمسية عشوائيًا إلى حدٍّ كبير، في ظلّ إشرافٍ وتنظيمٍ محدودَين من مؤسسات الدولة، وهما مهمّان لتجنّب المشاكل البيئية في المستقبل.128 لذا، لا بدّ من سدّ الثغرة في مجال الطاقة المتجدّدة في مصر وتونس ولبنان كي تتمكّن هذه البلدان من تحسين أمن الطاقة لديها، وخفض اعتمادها على الوقود الأحفوري، وتخفيف حدّة صدمات أسعار الطاقة.
أزمة ديون كانت متوقّعة
إن أزمة الديون التي تثقل راهنًا كاهل مصر وتونس ولبنان كانت قيد التشكّل منذ سنوات طويلة. إقليميًا، بدأ معدّل الدين، أو نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، بالارتفاع في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في العام 2008 (انظر الشكل 3)، وتسارعت وتيرة هذا المنحى بُعيد الانتفاضات العربية التي انطلقت شرارتها بين العامَين 2010-2011. وكان ارتفاع معدّلات الديون مدفوعًا في الغالب بالسياسات المالية التوسعية التي انتهجتها الأنظمة العربية وانخفاض معدّلات النمو الاقتصادي خلال تلك الفترة. وفي العام 2019، تخطّت نسبة الدين العام في كلٍّ من مصر وتونس ولبنان 65 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بالغةً مستوى يُعدّ خطرًا للغاية على البلدان النامية.129 ونظرًا إلى معدّلات الديون المرتفعة هذه، باتت بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر عرضةً للتأثّر بالصدمات الخارجية التي عصفت بالأسواق العالمية خلال السنوات اللاحقة.
{img_3}
على سبيل المثال، تسبّب تفشّي جائحة كوفيد-19 في العام 2020 بحالةٍ من الركود الاقتصادي الحادّ في مختلف أرجاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما حدا بحكومات المنطقة إلى التدخّل لمساعدة قطاعالأعمال والأُسر. نتيجةً لذلك، ارتفعت نفقات الدول بالتزامن مع انخفاض العائدات الحكومية، ما أدّى إلى اتّساع عجوزات المالية العامة. وقد ازدادت الأوضاع سوءًا بُعيد اندلاع الحرب في أوكرانيا، حين أفضى الاعتماد الكبير على واردات المواد الغذائية والوقود إلى رفع فاتورة الاستيراد في البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل، ما فاقم بدوره عجوزاتها ومديونيّتها. أولًا، عمدت الدول إلى زيادة الدعم على المواد الأساسية للتخفيف من تداعيات الأزمة على الأُسر. بحلول ذلك الوقت، كان الدين العام في كلٍّ من مصر وتونس ولبنان قد تعدّى نسبة 80 في المئة. علاوةً على ذلك، عمدت بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى خفض قيمة عملاتها بدءًا من شباط/فبراير 2022،130 في محاولةٍ منها لتخفيف العجز في الميزان التجاري، وزيادة احتياطياتها من العملات الأجنبية، والحدّ من معدّلات التضخّم التي بلغت مستويات بالغة الخطورة مدفوعةً بأسعار موارد الطاقة والمواد الغذائية. وبما أن معدّلات الفائدة على الدين فاقت معدّلات النمو الاقتصادي، ونظرًا إلى الاتّساع الكبير لعجوزات المالية العامة، تدهورت ديناميات المديونية في هذه الدول.131 فاقم هذا الواقع الأوضاع المالية المضطربة في لبنان، ولا سيّما أنه تخلّف عن سداد ديونه بالعملات الأجنبية في العام 2020، وزاد حالة الضبابية بشأن قدرة تونس ومصر على تحمّل ديونهما.
على غرار أزمة المواد الغذائية، تُعدّ أزمة الديون التي تواجهها بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مشكلةً هيكلية ناجمة بشكل أساسي عن نموذج التنمية الاقتصادية الذي تبنّته دول مثل مصر وتونس ولبنان. فقد ارتكز هذا النموذج في الغالب على نقص الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، والنمو المفرط لقطاع الخدمات، والترويج للاستثمارات القائمة على المضاربة (ولا سيما في قطاع العقارات) المموَّلة بشكل أساسي من الديون، وتوجيه عائدات الريع من المجتمع إلى مجموعة صغيرة من النخب المتنفّذة.
على سبيل المثال، تُعدّ أزمة الديون الحالية في مصر، حيث يمثّل الدين العام أكثر من 88 في المئة من إجمالي الناتج المحلي،132 متجذّرةً في النسخة الجديدة من رأسمالية الدولة المصرية التي تقودها إدارة السيسي، وفي طبيعة الاقتصاد السياسي المصري. تحديدًا، بعد وصول السيسي إلى سدة الحكم في العام 2013، أصبح الاقتصاد السياسي المصري خاضعًا لائتلاف حاكم أُعيد تشكيله وبات يتألّف في الغالب من مجموعة محدودة من مؤسسات الدولة القسرية.133 تمثّلت قوة هذا الائتلاف في أنه أرسى اقتصادًا صبّ في خدمة فئات محظيّة، وذلك من خلال تشكيل اقتصاد مدني-عسكري. ومن أجل ضمان ولاء المؤسسة العسكرية السياسي، ركّزت استراتيجية السيسي على تكليفها بإدارة المشاريع الرامية إلى تنمية المناطق الصحراوية، وما يتضمّنه ذلك من بناء وعقارات وبنية تحتية.134 وانطوى ذلك أيضًا على إعطاء القوات المسلحة دورًا مركزيًا أكثر في الاقتصاد المصري،135 شمل عددًا كبيرًا من القطاعات، من ضمنها محطات الوقود وقطاعات الزراعة والبناء والضيافة والنقل وغيرها. في الوقت نفسه، تمّت مزاحمة شركات القطاع الخاص تدريجيًا في المشهد الاقتصادي المصري.136
أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في أزمة المديونية التي تعصف بمصر هو إنفاق المؤسسة العسكرية غير المقيَّد على مشاريع كبرى غير منتجة في القطاع العقاري تقودها مؤسسات مملوكة للجيش، فضلًا عن إنفاقها على الأسلحة. من أبرز هذه المشاريع إنشاء قناة السويس الجديدة التي قُدِّرت تكلفتها بـ8 مليارات دولار،137 والعاصمة الإدارية الجديدة التي قُدِّرت تكلفتها بـ59 مليار دولار.138 كذلك، خصّصت المؤسسة العسكرية تمويلًا ضخمًا لاستيراد الأسلحة وصل إلى 12.72 مليار دولار بين العامَين 2013 و2022، بحسب قاعدة بيانات نقل الأسلحة التابعة لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري).139 وفي الفترة الممتدة بين 2013 و2017، زادت واردات البلاد من الأسلحة بنسبة كبيرة فاقت 200 في المئة مقارنةً مع مثيلتها خلال الفترة ما بين 2008 و2012.140 وبحلول العام 2020، صُنِّفت مصر في المركز الثالث ضمن قائمة أكبر مستوردي السلاح في العالم.141
المشكلة الرئيسة لهذه المشاريع الواسعة النطاق هي أنها تُموَّل بشكل أساسي من الديون المحلية والخارجية، ذلك أن الاقتصاد المصري لا يحقّق قيمة مضافة عالية تكفي للتعويض عن الاستثمارات الضخمة التي أطلقها. نتيجةً لذلك، وأيضًا بسبب اعتماد الدولة المفرط على الديون القصيرة الأجل لتمويل موازنتها، أصبح الاقتصاد المصري عرضةً للتأثّر على نحو متزايد بالصدمات الخارجية، ومن ضمنها الارتفاع العالمي في أسعار الفائدة. وبما أن مصر أكبر مستورد للقمح حول العالم، تَكبَّد اقتصادها فاتورة استيراد ضخمة وانخفض احتياطها من العملات الأجنبية بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية نتيجة الحرب في أوكرانيا. لذا، بدأ القلق يساور المستثمرين حيال قدرة مصر على إدارة سعر صرف الجنيه، فعمدوا إلى سحب 22 مليار دولار من سوق الديون المحلية المصرية بين كانون الثاني/يناير وأيلول/سبتمبر 2022، ما أدّى إلى انخفاض أكبر في احتياطيات البلاد.142 وهكذا، ازدادت أزمة الديون المصرية حدّةً نتيجة خفض سعر صرف الجنيه المصري والارتفاع الكبير لتكاليف خدمة الدين.
إضافةً إلى ذلك، تُعدّ بنية الاقتصاد المصري، وتحديدًا نقص الاستثمار في القطاعات المنتجة والقابلة للتداول خارجيًا (أي من خلال التصدير والاستيراد) مثل الصناعة والزراعة،143 عاملًا أساسيًا آخر أسهم في أزمة المديونية في مصر والاختلالات المالية المتكرّرة التي أثقلت كاهلها. لم يؤدِّ هذا الوضع فقط إلى ضعف إنتاجية الاقتصاد، بل أيضًا إلى عجز مصر عن تنويع مركزها في السوق العالمية والتقسيم الدولي للعمل من خلال إنتاج المزيد من السلع والخدمات التي تحقّق قيمة مضافة عالية. واقع الحال أن القطاعات الاقتصادية التي تنمو منذ العام 2016 هي القطاعات غير القابلة للتداول خارجيًا وغير المنتجة، التي لم تصحّح الخلل في ميزان المدفوعات المصري، سواء من خلال زيادة الصادرات أو تقليل الاعتماد على الواردات. لهذا السبب لا تزال مصر تواجه المشاكل المالية نفسها مرة تلو مرة.144
وعلى نحو مماثل، يرزح لبنان بدوره تحت وطأة أزمة ديون هيكلية متجذّرة في طبيعة الاقتصاد السياسي اللبناني، ولا سيما في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية التي مزّقت البلاد. فبعد العام 1993، تبنّت الدولة نموذجًا اقتصاديًا قوامه زيادة حجم الدين العام، فأصدرت سندات خزينة بالليرة اللبنانية، إضافةً إلى سندات اليوروبوند المقوّمة بالدولار الأميركي.145 وفي العام 2020،146 بلغت نسبة الدين العام في لبنان أكثر من 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أعلى نسبة بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وثالث أعلى نسبة في العالم بعد اليونان واليابان. ويُقدَّر أن ترتفع نسبة الدين العام لتصل إلى 185 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2024،147 ويُعزى ذلك بشكل كبير إلى الانخفاض الشديد في معدّلات الناتج المحلي الإجمالي، وإلى مجموع الدين الذي تتحمّله البلاد منذ مرحلة ما قبل العام 2019.
كان أحد العوامل الرئيسة للأزمة في لبنان عجز الحكومة اللبنانية عن الوفاء بالتزاماتها وتسديد مستحقات سندات اليوروبوند الصادرة في السابق، إذ تخلّفت عن دفع ديونها للمرة الأولى في تاريخها في الفترة الممتدّة بين آذار/مارس وحزيران/يونيو 2020. ثمة جانب آخر من الدين العام في لبنان، وهو أن المصارف المحلية كانت تحوز جزءًا كبيرًا من سندات الخزينة ومن سندات اليوروبوند التي شكّلت حصة مهمة من أصولها.148 وقد استثمرت هذه المصارف جزءًا صغيرًا من ودائع الناس في سندات صادرة عن الحكومة، فيما تم استثمار ثلثَي الودائع لدى مصرف لبنان – إما على شكل احتياطيات أو على شكل قروض ممنوحة من المصارف المحلية إلى المصرف المركزي، الذي استخدم لاحقًا الأموال لشراء سندات خزينة وسندات يوروبوند. يعني ذلك أن معظم الودائع في المصارف قد استُثمرت في الدين الحكومي وباتت المصارف مكشوفة بشكل كبير على هذا الدين. إذًا، بعد أن أمست الدولة عاجزة عن سداد ديونها، لم يعد باستطاعة مصرف لبنان تسديد التزاماته المالية إلى المصارف اللبنانية لتتمكّن بدورها من إعادة أموال المودعين، ما تَسبَّب بالأزمة الراهنة التي تتخبّط فيها البلاد.149
يُعزى عجز الدولة عن سداد ديونها إلى سببَين أساسيَّين. الأول يرتبط بالفساد المتأصّل في النظام الطائفي اللبناني وسوء إدارة الدولة للميزانية المخصّصة للاستثمار في البنية التحتية.150 والثاني يكمن في بنية الدين العام، ولا سيما أن معدل الفائدة الذي عُرض على المستثمرين مقابل الاستثمار في الدين كان عاليًا على نحو ملفت، متجاوزًا أحيانًا نسبة 35 في المئة.151 وهذا يعني أن تكاليف خدمة الدين كانت أيضًا مرتفعة جدًّا، إذ استَنزفت وحدها نصف إيرادات الخزينة العامة تقريبًا، وأكثر من ثلث مجموع الإنفاق الحكومي السنوي. ولم تستطع أن تغطّي ذلك أيٌّ من مشاريع الحكومة للاستثمار في البنية التحتية، فأصبحت الأزمة أمرًا واقعًا لا مفرّ منه.
يمكن أن يُنسب الارتفاع الكبير في معدلات العائد على الدين العام إلى طبيعة الاقتصاد السياسي اللبناني، ولا سيما انتشار ممارسات رأسمالية المحاسيب وشبكات المصالح القوية القائمة بين الطبقة السياسية والقطاع المصرفي. الواقع أنّ دائني الحكومة الذين استفادوا من معدلات الفائدة الفاحشة كانوا بشكل أساسي النخبة السياسية التي تمكّنت من تحقيق أرباح طائلة، فيما كانت الدولة تفتقر إلى الموارد اللازمة لتلبية حاجات السكان الأساسية.152 هذا النظام هو الذي مهّد الطريق أمام انهيار الاقتصاد اللبناني، إذ كان قائمًا على توجيه الريع من المجتمع إلى جيوب النخب المتنفّذة من خلال الدين العام المتضخّم.
نظرًا إلى متطلّبات التمويل السنوية الضخمة التي احتاجها لبنان، بات أكثر تأثّرًا بالصدمات الخارجية. وقد دفع انخفاض التدفقات المالية الداخلة إلى البلاد بدءًا من العام 2011 مصرف لبنان إلى تبنّي إجراءات هندسة مالية محفوفة بالمخاطر. ثم بدأت المصارف منذ العام 2016 بعرض أسعار فائدة مرتفعة للغاية على المودعين بهدف جذب المزيد من الودائع الجديدة بالدولار الأميركي.153 لكن هذا النظام لم يكن مستدامًا ووضع لبنان في مهبّ الأزمات التي طالت نظامه المصرفي وماليته العامة وعملته الوطنية في العام 2019، ثم أفضى إلى تخلّفه عن سداد ديونه في العام 2020.154منذ ذلك الحين، انزلق لبنان إلى دوامةٍ من التضخم المفرط، والتدهور الشديد في قيمة الليرة، وارتفاع فاتورة الاستيراد، ومعدلات الفقر العالية، وتدنّي المستويات المعيشية للسكان بشكل حادّ، ناهيك عن تقلّص الناتج المحلي الإجمالي بمقدار النصف تقريبًا.155
في تونس، اختلفت الظروف إلى حدٍّ ما عن نظيرتها في مصر ولبنان. فبعد الانتفاضة الشعبية في فترة 2010-2011، استفادت البلاد من التدفقات المالية الكبيرة من مصادر مختلفة، تراوحت بين قروض منخفضة الفوائد، وودائع في البنك المركزي التونسي، وقروض مضمونة من الولايات المتحدة، فضلًا عن مساعدات من الاتحاد الأوروبي في مجال التمويل الكلّي للميزانيّة، وغير ذلك.156 هذا "الريع الديمقراطي" – أي الدعم المالي الذي حصلت عليه تونس من الشركاء الدوليين والذي كان مدفوعًا بعملية التحول الديمقراطي في البلاد - وفّر حبل نجاة لتونس ساعدها على التعامل مع التراجع الحادّ في الاستثمارات الأجنبية المباشرة،157 وانهيار القطاع السياحي عقب الهجمات الإرهابية في العامَين 2015 و2016.158
لكن نظرًا إلى ثقة صنّاع القرار التونسيين بأن شركاءهم الدوليين سيستمرون في دعم عملية التحوّل الديمقراطي في البلاد، بصرف النظر عمّا إذا نفّذت الحكومة الإجراءات الإصلاحية الضرورية للتخفيف من عبء الدين المتزايد أم لا، لم يتم تطبيق الإصلاحات.159 عوضًا عن ذلك، اعتمدت الطبقة السياسية على هذه التدفقات المالية من أجل المماطلة وكسب الوقت. وهذا الفشل في التوفيق بين المصالح الاقتصادية والقطاعية المتضاربة أعاق المساعي الإصلاحية وفاقم أزمة الدين العام.
تكبّدت تونس عواقب التأخّر في تنفيذ الإصلاحات خصوصًا عَقِب تفشي جائحة كوفيد-19. فقد أدّت التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الوباء إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 8.6 في المئة في العام 2020، وكان هذا التراجع الأسوأ منذ نيل البلاد استقلالها في العام 1956.160 وفيما كانت تونس تحاول التعافي، فاقم اندلاع الحرب في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022 اختلالات ماليتها العامة. وسجّل الدين العام في البلاد زيادة حادّة من 42.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2011 إلى 80 في المئة في العام 2022.161 كذلك، ازدادت النسبة المئوية للدين القصير الأجل من إجمالي الدين الخارجي التونسي من 21.7 في المئة في العام 2011 إلى 32.4 في المئة في العام 2021،162 وسُجِّلت أيضًا زيادة كبيرة في حصّة الدين القصير الأجل كنسبة مئوية من إجمالي الاحتياطيات من 51 في المئة في العام 2011 إلى 152.5 في المئة في العام 2021.163 وقد سلّطت هذه التوجهات الضوء على مدى تأثّر تونس بتقلّبات التمويل الخارجي والتراجع الحاد في المصادر الطويلة الأجل للعملات الصعبة، أي الاستثمارات وعائدات السياحة والإيرادات من صادرات الفوسفات التونسية. وعلى غرار مصر ولبنان، أفضى اعتماد تونس المتزايد على موارد الطاقة والواردات الغذائية، فضلًا عن ارتفاع معدّلات الفائدة العالمية، إلى اشتداد حاجة البلاد إلى العملة الصعبة. فما كان من الأوضاع إلّا أن تدهورت بشكل حادّ بعد العام 2019، حين فقدت تونس إمكانية الوصول إلى الأسواق المالية الدولية بعد أن عمدت وكالات التصنيف الأساسية إلى خفض تصنيفها الائتماني بصورة دورية.164
في خضمّ هذا الوضع المتدهور، سعت تونس إلى إبرام اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي، ووقّعت في تشرين الأول/أكتوبر 2022 اتفاقًا تقنيًا معه، بانتظار مصادقة مجلسه التنفيذي. أدّى تردّد سعيّد في تبنّي الإصلاحات إلى استمرار مطالبات الصندوق لتونس باتّخاذ تدابير تظهر استعداد الرئيس للشروع في تطبيق برنامج إصلاحي صعب مدتّه أربع سنوات (2023-2027).165 مع ذلك، حدث العكس في نيسان/أبريل 2023، حين رفض سعيّد شروط الصندوق ووصفها بأنها "إملاءات" خارجية، ما أسفر عن انخفاض إضافي لقيمة السندات التونسية في الأسواق المالية العالمية،166 مُلحقًا ضررًا أكبر بتصنيف البلاد الائتماني ومُهدّدًا قدرتها على سداد ديونها.167
وسُرعان ما بدأت تونس تواجه مشاكل في تأمين الواردات الضرورية نتيجة عجزها عن تغطية حاجات إنفاقها والحصول على دعمٍ مالي دولي كبير. وعلى الإثر، شهدت متاجر البيع بالتجزئة منذ العام 2022 شحًّا كبيرًا في الكثير من المواد الغذائية مثل السكر، والزيت النباتي، والأرزّ، والقهوة، والحليب، وأدّت حالة الاحتقان والتوتر المرتبطة بنقص المواد الأساسية إلى تسريع وتيرة الهجرة وتهديد الاستقرار الاجتماعي في تونس. لذلك، وقّع الاتحاد الأوروبي من خلال البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في آب/أغسطس 2022 اتفاق قرض سيادي مضمون بقيمة 150 مليون يورو مع ديوان الحبوب التونسي من أجل دعم واردات الحبوب.168 هذا الوضع المالي المتدهور وعجز الحكومة عن الحصول على قرضٍ لإنقاذ ماليتها العامة فاقما الصعوبات التي تواجهها المؤسسات العمومية المملوكة للدولة والتي قُدِّر أن يبلغ حجم ديونها حوالى 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022.169 ونتيجةً لذلك، أثّرت أزمة الديون بشكلٍ متعاقب على نظام الدعم وإمدادات المواد الغذائية.
تأثير الأزمات على الصعيدَين المحلي والجيوسياسي
تُسهم أزمات الغذاء والطاقة والديون المتداخلة في إعادة تشكيل المشهدَين السياسي والاقتصادي في كلٍّ من مصر وتونس ولبنان، وستؤدّي إلى تأثيرات بعيدة المدى تلقي بظلالها على ديناميات القوة في مختلف أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. على الصعيد المحلي، تزيد هذه الأزمات من الضغوط على النخب الحاكمة التي بات عليها حلّ معضلات ملحّة على مستوى السياسات. إن الفشل في التصدّي لهذه التحديات المتنامية سيفاقم حتمًا الأوضاع الصعبة التي تشهدها هذه الدول أساسًا. أما من المنظور الجيوسياسي، فقد أطلقت هذه الأزمات في مختلف أنحاء المنطقة عملية إعادة ترتيبٍ للأوضاع الاقتصادية، بما يعزّز مكانة البلدان المصدّرة للنفط والغاز على حساب إضعاف الدول الفقيرة بموارد الطاقة.
مصالح متضاربة ومعضلات السياسات في مصر وتونس ولبنان
طرحت أزمات الغذاء والطاقة والديون تحديات معقّدة لقادة مصر وتونس ولبنان. فهذه البلدان الثلاثة تفتقر إلى الدعم المالي الخارجي الذي تشتدّ حاجتها إليه، ولا سيما بعد أن خسرت مصر الريع الجيوسياسي الذي كانت تؤمّنه دول الخليج في أعقاب انقلاب العام 2013، وفقدت تونس "الريع الديمقراطي" من المؤسسات والشركاء في الغرب.170 أما لبنان، فلم يطبّق حزمة الإصلاحات اللازمة للحصول على المساعدات المالية من صندوق النقد الدولي. نتيجةً لذلك، تجاهد هذه الدول للخروج من دوّامة أزماتها ولمعالجة اختلالاتها الهيكلية. وتكمن المعضلة التي تتخبّط فيها أنظمتها في أن الإصلاحات المطلوب تنفيذها للحصول على المساعدات المالية اللازمة لمعالجة الأزمة، ستُحدث تضاربًا في المصالح بين القوى المختلفة في مجتمعاتها، الأمر الذي سيُزعزع استقرار الائتلافات الحاكمة، وقد يُعيد تشكيلها على الأرجح.
في الواقع، ترزح النخب الحاكمة في مصر وتونس ولبنان تحت وطأة الكثير من المشاكل ولا تبدو مستعدة للتفكير في تغيير نماذجها الاقتصادية الراهنة، بل تميل عمومًا إلى الحفاظ على الوضع القائم، وذلك من خلال اللجوء إلى العنف بوتيرة متزايدة أحيانًا، على الرغم من أوجه القصور التي تنطوي عليها هذه المقاربة. فهي تعتبر أن الإبقاء على الوضع القائم أفضل من حالة الضبابية واللايقين التي سترافق العملية الإصلاحية. وهكذا، نجحت النخب السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية – وهي مجموعات المصالح الرئيسة في كلٍّ من مصر وتونس ولبنان – في فرض حالة من الجمود، وخاضت حروب استنزاف فعلية لتفادي التخلّي عن مكتسباتها الأساسية على وقع التدهور المستمر للأوضاع الاقتصادية.171
على سبيل المثال، تواجه السلطات المصرية اليوم أولوية تأمين تدفقات مالية بالعملات الأجنبية من شأنها المساعدة على سداد مبلغ 28 مليار دولار من الديون والفوائد المستحقة على مصر وتمويل العجز في الحساب الجاري بحلول العام 2023، فضلًا عن مبلغ 20 مليار دولار إضافي في العام 2024.172 نتيجةً لذلك، باتت البلاد عالقة في سلسلةٍ من الأولويات المتضاربة تجسّد المعضلات الصعبة التي تواجهها. فمنذ اعتلاء السيسي سدة الحكم في العام 2013، أعطى النظام المصري الأولوية إلى تكليف الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية بمشاريع البنية التحتية، وعَمَد إلى توسيع نطاق هيمنتها في قطاعات اقتصادية مختلفة، على حساب شركات القطاع الخاص، حتى تلك التي كانت مرتبطة سابقًا بالرئيس الراحل حسني مبارك. ونظرًا إلى القيود المالية التي تواجهها البلاد راهنًا، عليها أن تمارس فعل توازن دقيقًا في تعاملها مع مختلف هيئات القوات المسلحة من جهة، ومحاولتها في الوقت نفسه تلبية شروط صندوق النقد الدولي من جهة أخرى.173 يكمن التحدي إذًا في تنفيذ الإصلاحات إنما مع تجنّب الإجراءات التي قد تصطدم بمقاومة داخلية، وتُزعزع استقرار المؤسسة العسكرية، وتقوّض علاقة التبعية القائمة بين السيسي والجنرالات المصريين. وفيما تسعى الحكومة إلى تقليص احتمال حدوث ردود فعل سلبية في أوساط النخب الحاكمة وفئات مختلفة في المجتمع، ستزداد رغبتها في تمييع إصلاحات صندوق النقد الدولي.
بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، ونظرًا إلى تكاليف خدمة الدين المتزايدة، لم يكن أمام الحكومة من خيار سوى بيع أصول عامة. وأعلنت السلطات المصرية عن خطة لإعادة تقييم انخراط الدولة في الاقتصاد الوطني، بهدف تعزيز دور القطاع الخاص. وفي حزيران/يونيو، أصدرت الحكومة وثيقة سياسة ملكية الدولة التي أعربت فيها عن عزمها على "تخارج" الدولة كليًّا من قطاعات اقتصادية محدّدة، وتقليص دورها في عددٍ من المجالات، وزيادة انخراطها في المقابل في قطاعات أخرى.174 كان هذا التوقيت مقصودًا، بهدف التأثير على مسار المحادثات التي كانت تجريها الحكومة مع صندوق النقد الدولي بشأن الحصول على قرض جديد. وكان الصندوق قد أصرّ على إجراء إصلاحات هيكلية من شأنها أن تساعد على "تسوية الملعب" الاقتصادي بين القطاعَين الخاص والعام.
وفي أواخر العام 2022، وافق صندوق النقد الدولي على منح مصر قرضًا قيمته 3 مليارات دولار بموجب ترتيب لمدة 46 شهرًا في إطار برنامج تسهيل ائتماني ممتدّ. وأعلنت الحكومة في أوائل شباط/فبراير 2023 عن نيّتها بيع حصص في 32 شركة مملوكة للدولة بحلول شهر آذار/مارس 2024.175 من بين هذه الشركات، تم اقتراح شركتَين تديرهما المؤسسة العسكرية لطرحهما للبيع الجزئي خلال جولة خصخصة أولية.176 وقد تأثّر قرار إصلاح إطار ملكية الدولة وعرض حصص في الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية على مستثمرين من القطاع الخاص، بالتقييم الذي أجراه صندوق النقد الدولي لشركات القطاع العام ككل، والذي صدرت نتائجه في تموز/يوليو 2021.177 وتَمثّل هدف صندوق النقد في تقليص دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد وجذب الاستثمارات الأجنبية. وأوصى كذلك على وجوب أن تَعمَد الحكومة المصرية إلى تركيز أملاك الدولة في كيان واحد ونقل الشركات العسكرية إلى ما يُعرَف في مصر بـ"قطاع الأعمال العام"،178 ما من شأنه إخضاع هذه الشركات إلى التنظيمات الحكومية المعيارية المتعلقة بالمشتريات العامة، والإبلاغ المالي، والكشف عن الإيرادات. كان واضحًا أن هذه السياسة، في حال تنفيذها، ستؤثّر على بيئة عمليات الشركات العسكرية وعلى ترتيبات السلطة في مصر. ونتيجةً لذلك، واجه الاتفاق مع صندوق النقد الدولي مقاومة.179
إذًا، لم تحقّق الحكومة نيّتها المتمثّلة في عرض أسهم في الشركات العسكرية على مستثمرين من القطاع الخاص. واستمرّت السلطات في تأجيل عملية الخصخصة، ونسبت السبب في ذلك إلى المشاكل التقنية وتحديات السياسات المتعلقة بالشفافية المالية، والربحية، والقيود القانونية.180 وعلى الرغم من الاهتمام الذي أظهره المستثمرون الدوليون من القطاع الخاص لشراء أسهم في الشركات العسكرية، يعبّر تردّد الحكومة في هذا الشأن عن المعضلات التي تواجهها. في الواقع، عند شراء مستثمري القطاع الخاص حصصًا في الشركات العسكرية، من المفترض أن يضمن الموقع السياسي النافذ الذي تتمتع به المؤسسة العسكرية تدفقًا مستمرًا للعقود العامة الكبيرة، ووصولًا حصريًا إلى موارد الإنتاج مثل الأراضي، والعملات الأجنبية بأسعار صرف مؤاتية. وبالتالي، قد تؤمّن استثمارات القطاع الخاص أرباحًا مضمونة، حتى في حالة الشركات المتعثّرة. علاوةً على ذلك، يُحتمَل أن تسهم رسملة الشركات العسكرية من خلال استقطاب مستثمري القطاع الخاص في توليد تدفقات مالية جديدة إلى خزينة الدولة.181 لكن يبدو أن الحكومة لا تتحلّى بالإرادة السياسية اللازمة للحدّ من تدخّل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، ولا تبدو قادرة حتى على إبطاء وتيرة عمليات الشراء والتوسّع التي تنفّذها الشركات العسكرية، والتي تسلك منحى تصاعديًا منذ وصول السيسي إلى سُدة الحكم. وفي أوائل العام 2023، خصّص الرئيس مساحات جديدة من أراضي الدولة للقوات المسلحة، ما قوّض مصداقية الحكومة بشأن تطبيق الإصلاحات.182
يجب فهم تردّد السيسي في ضوء النفوذ الواسع التي تتمتّع به المؤسسة العسكرية وقدرتها على نقض القرارات. فهي عطّلت في أكثر من مناسبة استثماراتٍ كبرى، حتـى من جانب الإمارات العربية المتحدة (التي تُعَدّ من الحلفاء السياسيين الأقرب إلى الرئيس)، وقاومت الجهود التي بذلها السيسي لفتح الشركات العسكرية أمام مستثمري القطاع الخاص.183 ويشير هذا الوضع إلى أن السيسي والمؤسسة العسكرية على السواء غير مستعدَّين لإعادة تقييم دور الجيش في الاقتصاد. في غضون ذلك، أرسى موقف صندوق النقد الدولي والشركاء الدوليين حالةً غريبة وغير معتادة. فبدلًا من أن تضغط هذه الأطراف على مصر لتطبيق الإصلاحات، أبدت استعدادًا متكرّرًا لضخّ الأموال في البلاد، ما سمح للنظام بالمماطلة وكسب الوقت، على أمل أن يفقد الصندوق اهتمامه ويراهن على حدوث تحسُّن مُفترض في الاقتصاد. مع ذلك، بدا أن تأجيل صندوق النقد الدولي موعد المراجعة الأولى للبرنامج قد مارس ضغوطًا كبيرة على النظام،184 إذ إن نجاح هذه المراجعات أساسيٌّ لصرف دفعات القرض المالي. يُشار إلى أن الصندوق قرّر تأجيل موعد مراجعته الأولى حتى لا يكشف عن سوء تنفيذ الحكومة للبرنامج الإصلاحي، الأمر الذي كان سيُلحق الضرر بسمعة الصندوق كمُقرض دولي.185 وفي ظل غياب الضوابط على المؤسسة العسكرية، قد تكون البلاد على موعد مع تحديات اقتصادية عاتية من شأنها أن تشعل فتيل أزمة اجتماعية كارثية.
تشهد تونس أيضًا معضلات سياسية حادّة بسبب المشاكل المالية التي تتخبّط فيها البلاد. فقبول سعيّد بشروط صندوق النقد الدولي قد يضعف الدعم الذي يحظى به في أوساط قاعدته الشعبية. لكن رفض إبرام اتفاق مع صندوق النقد قد يؤجّج جذوة أزمة هيكلية نظرًا إلى المشاكل المالية التي تعاني منها البنوك المملوكة للدولة. وقد أصبح الحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي تحديًا معقّدًا لتونس نظرًا إلى محاولة سعيّد تحقيق توازن بين التفاوض مع الصندوق من جهة، ورفض تطبيق شروط خطة الإصلاح المالي من جهة أخرى.186
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2022، توصّلت السلطات التونسية وصندوق النقد الدولي إلى اتفاق يتمّ من خلاله منح قرض للبلاد بقيمة 1.9 مليار دولار على مدى 4 سنوات، مقابل تنفيذ حزمة إصلاحات واتّخاذ إجراءات أساسية، مثل تقليل فاتورة رواتب موظفي القطاع العام، وخفض الدعم الحكومي، وإصلاح المؤسسات العمومية المملوكة للدولة، وتعزيز التنافسية.187 وعلى الرغم من التفاهم الأولي، رفض سعيّد تبنّي الإجراءات التي دعا إليها صندوق النقد. فقد كان يُفترَض بالسلطات زيادة أسعار الوقود تدريجيًا وسنّ قانون بشأن المؤسسات العمومية، إلا أن الرئيس رفض تطبيق هذَين التدبيرَين،188 لاعتباره بأن صندوق النقد الدولي يمسّ بسيادة تونس.189 هذا النهج الشعبوي الذي يتّبعه سعيّد أدخله في مواجهة مفتوحة مع كلٍّ من الاتحاد العام التونسي للشغل، ونخب رجال الأعمال، والبنك المركزي التونسي.190 وفاقمت تصرّفات سعيّد التي لا يمكن التنبّؤ بها تعثّر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ما عمّق من عزلة تونس.191
وفي ظل غياب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والامتناع عن إجراء الإصلاحات، بدأت الحكومة التونسية بتقليص الواردات وإعادة تنظيم الإمدادات في الأسواق.192 فقد أصبح نقص المواد الغذائية الأساسية، والنفط والغاز، وانقطاع التيار الكهربائي أمرًا واقعًا في تونس، ما مارس ضغوطًا ليس فقط على شريحة الطبقة الوسطى التي تعتمد على الدولة، إنما أيضًا على الفئات الاجتماعية الأكثر احتياجًا في المدن والمناطق الريفية.193 ونتيجةً لعجز تونس عن تغطية حاجات إنفاقها وتأمين دعمٍ مالي دولي كبير، بدأت تواجه مشاكل في شراء الواردات الضرورية.194 في الواقع، يهدّد النقص المتكرّر للسلع والتدهور الاقتصادي التونسي بإشعال أزمة اجتماعية، فيما يفاقم عدم حصول البلاد على حزمة إنقاذ مالي من صندوق النقد الدولي مخاطر تخلّف البلاد عن سداد ديونها، ما من شأنه أن يزعزع استقرارها الداخلي.195
ويؤدّي غياب المساعدات لتونس من دول الخليج والدول الأوروبية، إلى جانب تردّي العلاقات مع مؤسسات متعدّدة الأطراف، وصعوبة نفاذ البلاد إلى الأسواق المالية العالمية، إلى مفاقمة أزمة الديون التونسية على نحو خطير. وقد يتسبّب ارتفاع أسعار موارد الطاقة بحدوث اضطرابات سياسية أو صدمات أخرى من شأنها أن تدفع تونس إلى أوضاع لا تُحمد عقباها. فعزلتها عن الجهات المانحة والمستثمرين والشركاء الدوليين، إضافةً إلى تباطؤ نموّها الاقتصادي، وتزايد البطالة في صفوف سكانها، ومعدّلات التضخم العالية فيها، كلّها عوامل تسهم في مفاقمة المخاطر السياسية والاجتماعية الاقتصادية المُحدقة بالبلاد. في الوقت الراهن، يحاول سعيّد المماطلة وكسب الوقت من خلال صبّ جهوده على خوض معركةٍ ضدّ خصومه في الداخل، بالتزامن مع استخدام ملفّ الهجرة إلى أوروبا كورقة ضغط مع جيرانه الأوروبيين.196 يُضاف إلى ذلك أن إعلان سعيّد في تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن رفضه المساعدة المالية التي قرّر الاتحاد الأوروبي منحها لتونس، سلّط الضوء على تدهور علاقتها مع الاتحاد الأوروبي واعتمادها المتزايد على ملفّ الهجرة غير الشرعية كوسيلة ابتزاز من أجل الحصول على مساعدات مالية.197
أما لبنان فيواجه انهيارًا اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا غير مسبوق.198 ولكي يتمكّن من التصدّي لأزمته، لا بدّ من الإقرار بالمسؤولية التي تتحمّلها نخب رجال الأعمال والسياسيين عن الأوضاع المزرية التي آلت إليها البلاد، وبلورة إطار واضح على المدى القصير لتوزيع الخسائر، بحيث يتحمّل القطاع المصرفي حصة كبيرة من العبء. لكن هذا الأمر صعبٌ للغاية بسبب الاعتبارات السياسية اللبنانية، إذ لم تُقابَل هذه الخسائر الفادحة التي يعاني منها لبنان والتي تتجاوز ناتجه المحلي الإجمالي بأضعاف عدة، بإطلاق أي عملية لإصلاح النظام المالي، الأمر الذي بدّد أي أمل بتحقيق التعافي الاقتصادي، ودفع نحو 60 في المئة من سكان البلاد على الأقل نحو أشداق الفقر.199
تُعزى مقاومة الإصلاح في لبنان إلى عوامل عدة. أولًا، يجسّد الصراع الدائم على القوة بين النخب الطائفية في البلاد الزبائنية المتجذّرة في جوهر النظام السياسي اللبناني. ولا يُعزى التأخير في تطبيق الإصلاحات ببساطة إلى التفكير في آلية توزيع الخسائر، بل ما يجري هو معركة من أجل التفوّق داخل نظام فئوي للغاية، يُنظر فيه إلى تقديم أي تنازلات بشأن تقاسم أعباء الإصلاحات على أنه رضوخ سياسي. إذًا، في خضمّ هذه المعادلة الصفرية، قد تصبّ التنازلات التي يقدّمها طرفٌ ما لتسهيل مسار العملية الإصلاحية في صالح خصومه السياسيين، لذا يعزف السياسيون جميعهم عن اتّخاذ خطوة من شأنها أن ترجّح كفة ميزان القوى بعيدًا عن مصالحهم.
ثانيًا، وبدلًا من عرقلة الإصلاحات، أدّى فشل لبنان في تطبيق الاتفاق على مستوى الخبراء الذي وقّعه مع صندوق النقد الدولي في نيسان/أبريل 2022، على نحو غير مقصود، إلى تسريع وتيرة انهيار شبكات الأمان الاجتماعي والتراجع الحادّ في المخصّصات الاجتماعية. وفي الوقت نفسه، فرضت الأوضاع الاقتصادية على الدولة اتّخاذ بعض الإجراءات الإصلاحية بحكم الأمر الواقع، مثل اضطرار لبنان إلى إلغاء نظام الدعم في فترة 2021-2022 بسبب انخفاض احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية، التي وَجَب الحفاظ عليها لتمويل الواردات. لكن تم اتّخاذ هذه الخطوة من دون نقاش وطني يفضي إلى توافق ما حول كيفية تقاسم الأعباء بين مختلف الفئات الاجتماعية. لذا، لم يكن مفاجئًا أن سياسات الدولة ألقت عبئًا غير متكافئ على كاهل الفئات السكانية الأكثر احتياجًا، الأمر الذي فاقم الهشاشة الاجتماعية.200 وكانت القوى الاجتماعية المتنفّذة التي تمتلك الوسائل اللازمة لحماية مصالحها هي المستفيدة الكبرى من هذا الوضع، مثل القطاع المصرفي اللبناني الأشبه بمجموعة ضغط (أو لوبي) ذات نفوذ. فقد عارض هذا القطاع الإصلاحات بشدّة، خشية أن يتم تحميل المصارف حصة الأسد من الخسائر المالية التي تكبّدتها البلاد.201
سوف تتطلّب الإصلاحات السياسية في كلٍّ من مصر وتونس ولبنان الحدّ من النفوذ الذي تتمتّع به الجهات القادرة على نقض القرارات، وإعادة تشكيل الائتلافات الحاكمة. ويستتبع ذلك على التوالي إعادة النظر في انخراط المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري، وإعادة هيكلة الاقتصاد التونسي، والحدّ من نفوذ القطاع المالي والنخب الطائفية الانتهازية في لبنان. تُعدّ هذه الإصلاحات حسّاسة سياسيًا وقد تؤدّي إلى زيادة أعداد السكان الذين يرزحون تحت وطأة الفقر. في ظل هذه الظروف، أصبح التوفيق بين ضرورة إجراء الإصلاحات الاقتصادية والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي مهمة صعبة ودقيقة. لذا، غالبًا ما حرصت النخب الحاكمة ببساطة على الإبقاء على الوضع القائم، حتى لو أن هذه الحالة لا يمكن أن تستمرّ إلى ما لا نهاية. إن فعل التوازن الشاق هذا – أي الاكتفاء بالمظاهر الشكلية من التغيير، بحيث أن ما يتغيّر فعليًا لا يتعدّى القشور – لا يفضي فحسب إلى تداعيات تلقي بظلالها على الأوضاع الداخلية في مصر وتونس ولبنان، بل يؤثّر أيضًا على المكانة الإقليمية لهذه الدول الثلاث.
إعادة تشكيل الأوضاع الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
كشفت سياسة المساعدات المالية عن المعضلات السياسية والاقتصادية التي تواجهها البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل، والصعوبة التي تواجهها في إرساء استقرارها الداخلي، وسلّطت الضوء في الوقت نفسه على الاختلالات الإقليمية المتنامية. لقد فاقمت المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها مصر وتونس ولبنان خصوصًا حاجاتها المالية، وزادت بالتالي اعتمادها الجيوسياسي على الجهات الإقليمية المموِّلة. كذلك، سعت هذه الدول الثلاث إلى الحصول على المساعدة من صندوق النقد الدولي ومن دول أخرى، لكن نتائج المفاوضات كانت متباينة كثيرًا.
حاولت مصر في بادئ الأمر الحصول على دعم مالي من شركائها في مجلس التعاون الخليجي، لكن الأمر يزداد صعوبةً اليوم لأن الشروط المفروضة صارمة. وفي تونس، أدّى تعثُّر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ورفض سعيّد تطبيق أي إصلاحات إلى إبعاد البلاد فعليًا عن شركائها الماليين التاريخيين، وبخاصة مجموعة الدول السبع وصندوق النقد.202 وكذلك الأمر في لبنان، امتنعت الكثير من الدول الغربية والخليجية عن دعم البلاد ماليًا، إذ لم تلمس أي زخم لتنفيذ إصلاحات الصندوق في خضمّ المأزق السياسي القائم.203
تَعيَّن على مصر وتونس، في إطار مساعيهما للحصول على مساعدات مالية، إعادة توجيه سياستهما الخارجية. فكان عليهما إما الالتزام بالمصالح السياسية للجهات الإقليمية المموِّلة، أو دفع ثمن الإحجام عن ذلك. في حالة مصر، شكّلت الاعتبارات السياسية والأمنية الهاجس الأساسي للجهات المموّلة بعد انقلاب العام 2013. فما كان من مصر إلّا أن وقفت إلى جانب دول خليجية بارزة مثل السعودية والإمارات، في النزاع مع قطر.204 حتى أنها أعلنت عن نيّتها التنازل عن جزيرتَين مصريتَين في البحر الأحمر، وهما تيران وصنافير، إلى السعودية، الأمر الذي أثار احتجاجات في مصر، على الرغم من أن السيطرة الإدارية على الجزيرتَين لم تتغيّر فعليًا بعد.
لكن خلال العام الفائت، تبدّل موقف دول مجلس التعاون الخليجي، إذ أصبحت تتطلّع إلى تحقيق عائدات أكبر على استثماراتها وزيادة حصصها في أصول مملوكة للدولة المصرية، يتمتّع بعضها بأهمية استراتيجية، على غرار المرافئ والمرافق العامة.205 وأدّى هذا التحوّل في الموقف إلى تزايد المخاوف بشأن استقرار الاقتصاد المصري، نظرًا إلى اعتماد البلاد على حزم إنقاذ مالي أكبر وبصورة أكثر تواترًا. نتيجةً لذلك، باتت حكومات الخليج مهتمّة للغاية بسياسات الاقتصاد الكلّي في مصر.206 وهي تمارس، تماشيًا مع شروط صندوق النقد، ضغوطًا على مصر لخفض دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، وإبداء شفافية أكبر حيال الأوضاع المالية للشركات المملوكة للدولة.207 أثارت هذه المطالب تشنّجات مع القاهرة، ولا سيما حول القيمة المُقدَّرة لبعض الأصول، ما كشف النقاب عن توتّرات جيوسياسية لم تكن بادية للعيان سابقًا.208 وتجلّى ذلك أيضًا من خلال التأخّر في تسليم جزيرتَي تيران وصنافير إلى السعودية.
تواجه تونس وضعّا مشابهًا، إذ تقف أمام منعطف دقيق منذ استيلاء سعيّد على السلطة في تموز/يوليو 2021، بعد عقدٍ حصلت خلاله على الدعم المالي وقروض منخفضة الفوائد. فقد أدّت الإجراءات التي اتّخذها سعيّد إلى عزل تونس عن محيطها من دون امتلاك أي خطة احتياطية، وعلى الرغم من التوقّعات الأولية بأن تعمد السعودية والكويت والإمارات إلى تقديم المساعدة لتونس، وقعت هذه المسؤولية في نهاية المطاف على عاتق الدول الأوروبية.209 وأشار عدم تأمين الحكومة التونسية التمويل إلى أنها تفتقر بشدة إلى الموارد المالية اللازمة لتوطيد أركان النظام ونزع فتيل التوترات الاجتماعية. هذا الوضع أرغم تونس على الاعتماد بصورة حصرية على الدعم المالي من الجزائر، وذلك على شكل قروض وودائع وإمدادات غاز بأسعار تفضيلية وصلت قيمتها إلى 800 مليون دولار أميركي منذ تسلّم سعيّد سدة الرئاسة.210
لكن هذه التبعية المالية كانت مقابل ثمن، وهو اصطفاف تونس بشكل أكبر إلى جانب الجزائر في صراعها مع المغرب.211 تاريخيًا، حافظت تونس على موقف حيادي بين الدولتَين، لكن ذلك تغيّر بعد أن أصبحت تعتمد ماليًا على الجزائر.212 وأظهر استقبال سعيّد رسميًا قادة من جبهة البوليساريو في تونس العاصمة في أيلول/سبتمبر 2022، أن تونس تنحاز إلى جانب الموقف الجزائري في صراع الصحراء الغربية. وقد تسبّبت هذه الخطوة بأزمة دبلوماسية بين تونس والرباط، إذ أقدمت الدولتان على استدعاء سفيرَيهما في آب/أغسطس 2022.213
أما لبنان فيشهد انقسامات داخلية ناجمة عن نظامه الطائفي المتجذّر، ما يشكّل عائقًا إضافيًا في علاقاته مع دول المنطقة. نتيجةً لهذه الانقسامات، بات لبنان صورة مصغّرة عن التنافسات التي يشهدها الشرق الأوسط، ما حال فعليًا دون حصوله على مساعدات كبيرة. وعلى الرغم من النفوذ الإقليمي المتواضع نسبيًا للبنان، لا شكّ من أن أوضاعه المالية المأزومة تتأثّر أيضًا، إلى حدٍّ كبير، بغياب الموقف الإقليمي الموحّد تجاه البلاد. وينبع ذلك جزئيًا من غياب التوافق المحلّي بين الأطراف الفاعلة اللبنانية حول دور البلاد وارتباطاتها الإقليمية.
تُظهر هذه المعطيات أن الحاجات المالية قد تفرض في نهاية المطاف نتائج جيوسياسية سلبية وتقوّض الحكم الذاتي السياسي. فقد ألحق اعتماد مصر على دول مجلس التعاون الخليجي واصطفافها إلى جانبها الضررَ بالمكانة الإقليمية البارزة التي كانت تتمتّع بها. وهذا الوضع مستمرٌّ اليوم فيما تسعى دول الخليج إلى فرض المزيد من الشروط الاقتصادية على مصر، ما يُثبت مدى تراجع موقعها الإقليمي الذي كان مهيمنًا في السابق. وعلى نحو مماثل، أدّت أوجه الضعف المالية في تونس، وعلاقاتها المتوترة مع المؤسسات المالية الدولية، إضافةً إلى غياب الدعم المالي من دول الخليج، وشكوك الدول الأوروبية بشأن التزام سعيّد بالإصلاح، إلى مفاقمة المشاكل المرتبطة بديونها. وسلّطت هذه التحديات الضوء على عملية التهميش الإقليمي لمصر وتونس اللتَين اضطلعتا في السابق بدورٍ رائد في التاريخ العربي خلال مرحلة ما بعد الاستعمار، ما أدّى إلى تراجع أهميتهما بشكل متزايد في السياق الجيوسياسي الإقليمي والعالمي المتغيّر.
لطالما كان لبنان ساحةً للتنافسات الإقليمية، وهو يحتلّ موقعًا جغرافيًا حسّاسًا على الحدود مع إسرائيل، إلّا أنه لا يزال ضعيفًا وغير قادر على رسم أجندته السياسية الإقليمية. وفي أعقاب الحرب الأهلية التي مزّقت البلاد بين العامَين 1975 و1990، كان بإمكان لبنان أن يصبح مركزًا ماليًا إقليميًا مهمًا، لكنه ما لبث أن تحوّل مجدّدًا إلى حلبة صراعٍ على النفوذ بين القوى الإقليمية المتنافسة. وللأسف، أدّت الانقسامات المتجدّدة بين القوى الإقليمية التي تجلّت بأوضح صورها في الانقسامات الداخلية بين الأطراف الفاعلة اللبنانية، إلى تفكّك لبنان في مرحلة ما بعد العام 2005، حين انسحبت القوات السورية من البلاد بعد انتشارٍ دام تسعةً وعشرين عامًا، الأمر الذي أغرق لبنان أكثر فأكثر في مستنقع النزاعات والتنافسات الإقليمية.
خاتمة
تقف حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مشارف آفاقٍ قاتمة في ما يتعلق بتحقيق الاستقرار والنمو على المدى الطويل. إن المخاطر المُحدقة بالبلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل جمّة، ولا سيما بعد أن شهدت عقدًا ضائعًا نتيجة الركود الاقتصادي والاعتماد الشديد على الواردات لتأمين موارد الطاقة والمواد الغذائية. وينطبق ذلك خصوصًا على مصر وتونس ولبنان التي ترزح كلّها تحت وطأة أزمة ديون حادّة. وفيما لا يزال بإمكان مصر وتونس تفادي سيناريو التخلّف عن السداد وما يرافقه من أوضاع مُزعزعة للاستقرار السياسي، يبقى أنهما لا تمتلكان أي رؤية ذات صدقية كفيلة بتحقيق النمو والتحوّل الاقتصادي على المدى الطويل لمعالجة مكامن الضعف الهيكلية التي تعتري اقتصادَيهما.
ستواجه هذه البلدان في السنوات المقبلة تحديًا أساسيًا يتمثّل في محاولة تحقيق التنمية الشاملة للجميع. لن يكون سهلًا التعامل مع هذا التحدي، إذ تتطلّب هذه العملية حكمًا إعادة هيكلة النُظم القائمة والحدّ من نفوذ مجموعات المصالح القوية – أي المؤسسة العسكرية في مصر، والنخب الاقتصادية الريعية في تونس، والنخب السياسية والمالية في لبنان. حتى الآن، حاولت هذه النخب تجنّب تأثيرات الضغوط الاجتماعية الاقتصادية من خلال اللجوء إلى استراتيجيات شعبوية وسلطوية في حالتَي مصر وتونس، أو عن طريق فرض جمود سياسي وخيم في حالة لبنان. لم تنجح هذه الاستراتيجيات في معالجة الأسباب الهيكلية الكامنة خلف أزمات الغذاء والطاقة والديون في كلٍّ من الدول الثلاث. ولم تتمكّن حكومات هذه الدول برؤيتها المقتصرة على المدى القصير، ولا صندوق النقد الدولي بمقاربته البرامجية غير السياسية التي لا تعطي الأولوية إلى الأسباب الرئيسة التي تعيق التنمية الاقتصادية، من تطبيق أي تغيير هيكلي.
من أجل معالجة أزمة الغذاء، لا بدّ من إعادة النظر في النُظم الغذائية السائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والسعي نحو بلورة نُظم أكثر إنصافًا واستدامة. وتنطوي هذه العملية على الربط بين الأمن الغذائي والعدالة الاجتماعية والإنصاف الاجتماعي والاقتصادي، ما يقتضي في المقام الأول إعادة النظر في النمط السائد القائم على إنتاج الغذاء على نطاق واسع، وذلك من خلال الإعلاء من قيمة زراعة الكفاف والإنتاج الزراعي على نطاق صغير من أجل الاستهلاك المحلي. ويمكن أن يترافق ذلك مع دعم المزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة، وتمكينهم وتعزيز قدرتهم على التحكم بالموارد، ومعالجة المشاكل الأساسية التي يعانون منها مثل اللامساواة، وصعوبة الوصول إلى الأراضي، والتهميش، والتفاوت في ملكية الأراضي. هذه العملية ضرورية لتنويع مصادر الإمدادات الغذائية، وتقليص احتمالات التأثّر بالصدمات الخارجية مثل تقلّب الأسعار وتعطّل سلاسل الإمداد، وكذلك لإرساء قدرٍ أكبر من الأمن الغذائي في المجتمعات المحلية الريفية وتحسين ظروفها المعيشية، والإسهام في تحقيق الاستدامة البيئية. من المعروف أن صغار المزارعين يطبّقون ممارسات زراعية أكثر استدامةً من تلك التي يطبّقها كبار المزارعين. لذا، يُعدّ اتّباع هذه التقنيات المستدامة أمرًا بالغ الأهمية من أجل تعزيز التنوع البيولوجي والحدّ من الأضرار المؤذية التي تتكبّدها البيئة من جرّاء الزراعة الواسعة النطاق والأحادية المحصول.
ومن أجل تخفيف تأثير الصدمات الناجمة عن ارتفاع الأسعار على البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ينبغي على الدول إصلاح أنظمة الدعم فيها وتسريع وتيرة انتقالها إلى مصادر الطاقة المتجدّدة. إن حالة الضبابية وانعدام اليقين التي تخيّم على أسواق الطاقة قد تسرّع هذه العملية من خلال تحفيز الدول على تبنّي حلولٍ منخفضة الكربون. مع ذلك، يعتمد التحوّل نحو مستقبل تقلّ فيه انبعاثات الكربون، بشكلٍ كبير، على مدى قدرة الدولة على تمويل الفجوة القائمة في مجال الطاقة والبرامج التي من شأنها تسهيل التحوّل نحو الطاقة المتجدّدة. وإذ يبرز هذا التحدي بشكل خاص في كلٍّ من مصر وتونس ولبنان نظرًا إلى القيود المالية التي تواجهها والأعباء التي تثقل كاهلها بسبب أزمة الديون، يمكن لحكومات هذه الدول، لا بل يتعيّن عليها، تعزيز حيّزها المالي من خلال تطبيق إصلاحات ضريبية تسهم في توسيع القاعدة الضريبية، والتخلّص من الثغرات، وزيادة الامتثال الضريبي في أوساط جميع فئات دافعي الضرائب. ويُفترض أن يشمل هذا الإجراء الإصلاحي فرض إجراءات ضريبية تصاعدية ومباشرة وموجّهة جيّدًا، وإعادة النظر في سياسات الإعفاء الضريبي التي تصبّ في الغالب في صالح الأثرياء من أفراد ومنظمات.
ولكي تتمكّن هذه الدول الثلاث من معالجة أزمة الديون والخروج من نفق مشاكلها المالية المظلم، ينبغي عليها إعادة النظر في نموذج التنمية الاقتصادية السائد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الذي ارتكز في الغالب على الزبائنية ورأسمالية المحاسيب، ونقص الاستثمار في القطاعات المنتجة، وتضخّم قطاعات الخدمات على نحو غير متكافئ، وهيمنة الاستثمارات القائمة على المضاربة، ولا سيما في قطاع العقارات. الواقع أن مصر وتونس ولبنان تواجه تحدّيًا أساسيًا فشلت حتى الآن في التصدّي له، ويتمثّل في عدم استدامة أنظمتها الاقتصادية، وترتيباتها السياسية، والبنى الحالية لعلاقات القوة فيها. فعسكرة الاقتصاد المصري تضيّق الخناق على القطاع الخاص وتقوّض آفاق النمو للطبقة الوسطى الآخذة في الانحسار. وفي تونس، يُفترَض أن تشمل التدابير الإصلاحية التفاوض بشأن علاقة الدولة مع العمّال وممثّلي رأس المال للتوصل إلى اتفاق بإمكانه تحفيز الزخم السياسي من خلال تفكيك الاقتصاد الريعي واستحداث وظائف من أجل الحفاظ على قدرة التونسيين الشرائية. وفي لبنان، أدّت حرب الاستنزاف التي تخوضها النخب فضلًا عن عدم استعدادها لإجراء تغييرات منهجية، إلى انهيارٍ غير مسبوق قد يسهم في انزلاق البلاد إلى حرب أهلية.
إن الترتيبات السياسية في الدول الثلاث مُتقلقلة وهشة للغاية نظرًا إلى مشاعر اليأس والخيبة السائدة في أوساط المواطنين. فالأحزاب السياسية ضعيفة والحيّز المدني آخذٌ في التقلّص ومظاهر انعدام المساواة تزداد حدّةً، ناهيك عن أن الهوة بين المناطق الريفية والحضرية لا تنفكّ تتسّع والمجتمعات تزداد انقسامًا، في حين أن العقد الاجتماعي القديم القائم على توفير الأنظمة المنافع المادية مقابل الحصول على الولاء السياسي من مواطنيها لم يعد مستدامًا. وفي ظل ارتفاع مستويات القمع والرقابة والمعاناة الاجتماعية والاقتصادية التي تقاسيها شعوب المنطقة، تتأجّج مشاعر الغضب ويتلاشى الأمل، ويلوح في الأفق القريب احتمال اندلاع موجة أخرى من الاحتجاجات. لذلك، يتعيّن على هذه الدول بلورة ترتيبات سياسية جديدة تستند إلى عقود اجتماعية جديدة وآليات حوكمة جديدة قائمة على دولة القانون والتنمية السياسية والاقتصادية الشاملة للجميع.
وإذ من الضروري أن تأتي القرارات بشأن التغييرات الهيكلية الأساسية وتبنّيها من داخل الدول نفسها، بإمكان المؤسسات المالية الدولية أيضًا أن تؤدّي دورًا مهمًّا في تشجيع هذه الدول ومساعدتها على التكيف مع التحديات المرتبطة بالأمن الغذائي وتغيّر المناخ والتحوّل في مجال الطاقة. لكن يتعيّن على هذه المؤسسات أن تعدّل مقارباتها بحسب ما تقتضيه الوقائع المعقّدة والمحددّة في كل دولة من هذه الدول، وأن تأخذ في الحسبان السياق السياسي لكلٍّ منها، وأن تعطي الأولوية للأسباب الأساسية التي تعرقل آفاق التنمية فيها. فعلى سبيل المثال، على صندوق النقد الدولي أن يعيد التفكير جديًّا في تصميم برامجه وشروطه، وآليات إدارتها وتكييفها مع التحديات التنموية الجديدة، مثل تغيّر المناخ، وانعدام الأمن الغذائي، والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجدّدة، والتحوّل الرقمي. كذلك، يجب أن تحظى هذه البرامج بقبولٍ اجتماعي وأن تنطلق من حوارٍ اجتماعي واقتصادي شاملٍ للجميع، من أجل ضمان قدرة الدول على احتضان عملية التحوّل وتحقيق التنمية الشاملة في المدى البعيد.